|
أتكون الطفلة ملحدة؟
نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)
الحوار المتمدن-العدد: 5176 - 2016 / 5 / 28 - 12:47
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
منذ طفولتي أتطلع إلى الفضاء ، أحاول رؤية العفاريت التي أسمع أنها تختفي هناك ، وكانت عيناي، رغم نفاذهما ، لا تريان إلا النجوم بالليل والعصافير بالنهار.
لأول مرة في حياتي سمعت كلمة " الله" ، تخرج من فم جدي ( والد أمي ) مشوبة بنكهة تسميها جدتي مشروبات روحية، تمط بوزها في وجه زوجها وتهمس في أذني: جدك لا يعرف الله ويضيع الفلوس علي النساء والخمر، ولم يكن جدي الآخر (والد أبي) يختلف عن والد أمي فيما يخص النساء والمسكرات، لكنه مات قبل أن أولد، لحسن حظي، وسمعت عمتي تقول أن جدتي أطلقت زغروتة ممدودة للسماء بعد موت جدي.
أما أبي فكان رجلا مستقيم الأخلاق ، لا يسكر ولا يخون أمي ، وسمعته يقول أن الله هو الصدق والاخلاص والعدل والحرية والحب والجمال ، وأنه كامن علي شكل "الضمير الحي" داخل كل إنسان ، رجل أو إمرأة ، دون تفرقة بينهما ، هكذا أصبح الإيمان ، في نظري ، هو العدل والصدق والحرية والحب والجمال والمساواة بين البشر.
وإتهمني المدرس في طفولتي بالإلحاد لأن إيماني يختلف عن إيمانه، وكان يؤمن أن الأولاد أفضل من البنات ، ويري الله علي شكل حروف مطبوعة في الكتاب ، ثم يطلب مني حفظها عن ظهر قلب دون فهم ، وفي يوم رآني أكتب إسم أمي علي كراستي بدلا من إسم جدي ، فطردني من الفصل ، وأصبح عندي الوقت لأقرأ الكتب خارج المقرر المدرسي لحسن حظي.
كان سيجموند فرويد يعتبر الأديان ظاهرة بشرية بدأت تاريخيا بشكل عصاب جماعي، أما إريك فروم فقد تجاوز الحدود النفسية للظواهر الدينية ، وحاول الدخول الي المجالات السياسية والاجتماعية والفلسفية ، ويستمر الأطباء والعلماء في بحوثهم ، داخل النفس البشرية وخارجها ، لمعرفة أسباب الإيمان الديني وعدم الإيمان ، أو ما يسمونه : الإلحاد.
مع تصاعد التيارات السياسية الدينية في هذا القرن الواحد والعشرين ، صدرت الكثير من الكتب عن الإلحاد ، وكأنه مرض نفسي يغزو الشباب ، وعلاجه عند الطبيب ، وأدت هذه الأفكار الي إثراء الأطباء ، وإفقار العقل المصري.
قرأت مؤخرا لطبيب مصري يؤكد أن الإلحاد مرض نفسي، يعني عدم الإيمان بالرب خالق الكون كما جاء في الكتاب، وأكد أيضا أن علم نشوء الكون ليس علما، ونظريات التطور ( التي تنكر نظرية الخلق الدينية) باطلة ونوع من الإلحاد، وأن هذا الإلحاد ينتشر بين الشباب مثل الاكتئاب وأنفلونزا الخنازير.
يروج لهذه الأفكار بعض أطباء النفس ، لا تختلف أفكارهم كثيرا عن رجال الدين التقليديين ، ورثوا دينهم عن الآباء والجدود ، لم يعرفوا إلا القليل عن العقائد والأديان المختلفة في العالم ، يتصورون أن الإلحاد هو عدم الإيمان بما آمنوا به ، وأنه نقصان في العقل أو مراهقة فكرية وإحساس بالنقص ، أو غرور أحمق و سعي وراء الشهوات.
أربعة مليار من البشر ( أكثر من نصف سكان الأرض ) لا يؤمنون بأي دين ، يعيشون في الصين والهند واليابان ، لا يسعون وراء الشهوات بل وراء العمل المنتج المتقن ، يتمتعون بكفاءة عقلية عالية ، وثقة بالنفس كبيرة ، جعلت بلادهم تتفوق علي بلاد العالم.
وأكثر من نصف الشعوب في أمريكا وأوروبا ، لم يرثوا الدين ، ولم يلقن لهم في المدارس ، لكن تربي عندهم ضمير حي ، منذ الطفولة ، وإيمان بالعدل والمساواة والحرية والكرامة ، يخرجون في مظاهرات ضد حكوماتهم ، أو ضد أي حكم ظالم مستبد في أي بلد في العالم.
وهناك ملايين ورثوا دينهم في العائلة ، وتم تلقينه لهم منذ الطفولة في المدارس ، وأصبحوا يؤمنون أنه الحقيقة المطلقة وغيره باطل ، ولم تعد لديهم القدرة علي التفكير بطريقة أخري.
تحتاج القوي السياسية الحاكمة ( شرقا وغربا) للعقائد والأديان ، من أجل السيطرة علي عقول الشعوب وتقسيمهم طائفيا ، ويحتاجها الإنسان (الفرد ) أيضا ، لتحمل مأساة موته ، وقد تطور المخ لدي الإنسان فأدرك أنه سيموت حتما ، لا فرق بينه وبين النباتات والحيوانات ، لكن مخ هذه الكائنات ، لم يتطور مثل مخ الانسان ، ولم يصل الي الوعي بحقيقة الموت أو العدم.
يحاول الإنسان عن طريق خياله إنكار العدم ، يتصور نفسه موجودا في حياة بعد الموت ، هذه المسافة بين الخيال والحقيقة ، أو بين الحلم والواقع ، مرحلة في عمر التطور أو التاريخ البشري اللانهائي ، يجتازها الإنسان بالإبداع الفني والديني أيضا.
لا ينبع الخيال من الفراغ ، بل من خلايا الفص الأمامي للمخ ، حيث تتمركز المشاعر والأحاسيس وذكريات الطفولة والمواهب الفنية والفكرية.
وتسعي البحوث العلمية الجديدة لكشف الشفرات الجينية وأسرار المخ البشري وقدراته المذهلة علي الخيال واكتشاف حقائق الطبيعة وقدرات الانسان.
من كان يحلم باستخدام الالكترونات للتواصل فوق كوكب الأرض في زمن أقل من غمضة عين ؟ ومن كان يتخيل الالكترونات في الفضاء ، الذي كان في طفولتنا ملئيا بالعفاريت ؟
وإن أنكرت الطفلة وجود العفاريت وآمنت بأن الله هو العدل والمساواة والصدق والحرية والحب والجمال فهل تكون ملحدة؟ f
#نوال_السعداوي (هاشتاغ)
Nawal_El_Saadawi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فاطمة الميرنيسى
-
كتابك غير حياتى
-
امرأة تكتب مصيرها بيدها
-
وتظل النخبة المختارة تصفق
-
لا يكفى أن تكون امرأة
-
مشروع جديد لإصلاح الأخلاق
-
حوار لا أنساه بين أمى وأبى
-
المنسيون فى التاريخ الرسمى للثورات
-
القلاع الأبوية. الرأسمالية تتهاوى
-
أتكون هى أنبل النساء؟
-
الجبلاوى ونجيب محفوظ والنساء
-
حوار بعد منتصف الليل
-
منذ بداية اللامساواة والخطيئة الأولى
-
ساندرا الحبيسة وقدسية الجسد؟
-
معارك تحرير النساء اللا نهائية
-
النقاب ورجم الشيطان
-
وتسعد المرأة بعقلها المبدع؟
-
مؤتمر النساء فى إسبانيا
-
الاستغناء والانعتاق من العبودية
-
مفاهيم متطورة للأبوة والرجولة
المزيد.....
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
-
بن كيران: دور الإسلاميين ليس طلب السلطة وطوفان الأقصى هدية م
...
-
مواقفه من الإسلام تثير الجدل.. من هو مسؤول مكافحة الإرهاب بإ
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|