في البرنامج الوثائقي الذي أعدته فضائية MEDIA الكوردية التي تبث برامجها من بروكسل حول التغيير الديمغرافي لمدينة كركوك في خمسة حلقات، والتي ترجمنا بعضاً منها إلى اللغة العربية من اللغة الكوردية وضمناها كتيباً " كركوك ـ رحلة في ذاكرة التاريخ " يتحدث الأستاذ نوشيروان مصطفى عن تحرير مدينة كركوك بعد حرب الخليج الثانية، فوجدت من المفيد نشر بعض أجزاء الكتاب على شكل حلقات، وسأبدأ الحلقة الأولى بهذه المقدمة وبقصة تحرير مدينة كركوك الكوردستانية .
لا يعرف طعم مرارة الإبْعاد عن الوطن، إلا من تذوق الكأس التي اجترعها المنفي عن وطنه، ومن أجل أن يبقى الوطن في داخله، يمده بالقوة، حمل الإنسان الكوردي إرثه الموغل في القدم معه إلى منفاه.
قُيَد الكوردي في وطنه بقيود أدمت قلبه وروحه، واقتلع من جذوره التاريخية، ومن لم تطله مخالبُ الحقد العنصري، وجد نفسه مشرداً يطرق أبواب منافي العالم؛ ومثلما سلبت حياة المنفى الكثير من القيم والمثل التي يعتز بها المنفي عن وطنه الأم، أعطت الغربة لآخرين الحصانة والقوة في مواجهة الانصهار، ولعبت المنفى في روحه الانتصار لقضيته.
فمن هم هؤلاء؟ هم أولئك الذين يتحسسون أوجاع بلادهم. بينما كان الحكام في الوطن يخلقون الموت يومياً ويبتكرون أساليبه بدمٍ باردٍ وروح سادية. لقد أضحت الغربة تمد الروح بالطاقة، لتبدع وتبتكر الوسائل المستنبطة من إرثه العريق، ضد من استطاع أن يحرمه من بيته وعطر أرواح الآباء والأجداد التي ترفرف في زوايا البيت، المكان الأول الذي تربى فيه، وأكرهه على اختيار حياة المنفى.
فالرهان الذي راهنت عليه تلك الأنظمة الاستبدادية، لم يستطع أن يهزم هذا الإنسان المتشبث بأرضه وتاريخه وثقافته.
كان الكوردي في وطنه أمام خيارين، كلاهما مرٌّ: إما الموت وإما المسخ ، لتصادر روحه وإرادته. حاول عتاة القوميين من فقهاء السلطان أن يمارسوا على الكوردي عمليات المسخ هذه واستكثروا عليه حق العيش حيث ولد وترعرع، ورضع حب البيت الذي هو من حب الوطن، فكان المنفى بانتظاره، ومن المنفى جاء هذا العمل لينفض الغبار على الحقائق التاريخية والاثباتات التي تدحض الأكاذيب التي روجتها الحكومات للاستيلاء والاحتفاظ بأراضي الغير.
قبل أيام من كتابة هذه الأسطر التقيت بأحد أبناء مدينتي كركوك، الذي ترك المدينة منذ سنتين فقط ليحط الرحال في السويد، وسألته عن أحوال الناس هناك، عن الحارات العتيقة في المدينة، عن الشارع الرئيس في كركوك ـ شارع الجمهورية ـ حيث المحلات الفاخرة، محلات الألبسة الأنيقة ومحلات بيع المرطبات والعصير وما شابه ذلك، والصيدليات وعيادات الأطباء. إن كنت في حاجة للقاء أحد الأصدقاء أو المعارف كنت تجده في ذلك الشارع، وما أن تخطو خطواتك الأولى فيه حتى ينهال عليك السلام من كل حدب وصوب، وأنت تفعل الشيء نفسه، وجوه تعرفها، أيادٍ تصافحك بحرارة وشوق تسأل عنهم ويبادلونك السؤال. يختلس العشاق النظرات إلى بعضهم البعض، يتبادلون التحيات بابتسامة، وكثيراً ما تبادل المحبان الرسائل في زحمة الناس، دون أن يلتفت إليهم أحد المارة، كنا نمر بمكتبة ـ آسو ـ لصاحبه الأخ جبار، ليناولك الكتاب الذي كان قد أحضره لك دون أن يشعر أحد بذلك أو مجلة الثقافة أو يجاملك بقلم جاف باركر بسعره الأصلي الذي لم تكن تحصل عليه في الأسواق، ولم نكن ننسى أن نعرج على مكتبة كه ل ـ الشعب ـ لصاحبه الأخ صلاح. سألت المنفي الجديد عن كل ذلك، ابتسم بحياء كمن لا يريدني أن أفاجأ، وجاءني جوابه الأليم صاعقاً، كما صُعِقَ كلكامش من جواب صديقه أنكيدو، يخبره بعدم خلود الإنسان.
قال لي ونظرات الشفقة تحوم من حول عينيه نحوي: "إن الشارع الذي تتكلم عنه هو الآن ليس بذلك الشارع الذي تعشقه، بات غريباً على القلة المتبقية من أبناء المدينة، تقطع الشارع عصراً من أوله إلى آخره لا تصادف فيه أي شخص تعرفه، ولا هناك من يرجو لقاءك، لا أحد يسلم عليك ولا أنت بحاجة لأن تسلم على أحد لأن الجميع غرباء ولا تعرفهم، وجوه غريبة، قامات تتدلى منها المسدسات، يرتدي معظمهم الملابس الخاكية والبنية، وجوه تقول لك ها نحن هنا، اخرج وإلا سيكون مصيرك مصير من سبقوك". فكان الصمت من جانبي أبلغ الكلام لأعبر في اللحظة ذاتها عن حزني وألمي، ولأدرك أكثر وأكثر بأن المعركة لم تكن متكافئة، لأنفجر بعد رجوعي إلى البيت باكياً، وأتساءل في قرارة نفسي مرة تلو الأخرى، أيمكن أن تموت كركوك أمام أعين أبنائها ؟ وعشرات الأسئلة بدأت تتراقص أمامي، لهذا الصمت العربي، ولهذا السكون الذي يلف هذه الجريمة البشعة المكشوفة. أما الجاني، فيمشي متبختراً على أشلائنا باسم العروبة.
" ونقول بعد الآن
تحيا العروبة
مري إذن في أرض كوردستان
مري يا عروبة "*
ولا يزال السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح أمامي: هل انتهت المعركة؟ أم أن الفصول القادمة هي الكفيلة بإحقاق الحق، واسترجاع الأرض والتاريخ والذكريات؟.
" قصة تحرير المدينة كما يرويها السياسي والمؤرخ الكوردي نوشيروان مصطفى "
أن واحدة من المفاخر التي أستطيع أن أفتخر بها على مدى سنين عمري هي، المشاركة الفعلية للتخطيط وتحرير مدينة كركوك.
في 20 آذار 1991، ومن كركوك، كتبت بخط يدي التهنئة للشعب الكوردي على إحدى السيارات التي كانت في طريقها إلى المدن الكوردستانية الأخرى، مهنئاً إياه بتحرير مدينة كركوك، وقرأت بيان التهنئة من إذاعة صوت الشعب الكوردستاني آنذاك.
عندما هاجم العراق الكويت واحتلها، إنقلب العالم ضد النظام العراقي، هددوه، ونصحوه بالانسحاب، لم يستجب النظام العراقي إلى ذلك، فظهرت بوادر بأن العراق سيُضرب من قبل تلك القوى، فأخذنا نحن في قيادة الاتحاد الوطني الكوردستاني نتدارس الوضع لحالة ما إذا حدث وضٌرب العراق، أو في حالة انسحاب القوات العراقية من الكويت. ما هي الخطوات التي يجب اتخاذها؟ وماذا يجب أن نفعل؟
درسنا الوضع ملياً، وبشكل دقيق، وبدأنا العمل على قدم وساق، عن طريق اللقاءات والاجتماعات مع الكوادر السياسية، ومع القادة العسكريين في الاتحاد الوطني، ونتيجة المشاورات، استطعنا أن نحصي بدقة قوات الجيش العراقي وتشخيص أماكن تواجدهم، وبعثنا بالرسائل إلى رؤساء المتعاونين من الأكراد مع النظام العراقي شارحين لهم الوضع القائم ونصحناهم بأن يلزموا جانب شعبهم والتخلي عن هذا النظام الخاسر لا محال.
بدأنا الاتصال بشكل منظم بجميع منظماتنا في كوردستان وتحريكهم والاستعداد للمعركة المقبلة، استطعنا الحصول على خرائط بلدية كركوك، وتعيين أماكن مقرات الحزب الحاكم ودوائر الأمن والمخابرات والاستخبارات، كذلك تعيين مواقع ومقرات وبيوت العملاء والجواسيس، على ضوء تلك الخرائط، عملنا مسحاً كاملاً لمدينة كركوك، وعلى أساس ذلك الإجراء عيّنا الأشخاص المناسبين لكل موقع وأن يكونوا على أهبة الاستعداد في ساعة الصفر في الحقيقة كانت الخطة محكمة، وتم تنفيذها ببراعة.
أولئك الذين لم يشاركوا في الانتفاضة ولم يناضلوا، يقولون بأن الانتفاضة كانت جماهيرية وعفوية، نتجت بعد انهيار النظام، لكن الواقع غير ذلك، وإذا سلمنا بأقوال هؤلاء لكان وضع كوردستان الآن، كما عليه الوضع في جنوب العراق.
بدأت الانتفاضة من رانية والمناطق المجاورة لها في 5 ـ 3 ـ 1991 ونتيجة لتحرير رانية وتلك المناطق، فُتح الطريق أمام القيادة السياسية للجبهة الكوردستانية والقوات العسكرية التابعة لها للدخول من هذا المنفذ.
وفي 7 ـ 3 ـ 1991 بدأت الانتفاضة في السليمانية، وفي 11 ـ 3 ـ 1991 بدأت في أربيل، وكان الاتفاق على أن يتم تحرير كركوك في آخر مرحلة، وذلك للوضع الاستثنائي لهذه المدينة وكثافة القوة العسكرية الموجودة فيها بالإضافة إلى قوة حماية شركة النفط، والقاعدة الجوية العسكرية، ومقرالفيلق، وفي كركوك أعداد كبيرة من العرب المسلحين هؤلاء الذين جلبهم النظام لتعريب المدينة، لهذه الأسباب، ولأنه ميدانياً لا يصح أن تهاجم منطقة بعيدة عنك قبل أن تبدأ بالمناطق الأقرب، اتفقنا على أن نباشر بعملية تحرير كركوك في المرحلة الأخيرة، أي بعد تحرير السليمانية وأربيل وبهدينان ومنطقة كويسنجق وصلاح الدين وشقلاوة وكرميان، ومن ثم وبجميع قوات هذه المناطق نبدأ الهجوم.
في الحقيقة لم تكن عملية تحرير كركوك سهلة أبداً، كانت المعركة على أشدها واستشهد المئات من أبناء الشعب الكوردي في تلك المعركة.
أما بالنسبة للتخطيط لهذه العملية، كانت كالآتي:
استعدنا نحن في الاتحاد الوطني الكوردستاني بكافة إمكانياتنا وقواتنا المسلحة وبالتنسيق مع باقي قوى الجبهة الكوردستانية آنذاك وبالاتفاق مع ـ أفواج الدفاع الوطني ـ كما يسميهم النظام، ويطلق عليهم الكورد " الجحوش " وبعد التحاقهم بنا وتعاونهم معنا أطلقنا عليهم إسم " المسلحون الثوريون " كان الاتفاق على أن تتوحد جميع القوى ويبدأ الهجوم لتحرير كركوك من ثلاثة محاور، المحور الأول من أربيل عن طريق آلتون كوبري، والقوة الثانية كانت مؤلفة من قوة السليمانية، وأن يبدأ الهجوم من جمجمال وقرة هنجير صوب كركوك، أما القوة الثالثة فكانت هي قوة كرميان، وكان من المتفق أن تهاجم هذه القوة من طوز خورماتو لتدخل كركوك أي من الجنوب، لكن مع الأسف الشديد لم تستطع تلك القوة من دخول كركوك وذلك لاصطدامهم مع قوة ضخمة من قوات مجاهدي خلق الإيراني، الموالي للنظام العراقي، وللأسف استطاعت قوة مجاهدي خلق إشغال قوة كرميان وعدم تمكينها من دخول كركوك، وخاصة هذه الجبهة التي كان معسكر خالد للقوات الخاصة يعسكر فيها.
أما بالنسبة للقوتين الأخريين وباسناد من آلاف المدنيين الذين لم يستعملوا السلاح سابقاً، وحتى النساء والصبيان كانوا يأتون إلينا للحصول على السلاح، ولحصولهم على شرف معركة تحرير كركوك.
في تلك المعركة وعلى مدار الأيام التي استمرت، كان الأهالي في أربيل والسليمانية يطبخون الطعام ويمدون المقاتلين في جميع الجبهات كمشاركة فعلية لهذه العملية المقدسة وفي نفس الوقت كدعم معنوي للمقاتلين.
بدأ الهجوم الفعلي يوم 19 ـ 3 ـ 1991. لكن قبل هذا التاريخ كنا قد بعثنا المئات من قوات البيشمركة بصورة سرية للتسلل إلى داخل المدينة لمهاجمة بعض الأماكن الحساسة التي كنا قد حددناها لهم، وفي نفس الوقت كنا قد أبلغنا عن طريق الإذاعة أهالي كركوك والشباب والخلايا السرية الأستعداد للمعركة الآتية.
لكن للأسف استطاع حسن علي المجيد ـ علي كيمياوي ـ من إلقاء القبض على حوالي خمسة آلاف من الشباب داخل المدينة، وإرسالهم إلى الرمادي إلى قفص الأسرى وذلك بغية عدم مشاركتهم في عملية التحرير.
وكما ذكرت سابقاً بدأ الهجوم ومن جميع الجبهات يوم 19 ـ 3 ـ 1991 وفي 20 ـ 3 ـ 1991 استطعنا دخول المدينة، ومساء نفس اليوم طلبت شخصياً من مسؤولي الجبهة الكوردستانية الحضور إلى مبنى محافظة كركوك لعقد اجتماع، لتدارس الأوضاع ووضع الخطط اللازمة للمحافظة على الأمن داخل المدينة، وخطط الدفاع وحماية كركوك من الهجوم المعاكس المرتقب، وفي 21 ـ 3 ـ 1991 وهو اليوم المصادف لعيد نوروز التاريخي للكورد، كان يوماً مشهوداً، أدخل الفرحة لقلب كل كوردي، لأنه يوم تحرير كركوك ورجوعها إلى أحضان الوطن.
أنا لست متعصباً شوفينيا، ومن الطبيعي جداً أن أرى العربي والتركماني والآثوري يعيشون في كركوك بجانب الكوردي بهدوء وسلام، لكن عندما أرى بأن يقتلع الكوردي من جذوره التاريخية من أرض آبائه وأجداده ويحرم من العمل والدراسة بلغته وتصادر جميع حرياته، وفي المقابل يجلب شخص آخر ليحل محله فالنضال يصبح واجباً مقدساً.
أما عن مستقبل كركوك، أقول كيف استطعنا أن نحررها في العام 1991 سنعيد الكَره تلو الأخرى وبالقوة، ليست كركوك وحسب بل جميع الأراضي والمناطق الكوردستانية، وإعادتها إلى ظل الإدارة الكوردية.
أتمنى من كل قلبي أن نرى كركوك محررة، معزة، مكرمة، في المستقبل القريب.
--------------------------------------------------------------------------------
* من قصيدة الشاعر الفلسطيني محمود درويش بعنوان ـ كوردستان ـ كتبها ونشرت ضمن مجموعته أوراق الزيتون ، ونشرت في جريدة التآخي عام 1968 م . يقال بأن الشاعر أظهر ندمه على كتابة هذه القصيدة وحذفت من الديوان في طبعته الثانية .