|
قضية رأي في التفكر والجنون
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 5173 - 2016 / 5 / 25 - 00:56
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
قضية رأي في التفكر والجنون
حين يكف الإنسان من التفكير الدائم والتفصيلي بعالم غائب وخفي لا يعنيه بشيء ولا مع أفتراض وجود ذلك العالم أنه منشغل به كقضية رئيسية وأساسية، سيجد في تلك اللحظة وبدون أدنى شك أن وجوده أهم من كل هذه الانشغالات، وسيجد الطريق متاحا لأن يتحرر من وهم وعقدة الذنب الذي زرعها شعوره بأنه هو المسئول عن كل الخلل الكوني بما أقترف سلفه من خطيئة، العقل عموما في كل الدراسات العلمية والفسلجية والمعرفية تؤكد أن للتفكير الإنساني الطبيعي ميزة، وهي إرتهانه بشكل أكيد بقضية أساسية تشغل معظم نظامه وما تبقى من قدرة وقابلية يصرف ويسخر لقضايا ذاتية تتعلق بالنفس والجسد والعواطف وما هو ضروري لبقاء الفرد حيا. منذ أن أخترع الإنسان فكرة التدوين وقبلها نشط في عمليات التذكر وتصنيف الأحداث تبعا لقيمتها المرتبطة بوجوده، ظهر له ميل فطري أو لنقل أننا ندع ذلك أفتراضا، هذا الميل تركز في كل مفاصله حتى تحول إلى الشغل الشاغل للعقل عن معرفة علاقة الإنسان بالفوق البعيد والذي هو أبعد من البعيد، لقد أخترع لنفسه قضية سرعان ما تحولت إلى سلسلة من الإشكاليات التي أثارتها الأسئلة الوجودية الأولى، لماذا هذا الترتيب الجهوي فوق وتحت شروق وغروب حياة وموت؟، لماذا هذا التعدد في مكونات الوجود والتنوع في المظاهر الطبيعية؟، لماذا تفرد الإنسان دون غيره بأن يكون واعيا ومنذ متى وأين نهاية هذا الوعي؟، أسئلة كثيرة عشعشت في خياله العقلي كي تنضج وتكبر لديه سعة العقل وسعة الخزين المعرفي وسعة في الرؤيا عندما يعتقد أنه وجد حلا ما لقضية إشكالية ما. نجاحه في الوصول لأي إجابة ما أنه بذلك القدر أقترب أكثر نحو التفريط بحريته الطبيعية التي وجد عليها والتي تتناسب مع فطرة الطبيعة، صحيح أن بناء المعرفة هي الوظيفة الأساسية والتي مكنته من معرفة وجوده بوعي مركب ومحاولة التغلب على التناقضات الوجودية ومنها كيف يمكنه أن يؤمن ديمومية البقاء والأرتقاء، إلا أن هذا الجهد والموقف الوجودي ليس بدون ثمن وليس خاليا من تبعات مسئولية التعقل والتمنطق، بعدها عاش الإنسان أسير أفكاره وحدودها التي رسمها منذ البدء، لذا فهو أعطى المساحة الواسعة والأعظم من نظامه التفكري التعقلي بأتجاه واحد وحصر نفسه في الدائرة الضيقة التي لا تؤمن له حرية الإنفلات من دائرة الفكرة تلك، لقد جن الإنسان حقيقة عندما أمن بوجود عالم متحكم به لا بد من إرضاءه ولا بد من العمل بكل الوسائل وبكل الأوقات وفي معظم الأحوال على تنفيذ تلك المهمة. قد يرى البعض أن مصطلح الجنون لا يمكن إسناده لعقل دائم التفكر ومنشغل بإيجاد طريق للسعادة أو البحث عن حلول كلية كالبحث عن الذات وجوهر الوجود وعلاقتهما معا، وأن الجنون هو أن نترك العقل في غفوة وأحيانا في سبات، الجنون الحقيقي أن تترك الأهم وتتجه نحو المهم وليس تعطيلا للعقل، تعطيل العقل قد ينتج خبالا أو قلة إدراك أو فقدان للوعي ولكن لا ينتج جنونا حقيقيا، الجنون ليس نقيض التعقل بل شكل من أشكاله وطريق يمر به العقل في حالات متعددة عندما يهرب من المستحق والمستوجب في غياب فرصة حقيقية لتحقيق ذات العقل العاقل. مشكلة العقل الإنساني كما يؤكد الباحثون والمختصون في دراسته أنه غير مستغل تماما ولا يشكل ما يعمل من نظامه إلا جزء صغير جدا من مجمل المتاح الممكن، هذا العيب ليس تكوينيا وليس جراء تأثيرات الواقع ومؤثرات البيئة مثلا، ولكن ما يعلل السبب في ذلك أن توجهات العقل عندما تنحصر في زاوية محددة والتركيز عليها يفقده القدرة على التنوع كما أسلفنا في المقدمة، هذه القضية لا بد أن لوجود مظاهر جنونية في الفكر العاقل الإنساني هي التي أفقدت العقل أن ينفتح على ذاته، ويحاول أن يوزع الزوايا الفاعلة على عدة أهتمامات ويشرك "روح العقل" المتمثل بالميزان العقلي في السيطرة على هذا التنوع، ويحرك منتجات الرؤى والأفكار الخلاقة على التفاعل الإيجابي المتعاظم فيتحول الإنسان الطبيعي إلى ما يشبه السوبر العبقري. من هنا كان التفكير بالغيب المطلق وما وراءه وليس بالمجهول الطبيعي الوجودي والإنشغال التفصيلي في تخطيط لذلك العالم ورسم التصورات الذهنية عنه ومن ثم التحول إلى اليقين بالنتائج وجعلها حدود وخطوط حمراء ملزمة لا يمكن مناقشتها أو نقدها، كل ذلك مسئول أول وأكيد على جنون العقل وإن تفكر بدون أن يتدبر تلك النتائج ويحاكمها في كل مرة، ومع كل تجربة تثبت له أن هناك تناقض ما في قضية ما تحاصر الحقيقة أو تشرخ جدران اليقين عليه أن يعيد حسابه كي لا يصاب بالجنون والجنون المركب، تناقض يشير للعقل أنك في وضع يحتاج لحركة تخرجك من دائرة الفكرة إلى محيط التعقل ومنحنى أخر كي تعيد التوازن لذات أصل الفكرة وهي أكتشاف العالم خارجا لا أكتشاف الأسوار والجدران. هل يعني هذا الوصف المركز الذي يدين العقل ويشهر به على أن الإنسان كائن مجنون إلا ما ندر؟، الحقيقة المرة نعم والتأريخ يشهد لها مع هذا الكم الرهيب من الحماقات البشرية والكوارث التي لا يقبلها عقل عاقل تتكرر وتحت عنوان التأريخ يعيد نفسه، الحقيقة أن الإنسان هو الذي يعيد ويستعير جنونه في كل مرة وهو يدع أنه بكامل القوى العقلية، من يشفع للإنسان في تبرير هذا الجنون ومن يعتقد أن تلك المصائب التي مرت على الإنسان في حياته هي مظاهر عقلانية وأخلاقية طبيعية يمكن أن تصدر من إنسان سوي غير مختل متفكر ومتدبر. نعم الإنسان الذي يعيش على كوكب الأرض وسجل التاريخ له كل تجاربه كائن عاقل يختار الجنون بغباء وهو معتقد في أحيان كثيرة أنه يمارس دوره العاقل، وقليل هي الحالات التي بلغ فيها مرتبة التعقل وأدرك جنونه وصحح من خطواته، ولكن هذه الفرص لا تقاس بأي حال مع مقدار الجنون الذي أطبق عليه ووسمت شخصيته القلقة، صحيح أن القاعدة الوصفية صحيحة في منطلقها الأساس بأن الإنسان كائن عاقل ومتعقل ولكن هل نجح دائما في تثبيت وتفعيل الوصف، هنا الإشكالية التي جسدها حين أختار الغيب على الحضور، وأختار التفكير بالأخر الفوقي كما يسميه وأخترع له نظام أسماه الدين وربط مصيره ومصير الوجود كله بهذه السلاسل من القيود دون أن ينجح مرة أن يعيد لتفكير في أصلها الأول. السؤال هنا من هو المسئول عن الجنون الإنساني الدين أم العقل أم أن كلاهما مشترك بنسبة ما في رسم خارطة الجنون هذه؟، الحقيقة التي أجزم بها أن العقل والعقل وحده والعقل بسلبيته وخوفه من المجهول الغيبي المسئول الأوحد عن جنون الإنسان، الدين كباقي الأفكار الإنسانية يخضع لسلطة العقل وتقديره خاصة وأن من رسمه قادر على أن يخضعه للتطور والتحديث، لا أن يعيش تحت سطوة الشعور بالأستعباد لرهبة النقد وكأن المكتشف أو المختلق العقلي ولد هكذا، أو أن حقيقته الأصلية بهذا المطلق الموهوم الذي حبس العقل بين أسواره وأسره عبدا عنده، حتى في النصوص الدينية التي نقرأها العقل هو سيد الرسم وسيد البسط ولكن عندما تدعوه لأن يسلك طريق غير المرسوم سلفا، تراه يمارس جنونه ويفتعل الهزيمة تحت عنوان عالم الغيب المقدس.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فكرة الدين والوجود تناقض أو صورة ناقصة؟.
-
تنبؤات مجنونة من طفولة عاقلة
-
الفكرة المهدوية وغياب رؤية النهاية
-
الإرهاب بطريق الوهم
-
مكابدات الحزن والفرح في وطن حزين
-
آينشتاين النبي ..... مفهوم العقل في العقل
-
العمل السياسي في العراق بين المهنية والتلقائية
-
العشوائيات السكانية .... القنبلة التي تهدد الأمن الأجتماعي
-
القبانجي الليبرالي بزي السلفيين
-
العقل في دائرة الروح
-
أكاذيب حول موقف الإسلام من المرأة _ الإمامة مثالا.
-
الناس على دين ملوكها.
-
حكاية الأربعاء
-
بيان الأمانة العامة المؤقتة للتجمع المدني الديمقراطي للتغيير
...
-
الفوضى الضرورية والفوضى الخلاقة
-
نقد التاريخية قراءة نقدية في فكر عبد الكريم سروش ح1
-
نقد التاريخية قراءة نقدية في فكر عبد الكريم سروش ح2
-
من يطلق رصاصة الرحمة على نظام المحاصصة
-
الحياد في قضايا المصير
-
المتوقع والمأمول من حراك البرلمان العراقي
المزيد.....
-
الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعتمد قرارا ينتقد إيران لتقليص
...
-
ZTE تعلن عن أفضل هواتفها الذكية
-
مشاهد لاستسلام جماعي للقوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك
-
إيران متهمة بنشاط نووي سري
-
ماذا عن الإعلان الصاخب -ترامب سيزوّد أوكرانيا بأسلحة نووية-؟
...
-
هل ترامب مستعد لهز سوق النفط العالمية؟
-
عاجل | مراسل الجزيرة: 17 شهيدا في قصف إسرائيلي متواصل على قط
...
-
روبرت كينيدي في تصريحات سابقة: ترامب يشبه هتلر لكن بدون خطة.
...
-
مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية يصدر قرارا ضد إيران
-
مشروع قرار في مجلس الشيوخ الأمريكي لتعليق مبيعات الأسلحة للإ
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|