|
عن العقل البائِس
محمود كرم
الحوار المتمدن-العدد: 5172 - 2016 / 5 / 24 - 03:56
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
بائِسٌ ورديءٌ هذا العقل ، هذا الذي لا يذهبُ بعيداً ، ولا يأتي من بعيد .. لا يَبني ولا يهدم .. لا يموتُ لكي يَحيا ، ولا يخطيءُ أو يجرّب أو يغامر .. ولا يأتي من السؤال ، ولا يذهبُ إلى السؤال ، ولا ينتقلُ بِالسؤال إلى السؤال .. لا يغضبُ أو يحتجُّ أو يرفض أو يشمئِز .. لا يفهمُ أو يستفهِم ، ولا يتمرّدُ أو يقارع ، ولا ينطقُ أو يستنطق .. لا يُغيّر ولا يتغيّر .. لا يُفكّر ولا يتفكّر .. لا ينيرُ ولا يتنوّر ..
هذا العقل فارغٌ ، ويتكوّمُ فراغاً في فراغ الفراغ .. يتأخّرُ دائماً ولا يتقدّم ، يتراجعُ ولا يُقدِم ، يخافُ ويتخوّف .. مهزومٌ أبداً في معركة الأسئلة ، ولكنّهُ ينتصرُ صخباً في ضجيج الأجوبة . مهزوزٌ في مخاض الشّك ، ولكنّهُ شجاعٌ في ميراث اليقين .. هامدٌ في تقلّبات القلق ، ولكنّهُ هادرٌ في سكون الاطمئنان .. يتلاشى في هجير الفكرة ، ولكنّهُ يتسيّدُ دائماً مسرح اللاشيء .. يتحاشى المختلف ويستعذِبُ السائد .. يُعادي التفرّد ويذوبُ في المجموع .. يُحارب الجديد ويُقيمُ في القديم .. تُرهقهُ المعاني الجديدة ، فيتكوّمُ سريعاً في القوالب المعتادة .. ينزعجُ من الحركة ، ويهوى السكون .. تُتعِبهُ التفاصيل ، فيتشبّثُ بالعموميّات المائِعة .. لا يُطيقُ النقد والانتقاد ، ولا يروق له التحديق والتأمّل والاكتشاف ..
هذا العقل يخلو من حياة الحرّية وحرّية الحياة ، فتتوالدُ فيه القيود ، وتتكالبُ عليه الأغلال ، ويطمرهُ الحُطام ، وتسحقهُ الأثقال .. لا يتخفّف من الموروث ، ولا يغادرُ العتمة ، ولا يسكنُ خارج الكهوف ..
يُبهرهُ الضّوء ، ولكنّه لا يتحسّس منابت النور .. تُسعِفهُ الاحتمالات ، ولكنّهُ يلوذُ متحصّناً بِاليقينيّات .. تتجاذبهُ الأسئلة ، ولكنّهُ ينصاعُ تلقائيّاً للأجوبة .. يُحرّرهُ الجديد ، ولكنّهُ يقتعِد القديم والأقدم ، والسابق والأسبق .. ليسَ شغوفاً بِمعرفة المعرفة ، ويأتي خالياً دائماً من شهوة الخلق والإبداع والتّجديد ، لأنّه متخمٌ بِتراكمات اليقين والتقليد والتلقين ..
هذا العقلُ لا يقرأ ، وحتّى لو قرأ ، فأنّه لا يقرأُ إلاّ ما اعتادَ تلقيناً أنْ يقرأ . وكيف يقرأ إذا كانَ لا يريدُ أنْ يقرأ ، ولماذا يقرأ إذا كانَ لا يريدُ أنْ يفهم .؟ وكيف يقرأ إذا كان لا يملكُ في رصيد القراءة شيئاً من شروط القراءة . وهل يستطيعُ أنْ يفهم إذا كانَ من الأساس لا يريدُ أن يقرأ ، وهل يستطيعُ أنْ يقرأ في شيءٍ غير تاريخهِ أو قبوره أو كُتبه أو نصوصه . إنّه يقرأُ فقط ما يتوفّر لديه من ميراث الوحيّ والتلقين ، لأنّه لا يملكُ من مزايا الرؤية والقراءة ، ما يجعلهُ شاخصاً ومتفحّصاً ومتفلسفاً ومحدّقاً ومنتقياً ومُحاوِراً ولمّاحاً وملتقطاً وناقداً ومتفكّراً وسائِلاً ومتسائلاً .. أيّها العقل البائِس ، لماذا أنتَ موجودٌ ، ولماذا وُجدّتَ أصلاً ، ولماذا لا تستطيع أنْ تكونَ في وجودكَ ، وجوداً مفكّراً ومتفكّراً ، ناطقاً ومستنطقاً ، عارفاً ومستعرفاً ، فاهماً ومستفهِماً ، متجلّياً ومستجلياً .. ولماذا جِئتَ أصلاً .؟ وأنتَ لا تستطيع أنْ تكونَ شاهداً أو رافضاً أو ناقماً أو مُبصراً أو فاضحاً أو مضيئاً أو قادحاً . أليسَ العقلُ في مجيئِه يجيءُ عقلاً ، فكيف لكَ أنْ تجيء ، وأنتَ غير قادرٍ على أنْ تكونَ مخلصاً لِمجيئك ، ووفيّاً لوجودك ، ومُقدّراً لِقدرتك ..
أيّها العقل البائس ، لماذا تكتبْ وأنتَ لا تقرأ .؟ فمَن يكتبُ يقرأ . ولهذا فالعقل الخلاّق والمثمر والمتوهّج ، لا يكتبُ لأنّهُ يقرأ ، إنّما يكتبُ لأنّه يجدُ في القراءة شروط الكتابة ، ويرى فيها حضوره المفكّر والمتسائل والمتجلّي والناقد . إنّهُ لا يكتبُ لأنّهُ يقرأ ، بل يكتبُ لأنّه محتاجٌ أنْ يقرأ ، وفي القراءة يتجلّى ذاتاً كاتبة ، ذاتاً لا تكتبُ ما تقرأ ، بل تقرأُ ما يجب أنْ يُكتَب ، وتكتبُ ما يستوجبُ حضور ذاتها القارِئة ..
ما أتعسكَ أيّها العقل البائس ، إنّكَ لا ترى حقيقتك ، ولا تستطيع أنْ تراها ، لأنّك تراها كما أردتَّ أنْ تكون ، خرساء وعرجاء وصمّاء ، وتعجزُ دائما عن رؤيتها على حقيقتها ، لأنّ في حقيقتها حقيقتكَ العاجزة والمتجمّدة والبليدة . ولذلك كلّ ما تفعلهُ وتُجيده هو أنْ تحبَّ حقيقتك ، وتحبُّ وجودك في حقيقتكَ هذه ، تحبّها سادرةً في سكونها وتراجعاتها وعتمتها وتقيّحاتها وبلادتها .. كم في هذا العقل من غباء الغباء ، يجدُ في حقيقتهِ هذه ، حقيقة كلّ الأشياء ، ومن ثمَّ يخرجُ بها على الناس صارخاً وشاتماً ولاعناً ومُستبشعاً ، ومتباهياً ومتنرجساً بحقيقتهِ التي يراها كلّ المنطق وكلّ الجمال وكلّ الاكتمال ..
ما أفجعَ أنْ تقبل وجودكَ في حقيقتكَ هذه أيّها العقل البائس ، وأنتَ لا تملكُ منطقاً لوجودكَ في حقيقتك ، ولا رُشداً . وحقيقتكَ لا تملكُ من شروط وجودها ، منطقاً أو فِكراً أو معرفةً أو صياغة أو معنىً أو تقويماً أو فهماً . فلا تملكُ غير صناعة وهْمك ويقينك ، ورعاية تراثك ونصوصك وماضيك وتراجعاتك . إنّك تُجيد صناعة خوفكَ ، تصنعهُ بكلّ الثّقة والإطمئنان والاستمراريّة ، لأنّه يُرسّخُ فيك يقينك . يقينكَ الذي يساوي خوفكَ ، وخوفكَ الذي يساوي يقينك . إنّك تصنعُ خوفك بِنفس المقدار الذي تصنعُ فيه يقينكَ ..
إنّك أيّها العقل البائس ، لا تملكُ خِفّة التحليق ، لأنّك مُلتصِقٌ بالتراب . ولا تملكُ مهارة التجاوز ، لأنّك تهوى الاقتعاد . ولا تملكُ رشاقة التّخطّي ، لأنّكَ مُثقلٌ بالخوف والتردّدِ والانهزام . ولا تملكُ ميزة الخَلق ، لأنّكَ تفتقد الدهشة والمغامرة والمجازفة ..
إنّكَ لا تستطيع أنْ ترى النجومَ من فوقكَ لامعةً أو مشعّة أو فارعة ، لأنّكَ تستعذِبُ الدروب المعتمة والخانقة . ولا تستطيع أنْ تُحدّق في أعالي الضوء ، لأنّكَ تمتليء بالظلام والخوف والارتجاف . ولا تملكُ أبصاراً شاخصة ترنو إلى الشّمس ، لأنّكَ مُصابٌ بعاهة العَمى والتشويش . ولا تستطيع أنْ تسمو ذكاءً أو حواراً أو نقداً ، لأنّكَ لا تملكُ أيٍّ من مستويات المعرفة الخلاّقة ، أو أيٍّ من مستويات الأفكار الشجاعة العظيمة ..
حتّى أوهامكَ أيّها العقل البائس ، لم تستطع أنْ تجعلها ذكيّة أو خلاّقة أو مبدعة أو خصبة ، لأنّكَ تفتقرُ إلى موهبة الخيال , وصفاء الإحساس ، واشتهاء الدهشة ، وابداع الخَلق ، وفنون التكذيب .. ما أتعسكَ في أوهامكَ ، تراها كلّ الحقيقة ، وكلّ الوجود ، وتبادلها متعة الخمول والتجمّد والانطفاء والتغييب والتقيّد . إنّها تَحيا فيكَ تعاليماً وطقوساً ، واعتقادات ومعتقدات وصلوات وابتهالات وتضرّعات ، تخلو من الذكاء والإبداع والخَلق والفنّ والالهام والتمرّد والحرّية والتجاوز ..
إنّك في وجودكَ تُمارس وجودكَ مشترطاً عليه ، كلّ قيودكَ واعتلالاتكَ وإكراهاتكَ ومنقولاتكَ وحمولاتكَ النصيّة والتراثيّة والجمْعيّة . ما أفظعكَ وأنتَ تمارس وجودكَ هذا ، متخوّفاً وخائفاً ومرتجفاً ، متعبّداً ومتملّقاً ومادحاً ومُستفرِغاً . جاهِلاً جهلكَ ، ومتجاهلاً جهالاتك .. ما أعجزكَ في الاختيار ، وكمْ أنتَ عاجزٌ عن الاختيار . لا تستطيع إلاّ أنْ تختار قيودك ، وتختار عبوديّتكَ في قيودك ، فكمْ تُرهبكَ حرّية الاختيار ، وكم تخشاها وتتحاشاها ، وكم تراها أكبر من استيعابك وقدرتك وذاتك . وكيف لكَ أنْ تختار ، وأنتَ مُقيّدٌ في اختيار محدّدٍ مسبقاً ، ولا تعرفُ أنّ عليكَ أنْ تكونَ حرّاً في خياراتك واختياراتك . إنّكَ تعجزُ عن الاختيار ، لأنّكَ لا تعرفُ أنّ لكَ حقٌّ في الاختيار ، وكيف لك أنْ تعرف أنّ لكَ حقٌّ في الاختيار ، وأنتَ لا تملكه ، ولستَ مستعدّاً له ، وليسَ متوفّراً في رصيد حرّيتكَ ورؤيتك وتجربتك ..
#محمود_كرم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التجربة وحْيُكَ المقدّس
-
هذيانات أنيقة
-
المحرّمات الثقافية في العقليّة الجماعية
-
الإنسان كائنٌ هويّاتيّ
-
في أن تخرجَ من قيودك
-
في أن تكون الحياة رهنُ يديك
-
كلام في الخمسين
-
الإنسان يصنع مستقبله
-
الذات الحرة في بناءاتها ورؤاها المتمايزة ..
-
ذاكرة الإنسان المعرفية .. تجلياتٌ في الإبداع والتجديد
-
في فلسفة المشاعر الإنسانية
-
الشغف .. أكثر حالات الإنسان تألقاً وتفرداً
-
الإنسان التعبيري .. إنسان النزعة الخلاقة
-
حرية التفكير طريق التمرد المعرفي
-
فلسفة الحضور في الوعي التنويري
-
شجن الذاكرة
-
الأصل في فلسفة الوعي الإنساني
-
التافهون
-
الإنسان المعرفي .. إنسان التنوير
-
الأفكار بين التأمل وموهبة الخلق
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|