|
«النهضة التونسية» وتحولاتها: دمقرطة إسلامية جديدة؟
خالد الحروب
الحوار المتمدن-العدد: 5170 - 2016 / 5 / 22 - 09:47
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الإعلانات المتواترة من جانب قادة حركة النهضة التونسية إزاء مغادرتها مربع الإسلام السياسي ودخول مربعات «الدمقرطة المسلمة» ملفتة وتتسم بأهمية مميزة، وتُرصد كأحد أهم الانعطافات في مسيرة الإسلام السياسي منذ تأسيسه. سُجل دوماً لـ «النهضة» ولقادتها، راشد الغنوشي وعبدالفتاح مورو وحمادي الجبالي وغيرهم، بكونهم الأكثر استنارة في دوائر الإسلاميين، وتقديماً للأفكار الأكثر جرأة من داخل الحركات الإسلاموية. هناك مثقفون ومفكرون من خارج إطار تلك الحركات قدموا وربما لا يزالون يقدمون أفكاراً أشد جرأة، لكنها تختلف عن جرأة من يقود حزباً أو حركة عند تقديم أفكار ترافقها خطورة خسارة الموقع أو التسبب في الانقسام أو الاتهام بالتخلي عن المبادئ وهكذا. يُضاف إلى هذه الأهمية تضاعف احتمالات التأثير للأفكار الجديدة، وإمكانية أن تغير في مسار جماعات وحركات برمتها وهذا هو المهم، كون الأفكار تصدر من «الداخل» وليست «مستوردة» من منظرين لا يرتبطون بالعمل الحركي.
في مسألة علاقة الإسلاميين بالديموقراطية، كانت النهضة والغنوشي تحديداً في أوائل التسعينيات من القرن الماضي أول إسلاميين يقبلون بما تأتي به الديموقراطية، مهما كان حتى لو كانت النتيجة فوز حزب شيوعي. وبقي الغنوشي على رأيه ذاك حتى اليوم، مشدداً على أن فشل الإسلاميين في أي انتخابات معناه أن الشعب لا يريدهم أو أنهم فشلوا في الوصول إليه، وأن عليهم هم إعادة النظر في برامجهم وطرائق وصولهم للناس. اقتربت النهضة أكثر ما يمكن من الجوهر الديموقراطي (الهابرماسي، قد نقول) حين وثقت بخيار الشعب وأعلنت قبولها غير المشروط به. قطعت الأفكار تلك، والتي لم تتبناها الحركات الإسلامية الأخرى حتى تلك التي شاركت في عمليات ديموقراطية هنا أو هناك، مع التحفظات التقليدية للإسلاميين على المسألة الديموقراطية و «خطرها المحتمل» حيث تزاحم فكرة «الحاكمية لله»، وهي التهويم المدمر الذي جاء به أبو الأعلى المودودي في الهند لرفض حكم الغالبية الهندوسية إبان الاستقلال، وتحمس لها سيد قطب وأعاد إنتاجها برطانة عربية بالغة الأثر والتأثير والتدمير!
انعكس فكر النهضة وممارستها المختلفة في شكل ملفت على فكر وممارسة بقية فروع «الإخوان المسلمين» في طرائق التعامل مع مخرجات الربيع العربي، وقدمت النهضة مقاربة وتجربة مختلفتين تماماً عن اللتين قدمهما «إخوان» مصر. فإن اتصف هؤلاء الأخيرون بضعف التسيس والتحوصل على الذات وطغيان نزعة الاستئثار بالسلطة خلال عام حكم مرسي، فإن النهضة تنازلت عن الغالبية مقابل تجنيب تونس بأسرها احتمال الانزلاق إلى حالة عنفية شبية بالحالة المصرية، واختارت سياسة الائتلاف والجبهات مع الجميع - المشاركة لا المغالبة. سُجل ويُسجل للنهضة تلك السياسة ولا يستطيع حتى ألد خصومها إنكار ذلك.
في هذا الشهر نقلت تقارير صحافية نص رسالة وجهها الغنوشي إلى قادة التنظيم الدولي لـ «الإخوان المسلمين» يبتعد فيها بخطوات عن التنظيم وفكر «الإخوان» ويحملهم مسؤولية تبني سياسات غير مدروسة تستخف بالدول والشعوب وقادت إلى دمار (مُشيراً إلى مصر وسورية). ويؤكد فيها أولوية «الوطني» على «الأممي» في نظرته وفكره، وبأن تونس تأتي أولاً وتتقدم على أي ولاء إسلامي عابر للحدود، وهو ولاء لا يجلب على البلاد إلا الدمار والإرهاب. في الرسالة يقول الغنوشي أيضاً أن لحظة الافتراق مع «الإخوان» تقترب في شكل سريع، ونفهم منها انتقاده الشديد لنظرتهم الاستخفافية بفكرة الدولة والوطن وتقديمهم الشعار الأممي. ولربما قُصد من تسريب الرسالة تهيئة المزاج العام، التنظيمي النهضوي في تونس، وكذا الإسلاموي العام، للتحولات المقبلة في أفكار النهضة وقائدها. إضافة إلى الشهادة الداخلية التي يقدمها الغنوشي حول تكلس فكر جماعة «الإخوان» وارتطامه بجدار صلد، فإن الخلاصة التي ينتهي إليها في الرسالة كما في الإعلانات اللاحقة لتلك الرسالة هي وفي شكل مبتسر ومباشر «تونس أولاً» قولاً وفعلاً، وإعادة تشكيل فكر وسياسة وأيديولوجية حركته بناء على هذا المنظور الجديد.
ما زلنا في طور استكناه المضامين التفصيلية للإعلان «النهضوي» وما يترتب عليها سياسياً وفكرياً في تونس وخارجها، وكيف سينعكس على طبيعة صوغ العلاقات مع الأطراف الوطنية الأخرى في تونس، وصوغ الأفراد والقواعد التنظيمية الإسلاموية التابعة للحركة ذاتها. لكن بالإمكان تسجيل بعض الملاحظات الأولية، بانتظار انجلاء المشهد الفكري والتنظيمي النهضوي والإخواني كذلك. أولها أن هذا الإعلان الواضح والصارم في تقديم الوطني الديموقراطي على الإسلاموي الأممي يمكن اعتباره «الترسيم الدستوري الإسلاموي» لما هو قائم فعلاً على الأرض وتطور خلال سنوات طويلة من إعادة التأقلم والتقولب مع السياقات المحلية والوطنية. ذلك أن الاحتكاك والتوتر بين ما هو وطني، قومي، منحصر ومشغول اولوياً بما هو داخل الحدود الوطنية، وما هو أممي، عالمي، متجاوز للحدود الوطنية ومشغول أولوياً بما وراءها، هو سمة الأديولوجيات العابرة للحدود دوماً: من الأديان المتسيسة، إلى أيديولوجيات التوحد القومي والقسري، وصولاً الى الشيوعية بتنويعاتها المختلفة.
في كل أيديولوجية عابرة للحدود هناك مركز مُسيطر (مصر في حالة أيديولوجيا «الإخوان المسلمين»، كما كانت موسكو في الحقبة الشيوعية مثلاً)، وهناك أطراف تابعة له وتأتمر بأمره. مصالح ورؤية وسياسة المركز تتفارق مع مصالح ورؤى وسياسات الأطراف لأنها تقدر ذلك تبعاً لاستجابات واقعها لا اشتراطات أيديولوجية المركز. وهكذا هي القصة المكرورة في كل أيديولوجيا سياسية أممية تحاول عمل المستحيل كي تنطبق الدائرة الأممية على الدائرة الوطنية من دون أن تحقق النجاح الكامل أو شبه النجاح على الأقل. الأيديولوجيات التي حققت نجاحات أكثر من غيرها هي تلك التي قبلت بتداخل الدوائر ولم تشترط انطباقها، وأظهرت مرونة أكبر في احترام وتقدير مصالح وسياسات الدائرة الوطنية، أو دائرة الدولة الوطنية، وقبلت تقديمها على الدائرة الأممية.
أما الأيديولوجيات الفاشلة فهي تلك التي تحجرت حول أفكارها الطوباوية وقدمتها على دوائر الأوطان والشعوب، فظلت تهيم في الهواء منقطعة عن الواقع، وداست على دائرة الوطن وأرادت إخضاعها للفكرة الأممية الكبرى. في هذه الحالات كلها، وما تخبرنا شواهد التاريخ الحديث، ظلت دائرة الدولة الوطنية تتفلت من تحت وطأة الدائرة الأيديولوجية الأكبر المفروضة عليها، حتى حققت الانفلات الكامل. في التاريخ الحركي الإخواني حدث هذا مع «الإخوان» السودانيين في منتصف ثمانينيات القرن الماضي عندما ثاروا على مركزية «التنظيم الدولي للإخوان المسلمين» وأمميته وعدم إيلائه الظروف المحلية والوطنية للفروع المختلفة الأهمية والأولوية المطلوبة. انشق «إخوان» السودان بجزئهم الأعرض يقودهم حسن الترابي آنذاك، ولم يعودوا ينتظرون أوامر وتوجيهات مكتب الإرشاد، قيادة «الإخوان» العليا. منذ ذلك التاريخ وحتى لحظة الانشاق الأهم الثانية، وهذه المرة بقيادة راشد الغنوشي، و «الإخوان المسلمون» لم يتعلموا الدرس، وظلت مقارباتهم لفكرة الوطنية أو الدولة الأمة مرتبكة وغامضة، وأهدافهم الكلية تدور حول نفسها وتتكلس وتفترق عن الواقع. انخرطوا في الربيع العربي بعتاد فكري وسياسي هزيل لم يستطع أن يتعامل مع عمق التحول ولا التقاط أبعاده التاريخية ولا الدور الذي يُفترض أن تلعبه الأحزاب الكبرى إزاء استيعاب الحراك التاريخي والانخراط في جبهوية عريضة تكرسه وترسخه. في قلب عاصفة التحول العاتية موضع «الإخوان» أنفسهم كمروحة صغيرة وقديمة تريد أن تغير من اتجاه تلك العاصفة. عصفت بهم العاصفة طبعاً وألقت بمروحتهم خارجها تماماً. ما تلتقطه حركة النهضة التونسية وراشدها هو ضرورة البقاء في قلب العاصفة والانقياد لها، وعدم التصدي لاتجاهها وجهاً لوجه وهي في لحظة فورانها العاتي.
الملاحظة الأولية الأخرى التي يمكن إيرادها هنا متعلقة بتأسيس منظور جديد للشرعية السياسية في العقل الإسلاموي الحركي. فهذا العقل الذي خضع لتشوهات عميقة بسبب الأفكار القطبية التي تحكمت به طيلة نصف قرن أو أكثر حول الحاكمية والجاهلية، ظلت رؤاه السياسية تدور حول نفسها في المنطقة الرمادية بين «الشرعية التقليدية» و «شرعية القيادة الكاريزمية»، وفق تعريفات ماكس فيبر، مقارناً إياها بالشرعية السياسية الحداثية والأهم وهي «الشرعية القانونية». الشرعية التقليدية هي إعادة إنتاج للموروث الديني أو القبلي أو العائلي، والكاريزمية هي انتظار بزوغ القائد الملهم (صلاح دين جديد مثلاً...) والذي يوحد ويصوب ويحقق النصر. هل لنا أن نقول ونتوقع انتقالاً حاسماً في فكر النهضة وسياستها من تلك المنطقة الرمادية المهجوسة بالموروث أو المتعلقة بقدوم قائد فذ لا يأتي إلى دائرة التبني الكامل للشرعية القانونية، القائمة على التسيس الحديث والديموقراطية غير المُقيدة والانتخابات المطلقة وما تأتي به؟
#خالد_الحروب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صادق خان: تجديد التعددية الثقافية وتصحيحها
-
طرابيشي.. مثقف المروءة
-
«الإخوان المسلمون»: مقاربات القطبيّة والتطرّف
-
بروفايل «الفلسطيني العادي» ... خليط الأزمنة والهويات
-
هل يستقيل عباس ويقلب أوسلو على صانعيه؟
-
رحيل فاطمة المرنيسي سندبادة فاس المعولمة (٢ من ٢
...
-
رحيل فاطمة المرنيسي سندبادة فاس المعولمة (١ من ٢
...
-
إصلاح التعليم الديني... من هنا نبدأ!
-
رحل المرنيسي ويبقى سندبادها
-
الإرهاب يدمّرنا قبل تدمير الآخرين
-
الإنتفاضات الفلسطينية تكسر الجدار الحديدي
-
عناد شبان فلسطين يقلب الاجندة
-
اللاجئون السوريون: ماذا عن روسيا وايران؟
-
المسلمون والقدس.. الزيارة والاستثمار
-
تأملات في -محور الممانعة-
-
خير جليس ... محاصرا باللغة!
-
الخصوصية الثقافية والخطاب الاعتذاري
-
سيرورة التطرف والداعشية .. ودورنا جميعا
-
الداعشية في مناهجنا الدراسية
-
كيف سيُكتب تاريخنا؟
المزيد.....
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
-
بن كيران: دور الإسلاميين ليس طلب السلطة وطوفان الأقصى هدية م
...
-
مواقفه من الإسلام تثير الجدل.. من هو مسؤول مكافحة الإرهاب بإ
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|