أذكر يوم كان المخيم لازال مخيما جميلا ومكانا محببا, لا كما هو الآن غابة من الظلام والفقر والتسيب الأمني والانحطاط الأخلاقي والتفتت الاجتماعي والتأزم الاقتصادي. وحيث يخضع لحصار دائم من قبل الوهم والعسكر وغربان البين والاحتمالات المفتوحة على الأشقاء والأعداء والذكرى والنسيان والهجرة والذوبان. حين أذكر عين الحلوة, مخيمي الذي أحببت وأحب, حيث لي ذكريات وأمكنة وبشر لازلت التصق بدفئهم بالرغم من وجودي بعيدا عنهم في اسكندنافيا الباردة.
أسمع من المعارف والناس بأنه يوجد في مخيمنا آلاف من البشر الذين لا يستطيعون مغادرة المخيم منذ سنوات طويلة لسبب أو لآخر, وأتعجب منهم لأنهم لازالوا بكامل قواهم العقلية, إذ كيف يستطيع المرء التغلب على حياته والتكيف لسنوات عدة مع مساحة ضيقة من الأرض , مثلما هو الحال في مخيم عين الحلوة, جنوب لبنان.
من هؤلاء المحاصرين بمشيئة المحاصر والقدر والظروف والسياسة والعقيدة وغير ذلك, من لا يستطيع التحرك أيضا ضمن المخيم بسبب الصراعات الجانبية و الخلافات بين عدة جماعات متمركزة في المخيم ولها مناطق نفوذها داخله. عداك عن مخاوف الليل وأشباحه التي لا تترك الناس بحالهم ولا ترحمهم, إذ تخرج الأشباح من سراديبها أو تأتي من خارج المخيم وتأخذ بنشر الرعب في الزواريب والأحياء, أحيانا على شكل متفجرات وانفجارات وقنابل و اغتيالات وأحيانا أخرى على شكل دعايات وشائعات. ويختلط كل هذا وذاك بجو فقر وعوز شديد التعقيد ساهمت به الأوضاع الاقتصادية الحادة التي تعصف بلبنان وتلاقت تلك الأوضاع مع قوانين لبنانية معروفة تمنع الفلسطيني من العمل في كثير من المهن هذا إذا وجد العمل أو توفر في السوق اللبنانية الجامدة. أصبحت أخاف على طفولة أطفال المخيم من طفولتهم التي تلزمهم بفعل كل شيء من أجل الاستمرار والحياة والبقاء.. هل أصبح الكلام فعلا عن البقاء, ألهذا الحد وصلت أمور المخيمات في بلاد العرب؟
لا عجب أذن إن عاملنا الآخرين معاملة سيئة ما دمنا نحن أنفسنا سيئين مع بعضنا البعض ولا نؤمن بالأمة الواحدة ولا بالرسالة الخالدة ولا حتى بالمصير المشترك.
كلما قرأت في الأخبار عن انفجار في عين الحلوة, لا ادري لماذا يستفزني الخبر وتثير غرابتي ودهشتي وكالات الأنباء والكتابات المختلفة التي تصب كلها في مصب واحد وهو أن عين الحلوة يعيش على صفيح ساخن أو يرقد على فهوة بركان. ولا أحد من هؤلاء يكلف نفسه عناء دراسة الموضوع بشكل مستقل وعقلاني ومحايد وجيد, فتجد الدراسة تميل لتيار معين من التيارات الموجودة في المخيم, أو أنها تلقي باللوم على جناح واحد من الأجنحة التي تحكم في المخيم. وتقوم بتضخيم الأحداث وتلبيسها أثواب ملونة, الهدف منها إشاعة أجواء اضطراب في المخيم والجوار.
الحقيقة أن المخيم هو مزيج من الخيارات والانتماءات والمحسوبيات, متداخل فيما بينه ويلتقي فيه العشائري والعائلي والحزبي والتنظيمي والمناطقي والبلدي " نسبة للمناطق و للبلدات الفلسطينية التي تعود إليها جذور العائلة الفلسطينية في المخيم".
لذا من الصعب في عين الحلوة هذه الأيام العثور على الماضي الذي ذهب مع الريح, فالحالة أصبحت جديدة والوجوه القديمة إما تبدلت هي وقناعاتها أو تحجرت وأصبحت غير ذات منفعة وقيمة بسبب التكلس والتحجر الذي أصابها. لكن حتى في هذا البحر المظلم الذي تسبح فيه عين الحلوة, يلقى الإنسان أحبة ورفاق وإخوة من الذين عاش معهم التجربة والحرب والسلام والانتماء والفكر المشترك, فمنهم من تحول وهجر المشترك بعدما ترك للزمن علاج الجراح التي تركها له الزمن الماضي والعصر الحاضر. ومنهم من يرقد في المقابر العديدة التي تحيط بالمخيم من كل الجهات. هناك يستطيع المرء أن يجلس مع صديق شهيد ويحاوره في الماضي والحاضر والمستقبل وأن يرسما معا صورة جميلة لحاضر مظلم ولمستقبل بعيد..
أشعر بالجوع يداهم عقلي وقلبي حين تعتاد الأخبار التقاط أنباء الأنفجارات التي تستهدف أمن المخيم وتصب الزيت على نار الواقع الناري في المنطقة, واسأل نفسي هل نحن بحاجة لهاربين جدد كي يتمركزوا في مخيمنا وأجيب لسنا بحاجة لوجع رأس جديد ولا نريد أن يكون المخيم ملاذا لكل هارب وشارد من الدولة أو من الأمة. فعندنا ما يكفينا من الهاربين من ظلم الأعداء والأقارب ومن ظلامية الواقع وظلام الفكر حين يتحجر ويتكلس ويصبح عصيا على التحليل ومنيعا وغير قابل للتعاطي مع الواقع بمنظور واقعي. هذا من جهة أما على الجهة الأخرى فهناك في المخيم عملاء ووكلاء مخابرات وأجهزة أمن تخريبية يعملون بالسر من أجل زعزعة أمن المخيم وتعزيز دور اللصوص في السيطرة والنفوذ , حيث لكل ضابط مجموعة يديرها بقوة ماله ودولاراته التي يحصل عليها من أموال شعبنا التي يتصرف بها الذين استولوا عليها من مؤسساتنا الوطنية بعدما خربوا تلك المؤسسات وغيبوها وتركوها لتمرير المشاريع القذرة فقط. ومنهم من يستعمل تلك الأموال لابتزاز الناس ولشراء الذمم والضمائر وممارسة البغاء واستغلال المحتاجين والمحتاجات من الفقراء وذوي الشهداء الذين بدمهم ذادوا عن الثورة والحقوق العادلة. لكن هكذا هي الحياة وهكذا هي الثورة حين تتحول لعصابة ومافيات ومرتزقة وأزلام وأقزام ..
في حضرة القزم الفلاني من أزلام القزم المتنفذ الفلاني يفقد اشباه الرجال رجولتهم ويقضون وقتهم في سماع تنظيرات عميد الجهل في المخيم, الفلن الفلاني من قادة المصادفة, هذا الذي لا يقدر وقته بثمن , تماما مثل ثروته, وهو يدلي بالتصريحات ويلقي الخطابات وكأننا لازلنا في زمن السبعينات والثمانينات, حيث كان لتلك الخطب صداها ودوافعها وعواملها الموضوعية, أما الآن فلا تلك الخطابات ولا الاستعراضات المسلحة في بقايا المخيمات تستطيع التأثير على المعادلة الموجودة, لأن لتلك الخطابات وأصحابها مهام محددة, مرسلة من أسيادها وهي عاجزة عن تخطي حاجز الولاء المالي. فالذي يدفع يصبح السيد والذي يرش الأموال ويوزع الدولارات يصبح الناطق الرسمي باسم المحسوبين ويقوم بإلقاء المواعظ الثورية والخطب القومية الرنانة, فيقر الاستسلام وحتى الخيانة باسم المصلحة الوطنية العليا وباسم المصلحة الحركية الأعلى من المصلحة الوطنية وبنفس الوقت يقر الولاء للشرعية المتنفذة من اجل استمرار وجوده من خلال تثبيت وجود تلك القيادة المتنفذة ولو بشكلها الحالي فقط, أي شكل مالي سياسي إعلامي مع بعض البنادق التي أودت خلال العشرين سنة الأخيرة بحياة المئات من أبناء المخيمات, وذلك في حروب تافهة وفارغة لا علاقة لها بالوطن والقضية والشعب, فتلك البنادق منذ فترة طويلة وهي تعمل بالفلسطينيين بدلا من العمل بالصهاينة. قد يأتس الآن البعض ليستغل كلامنا هذا ويقول إذن ما هو مبرر وجودها ما دامت موجهة لغير الهدف الذي حملت من أجله. نقول إن الهدف لازال لكن حجم المؤامرة التي تعرض لها الفلسطيني بالماضي جعله حساس جدا اتجاه أمنه وحياته, لذا فالمؤامرة لم تنته ولازالت تتابع فصولا, ومن المهم الحفاظ على البندقية الفلسطينية لكن من المهم أيضا توجيهها نحو الأعداء وتسييسها وجعلها أداة دفاع عن الشعب ومصالحه وحقوقه الوطنية, لا وسيلة سلب ونهب واعتداء على الآخرين والأبرياء والشرفاء والضعفاء في المخيمات وبالذات في عين الحلوة. وهذه البندقية يجب أن تحرص على السلام والقانون اللبناني وفرض النظام حرصها على فلسطين, ولكي يتم هذا بشكل صحيح وسليم, على الدولة اللبنانية أن تتعامل مع الفلسطيني على أساس انه ضيف حتى التحرير والعودة, لكن لهذا الضيف حقوق إنسانية ومواطنة يجب أن تحترم وتؤخذ بعين الاعتبار.
وحال عين الحلوة ينطبق بأشكال مختلفة على جميع المخيمات التي لازالت تعاني من مشاكل مستعصية قد تفجر بركان الغضب والنار الذي تجلس فوقه تلك المخيمات. فبقاء الوضع الفلسطيني في لبنان معلقا في الهواء وبلا حل في ظل ظروف مثل تلك التي يعيشها الفلسطينيون سوف يزيد من التعقيدات والمشاكل والويلات التي يواجهها الإنسان الفلسطيني, هذا الذي فقد الكثير من إيمانه بالعروبة ولم تعد تنطلي عليه الشعارات الفارغة التي يرددها بعض الفلسطينيين من عبيد المال والجاه وبعض العرب من المزايدين عليه قوميا ونضاليا. عندما تتوفر الشروط التي توفر للإنسان الفلسطيني معاملة عادلة ومحترمة يصبح الخوف من أي حالة غير قانونية وغير مقبولة مجرد هذيان, لأنه في العدل تكمن الحكاية, مادام العدل ممنوعا في وضع الفلسطيني المسجون في المخيم فأن العدالة تبقى ناقصة والكرامة كذلك.