سعدون الركابي
الحوار المتمدن-العدد: 5166 - 2016 / 5 / 18 - 01:32
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حرب الخليج ( الملف السري)
تأليف:
- بيير سالينجر
- إريك لاورينت
ترجمة :
سعدون الركابي
الناشر: دار كيوان للطباعة و النشر
دمشق
الطبعة الأولى
2005
الحلقة الرابعة عشر
الفصل الخامس
كان جيمس بيكر قد وصلَ للتوِ الى مدينةِ " إركوتسك " في قلبِ سيبيريا. كانت الساعةُ تُشيرُ الى التاسعةِ مساءاً, بتوقيتِ تلك المنطقة, و ذلك لإجراءِ المُباحثاتِ مع نظيرهِ السوفييتي إدوارد شيفارنادزه. لم يُفكِّر هذان الرجلان بأنَّهما سيتعرَّضان, و في هذهِ المدينةِ النائيةِ, بساحاتِها الواسعةِ المُحاذيةِ للبناياتِ الرماديةِ, لأول إمتحانٍ حقيقي للعلاقاتِ الأمريكيةِ السوفييتية الجديدةِ. " لقد إبتدأَ عصرٌ جديدٌ ", صرَّح بذلك, و لإكثرِ من مرَّةٍ, كُلٌّ من جورج بوش و ميخائيل غورباتشوف. و لكن لم يتخيَّل أيٌّ منهما, بأنَّ هذا العصر الجديد, سيبدأُ بهذا الشكلِ المأساوي. كان بيكر يُبلَّغُ, و بهاتفٍ خاصٍ مُشفَّرٍ يربطهُ مباشرةً مع واشنطن, حول الوضعِ في الخليج. و حسبُ رأيهِ, فإنَّ الأوضاعَ في الخليج, إتخذت مُنعطفاً خطيراً. إلتقى بيكر مع شيفارنادزه خلال مأدبُةٍ خاصةٍ بالإثنينِ فقط. كان الوزيرُ السوفييتي ذا الشعرِ الأبيض و المنظر الهادئ, قد أثبت طيلةَ السنواتِ الخمسِ الماضيةِ, التي قضاها على قمةِ الدبلوماسية السوفيتية, بأنهُ مُفاوضٌ مُمتاز. رغم ذلك, فلا يوجدُ أيُّ شيءٍ آخرٍ يُؤَهلهُ لهذا المنصب. ضابطُ مُخابراتٍ سابق, في جهازِ الكي جي بي ( جهاز المخابرات السوفيتي الشهير). بعد ذلك أصبح وزيرآ للداخليةِ ثُمَّ رئيساً, لجمهوريةِ جورجيا ( بلدهُ الأصلي ). حيث أمرَ بعملياتِ إضطهادٍ شديدةٍ فيها, بحقِ أبناء شعبهِ.
جلس الوزيران على المقاعدِ الخلفيةِ لعربةٍ سوداءِ اللون مُضادَّةٍ للرصاص. كان الموكبُ يخترقُ شوارعَ أركوتسك بسرعةٍ, بينما كانت الأعلامُ الأمريكيةُ تُرفرفُ على جوانبِ الساحاتِ التي تخترقُها رياحٌ باردةٌ. كانت الأحداثُ تتراكمُ بسرعةٍ شديدةٍ, بينما يبدو إنَّ الحكومةَ الأمريكيةَ قد خرجت من حالةِ السُبات. إذ أظهرت إهتماماً شديداً لتطوِّرِ الأوضاع. كان هُناك إجتماعٌ بين قياداتِ المُخابراتِ و بإشتراكِ مُمثلي أهم الوزارات, قد عُقدَ في وزارةِ الخارجية و إستمرَ عِدةَ أيامٍ. لقد كان الفشلُ الذي سجَّلهُ إجتماعُ جدّة, و الحشودُ الكبيرة للقواتِ العراقية على الحدودِ مع الكويت, قد أقنعت الرسميين بأنَّ هدفَ صدّام حُسين, ليس الضغط على الكويت فقط. إذ إستلمَ المُشاركون في الإجتماعاتِ معلوماتٍ من السي آي أي, تُشيرُ الى إمكانيةِ إحتلالِ الكويت.
في البنتاغون و في مُنتصفِ الظهيرةِ, إنسحبَ رئيسُ أركانِ الجيش الجنرال كولين باول, أولُ أسودٍ وصلَ الى هذا المنصبِ الرفيع, مع بقيةِ مسؤولي القواتِ المُسلّحةِ الكبار, في قاعةٍ مُلحقةٍ لمركزِ القيادةِ العسكريةِ و تُدعى الدبابة, و ذلك لكونها مُحصَّنةً تماماً و محمِّيةً من أيِّ خطرٍ للتنصُّتِ بسبب نظامٍ إلكترونيٍ خاص. لم يعتقد البنتاغون حتى 30 تموز بإمكانيةِ الغزو. إذ لم تجتمع بعد للعراق الشروط الضروريةِ لعمليةٍ مثل هذهِ, و هي: نظامُ إتصالاتٍ, مدفعيةٌ, تجهيزاتٌ, وسائلٌ لوجستيةٌ (سوقية), قادرةٌ على دعمِ هجومٍ ما.
في الأولِ من آب, توفَّرت هذه الشروط جميعاً. خلال هذه الأحاديث, لم يُخمِّن أيُّ احدٍ, بوضوحٍ, الغزو. بل, و أكثرُ من ذلك, فإنَّ أحدَ المُشاركين و هو الجنرال شكوارزكوف ( و الذي سيصبحُ بعد ذلك ببضعةِ أيامٍ, قائداً عاماً لقواتِ التحالف), عاد مُباشرةً الى قصرهِ في فلوريدا, لقضاءِ فترةِ إستراحةٍ. في نفسِ هذا الوقت, إلتقى رئيسُ الوزراء الأُردني مضر بدران في عمان, بأعضاءِ البرلمان خلفَ الأبوابِ المُوصدةِ. كان بدران قد إصطحب الملكَ حُسين في جهودِ الوساطةِ بين العواصمِ العربية. إذ كان قبل يومين في بغداد و الكويت. قال لهم بدران: " من الواضحِ, فإنَّ العراق سوف لن يقبلَ أيةَ مُساومةٍ فيما يتعلَّقُ بطلبِ التعويضاتِ من الكويت, بسببِ إنخفاضِ أسعارِ البترول. إذ إنَّ العراقيين لا يرغبون بإلغاءِ الديونِ فقط بل هم لا يتزحزحون عن فُكرتهم, بأنَّ موقفَ الكويت و الإمارات العربية, و الذي يعملُ على زيادةِ إنتاجِ البترول, يُعتبرُ عملاً أشدُّ خطورةً - حسب رأيهم - من الحربِ مع إيران ".
إستمر اللقاءُ ثلاثَ ساعاتٍ, زوَّد مُضر بدران فيها أعضاء البرلمان, بمختلفِ التفاصيل حول الموقفِ العراقي. " من الواضح - يقول أحدهم - بأنَّهُ كان على علمٍ تامٍ بالهجومٍ الذي سيتمُّ في الساعاتِ القليلةِ المُقبلة. و إنَّهُ كان يُريدُ تهيئتنا للحدثِ ". أنهى رئيسُ الوزراء الجلسةَ في الساعةِ العاشرةِ مساءاً. و الطريف, فإنَّ أجهزةَ المُخابراتِ الإسرائيليةِ كانت قد أُبلغت من المخابراتِ الأُردنيةِ عِندَ غروبِ الشمس من ذلك اليوم ( 1 آب ) عن حتميةِ الغزو, و ذلك تطبيقاً للإتفاقاتِ السريةِ بينهم و التي دخلت حيِّزَ التطبيقِ قبل عدةِ سنواتٍ. هذه المعلومات أُرسلت في الساعةِ اللاحقةِ الى محطةِ السي آي أي المحلية في واشنطن. في الساعةِ 18,30 أو 22,30 بتوقيتِ لندن, غادر ريتشارد هاس المدير العام المسؤول عن شؤونِ الشرق الاوسط في مجلس الأمن القومي, غادر إجتماعَ وزارةِ الخارجية مُتَّجِهاً نحو البيت الأبيض. إذ كان لديهِ لقاءٌ مع الجنرال برنت سكوكروفت رئيس مجلس الأمن القومي. و الذي قام بإطلاعهِ على تحوُّل وجهات النظر, بأن العراق لا يقومُ بعرضٍ للقوةِ لإجبارِ الكويت, بأن تُقدِّمَ التنازلاتِ عن طريقِ المفاوضات, بل إنَّ لهُ هدفآ آخر. نُصفَ ساعةٍ بعد ذلك, غادر كل من سكوكروفت و هاس, مكاتبَ مجلسِ الأمن القومي الواقعةِ في الطابقِ تحت الأرضي في البيت الأبيض, و إتجها الى شققِ الرئيس جورج بوش في الطابق الأول من البنايةِ الرئيسية. تحادثا معهُ مدة 45 دقيقة, حول نتائج الإجتماع الذي جرى بين المسؤولين " الأمنيين ". و بينما هم يتحدّثون رنَّ جرسُ الهاتف, فأجاب برنت سكوكروفت. كان روبرت كيميت في الجانب الآخر من الخط. و هو الرجلُ الثالث في الخارجيةِ الأمريكية, كان في حقيقةِ الأمر وكيلُ وزارةِ الخارجية, بسببِ غيابِ جيمس بيكر و مساعدهُ لورانس إيكلبورجر في سيبيريا. يقول كيميت لسكوكرفوت, بأنَّهُ قد تلقّى معلوماتٍ غير مُؤكَّدةٍ بعد, تُشيرُ الى إنَّهُ قد إبتدأَ إطلاقُ النار في مدينةِ الكويت. كان كيمت قد إتصل قبل ذلك بقليلٍ بجيمس بيكر في إركوتسك في سيبيريا. كانت الساعةُ هناك تُشيرُ الى السابعةِ صباحاً من يوم 2 آب. و لأنَّهُ كان يتكلّمُ بالتلفون السري و الذي كان عُرضةً للإنصات, و لإنَّ الموضوعَ هو أمرٌ خطير, حاول كيميت إرسالَ معلوماتٍ دقيقةٍ بشكلٍ مُوجزٍ و غامض. فأرسل بيكر جوابهُ, بأنَّهُ توجد إذآ, إشاراتٌ حول حتمية الغزو؟ بعد ذلك بنصفِ ساعةٍ, ذهب وزيرُ الخارجية للقاءِ نظيرهِ السوفييتي في جولةِ مُباحثاتٍ جديدة. إذ أبلغ شيفارنادزه بالبرقيةِ التي إستلمها من واشنطن. " تأكَّدَ لأجهزةِ مخابراتِنا - يقول بيكر - إستمرار زحفِ القواتِ العراقيةِ نحو الحدودِ مع الكويت, و هي تتوقَّعُ إمكانية الغزو. نحنُ نرجو أن تُحاولوا إيقافهُ ". كان بيكر صديقاً مُقرَّباً لجورج بوش. فالإثنان كانا نِتاجاً حقيقياً للنُخبةِ العليا في مجتمعِ السواحلِ الشرقية. و لديهما صِفةُ طرحِ أكثرِ الحقائقِ مأساويةً بدونِ تحفُّظٍ. خاطب بيكر الوزير شيفرنادزة, الذي يحملُ لهُ تقديرآ شديدآ, بِنفسِ اللهجةِ الموزونةِ التي يستعملها مع أصدقائهِ القُدماءِ في الجيش.
إستقبل الوزيرُ السوفييتي الخبرَ الذي أعطاهُ إياهُ زميلهُ الأمريكي, بمزيجٍ من عدمِ الثقةِ و التحفُّظ. إذ أجاب: " بأنَّ القادةَ السوفييت يعرفون صدّام حُسين مُنذُ وقتٍ طويل. فقد قدَّموا له مُساعداتٍ مُهمةً و بخاصةٍ العسكرية منها. و كان الأتحاد السوفييتي قد وقَّع مع العراق سنة 1972, مُعاهدةَ صداقةٍ و تعاون ". ثُمَّ إبتسم شيفارنادزه, و قال: " إنَّهُ زبوننا ". ثُمَّ إلتفتَ الى بيكر, قائلآ: " أنا على ثِقةٍ تامةٍ, بأنّهُ لم يُعد بعد خُطةً للغزو ". بعد ذلك بوقتٍ قصير, ذهبا معاً لعقد مؤتمرٍ صحفيٍ, دون أن يعلم أيٌّ منهما, بأنَّهُ قد تمَّ غزو الكويت بالفعل. كانت الساعةُ تُشيرُ الى التاسعةِ مساءاً, عندما إستلم الرئيس الأمريكي و معاونوهُ معلوماتٍ أكثرَ تكاملاً. و كانت قد جاءت من وكالاتِ المُخابراتِ السرية, و هي تُؤكدُ ضخامة الغزو. إذ لم تكتفِ قطعات صدّام حُسين بأحتلالِ مناطقِ الحدود, بل إنتشرت في كُلِّ أرضِ الكويت. في مدينة الكويت, تمَّ إيقاضُ ولي العهد الشيخ سعد في الساعة الواحدةِ و النصف بعد مُنتصفِ الليل بتوقيت الكويت, أو 22,30 بتوقيت لندن أو الساعة19,30 بتوقيتِ واشنطن, بإتصالٍ من قبل وزير الدفاع. كان الوزيرُ موجوداً في القيادةِ العامةِ للقوات المسلَّحة. كان يبدو من لهجتهِ مرعوباً جدآ. إذ أخبر ولي العهد, بأنَّ القوات العراقية قد عبرت الحدود.
كان ولي العهد لا يزالُ مُتشبِّثاً بقناعتهِ الشخصية, و هي بأنَّ صدّام حُسين يُريدُ وضع يدهِ على حقولِ البترول الحدودية. و رُبَّما يُريدُ أيضاً الجزيرتين الواقعتين على مدخلِ الخليج, و هما وربَّة و بوبيان اللتين كان يُطالب بهما صدّام مُنذُ زمنٍ طويل, ليس أكثر.
إلتقى ولي العهد حالآ مع أعضاءٍ آخرين من العائلة المالكة. كانت حالةُ الرعب تسودُ الجميع. و كانت جميعُ الأخبار التي تتسارعُ الى القيادةِ العامة, تُزيدُ الأمورَ سوءاً. إذ تُشيرُ البرقياتُ الى إنَّ مئات الدبابات ت 62 السوفييتية الصُنع, تتقدمُ بسرعةٍ نحو العاصمةِ الكويت. و قد وصلت إلى مسافةِ 60 كيلومتر, و هي مصحوبةٌ بالعرباتِ التي تنقلُ عشرات الآلاف من الجنود و الموادِ السوقيةِ المُهمة, من المركباتِ المُحمَّلةِ بالماءِ و الوقود. بينما كانت إذاعةُ بغداد تبِثُّ في هذه اللحظات, المارشات العسكرية و خبراً مُقتضباً يُشيرُ الى " إنَّ هناك مجموعةٌ ثائرةٌ تُحاولُ قلبَ نظامِ الحكم في الكويت ". و في وقتٍ قصيرٍ بعد ذلك, أُذيع بيانٌ لمجلسِ قيادة الثورة, و الذي يعلِنُ بأنَّ هذهِ المحاولة قد نجحت, و ب " إنَّ الشبابَ الثوريين قد طلبوا مُساعدةَ العراق, و إستجابةً لهذا النِداء الذي وجّهتهُ الحكومةُ المؤقَّتةُ في الكويت, قرَّر العراقُ الموافقةَ على تقديمِ الدعمِ. و إنَّ العراق - يُؤكِّدُ البيان - كان قد دُعيَ لمنعِ أيةِ محاولةٍ للتدخُّلِ الأجنبي في الشؤونِ الداخليةِ للكويت و في مصيرِ الثورة ". كما إتهمت الإذاعةُ العراقية, عائلة آلصباح, بأنَّها " خائنةٌ و عميلةٌ للصهيونية ". لقد تمَّ شلُّ القاعدتين الجويتين الرئيسيتين في الكويت بسرعةٍ فائقة. فقاعدةُ أحمد الجابر قُرب المطار المدني, تمَّ إحتلالُها من قبلِ وحداتِ المظليين بدونِ أيةِ مُقاومةٍ من قبلِ الجنودِ الكويتيين. أمّا القاعدةُ الأُخرى و هي قاعدةُ علي السالم قرب الحدودِ السعودية, فقد تمَّ قصفُها بعنفٍ قبلَ أن تهبُطَ فيها الطائراتُ المروحية المُحمَّلةُ بالجنود. كانت الرحلةُ رقم 149 للخطوط الجويةِ البريطانية القادمةِ من لندن والمُتَّجهةُ الى كوالا لامبور ( ماليزيا ) قد هبطت للإستراحةِ في مطارِ الكويت الواقعِ على بُعدِ 15 كيلومتر من العاصمة, مُباشرةً بعد بِدءِ الهجوم. كانت الطائرةُ 747 تنقلُ 367 راكب و 18 شخصاً هم طاقمُ الطائرة. إذ مُنعت من الحركةِ على مدرجِ المطار في الساعةِ صباحاً. بعدَ ذلك بِبُضعِ دقائقٍ, كانت الطائراتُ الحربيةُ العراقية تقصفُ المطارَ, في الوقتِ الذي كانت تتقدَّمُ فيهِ القوافلُ الُمدرعةُ نحو هذه النُقطةِ الإستراتيجية. في هذا الحال, أصبح المسافرون رهائِنآ. لم يُقام جنودُ القواتِ الكويتيية الخمس و عشرون ألفآ, إلا مقاومةً ضعيفةً جِدآ, أمامَ " مكينةَ " الحربِ العراقيةِ الرهيبة. في الساعة الرابعة صباحاً, أصبح واضحاً للشيخ ولي العهد و بقيةِ أفرادِ عائلةِ آلصباح, بأنَّهُ لا يوجدُ أيُّ أملٍ لإيقاف الغزو. إذ كانوا على إتصالٍ دائمٍ مع السفارةِ الأمريكية. و عندما وصلت المعلومات التي تُشيرُ بأنَّ أُولى القطعاتِ العراقية قد أصبحت على بُعدِ بضعةِ كيلومتراتٍ عن العاصمة, قرَّرَ الأميرُ مُحاطاً بأقاربهِ الرئيسيين أن يُغادروا قصرَ دسمان. جِزءٌ كبيرٌ من أعضاءِ العائلةِ الحاكمةِ يقطنون في هذهِ القصور الفاخرةِ المُحاطةِ بالجدرانِ العالية.
بعضُ قطعاتِ الحرسِ الأميري, إتخذت مواضعاً لها حول القصر, و لكن لا أحدآ منهم لديهِ أيُّ أملٍ بالصمودِ في مقاومةِ القوات العراقية. فالفوضى تركت الآن المجالَ للهلعِ و للأوامرِ المُتضاربةِ, و التي تتلاحقُ بسرعةٍ كبيرةٍ. هل عليهم الهرب الآن أم أن ينتظروا قليلاً؟ هل عليهم الإتصال بقاعدةٍ جوية للطلب منها لتهيئةِ طائرةٍ ما؟ كان الأميرُ لا يثِقُ بقوتهِ الجوية: " على كُلِّ حالٍ - يقول الأمير - أصبح أكثرُ من المؤكَّد, بأنَّ العراقيين قد تمكَّنوا من عزلها تماماً الأن ". في صالاتِ البلاط الشديدةِ الأضاءة, كانت عائلةُ آلصباح تعيشُ - رُبَّما لحينٍ آخر - اللحظات الأخيرة لمُلكها الذي إستمرَ مُنذُ قُرنين و نصف القرن. لقد أصبحت الكويت, و بسببِ الذهب الأسود, و بناتجٍ وطنيٍ أجمالي يفوق العشرين مليار دولار, أغنى دولةٍ على وجهِ الأرض. إذ جلب البترولُ الثراءِ لأهلِ الكويت, و ها هو اليوم يجلبُ لهم الهلاك. إزدادوا قِسوةً و عمى قلب, فلم يفهموا بأنَّهم قد أصبحوا فريسةً يترصَّدُها الكثيرُون, الى أن تمكَّنَ صدّام من إحتواءِها. كان هديرُ القذائفِ التي تنفجِرُ, تجعلهم يرتعدون خوفاً. إذ كان تبادلُ إطلاقِ النارِ يشتدُّ و يقتربُ من المكانِ بسرعةٍ. و من شبابيكِ القصورِ, يمكنُ تمييزُ خراطيم الدُخان و هي ترتفعُ نحو السماء. و هكذا, فإنَّ آلصباح لم يعُد لهم أيُّ أملٍ. فقصرُ دسمان هو أحدُ الأهدافِ الرئيسيةِ, و رُبَّما الهدفُ الأول الذي يصبو إليهِ صدّام و قواتهُ. فحسبَ تقديرِ القائد في بغداد, فإنَّ إحتلالَ الكويت يجب أن يتضمَّنَ - و بشكلٍ أساسيٍ - القضاءَ على مُمثِّلي العائلةِ المالِكةِ الفاسدة فيهِ. كانت العديدُ من السياراتِ تقفُ أمامَ سلالمِ مداخلِ القصور, بينما كان الخدمُ يُحمِّلوها ذِهاباً و إياباً و دون توقُّفٍ, بالمُمتلكاتِ والأكياس. في الساعةِ الرابعةِ و الربع صباحاً, إستقلَّ العشراتُ من عائلةِ آلصباح, السياراتِ الفاخرةَ التي إنطلقت بسرعةٍ فائِقةٍ, صاعِدةً على الممرات التي تُحيطُ بها الجِنانُ الجميلةُ من حولِ البلاط. واصل الموكبُ طريقهُ في الشوارعِ التي كانت خاليةً ماعدا بعض المركباتِ الكويتيةِ المُدرَّعةِ المُتجهةِ نحو الجبهةِ, التي لم تتوقف عن الإقترابِ شيئاً فشيئاً. توقَّفت السياراتُ أمامَ السفارةِ الأمريكية. كان السفيرُ يقفُ أمام بوابةِ السفارةِ, يُحيِّ الأميرَ و حاشيتهُ. و على بُعدِ بُضعةِ أمتارٍ من المكان, كانت تدورُ طوّافاتُ مروحيةٍ تابعةٍ للجيشِ الأمريكي, و هي مُستعِدةٌ للإقلاع. كان طاقمُ الطائِرةِ قد إتَّخذَ أماكِنهُ في قيادةِ الطائرة., بينما كانت أجنِحتُها تسرعُ الخطى شيئآ فشيئآ. لم يكُن بإمكانِ المروحيةِ حملَ الجميع. صعد الأميرُ و وليُ عهدهِ و بُضعةُ أشخاصٍ مهمين معهما* على متنِ الطائِرة. بينما إنطلقت السيارات بِأقصى سُرعةٍ, تحملُ بقيةَ حاشيةِ الأمير و العائلة الحاكمة, و هم مُتَّجهين نحو الحدودِ السعوديةِ التي تبعدُ حوالي 50 كيلومتر. إذ لا زالَ الطريقُ البري سالِكآ و أمينآ. أقلعت المروحيةُ, و بينما هي تعلو بعيدآ عن الأرض, كان الأميرُ يجلِسُ و جبينهُ يلتصقُ على زجاجِ نافذتِها. مُنهكآ, مصعوقآ من كُلِّ ما يحدث, إستطاعَ رؤيةَ أُلى القطعاتِ العراقية, و هي تختَّرقُ ضواحي عاصمتهُ, فبكى بصمتٍ**.
------------------------------------------------------------------------------------
* إختلق الكويتيون بعد إنتهاءِ أزمةِ الكويت, روايةً " بطوليةً ", تدَّعي بأنَّ أميرَ الكويت و وليَّ عهدهِ, كانا قد غادرا مدينةَ الكويت الى السعوديةِ بالسيارات, كُلّآ على حِدَ. و لقد تمَّ الترويج لهذِهِ الروايةِ الكاذبة, في وسائلِ الإعلام الكويتية, و في الإنترنيت فيما بعد – المُترجِم.
** كان بإمكانِ حُكّامِ الكويت, تفادي ما حصل لهم و لبلدِهم, لو إنّهم كانوا قد تصرّفوا بحكمةٍ و مسؤؤليةٍ, تنتصرُ على تهوُّرِ و رعونةِ صدّام. إلا إنَّهم تصرَّفوا و كأنَّهم كانوا يلعبون دورآ كان قد وُضِعَ لهم من قوىً لا حولَ لهم أمامها و لا قوة, لإستدراجِ صدّام لإحتلالِ الكويت. و كان يبدو واضحآ لهم و للآخرين, بأنهم كانوا مُجرَّدِ دُمىً , تلعبُ دورها بعنادٍ مُفرطِ الغباء. و لكنَّهم كانوا يتـألَّمون و هم يسيرون في طريقهم الخاطيء ذلك. و لكن لا حولَ لهم و لا قوة. و هذا ما كان يبدو واضحآ للمُراقبين أيضآ. و بِغضِّ النظرِ عن صفةِ البُخلِ التي يتَّصفُ بها الخليجيون عامةً و الكويتيون بصفةٍ خاصةٍ, إلا إنّ إشتراكَ الخليجيين بتوريطِ صدّام في الحربِ مع إيران, و مشاركتهم الفاعلةِ – مع قوىً عالميةٍ أُخرى - بصبِّ الزيتِ على النار لإستمرارِ تِلكَ الحرب, و إن كان الهدفُ منهُ إضعافَ العراق و إيران معآ, إلا إنَّ الدافعَ الرئيسي للخليجيين في توريطِ صدّام في الحربِ مع إيران, هو الحقدُ الهائِلُ على العراق و العراقيين, رغم إن العراقيين لم يُؤذوا الخليج بشيءٍ, إضافةً للحقدِ على صدّام حُسين و نظامهِ الدموي طبعآ. و لو كان حَقدُ الخليجيين على صدّام حُسين و نظامهُ فقط دون العراقيين, لما قاموا – و عن طريقِ حُلفائهم في التحالف الدولي - بتدمير الجيش العراقي, تدميرآ شُبهِ تام, و قتلِ آلاف المدنيين العراقيين, و ذلك في عاصفةِ الصحراء. و بدلآ من مواصلةِ الحلفاء الزحف, و مُساندةِ ثورة الشعب العراقي لإسقاطِ صدّام حُسين و نظامهِ, و تخليص العراق و المنطقة و العالمِ منهُ , تركوا الشعب العراقي وحيدآ, لينفرِد بهِ صدّام حُسين, و يرتكبُ أبشعَ المجازرِ بحقِّ مئاتِ الآلافِ من الأبرياء, تحت سمعِ و بصرِ الحُلفاء و الخليجيين الحاقدين و بقيةِ العرب!! و لم يكتفِ الخليجيون و العرب بذلك فقط, بل شاركوا و بقوةٍ و حقدٍ على الشعب العراقي, شاركوا بحصارهِ الظالم, لأكثر من ثلاثةِ عشر سنةٍ متواصلةٍ, قُتل خلالها مئات الآلاف من العراقيين, معظمهم من الأطفال. و أخيرآ, إشتركوا مع الأمريكان و بقوةٍ في غزوِ و إحتلالِ العراق, و إستباحتهِ و إرسالِ أعتى الإرهابيين, لقتلِ مئات الآلاف من العراقيين و تهجيرِ الملايين. و إشعال الفِتن و البغضاء بين أبناءهِ, رغم إنَّ نظامَ صدّام حُسين قد إنتهى!! و لا زال الخليجيون و السعوديون يواصلون حربهم القذِرةِ على الشعبِ العراقي حتى هذا اليوم. و ليس هناك في الأُفقِ أيُّ أملٍ, أن يرفعَ الخليجيون أيديهم القذرة عن الشعبِ العراقي - المُترجم.
#سعدون_الركابي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟