صالح بوزان
الحوار المتمدن-العدد: 1393 - 2005 / 12 / 8 - 07:30
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
رغم كل الانتقادات الموجهة إلى "إعلان دمشق"، فهو وثيقة وطنية من نوع جديد, ويؤسس لحوار عملي من أجل تطويره حتى يأخذ طابعاً جماهيرياً، ولا يبقى في إطار مركزية النخب السياسية والفكرية.
بمجرد ما نشر هذا الإعلان، بدأ الفرز السياسي بين مؤيد ومعارض. وما لفتت لانتباه تلك الهجمة العنيفة ضده من قبل بعض النخب السياسية والفكرية السورية، هذه النخب التي وقفت عاجزة معاناة الشعب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
لقد شن البعض هجوماً إرهابيا على هذا الإعلان. ومع احترامي لملاحظاتهم، فإن هذه الهجوم عكس حالة بائسة لهؤلاء، وكشف استمرار الغربة الشديدة بين أفكارهم والواقع الوطني والإقليمي، ناهيك عن الواقع العالمي.
أعتقد أن الذين وقفوا ضد إعلان دمشق، مع الأخذ بعين الاعتبار مستويات هذه المعارضة، ينقسمون عموماً إلى مجموعتين. الأولى هي جماعة النظام السياسي الحاكم والمنضوون في إطار منظومته الفكرية والسياسية. فهذه المنظومة تنطلق أساساً من مركزية التفكير والعمل, وهي تعطي لأصحابها فقط حق التفكير وتقييم الواقع وتحديد آفاق المستقبل, بل تجعل منهم معياراً للوطنية. ولهذا لا أرى أية غرابة عندما يفكر ويتصرف أصحاب هذه المنظومة على أنهم أوصياء على الجميع، وما على الآخرين سوى التأييد والتصفيق والتضحية بكل غال ونفيس، عند الضرورة، وإلا سيُعتبرون غير وطنيين ومرتبطين بالخارج.
لم تقف المصيبة عند هذا الحد، أي عند إطار النظام وجبهته العتيدة، بل للأسف شمل العديد من المثقفين والكتاب الذين يعومون في مدار هذا الاتجاه، وبالتالي أصبحوا محكومين فكرياً وسياسياً باللاتغيير. نلاحظ أحياناً أن هؤلاء الكتاب والمثقفين يثيرون الضجيج لتخويف الناس من التغيير، وأن أي تغيير خارج منظومتهم الفكرية والسياسية( وهي منظومة النظام وما شابهها حكماً) سيفتح الطريق أمام المجهول، ولسان حالهم يقول ليس بالامكان أحسن مما كان. ويزداد هذا الضجيج صخباً كلما تعرض النظام إلى زنقة ما.
من أهم أدوات هذه المجموعة في معركتها ضد أي إصلاح جدي أو تغيير ما، الاختباء وراء الصهيونية والإمبريالية والخطر الخارجي, وإثارة الأسئلة الاتهامية مثل " لماذا الآن ؟" و "من المستفيد؟", وغير ذلك من التهم السياسية التي تمتلئ بها الساحة السياسية والفكرية السورية. وتبرز هنا إثارة مسألة الوحدة الوطنية كسلاح فتاك ضد أي تيار يختلف مع هذه المجموعة في التفكير والرؤيا. بكلمة مختصرة فهذه المجموعة تلمح بأن الوطن والشعب يتجلى فيهم حصراً.
إذا وضعنا الموقف من هذه المجموعة التي تتألف من النظام وطيفه الواسع من أحزاب ومنظمات نقابية ومهنية والعديد من المثقفين والكتاب جانباً، فإننا نستطيع القول أن حقيقة الأمر عند هذه المجموعة هي عدم القدرة على أي تغيير، ولا بقبول الآخر. فكل ما يقوله النظام وطيفه على صعيد الإصلاح والتغيير قد يكون شكلاً من أشكال الشعاراتية الدعائية التي يتقنها بامتياز، و في أحسن الأحوال عبارة عن أمنيات نبيلة لدى البعض منهم. فالمراكز المفصلية في النظام وفي المنظومة الفكرية والسياسية له ولطيفه تدرك تمام الإدراك أن أي إصلاح حقيقي أو تغيير ما سينسف هذه المنظومة من جذورها، بل سيلغي مبررات وجود النظام الحاكم نفسه. ولعل أكبر دليل على ذلك أن جميع القرارات والتصريحات والخطب التي أعلنت الهجوم على الفساد المتعشعش في مفاصل الدولة باءت بالفشل. ليس لأن جميع القائلين بها غير صادقين في أطروحاتهم, بل لأن الفساد جزء من بنية النظام ويتعزز به.
أريد القول أن الذين لديهم رغبات في الإصلاح أو التغيير من النظام وطيفه لن يكونوا قادرين على فعل شيء ملموس، لأنهم مقيدين براهنية النظام وببنيته المركزية في التفكير والعمل. ولهذا بالذات أرى أن ما توصل إليه الموقعون على"إعلان دمشق" بأن النظام السياسي القائم في سوريا غير قادر أو راغب في القيام بإصلاح جدي أو تغيير ما, هو حقيقة قبل أن يكون موقفاً من النظام.
أما المجموعة الثانية التي عارضت "إعلان دمشق"، فهي الأخرى تنطلق غالباً من أيدلوجيتها الحزبية، ولا يتسع أفقها إلى التحالفات الفاعلة من خلال التوافق ( وليست التحالفات الشكلية الدعائية). فإذا كانت التحالفات بالنسبة للمجموعة الأولى هي التبعية لمركز النظام السياسي القائم، فإنها بالنسبة لأكثرية أحزاب المجموعة الثانية هي كما تصيغها برامجها الحزبية. طبعاً لا يقف الأمر عند الايدولوجيا والبرامج فقط، فهناك الإرث السياسي والفكري السكوني الذي يسود في البنية الفكرية والسياسية للقيادات، هذه البنية التي تفرّخ الشعارات الدعائية(الميتة مسبقاً) لا العمل الحيوي الميداني الذي له علاقة مباشرة بحركة الناس ومصالحهم وبمستقبل البلد الحضاري. وتبرز هذه الحالة كذلك لدى العديد من المثقفين والكتاب، خصوصاً المنحدرين من الخلفية الشيوعية الكلاسيكية والقومية العربية والكردية الميتافيزيقية.
أريب القول إن مشكلتنا الأساسية في سوريا تكمن في أن عقلنا الفكري والسياسي( سواء أكان ماركسياً أو قومياً أو إسلامياً) تعود على نمط من التفكير والعمل له طابع المعادلات الرياضية المجردة، أي أن كل شيء في الحياة الاجتماعية والسياسة وحتى الفكرية هو عبارة عن 1+1=2, ولا يوجد شيء آخر خارج هذه المعادلة. فالتغيير مقبول كفكرة, كمشروع، دون الذهاب إلى تحقيقه، وإنشاء أدوات ووسائل حقيقية لتجسيده في الواقع. بل أن النظام نفسه يسمح لك بالقول ما تشاء، ولكن فقط عندما يبقى ما تقوله محجوزاً في الصالونات وفي المجالات الضيقة. وبمجرد ما تنتشر أقوالك بين الجماهير وتخلق أرضية لاستقطابات جديدة، ستصبح عندئذ خائناً وتنضم إلى الدكتور عارف دليلة ورياض سيف ورفاقهم.
أعتقد أن التقييمات التي سادت خلال أكثر من نصف قرن في تفكير القوى والتيارات السياسية والفكرية السورية هي التي عرقلت وتعرقل أساساً أي تغيير. فهذه التقييمات لا تفتح المجال لفك الارتباط السياسي والفكري المركب، وبالتالي لا يفتح المجال أمام إعادة تركيبه على ضوء المتغيرات الهائلة التي حدثت منذ أكثر من عقد من الزمن. أقصد أن ثمة أصولية من نوع آخر تتحكم في الرؤية السياسية والفكرية وحتى التنظيمية السائدة، ولا تتوفر الإرادة الكافية حتى الآن للتحرر منها.
لقد جعلت هذه الأصولية أن نصطدم مع الواقع بشكل مستمر. وبما أننا لسنا قادرين على إعادة صياغة أفكارنا إنطلاقاً من الواقع الاجتماعي المتحرك والمواكبة معه جدلياً، نسارع إلى لعن هذا الواقع الذي نتعالى عليه، وكذلك لعن كل المحيط الإقليمي والعالمي تحت شعار المؤامرة الكبرى التي تتربص بنا. أقصد أن المؤامرة ضفة السلام لدماغنا الذي يحب السكون والاسترخاء. فمثلاً نجد أن جميع التيارات الأساسية في سوريا توجه تفكير الشعب السوري وإحساسه إلى الأمجاد الغابرة. فالشيعيون يحلمون بثورة أكتوبر وعودة الاتحاد السوفييتي، والقوميون يتباكون على أمجاد الإمبراطورية العربية الإسلامية، والإسلاميون يحلمون بزمن عمر بن الخطاب. بينما نجد الدول المتحضرة والتي تسير إلى التحضر تفكر بالعمل الميداني اليومي، وماذا يجب أن تنتج، وكيف تطور اقتصادها وترفع من وتائر التطور، والتخلص من بقايا التخلف الموجود بين صفوف شعبها.
أكرر إن الإرث السياسي والفكري وحتى الأخلاقي المترسخ في ذهننا منذ أكثر من نصف قرن هو المعرقل الأساسي أمام التغيير، فنحن غير قادرين على دراسة الواقع العالمي والإقليمي وحتى العربي الراهن دراسة علمية وواقعية ومن ثم صياغة سياساتنا العملية القابلة للتحقيق على ضوئها، بل نهرب إلى تقليد سياساتنا وتجاربنا السابقة والتي أدت معظمها إلى الكوارث الكبيرة.
من هنا جاءت الانتقادات على "إعلان دمشق" شديدة ومتنوعة، فهذه الوثيقة( وهي مازالت وثيقة) تجرأت على الخروج من هذا الإرث والتنظيرات الميتة، ومن البرامج الكلاسيكية للأحزاب. ولذلك جاء الانقلابييون "الثورييون" للانقضاض عليها، وظهرت المقالات الصاخبة ضدها، وهي تصرخ وا عروباه، وا سوريياه، وكان الملفت للانتباه صدور دزينة من إعلانات أخرى تهدف إلى تمييع فكرة "إعلان دمشق" الواقعية. فجاء إعلان حمص وإعلان اللاذقية وإعلان "الوطن في خطر" وبيان "المؤتمر القومي العربي في الولايات المتحدة"..والخ.
لقد تكلم المنتقدون لـ"إعلان دمشق" حول أولويات الأمة التي طمسها حالة التوافق فيه، وهاج بعضهم لأن هذه الوثيقة تجاوزت الخطوط الحمراء للأمة عند الحديث عن القضية الكردية السورية، وضرورة حلها ديمقراطياً تحت خيمة سوريا الوطن. هذه الأولويات المكونة في دماغ أولئك الذين ألحقوا أكبر الضرر بالوطن والشعب، وبالأمة العربية أيضاً.
لقد قال ماركس في مقدمة "الرأسمال" على ما أتذكر، بأننا نبذل جهوداً كبيراً لإنتاج فكرة ما، ولكننا نكرس كل حياتنا لعبادة هذه الفكرة فيما بعد. وهذا هو حقيقة الأمر عند البعض، فقد أنتجوا في يوم ما مفاهيم ومصطلحات تغنوا بها، ومازالوا حتى الآن مكبلين بتلك المصطلحات والمفاهيم الجامدة، ولا يدركون أن الأمة نفسها بدأت تتذمر من هذه المصطلحات التي تخنقها وتمنعها من الاهتمام بشؤونها الحيوية.
أعتقد أن ما جاء في مقالة الدكتور حازم نهار"قصة إعلان دمشق" المنشورة في أخبار الشرق تاريخ 25/11/2005 فيه الكثير من التفكير العلمي، خصوصاً عند الحديث عن سؤال الهوية، وأنه لم " يتح له(لسؤل الهوية) التواجد في بيئة صحية، ويتجلى دائماً بسيطرة الماضي والتاريخ والذاكرة على حساب الحاضر والمستقبل، إذ ينظر للهوية على الدوام على أساس أنها تكونت وانتهت، وبالتالي ليس من دور للقوى السياسية سوى النضال لتثبيت هذه الهويات وضمان حقوق أفرادها وجماعاتها." لقد بينت المقالة أن الذين أعدوا هذه الوثيقة، سعوا للخروج من التقليد الموروث في التفكير السياسي، وهذا بحد ذاته يفتح الطريق أمام تفكير جديد.
أخيراً أقول إن "إعلان دمشق" كشف الظاهر والمخفي لدى جميع القوى السياسية السورية ولدى العديد من الكتاب والمثقفين الذين يتباكون على الوطن والشعب في الوقت الذي تبين مواقفهم أنهم هم الذين يحتاجون إلى من يبكي على حالهم.
#صالح_بوزان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟