|
ارنست بلوخ/النص الكامل للمقال.
ماجد الشمري
الحوار المتمدن-العدد: 5159 - 2016 / 5 / 11 - 21:08
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
"ان العقل لايمكنه الازدهار دون الحلم،والحلم لايمكنه النطق دون العقل،والاثنان يجدان وحدتهما في الماركسية-فأي علم اخر لايملك مستقبلا واي مستقبل اخر لايملك علما" -ارنست بلوخ-
ارنست سيمون بلوخ1885-1977فيلسوف ماركسي حداثوي،ويعتبر واحدا من ابرز فلاسفة الماركسية في الربع الاخير من القرن العشرين.ومن القلة التي حافظت وتمسكت بأيمانها الثابت بالماركسية كمنهج وفكر ورؤية مستقبلية وحيدة لابديل عنها. تقلبت به الاحوال،وتفرعت وتعقدت وتشابكت سيرورته و سبله في الحياة والفكر.حاول الجمع والتوليف بين الايمان الثابت والقلق الايجابي،بين الاستقرار والشك،بين يوتوبيا خلاصية متفائلة ومنفتحة،تعلقت بمستقبل افضل في طور الامكان،واكثر اشراقا للانسانية(مبدأ الامل)واخلاصه الذابل الذي تمزق،واصبح ماضيا،لنسخة ستالين البيروقراطية من الماركسية!.وبين اليسار الارثوذوكسي الذي هاجمه لاحقا،وبين مدرسة فرانكفورت،التي عاب عليها ونقد تشاؤميتها وابتعادها لدرجة القطعية مع الماركسية،على الاقل لدى ابرز رموزها:ادورنو،وهوركهايمر،وخاصة في كتابهما المشترك:(جدل التنوير). وقد مضى بلوخ قدما،شاقا طريقه الخاص،والوحيد الموحش،مبتكرا لاطروحته،ووفيا لها:لاهوت الامل،ويوتوبيا الغد.الامل الشغوف بمستقبل جديد بعيد لم يأتي بعد،ويوتوبيا مثالية لازال تعينها امكانا لم يوجد بعد،او لم يتحقق بعد.ليس بعد، نوخ نيخت في الالمانيةnoch-nichtعالم افضل بجوف الغيب،لم يتم التثبت منه بعد.سيجيء من خلال التطور المادي والفكري والثقافي،عبر الاساطير الالفية:الدين(سفر الخروج)والفن(موسيقى بيتهوفن)والادب(نبل دون كيشوت،واحلام فاوست.وايضا من خلال النضال الطبقي:تقصير يوم العمل،زيادة الاجور،حركات تحرر المرأة،والثورات الكبرى:الكومونة،وانتفاضة اكتوبر. فدور الفلسفة كما قال ماركس ليس تفسيريا،بل هو تغييري بامتياز،واستشراف وتطلع نحو الغد،وانحياز كامل للمستقبل الانساني،ودون وعي ذلك والعمل به ليس هناك من فلسفة او معرفة او مستقبل.هذا ما آمن به بلوخ حتى نهاية حياته.وبموته فقد القرن العشرين ابرز مفكريه الماركسيين.. هجر بلوخ ماركسيته التقليدية السائدة لخمسة عشر عاما قبل وفاته الى الفلسفة المدرسية في اكثر جوانبها اتغلاقا،وتعلق في الوقت نفسه بجموح طوباوي،وايمان، بلاهوت التحرر،ونزعة عميقة متفائلة مترعة بالامل والغد،اعتمدت على ماهو في طور الامكان والتكوين:ما لم يأتي بعد، ماليس بعد.. استقبله عالم الفلسفة الغربية بحفاوة،واحتضنه كمنشق،ورافض،ومتمرد-وكواحد من انتصارات الرأسمالية في حربها الباردة!-فلو لم يتخلى بلوخ عن ماركسيته الارثوذوكسية و(شرقه)الى اللاهوت واليوتوبيا و(غربه)لما انفتح عليه العالم الرأسمالي الغربي،واقبل ملهوفا للاطلاع على فلسفته ونتاجه الفكري الكبير!.. مات ارنست بلوخ في شتوتغارت بالمانيا الغربية في الرابع من آب(اغسطس)عام1977 كفيلسوف الماني غربي،وكأستاذ للفلسفة في جامعة توبنغن،وامضى الخمسة عشر عاما الاخيرة من عمره كلاجيء سياسي!.بعد ان قضى الشطر الاكبر من حياته كواحد من المع فلاسفة الماركسية في الجزء الشرقي من المانيا.فقد كان عضوا في الحزب الشيوعي الالماني منذ اوائل العشرينات،عندما كان من ابرز الرموز الثقافية ببرلين ذلك الوقت. لقد عصفت به الرياح الفكرية،وعصف بها،ودارت به مرات عديدة ،ودار بهاخلال عمره الطويل الذي امتد 92عاما حافلة بالابداع الفكري الفلسفي،وبالصراع،والتراجع والتقدم،والخطاب والصمت.تعرض للهجمة الفاشية،وكابوسها المرعب الذي جثم على وطنه المانيا في منتصف الثلاثينات من القرن المنصرم،فاضطر للهجرة الى المنفى في الولايات المتحدة عام1938 كحال بقية رفاقه من المفكرين والادباء والفنانين.وقضى سنين الحرب العالمية الثانية هناك.وادار مع رفاقه الالمان المهاجرين،دارا لنشر الكتب باللغة الالمانية.وعندما اندحرت الفاشية الهتلرية وسقطت،عاد الى وطنه،وبالتحديد في عام1949تاركا الولايات المتحدة الى المانيا الشرقية،رافضا عرضا مغريا بتولي كرسي الفلسفة في احدى جامعات المانيا الغربية!.واعلن يومها عن قطع علاقته لكل مايمت للرأسمالية بصلة!. عمل بلوخ في جامعةلايبزغ كأستاذا للفلسفة،ولكنه في عام1961طلب اللجوء السياسي الى الشطر الغربي من المانيا عندما كان في زيارة لمدينة توبنغن في ايلول ذلك العام.وقد جاء قراره المفاجيء بعد تراكم الخلاف،وجولات من الصراع الايديولوجي المحبط مع الحزب الالماني الشرقي.امتزج فيها النقد والنقد الذاتي(الجلد الذاتي)بالخيبة،والاندحار والتراجع،بالانصياع والصمت الاجباري،والتمزق الفكري بين الايمان والمثال السامي،وتفاهة اليومي والواقع السائد.تداخلت فيها المواقف الملتزمة بالماركسية الارثوذوكسية البيروقراطية-بدعة ستالين التي عمت وهيمنت!-بالرغبة العارمة بالتجديد والتطوير والتحليق التجريدي في المخيال واخيلة الاساطير واللاهوت وروح الماركسية اليوتوبية المتوارية والمنسية،كما كان بلوخ يعتقد.وبعد تغير الظروف،وانتكاس التجربة-التجارب- الاشتراكيةفي كل المنظومة الشرقية عموما،وازدوجت بيانات الحماس لل(الاشتراكية)بتحفظات المثقفين على:دور الطبقة العاملة،والحزب،والقيادة البيروقراطية التي كلستها الدوغما الستالينية!. ومن فيلسوف ماركسي رسمي دافع عن الستالينية،وبرر التطهيرات المرعبة،وكان جزءا من النخبة الاكاديمية والفكرية،وانتلجنسيا نظام شمولي بيروقراطي خانق للحريات الى(مرتد)-حسب التوصيف الرسمي التقليدي للمختلفين!-بعد ان صدمه السحق الدموي بالغ الوحشية لانتفاضة المجر عام1956،وبعد الشروع ببناء جدار برلين.فانقلب الى ناقدا ومعريا للقمع والاكراه الفكري والسياسي،فطرد من الجامعة!. تلك السنوات العصيبة والمريرة من خمسينات القرن الماضي.سنوات ماسمي ب(الثورة المضادة)في:المانيا الشرقية،والمجر،وبولندا.سنوات سقوط الاقنعة،وتكشف الحقائق البشعة، عن وجه الستالينية الكالح والدموي بعد المؤتمر العشرين،ومواقف الادانة والشجب للجمود العقائدي والقسوة والتحجر البيروقراطي الستاليني،وورثته من كهنة الكرملين!. تلك الايام التي وصفت ب(ذوبان الجليد)عن الوقائع التي ظلت طي الكتمان،وفي الغالب جرى تبريرها وتأييدها.زمن الصراعات والخلافات الحادة داخل المعسكر(الاشتراكي)والتي اعقبت ازمة يوغسلافيا،وسبقت النزاع السوفيياتي-الصيني.وايضا كانت سنوات التفائل والامل والثقة المؤمنة والمندفعة،والمبهورة بالتقدم والانجازات المادية والتكنولوجية الهائلة التي حققتها(الاشتراكية)والرغبة-مع تلك الثقة-في التطلع الى نتائج بعيدة عن قواعد ومرتكزات هذا التقدم في البنية التحتية،نحو بنى فوقية لثقافة يسارية ليبرالية مجددة ومتجددة ومفتوحة على واقع متنوع متغير،وحياة سياسية وفكرية حرة ومستقلة ومتنوعة.فلم تكن تلك التحولات والتطورات والتناقضات والسيرورات المتعرجة والمضطربة والحادة بهينة على ماركسي مهنته التفلسف والتفكير وتدريس الفلسفة،وينتمي بنحو ربع قرن من عمره الى نهايات القرن التاسع عشر،والى المانيا في بداية سيطرة الفاشية النازية على السلطة والفكر السياسي والفلسفي ،بعد افول الهيجيلية عن مسرح جامعاتها،وبداية انحسار الدور الرائد والاسهام الاكبر لالمانيا نظريا، وفكريا ،وحركات ثورية،والذي تميز به القرن التاسع عشر كله تقريبا،بعد بروز المساهمة في الفكر السياسي لبريطانيا وفرنسا وروسيا،ومن ثم الولايات المتحدة الامريكية... في عام1917 كتب بلوخ(روح اليوتوبيا)والتي رحب بها-وقبل انتفاضة اكتوبر-بالحراك الثوري لمجالس العمال والفلاحين والجنود.وفي عمله عن (توماس موتزا)والذي نشره عام1921 احتفى بثائر اللاهوت التحرري للفلاحين،مع تلاشي اخر مد للثورة في المانيا،وتبدد موجة النضال الماركسي العمالي،وضياع الحلم الطوباوي بكابوس همجية رأسمالية متوحشة صنعت غولها الفاشي الذي دمر كل شيء. اتسمت لغة بلوخ بالمثالية القيامية،والتي انسجمت مع عصر الثورة العالمية،والامل الخلاصي الواعد.فالثورة من اجل الاشتراكية استقطبت كل الاحلام والرؤى واليوتوبيات،والتي كانت تعكس تطلعات واشواق واماني البشر،والتي تاقت على مر التاريخ للتغيير،ومن اجل الحرية والسعادة والمساواة لكل الانسانية.ذلك الشغف الذي تجلى باشكال وصور متعددة،كاوهام في الدين،وقيم الثقافات والاخلاقيات والحقوق والمباديء،ظلت محركا نشطا وهادرا للروح والوجدان لدى كل المجتمعات الانسانية.وهذا ماكان جوهر فلسفة بلوخ وفكره... المستقبل،والثورة،والامل،واليوتوبيا،والخلاص-بالمعنى اللاهوتي والمادي معا-هو ماشكل نسق ومنطلق مفاهيم بلوخ الفلسفية،،ماركسية قائمة على الانسان والوجود،ماركسية انثروبولوجية-انتولوجية،ضد كل الانظمة الفكرية الدوغماتية التي تكبل وتقمع الانسان،بانفتاحها الشامل على مستقبل مترامي بلا سدود او ضفاف... عانى ارنست بلوخ ضغطا ونبذا ومحاربة من النظام الالماني الفاشي اضطره لمغادرة وطنه الى المنفى،كما عانى الفيلسوف الروسي نيكولاي بيرديائيف1874-1948من النظام القيصري والثورة البلشفية.كان بلوخ اصغر من ببرديائيف بعشر سنوات،ولكنه عاش بعده لثلاثة عقود.ومثلما حاول بيرديائيف الجمع بين ماركس وكانط في مرحلته الماركسية،فعل بلوخ الامر نفسه مع صديقه الحميم جورج لوكاش الهنغاري.1885-1971فقد رغب بأن يجمع في توجهه الفكري بين لوكاش وبيرديائيف،بين المادي الجدلي الماركسي الهنغاري،واللاهوتي الوجودي الروسي ذو النزعة الصوفية!. لذا نجد ان اغلب التصنيفات لفلسفة بلوخ تضعه في خانة مايسمى:"الماركسية الطوباوية"او"الرومانتيكية"او"اللاهوتية العلمانية"او الاشتراكية التلمودية"!.ورغم الفارق الفكري الكبير بين بلوخ وبيرديائيف الا ان اوجه تشابه كثيرة تجمع بينهما.فكما كان شأن بيرديائيف الذي وقف ضد القيصرية وناضل ضدها،وناهض ايضا اشتراكية البلاشفة،واحتمى بضبابية اللاهوت المسيحاني،واعلاءه لقيمة الفرد والروح.كان بلوخ كذلك.فقد عارض الفاشية والرأسمالية وانتقد الاشتراكية البيروقراطية لدى السوفييت وفي وطنه المانيا.لكن بلوخ بخلاف بيرديائيف لم يلجأ للاهوت مسيحي،بل حاول التلفيق او التوفيق بين نوع من"اللاهوت المادي"والفلسفة الماركسية!.فقد كان انتقائيا،قبل من الماركسية مايتفق وينسجم مع ميوله ونزعاته وبنية فلسفته:(الاملية-المستقبلية)ورفض منها ماشكل لاحقا،احد دوافعه لطلب اللجوء السياسي الى المانيا الغربية.-مع ان ماركسية ماركس براء من كل ما ارتكب من انتهاكات وانحرافات وسلبيات وفهم جامد لتلك الدوغما الستالينية التي سادت ولفت الكتلة الشرقية!-. وقد جاء لجوء بلوخ الى المانيا الرأسمالية في تلك الفترة التي راج فيها مفهوم ماسمي:"ب"التحريفية"revisoaismوهي الايديولوجيا"المارقة"التي رحبت بها وقبلتها الاوساط السياسية والثقافية- الفلسفية في اوربا الغربية خاصة-.واعتبرتها الفلسفة الماركسية الحقة التي شوهها المتمركسون البيروقراطيون!.وماعدا ذلك ليس اكثر من مجرد مساهمات ماركس في نقد الاقتصاد السياسي للرأسمالية!.او تقويمها ك:فلسفة جديدة تستلهم ماركس الفيلسوف الشاب في مرحلته الاولى من تطوره الفكري.او بالنظر اليها كتطور خصب لافكار ماركس(التقدمي)تجاري وتنسجم مع التطورات العلمية والتكنيكية الجديدة،او مواكبة وداعية ل"الثورة التكنولوجية"وتأثيراتها الكبيرة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا،والتي لم يشهدها او يعاصرها ماركس:فيلسوف القرن التاسع عشر،والثورة الصناعية في بداية تفتحها ونموها وتوسعها..-وكان من ثمار ذلك تلك النزعة "الاوروشيوعية"المستقلة والمجددة في فهمها للماركسية في اوربا الغربية واحزابها الشيوعية،بعيدا عن الماركسية التقليدية في اوربا الشرقية.. لذا كان انتقال بلوخ من الشرق الى الغرب تعبيرا عن قناعته وقبوله،كاعتراف فكري واكاديمي اخذ يترسخ ويمد جذوره في تربة فلسفته،بماركسية حداثية مرنة،وذات طابع متجدد ومنفتح ونقدي يرفض الدوغما المتحجرة-التي وصمت ذلك ودمغته ب"التحريفية"!-وفي الوقت نفسه كان انتقال بلوخ من وسط يدين"التحريفية"ويكفرها كخروج ليبرالي سافر،ومحرم ،على قوالب تلك الماركسية التقليدية اياها،والتي هيمنت على اغلب الاحزاب الشيوعية التاريخية،الى بيئة تمجد،او على الاقل تستوعب او ترعى"التحريفية"وتعتبرها-صدقا او نفاقا ومزايدة!-"الوجه الانساني"للماركسية،او اكثر من ذلك،فهي"الفلسفة الماركسية"ذاتها بعيدا عن الدوغما الارثوذوكسية المتكلسة والتقليدية السائدة،حين تخلو من شوائب الاقتصاد السياسي التي عكرت وعتمت فلسفة ماركس"المخطوطات" الانساني الشاب.هذا بأختصار مارأه او آمن به بلوخ في اخر ال15عاما من حياته..وبهذا المعنى لم يكن انتقال بلوخ الاول من براثن الرأسمالية،الى المانيا"الديمقراطية،الاشتراكية"-يختلف عن نقلته الثانية-من المانيا"الاشتراكية"الى المانيا الغربية"الرأسمالية"،اذا ما تأملناهما كحدثين مهمين في حياته الاجتماعية والفلسفية والسياسية.ويمكن ان نعزو تفضيل بلوخ للجوء الى المانيا الغربيةعام1961-ان لم يكن السبب الرئيسي،فهو واحد من اسباب عديدة لذلك اللجوء!-هو القضية التي شاعت وانتشرت في الوسط الاكاديمي،واثارت ضجة في المانيا"الديمقراطية"-وهي قضية"فولفجانج هاريخ-والذي كان من ابرز تلاميذ بلوخ،والذي جرى اتهامه ب:نشر وتدريس نظريات وآراء معادية للثورة والحزب والدولة الالمانية"الاشتراكية،الديمقراطية".ولكن بلوخ سرعان ما استجاب لضغط الحزب،واستنكر مواقف تلميذه وزميله-هاريخ- الذي عمل معه في تحرير مجلة"الصحيفة الالمانية الفلسفية"والتي كانت تصدر منذ بداية عام1953وهي المجلة التي حملت لواء الدعوة ل"تجديد الماركسية"وفيها نشر بلوخ الفصول التي شكلت المجلد الاول والثاني من اهم كتبه على الاطلاق:"مبدأ الامل"الذي كان ابرز ما انتجه عبر حياته الفلسفية،والذي ناهزال1600صفحة عند نشره بأجزائه الثلاث عام1959.. استثني بلوخ من اوامر الاعتقال،والتي صدرت بحق اربعة من تلاميذه،وزملاءه في تدريس الفلسفة،ومن ضمنهم"هاريخ".وقد حوكموا وصدرت بحقهم احكام بالسجن،كانصيب هاريخ منها عشر سنوات!.ولم يكن ذلك الاستثناء من الاعتقال لبلوخ الا لمكانته المرموقة كفيلسوف كبير معروف-او على الاقل كان هذا احد الاسباب-.لكن استنكاره وشجبه لمواقف تلاميذه"الليبرالية"المنحرفة والمعادية للدولة(الاشتراكية-الديمقراطية)جاء متأخرا،فلم يكن فوريا ومباشرا عند المحاكمة،بل جاء بعد انتهاء القضية والمحاكمة بعدة اشهر-على الاقل حتى لايفسر موقفه كأعلان ولاء سياسي للدولة!-حيث التزم بلوخ الصمت طيلة تلك الشهور!.في حين كانت هناك عناصر قيادية داخل الحزب تناهضه،وتعمل من اجل ادانته،ودفعه لممارسة النقد الذاتي-الجلد الذاتي!-.ففي اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الالماني طالب"كورت هاغر"سكرتير اللجنة المسؤولة عن الشؤون الايديولوجية،بضرورة التمييز بين الملتزمين بالمادية الجدلية كارنست بلوخ والمارقين عنها!!. كتكفير عن ذنبه حتى ينال الغفران،ورضى الكنيسة الارثوذوكسية كلية الاستقامة والمعرفة!!.في الوقت الذي كانت الدولة(الاشتراكية)قبل عام من ذلك،وقبل قضية هاريخ قد منحت بلوخ"الجائزة الوطنية"و"وسام الاستحقاق الفضي للوطن الام"!اعترافا منها بان اعماله:"تضم تحليلا عميقا وسابرا للاغوار وتفسيرا للعالم ذو نظرة شاملة تقدمية"!..بعد هذا التكريم والاشادة عام1955 كان من الطبيعي وكرد للجميل والتقدير الذي حصل عليه بلوخ ان يبدي ولاءه واعجابه واخلاصه لالمانيا(الديمقراطية)وحزبها الشيوعي،وكمظهر للطاعة والانصياع،وشجب الانحراف والخروج على العقيدة القويمة التي لاتعرف الخطأ او الزلل!.وبدلا من الوقوف الى جانب تلاميذه وزملاءه في محنتهم،استجاب لصوت السلطة،وسارع لاعلان ادانته واستنكاره لانحرافهم الليبرالي الشنيع!.وانحنى بلوخ وسبح بلسانه،حتى لاينكسر عقله!. يبقى في كل الاحوال تفسير لجوء بلوخ الى المانيا الغربية من شرقها،عالقا ومحتاجا لتفسير وتوضيح وتبرير اعمق من مجرد الظروف السياسية والاجتماعية والايديولوجية التي دفعته لمغادرة المانيا"الديمقراطية".فذاك الفعل السياسي البليغ في معانيه،والذي يحمل في طياته روح القلق والجدل الفكري والفلسفي المصطرع داخل عقل ووجدان بلوخ،والتي وضعته-شاء ام ابى،حقا او باطلا،عن قناعة او شك!-مع فريق"التحريفيين"الملعون!.فلم يكن ذلك عفوا او رد فعل او استجابة سلبية ،بقدر ماكان اختيارا واعيا وقرارا،حتى لو قاده الى ان يحسب على دعاة تلك"التحريفية"المدانة.وبدلا من نضاله من اجل الماركسية المتجددة من داخل قلعة"الاصولية"او"الارثوذوكسية"،اختار المتراس المعادي للماركسية ككل،وليس فقط الدوغماتية التقليدية منها،اي من خارج المجتمع الذي خضع لنظام حزبها ودولتها.نظام رأسمالي يحارب الماركسية كليا وليس جانبا واحدا من جوانبها،وان كان يظهر-زيفا،وتملقا-ترحيبه واحتواءه لكل من يخرج او ينشق،او يعود الى المنابع الاصلية،او يعلن عن ماركسية مختلفة او مغايرة للسوفيتية،ولكن دون ان يعني ذلك تبني ذلك الغرب الرأسمالي لتلك الماركسية الخارجة عن الدوغما في العالم(الاشتراكي)فكل شيء كان يوظف ويستغل من اجل احراز الانتصارات في الحرب الباردة ويصب في صالح الدعاية للعالم الحر!!.. ارنست بلوخ القيلسوف والاستاذ الجامعي الماركسي الذي لجأ الى المانيا الغربية في ايلول(سبتمبر)عام1961هو نفسه بلوخ الذي تحدث لصحيفة"نبوز دويتشلاند"وهي الصحيفة الرسمية للحزب الشيوعي الالماني الشرقي الحاكم،في نيسان(ابريل)عام1958 قائلا:"انني اعلم بغضب عظيم ان دعاة الحرب في المانيا الغربية-وليس فيها وحدها-يحاولون مرة اخرى استخدام اسمي لمحاولة تحقيق مآربهم،وانني اتنصل بصورة قاطعة من هذا،وليس لاي جدال فلسفي من اثر على ولائي للاشتراكية،للسلام،لوحدة المانيا.وان جمهورية المانيا الديمقراطية هي التي اقف على ترابها،والتي مع امانيها الانسانية اتفق،تلك الاماني التي في القلب منها يمكن الغاء استغلال الانسان للانسان،وان النقد لايمكن ان يكون نزيها الا حينما يمارس هنا على ارض الجمهورية،وحينما يسير في طريق اشتراكي لايقبل الخطأ،وليس في اي طريق اخر"!..هذا التصريح صدر من فيلسوف ماركسي طلب اللجوء السياسي لبلد معادي للاشتراكية انتقد سياسته بحدة وادانه وبعد ثلاث سنوات من ادلائه بهذا البيان الذي تفوح منه رائحة النفاق والمزايدة الدعائية!!.هل كان بلوخ صادقا في مشاعر الولاء التي تتفق مع اماني القلب والعقل؟!.ام كان بلوخ يرزح تحت ضغط سلطة قاهرة اجبرته على ان يكون بوقا دعائيا لنظام بيروقراطي قامع،استغل اسمه وسمعته؟!. وهل كان حقا مسموحا بحرية نقد النظام على ارضه دون وجل،وهل كان بلوخ مقتنعا بما يقول؟!.نحن لانقطع بيقين مؤكد،ولكن كيف نفسر تبدل المواقف والقناعات180د و بفترة زمنية لاتتجاوز 3سنوات؟!.. وكيف فاضل بلوخ،بين بلد يسير في طريق اشتراكي لايقبل الخطأ،وحرية التعبير والنقد مصانة فيه لاتمس،وبين انعدام النقد النزيه على غير ارض الجمهورية(الديمقراطية) لدى المعادين للاشتراكية ودعاة الحرب؟!.مرة اخرى لانعرف!.ولكن بلوخ اتخذ قراره،وحسم خياره،بخلاف مانطق به عام58وتلك محنة اجتازها البعض من المفكرين والمثقفين بنجاح وسقط فيها اخرون!. كان الصراع محتدما بين بلوخ وبين قادة الحزب الالماني الشرقي في نهاية خمسينات القرن المنصرم.فقد كانوا يضغطون عليه محاولين اجباره على قولبة فلسفته للتاريخ كدعاية ايديولوجية تلائم وتنسجم مع خط الحزب السياسي- الايديولوجي الرسمي!.وعقدت مؤتمرات عديدة لهذا الغرض،ولمناقشة نظرياته الفلسفية:حول المسائل النظرية والعملية،والاخلاق الاشتراكية-عام1957وحول النظرية الماركسية اللينينية،في نفس العام،وموضوع الدولة والمادية الجدلية عام1958،وغيرها من قضايا.وكانت تلك المناقشات تنشر تباعافي صحافة الحزب:صحيفة"نيوز دوتيشلاند"والمجلة الطلابية~"فورامforumوايضل في الصحيفة الالمانية للفلسفة،بعدتطهير محرريها من التحريفيين! وتغييرهم بالاكثر ولاءا والتزاما،وتصحيح توجهها بمايتنفق مع سياسة وايديولوجيا الحزب الصارمة!. وبالرغم من اعلانه الواضح الذي صرح به لصحيفة الحزب،ووفاءه لارض الجمهورية (الاشتراكية)، وبعد ان فقد عمله كأستاذ في جامعة لايبزغ في خريف نفس العام الذي ادلى فيه بتصريحه الذي مدح فيه نظام وهاجم اخر!.-وهي المحنة المرة لكل مثقف عليه الوقوف مع سلطة غاشمة ضد سلطة غاشمة ايضا،ولكن اهون !-وسمح له بالسفر في اكتوبر1958 الى خارج المانيا(الديمقراطية)-لاول مرة،بعد اربع سنوات!-لحضور مؤتمر جمعية هيجل الفلسفيةوالذي عقد في مدينة فرانكفورت بالمانيا الغربية.واثناء مشاركته في ذلك المؤتمر،انسحب الفلاسفة المشاركون من دول الكتلة الشرقية،بما فيهم القادمون من المانيا الشرقية،احتجاجا على النقد العنيف والمتجني،الذي وجهه تيودور اودرنو-استاذ علم الاجتماع الشهير،واحد اعمدة مدرسة فرانكفورت النقدية-ضد جوانب من فلسفة كارل ماركس الاجتماعية،والذي اغضب الحضور القادم من المنظومة(الاشتراكية)!.لكن بلوخ تسمر في مقعده،وظل جالسا طيلة فترة المؤتمر،ولم يتضامن مع المنسحبين،ويشاركهم في سلوكهم وموقفهم الاحتجاجي بالمغادرة!. وفي مناسبة اخرى،غاب اسمه من قائمة الموقعين على رسالة التهنئة التي بعث بها اساتذة اكاديميةالعلوم ف،والتي رفعتها الى الحكومة الالمانية بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس جمهورية المانيا الديمقراطية في تشرين الاول(اكتوبر)عام1959.ومع كل مظاهر السلبية والفتور في علاقة بلوخ بالنظام الالماني البيروقراطي،فقد ظهر المجلد الثالث من كتابه السفر"مبدأ الامل"مطبوعا في المانيا الشرقية في نهاية ذلك العام نفسه.الامر الذي اثار دهشة"المثقفين والمراقبين الغربيين"بالنظر لكونه-المجلد الثالث-ظل محتجزا لدى الرقابة طيلة السنوات الثلاث السابقة!.وقد نشر المجلد الثالث من كتاب مبدأ الامل دون تعديل او حذف!.الامر الذي كانت تطالب به الدوائر الايديولوجية في الحزب الشيوعي الالماني الشرقي!. وفي هذه المرة،لم يكن موقف الحزب والدولة الالمانية الايجابي من بلوخ نابعا الا من التقدير والاحترام لمكانته كفيلسوف،وقامة فكرية،ورمز اكاديمي،في زمن ومكان شحيح بالفلاسفة!. وبغض النظر عن مدى التزامه الفكري والسياسي،ومواقفه المتناقظة والمتجاذبة،فهل امسى الغرب راضيا تماما عن ارنست بلوخ،عندما اختار بمحض ارادته الانتقال من جامعة لايبزغ في المانيا الشرقية الى جامعة نيوبنغن بالمانيا الغربية،وبعد اعلانه ك:"واحدا من اشهر فلاسفة المانيا الغربية"-وفق ما وصفته معظم الصحف الغربية،وابنته بضجيج بعد وفاته؟!.. لقد ظل الكتاب والنقاد ومؤرخي الفلسفة يجدون لدى بلوخ -وحتى اواخر سنوات حياته-"عنصرا ستالينيا"ثاويا في كل سطوره،حينما لم يكن وضوحه الجدلي قد اصبح سمة مميزة لافكاره!.واعتبرهذا"العنصر الستاليني"هو الجزء المتخلف وكعب اخيل في فكره وفلسفته!.فهم كانوا ينظرون اليه-وفي احسن احواله-"المفكر الشيوعي الوحيد الاصيل في العالم"ولكنهم في نفس الوقت كانوا ينتقدون الوجه الستاليني الكالح الذي تخلل طيات فلسفته!..كمفكر"له غرابته وانحرافاته"!.فهل يعني هذا،الحديث عن اكثر من بلوخ واحد،او بلوخ منقسم ومزدوج؟!.اليس من المنطق والعلمية،دراسة وتقسيم فكر بلوخ-خاصة وانه عاش عمرا طويلا امتد ل92 عاما،وتنقل بين اوربا الغربية والولايات المتحدة واوربا الشرقية قبل ان يعود الى اوربا الغربية، تلك المراحل المختلفة والمتميزة،الم تترك عليه الفترات المضطربة هذه من تأثيرات،وتحل عقدة التناقض الواضحة في تقيمات الكتاب الغربيين لفلسفته الغامضة والاشكالية؟!-.فذلك التناقض كان سمة بارزة،وعامود فقري لفلسفته اليوتوبية الحالمة،والاكثر رومانسية من اللاهوت والتصوف الديني،لدرجة انه لايمكن ارضاءا للوضوح التضحية بالصعوبة والابهام!.فبلوخ في صعوبته وتعقيده كفيلسوف الماني يبقى حاله حال بقية اسلافه الفلاسفة الالمان في صعوبتهم وتعقر خطابهم الفلسفي،والتي نجدها لدى كل من:كانط،وهيجل،وفيخته،وهايدجر،وغيرهم.وربما كان هذا التناقض هو واحدامن ملامح الصعوبة في تلك التيارات الفلسفية التي تميزت وانفردت بها المانيا!.ولكن يبقى الاس المحوري لفسفة بلوخ هو ذلك الميل الذي لازمه خلال فترات حياته المضطربة لخلق وصياغة:"لاهوت مادي"ثم ايمانه وقناعته ب"مبدأ الامل"وان الخبرة الانسانية تبنى على ظلمة"اللحظة المعاشة"!.فبلوخ اعتبر هذا الغموض المحيط بعالم الخبرة الانسانية غموضا انتولوجيا لايمكن اختراقه،كما لايمكن تحديده!.وهو كفيلسوف لايسعى الا الى "تركه كما هو".وهكذا تبدو الحقيقة المحددة الوحيدة هي ان هناك اختمارا ونشاطا وتراكما تاريخيا في حياة الانسان والعالم تتكامل وتكتمل صيرورته في جوف مستقبل بعيد تفصلنا عنه عشرات ان لم تكن مئات من السنين الضوئية!!.. اننا لانتوخى القيام بعرض شامل وتفصيلي لفلسفة بلوخ للتاريخ،فهذا الامر يحتاج لكتاب ولا يسعه مقال!.وايضا لانزعم الاحاطة والقدرة لاستيعاب تلك الفلسفة طبعا.فهومجرد عرضا مختصرا لجانب من حياته وتأمل متواضع لجزءمن فكرهالزاخر بمضامين يلفها الابهام والشطح والخيال الاسطوري و المتلاطم كمحيط هائج من الافكار والرؤى!!. يعتقد بلوخ ان كينونة الانسان والعالم يكتنفها غموض قاتم لايمكن اختراقه،وايضا لايمكن تحديده،والامر بالنسبة اليه:انه لايسعى الا "لتركه كما هو".والحقيقة الواحدة والوحيدة:هي اختمار تجارب وخبرات ونشاط الانسان،من اجل معرفته لذاته والعالم المحيط به.ففي داخلنا يمور توقا،وفضولا،وحافزا لايهدأ لتجاوز حالة الخواء وتفاهة اللحظة الراهنة،وان العالم يستمر في حركته بفعل"خواء مرعب"!
وبلوخ في جانب من اعتقاده هذا يخالف فرويد ونظريته السايكولوجية،والتي تقول:بغريزة محددة وحاسمة"الليبيدو"الجنسي،هي المحرك الاساس والرئيسي لعالم الانسان ودوافعه.فلبلوخ رؤية اخرى مختلفة،تتحدث عن "جوع شامل".ليس الجوع الفسيولوجي بطبيعة الحال،بل هو جوع متميز:ميتافيزيقي،يوتوبي،يسعى من الحاجة، لما لم يتحقق بعد،ومعناه هو ذلك الشغف،وعدم الاكتفاء بالحالة الراهنة للاشياء والوجود. جوع لتجاوز المتحقق، لما لم يتحقق بعد.معنى الجوع لدى بلوخ هو:كل ما بداخلنا من توق عابر للطعام والشراب والمتعة والسيطرة والحياة بكل ابعادها ومراميها في صيرورة اكتمال وتكامل،واغناء وعمق وامتداد متواصل نحو "الغاية القصوى".ويعتقد بلوخ ان هذا التطلع الجائع،متأصل في بنية الطبيعة البشرية،وهو الذي حقق تلك الطفرة من التطور،وقاد الانسان من مرحلته الحيوانية الى رحاب الافق الانساني المفتوح على الارتقاء والتسامي،وهو المهماز الذي يدفع بأتجاه التقدم والمضي من حالة نقص الوجود البدائي الباهت،الى وجود ارفع انسانيا،من الوجود كمادة فحسب،الى مادة ادركت نفسها ووعت ذاتها. هل كان بلوخ قريبا من القول ب"عذاب المادة"الذي اثاره قبله الفيلسوف الالماني الاشراقي"جيكوب بوهمه"؟!.لانجزم بذلك،فهي مجرد اشارة محتملة،يعززها قول بلوخ:"ان هذا التوق،شوق الانتقال من الظلمة الى النور هو اصل التاريخ والقوة الكامنة وراء سيرورة العالم الدائمة نحو الغاية القصوى".. مامعنى مفهوم"الغاية القصوى"لدى بلوخ؟!. انه يعني اشياء كثيرة ومتعددة:الخير الاسمى،الهوية،الطموح،النهاية،البداية،الانطلاق من النقص الى الامتلاء،من الضرورة الى الحرية،من القوة الى الفعل،من "ماهو"الى"ذلك"!. عند هذه النقطة يكف بلوخ عن الكلام المباح،ويمتنع عن اعطاء صورة واضحة لما يعنيه،ويصمت عن تحديد ماهية تلك الغاية القصوى كمفهوم هو الاكثر استعصاءا وغموض!.والتي يشير اليها بأبتسار:كتعين ملموس قادم في غياهب مستقبل لم يأتي بعد!.هذه الغاية المرتجاة والوردية في رأي بلوخ غير قابلة للتحديد والحصر او الوصف،طالما هي لم تظهر بعد،وفي طور الكمون،لم تبزغ بعد بالوضوح الكافي،ولم تزل مجرد شعور باطني،و/او حدس وجداني مسبق يعتمل في الصدور والعقول.ورغم ذلك يصر بلوخ على ان الغاية القصوى هي:معنى الحياة،وجوهر الانسان،و"ضمير التاريخ"بل هو"الارض المولودة"و"المحتوى الطوباوي الكامن في الفن الجميل".. وهكذ يستمر بلوخ في بناء متاهته الفلسفية،لنضيع نحن قراءه بمنحنياتها ودوائرها المقفلة!. هل نحن هنا امام فسيفساءو/او كولاج من ماركس والمخلص،من مادية ولاهوت وتقنية وطوبى من معرفة ومعلومات واساطير؟!.لانعرف!. ولكن لنقف برهة مع سؤال يعن لنا وعقولنا تلهث وراء مفردات وتعابير بلوخ المقعرة والملغزة!والسؤال:اين الجدلية؟..اين المادية؟..من كل هذا السيل الانتولوجي المتدفق،ومضامينه الفلسفية المشرعة على التأمل والحس المفعم بالصوفية الدينية!.لانجد امامنا سوى نصوص(وجودية)و/او حتى(فينومينولوجية)غريبة وبعيدة عن منهج ماركس المادي الجدلي النقدي!. ولكن بلوخ نفسه،حين يتخذ من فلسفته موقف الشارح او المفسر،لايجد غير كلمات ماركس ليشرح بها معاني فلسفته!.فهو يقول:ان اوضح المعاني التي يقصدها في طرحه،هو حديث ماركس عن:"طبعنة الانسان وانسنة الطبيعة"او اكتساب الطابع الاجتماعي والطبيعي للانسانية في تحالفها وانسجامها مع الطبيعة لتحويل العالم الى موطن حقيقي للانسان.. ان آمال واحلام واشواق الانسانية-في فلسفة بلوخ للتاريخ-موجهة صوب هذه الغاية القصوى التي تعطي للعالم مضمونا ومعنى وقيمة.وهو يرى ان هناك تمثلا عقليا ووجدانيا لهذه الغاية"القصوى"في احلامنا المعبرة عن رغباتنا الدفينة،وحاجاتنا المتجددة،وفي رموز واشارات الواقع،والقوالب النمطية التي تتحكم وتقيد حياتنا وفكرنا واشواقنا،وايضا في الشخصيات الروائية الفذة والاستثنائية(اذا ماتحدثنا بلغة برغسونية)مثل:دون كيشوت،واوديسيوس،وفاوست،وحتى في الموسيقى والاساطير ،والوعود الآخروية التي ابتكرتها الاديان عبر الازمنة. وعندما تتحقق تلك"الغاية القصوى"-المستقبلية بأمتياز-عندها فقط يحل عصرا الفيا فريدا:"تبزغ سماء فردوسية غامضة،وارض جديدة يتجه نحوها كل شيء،ولكن احدا لم يطأها من قبل"!. ها نحن اولاء امام صورة لاهوتية اخروية خلاصية هي لب وجوهر كل الاديان والميثولوجيات الغابرة!. ماذا يبقى اذا من الماركسية في داخل هذا اللاهوت المادي او المادية اللاهوتية سوى هذا الشكل الطوباوي من الشيوعية؟!.وهل ان ادعاء تجديد الماركسية يقودنا بعيدا لنغادرها ونخرج منها الى تخوم الطوبى والحلم؟!.. ما الذي يبقى في جعبة بلوخ الفكرية غير احلام التقدم،ولاهوت مبدأ الامل،والايمان الفلسفي اليوتوبي والمادي المتفائل بالمستقبل،وان كتب بلغة توراتية صارخة!.الايمان بالمستقبل،وتقدم الانسانية،و"مبدأالامل"هي ثالوث بلوخ ودعائم حلمه وتوقه،وهي محاولته للتغلب على طغيان السياسة المباشر ودوغما الحتمية على الفكر الحر،باللجوء الى الفلسفة التأملية المتحررة من كلس العقدية،والتعلق بالتقدم الانساني المضطرد نحو ذرى الغاية الفردوسية التي لم يكف او يقنط من مجيئها يوما ما.. وهكذا يحتفظ بلوخ بشرارة الجدل الثورية متوهجة،والتي تميز الفلسفة الماركسية في جذورها وجذوتها الاولى.او مايسميه بلوخ نفسه ب:"التيار البارد والتيار الساخن في الماركسية...الحمرة الباردة والحمرة الساخنة"!. التيار الساخن هو الدافع للحرية والانعتاق،هو التفكير من خلال السيرورة،اي من خلال"حافز الجدل الثوري".اما التيار البارد،فيتمثل في التحليل الواقعي للظروف والاوضاع الانية،في التفكير من خلال الانساق المرئية والمستجدات اليومية،هو امعان البصيرة فيما هو ممكن ونافع وعملي.التيار الاول -الساخن-هو المعبر عن الامل الماركسي في المستقبل ،وهدفه هو الفداء الانساني.في حين ان التيار الاخر-البارد-هو المعبر عن تبني مهام الحاضر المباشر،والاستراتيجيات والتكتيكات السياسة-اي سياسة القوة وتوازن القوى،والهيمنة-.الاول تعبير عن فكرة عظيمة وسامية،والثاني،هو تعبير عن الوقائع الانية للعالم الحقيقي الموضوعي وتفاصيله.. لقد اكد بلوخ دائما-وعلى مدار حياته الفكرية-ان الماركسية بالنسبة اليه هي،نظرية ساخنة،نظرية ثورية،نظرية التغيير والتحويل للعالم،نظرية تركز على مبدأ الامل والتفائل بالمستقبل،والذي قامت عليه كل الفلسفات والحركات العظيمة والاديان،من المثالية الافلاطونية الى مادية ارسطو،الى مفهوم الاتجاه لدى لايبنتز،وحتى مسلمات كانط الاخلاقية،وجدل هيجل التاريخي.. ففي كتابه عن "توماس موتزر-لاهوتي الثورة"1921ندرك جيدا الصيغة اللاهوتية التي يضفيها بلوخ على مفهوم التقدم والثورة -حتى في بعدها الاجتماعي-فعنده ان نقطة التحول الحاسمة في التاريخ الحديث هي النقطة التي التقت عندها فكرة"العود الابدي"-وهي فكرة كامنة في اليهودية والمسيحية،وحتى الاسلام-مع المطالب الايجابية والاهداف المشروعة،وتطلعات الطبقات المقهورة والمحرومة في المجتمع.وهذه الفكرة تتضمن ميلا ثوريا راديكاليا لتحقيق العدالة كضرورة وواجب.ولهذا نجد الكنيسة والكهنوت الديني من كل الاطياف،وقفت بالضد والعداء السافردائما،لشل وطمس ومحاربة هذه الفكرة السامية التي كان الفكر الديني ورجاله يدركون انها ستقوض عالمهم القديم المتفسخ،والتي كانت تعاود الظهور والتجدد مع كل حركات الاحتجاج والتمرد الاجتماعية،والتي كانت تأخذ طبعا دينيا من الفلاحين وفقراء المدن ضد الاستغلال الاقطاعي والبؤس الاجتماعي..فقد كان موتزر زعيما لواحدة من تلك الحركات الثورية،والتي اتهمت بالهرطقة-كالعادة!تلك التهمة الجاهزة لوصم الثورات والهبات الاجتماعية المعارضة!-في المانيا منتصف القرن السادس عشر. يقول بلوخ عن لاهوتي الثورة في كتابه :"الثورات تحقق اقدم آمال الانسانية،ولهذا السبب بالتحديد فانها تنطوي على،وتتضمن الانجاز المضطرد المحسوس بصورة متزايدة للمثل الاعلى للحرية،للرحلة التي لم تكتمل ابدا صوب تحقيقها،واذا كانت اليوتوبيا نفسها(اي ذلك النوع من ال واقع الذي لم يكن بعيدا ابدا)يمكن ان يمتلك المحتوى الدنيا لما هو هنا الان،عندئذ فأن الامل-الذي هو اساس وجودها-(اي وجود اليوتوبيا.م.ا)يمكن ان يندمج اندماجا كليا في الواقع،والى ان يأتي ذلك اليوم،فان عالم احلام اليقظة سيستمر ولن يؤدي اي رفع بالتقسيط بالانسان الى ان ينساه،فلا ينبغي تحويل مجرد شعور مسبق الى شيء مطلق بحيث يتعتم ذكر الغاية القصوى.."..هل كان بلوخ تحت وطأة نوستاليجيا معكوسة،لاتبالي بماضي طواه التاريخ واصبح ذكرى،بل هو حنين لازمنة قادمة،وتوق،لما لازال علقة في رحم آت يتشكل،هو المستقبل؟!.. في طرحه الفلسفي يقترب بلوخ (الجدلي)ويلامس الفكر الوجودي في خياره الفردي.فهو يؤكد على امكانية الاختيار كسبيل وحيد للتقدم والتغيير،حتى ولو تحددت سيرورات العالم تحديدا مسبقا.فالجديد يطل بأستمرا على الوعي الانساني،محفزا ومتحديا لاختياراته،وحتى لوغاب او اختلف مع الواقع،وايضا حتى لو بات المستقبل مرسوما قبليا.فللدهشة،والتشوف،والشك،والقلق الايجابي مكانا في العالم.ولولا هذه العناصر الذاتية لما كان هناك مجالا لاي اصلاح او تغيير،ولاصبح الانسان مجرد عبد لمنطق التاريخ الحديدي،وما خرجنا من عالم الحيوان والغرائز.فلو كان كل شيء محدد سلفا واوليا،لكان معنى ذلك ان الانسان لايحتل مكان سائق العربة،وانما يكون بتعبير بلوخ:"مجرد راكب لايسمح له الا مجرد شراء بطاقة ركوب الى الاشتراكية،عند مكتب بيع التذاكر التابع للحزب الشيوعي"!.والحقيقة التي يراها بلوخ الماركسي الجدلي،هي:ان الانسان يصنع تاريخه،من المؤكد انه يعتمد على امكانات وفرص وظروف مناسبة."الا ان القرار لم يتخذ بعد،والشيء لم يبزغ بعد".هناك امكانات سالبة وموجبة،وفرص قد تضيع اذا لم تستغل بظرفها المناسب.فكل وجود يحيط به"العدم".والعالم يتحرك صوب العدم في نفس الوقت الذي يتحرك فيه صوب "الكل".صوب حالة من"التحقق الكامل".غير ان العدم لايعدو ان يكون خلفية او تمهيد للتحقق الكامل.كما ان الخواء والاخفاق خلفية للامتلاء والسعادة،وكما ان الجنة التي يحلم بها المؤمن لها خلفية مظلمة من الجحيم!.وبلوخ بالرغم من شطحه التجريدي وغموضه،يمقت بشدة مبدأ الحتمية بمعناه الوثوقي القطعي،وهو لايريد لمبدأ الامل نفسه ان يكون شبيها بالحتمية في وثوقيتها التامة والمستقيمة.فهذا يلغي او يهمش العامل الذاتي،وطبيعة الحياة المتحركة والمتغيرة،فالموت لازال يبتلع الحياة،ونحن لازلنا في ريبة،ولانمتلك الثقة بان النصر سينعقد في النهاية:للموت ام الحياة!.وكما يقول بلوخ:"نحن لانملك يقينا،انما نحن نملك املا فحسب"!وهنا نجد ان ابرز سمات نظرية بلوخ في فلسفة الامل،هو تفائلها ويقينها :بأنفتاح التاريخ عل نهاية غير محددة،وبامكانيات مفتوحة لاتخضع لصراطية الدغما الايديولوجية ومخططها الزائف.واعتبار ذلك الانفتاح الذي يتسم بالمرونة القصوى،هو وحده من يترك حيزا ودورا لمقولة الحرية وتفعيلها.فالواقع يقابله الحلم،والضرورة تقابلها الحرية،والحتمية يقابلها الانفتاح على تعدد المعنى والآخر.هذ مايترك للانسان القدرة بأتخاذ القرار والمشاركة من خلال حرية ارادته.وكما يقول بلوخ:"حرية الارادة تأتي من استعداد يصبح مثمرا من خلال سلسلة مطردة من الاختيارات والقرارات والافعال،فالاختيار هو نقطة انطلاق الحرية".. وتأسيسا على المكانة العليا التي يسبغها بلوخ على الانسان ودوره في التاريخ،وخاصة في بؤرة فلسفته هو،وجدوا فيه الكتاب الغربيون ما دعاهم لوضعه بين ابرز الفلاسفة الاشتراكيين الذين اعطوا،و/او منحوا الاشتراكية"وجها انسانيا".و/او في عداد الذين اسهموا في وضع تصور يوتوبي مترع بالامل لاشتراكية الانسان،و/او اشتراكية من اجل الانسان لاالعكس.والحقيقة ان كلمات بلوخ الثرية عن مكانة ودور الانسان في التاريخ،وعن حريته ومستقبله تذكرنا دوما بماركس الذي لم يستطع بلوخ ان يتجاوز افكاره في فلسفته الاجتماعية والانسانية،فهي مجرد ترديد او صدى لما ورد في كتابات ماركس الشاب خاصة في:"المخطوطات الفلسفية والاقتصادية لعام1848"وفي"نقد برنامج غوتا". ف:"جذور التاريخ هو الانسان العامل،انه ما ان يمسك زمام ذاته ويقيم نفسه في ديمقراطية حقيقية دون اغتراب(استلاب)ونكران،حتى سيأتي الى العالم موطن لم يبلغه احد حتى الان،موطن حقيقي"..ما اشبه مايقوله بلوخ،وقربه من كلمات وصيغ ماركس،وتكاد تكون مفردات ماركس نفسه!.ولكن يبقى مايميز بلوخ عن ماركس،هو ان الاول ركز على اساس العامل الذاتي لنشاط الانسان،واعتبره القوة الدافعة وراء"توسع الذات"الى ماوراء هدف ضغط الذات.في حين كان ماركس لم يكتف بهذه النظرة التأملية المشوبة بالمثالية،والحالمة في تجريدها!.فماركس اعتبر الاساس الذاتي بمثابة"الجهاز التنفيذي"للقوانين الموضوعية للتطورات الاجتماعية والاقتصادية.ومن هنا يمكن القول،ان بلوخ كسر القاعدة الاساسية في الماركسية،والتي تقول،بان التاريخ هو نتيجة العلاقة الجدلية بين القوى الانتاجية والعلاقات الانتاجية،فماركس يرى بحق،ان القوى الانتاجية هي المحرك الرئيسي للتاريخ،ويحكم تطورها المنطق الموضوعي.وبالرغم من ان بلوخ تجاوز هذه القاعدة الماركسية المهمة في فكر ماركس،الا انه لم يكتب يوما،ولم يتخذ موقفا مخالفا او ناقدا لاطروحات ماركس. فقد وصف بلوخ تحليل ماركس للعلاقات الانتاجية في ظل الرأسمالية،بانه تحليل"دقيق الى حد لايمكن تجاوزه".واعتبربلوخ موقف ماركس من مفهوم الانسان،بانه:"لم يكن موقف نسبية سوسيولوجية او تاريخية،وانما نظر اليه على انه كائن قابل للتحديد وقابل للادراك". لقد تصور بلوخ ان نظرة ماركس للانسان هي نظرة"انثروبولوجية".فهو يقول في حديثه عن"طبيعة الانسان"انه لاتوجد حتى الان اية بنية غريزية طبيعية تفسر الجوع انما نجد بين ايدينا مجرد صورة لحاجة اصبحت اجتماعية ويتم توجيهها اجتماعيا،تتفاعل مع حاجات اجتماعية اخرى،وبالتالي متغايرة تاريخيا.. عندما يتحدث بلوخ عن اولويات المادية التاريخية،يلتقي مع ماركس،بتقرير اولوية الكرامة الانسانية على تلبية الحاجات المادية للانسان.وحسب بلوخ فان دور ماركس الاساسي هنا هو تطويره للنزوع الانفعالي للاستقلالية الشخصية والحرية،بعد ان اكتسبت طابعا اجتماعيا-ليصبحا ك"امر مطلق"على الطريقة الكانطية..اما جدل الحاجات الانسانية الآخذه بالاتساع،فهي دوما لدى بلوخ:نموذج للتطور التاريخي"نموذج للجدل الانتاجي بين فائض الحاجات الكامنة،وفائض القدرة الكامنة على تلبيتها،الموجودة في ادوات الانتاج المتاحة"..وبلوخ بعد ان ينسجم مع ماركس يعود الى التناقض معه،حين يؤكد ان:"الانسانية بالنسبة للماركسية هدف تاريخي،وليست مبدأ اوليا يستمد منه الاستنتاجات،وليست يقينا تاريخيا،انما هي هاجس طوباوي لاوجود له"!... الفكرة المحورية في فلسفة التاريخ عند بلوخ هي ببساطة،فكرة الامكان،و"مبدأ الامل"هو المرادف لمبدأ الامكان باتجاه المستقبل.فالانسان هو غاية امكانه الحقيقي لما اصبحه في مسيرة تاريخه.ومايمكن ان يصبحه لاحقا في مسار تقدمه نحو المستقبل.ومع هذا يبقى الامكان يحمل في طياته وتضاعيفه،من ناحية:على الاثر السلبي للظروف والتغييرات في الاستجابة لها.ومن ناحية اخرى،يحمل القدرة الايجابية الخلاقة على التغيير.وفي هذه النقطة ليس هناك من تباعد عن مفهوم ماركس للانسان والمجتمع والتاريخ.ولكن بلوخ يميل-بتجاوز-نحو نزعة متطرفة في غائيتها مشبعة بالتصور البيولوجي للتاريخ وحركته،في تناوله للتطور الانساني،الامر الذي يصب في اهتمامه الانثربولوجي شديد الوضوح.فاذا كانت النزعة الغائية هي كعب اخيل في فلسفة بلوخ التاريخية،والتي تجعل منه ميالا للنظرة الذاتية،والمصحوبة بالتأمل اللاهوتي، الا ان اهتمامه بالمستقبل المنعكس في هذه النزعة يشكل اكبر اسهام لبلوخ في الفلسفة المادية المعاصرة.حتى يمكن القول انه جعل من بحثه الفلسفي في اليوتوبيا والمستقبل اول مشاغله الرئيسية في حياته الفكرية والشخصية معا.. لقد اعتبر بلوخ ان الماركسية هي بحق"فلسفة المستقبل"و"ضمير الغد"و"الفكر الواعي لتغيير العالم"بلا منازع.والامل هو المبدأ-القبس الذي تهتدي به،وتسير بمقتضله سيرورة العالم والتقدم البشري.وهو الذي يقوم بعملية"التعشيق"بين اطراف العوامل الذاتية والموضوعية في التاريخ ليصبح جدلها المادي هو عملية امتزاج وخلط يذوب فيها الفارق بين الذاتي والموضوعي،ويتعسر حتى التمييز بين "الانسان"و"المادة فبلوخ يبدأ بثنائية لينتهي بأحادية مطلقة،يصل لحد القول:بأن مادة الطبيعة ستتحول ،عندما تمتزج بالعمل الانساني الى"ذات طبيعية"متى ماتحل تقنيات جديدة محل التقنيات القديمة للبرجوازية ،وهو يقول ايضا:"كما ان الماركسية اكتشفت في الانسان العامل ذات التاريخ الذي تخلقه بالفعل،وهو اكتشاف سوف يتجلى تجليا كاملا في ظل الاشتراكية،فانه من المرجح ان تسير الماركسية-في التقنية- انحدار الذات المجهولة في العمليات الطبيعية التي لم تنكشف بعد في ذاتها،وبهذا تتوسط بينها وبين الانسان،وتتوسط بينها وبين ذاتها".وهكذا يتحول مفهوم ماركس للطبيعة بمنطق بلوخ الى مفهوم ميتافيزيقي صوفي عن "ذات طبيعية"يصفها بأنها"اكثر الجواهر المادية الموجودة محايثة،وفيها تكمن الحقيقة"!. وهذا المفهوم هو الاكثر بعدا عن ماركس ومنهجه المادي الجدلي،والاقرب لرومانسية شيللنغ المثالية،وتأملية فلاسفة عصر النهضة!.وهكذا تتكشف لدى بلوخ تلك الفكرة المثالية المتطرفة عن"مبدأ وجود مطلق يخلق ذاته"!.وبلوخ مقتنع بهذا المبدأ الغريب والمناقض لمنهجية تفكير ماركس وماديته.فعند ماركس:ان"الذات"الوحيدة التي نشأت عن الطبيعة،وتعمل غائيا في الطبيعة هي الانسان الذي يحافظ على نفسه ويتطور من خلال العمل لابواسطة شيء ذاتي على الاطلاق،بل العمل في شيء موضوعي تماما هو الطبيعة الخارجية المتمثلة بأياء العالم.ولاحاجة للقول بأن لاعلاقة بين المادية الجدلية،ومايسميه بلوخ"فلسفة الهوية"او مايطلق عليه:"علم الكون الشيوعي"-communist cosmology-والذي يبحث في مشكلة التوسط الجدلي بين الانسان وعمله من ناحية،و"ذات الطبيعة"الممكنة من ناحية اخرى. لكن يبقى الاسهام الاكبر لبلوخ هو استحضاره لما غيب وهمش وجرى نسيانه،والذي لايمكن ان تستغني عنه الماركسية-اذا ما ارادت ان تبقى حية ومتجددة-وهو من صلبها ومكونها الارأس:الامل..الخيال..الحلم..اليوتوبيا..وكل تجليات ونوازع الوجدان البشري وطاقاته النفسية والجسدية.وهذا ليس مجرد تعويض عن الواقع المر والبائس والمحدود والجامد الذي كرسته الايديولوجيات الدوغمائية والاصلاحية الرثة،من:ستالينية،وماوية،واشتراكية ديمقراطية،وغيرها من اشتراكيات قومانية ووطنية هجينة ومتعثرة.بل هو اسهام فلسفي ومعرفي لاستعادة ورد الاعتبار لروح وطاقة الماركسية الثورية والنقدية المتسمة بالمرونة والحيوية والتجدد. وهذا ماتميزت به(روح اليوتوبيا)عند بلوخ:الامل،والحلم،والرغبة الانسانية العارمة،والتعطش الدائم للحرية والمساواة والاخاء ،ثالوث الانسانية الخالد.. وما حلم به بلوخ هو حلم كل الشغيلة الاحرار بمجتمع كوني لاطبقي حر وسعيد.ولم يكن هذا وهما وشطح بقدر ماكان ايمانا صلبا بالغد وما لم يأتي بعد.ولكن مبدأ الامل لازال عصيا على التحقق والمجيء،فما يحاصره ويضيق عليه ويواجهه بشراسة هو:مبدأ السوق المتوحش الاكثر هيمنة واقتدار،والذي يبدو كنهاية للتاريخ كما زعم وروج ويروج الليبراليون الجدد،وايضا بالنسبة لليائسين من النضال والمتشائمين من المستقبل ،والذين لم يغادروا بعد اطلال الماضي المهزوم والمندثر!.. مبدأ الامل البلوخي يستلهم بأيجابية ماتنطوي عليه الاساطير والاديان وثقافات الشعوب من فولكلور وآداب وحكايات وموسيقى، وبتحليلها المنهجي المادي تتوهج شعلة الامل بعالم افضل جديد،وحياة اجمل للانسانية،وبكل مضامينها الاجتماعية التقدمية للتحرر من الاستغلال والاستلاب والعبودية.فيوتوبيا بلوخ ليست اوهام خرقاء،واماني ضالة تتعكز على الخيال.بل هي امكان واقعي وسيرورة مستقبلية في طور التشكل والتكون:مالم يأتي بعد،ماليس بعد.مجتمع بلا طبقات،بلا اجهزة قمع وكبت واكراه،بلا دولة،خالي من الاضطهاد والتراتب والاغتراب.مملكة الحرية التي كانت مناط حلم ماركس ونضاله وتضحياته،والتي تصورها كافتراض وامكان مستقبلي لغد بعيد لم يأتي بعد. في العقد الاخير من حياته الحافلة بالمتغيرات،وفي سلسلة من محاضراته الاكاديمية والتي حملت عنوان على شكل سؤال:"هل يمكن للامل ان يخيب؟".اجاب بلوخ على السؤال اجابة محايدة بين نعم ولا!.نعم قد يخيب الامل،ولكن هذه الخيبة هي التي يجب ان تكون المهماز اللاهب والمحفز لتوليد النقد البناء والسعي ومراجعة الاخطاء والنكسات من اجل تجديد الامل و ادراك جدلية الحركة التاريخية ودور الفرد.كان بلوخ متطرفا في تفاؤله لدرجة صفر اليأس وانعدامه،ولم يعرف القنوط اليه سبيلا!.وكل مايحدث ويستجد من احداث ووقائع كان يصب في تعزيز امله وحلمه.فقد استقبل الثورة الطلابية العارمة عام68 بحفاوة وتمجيد،ولم يقنط عند انحسارها وانطفاءها!.والسؤال الاكثر الحاحا هو:هل كان بلوخ:ماركسيا رومانيكيا!.اشتراكيا تلموديا!.وجوديا مثاليا!.لاهوتيا طوباويا!.توراتيا خلاصيا!.رومانسا حالما؟!.لايمكن الجزم بنفي او تأكيد اي من تلك التوصيفات بحق بلوخ،فقد يكون واحدا من تلك الاوصاف ينطبق عليه،او كلها مجتمعة وحاضرة في ثنايا فلسفته!.ولكن يبقى بلوخ مع كل تداعياته وتناقضاته مفكرا ماركسيا حتى النخاع!.اما التفاصيل:كيف فهم الماركسية وماهي رؤيته وتصوراته الذاتية لها وعنها؟!.يبقى هذا السؤال محلا للخلاف والجدل الذي يطول بلا حسم!.فبلوخ يبقى لغزا فلسفيا وغامضا لن يجد حله الا في مستقبل بعيد جدا لايمكن تخيله،لانسانية جديدة في يوتوبيا فردوسية قائمة على العلم والتكنولوجيا،لا الخرافات الاخروية التي انتجها الدين!.. "جورغين روهله"تلميذ بلوخ ومن اشد المعجبين به،وصف فلسفة استاذه وكان دقيقا ومحقا في وصفه،قائلا عن شيوعيته:"شيوعية مشبعة بأوهام ثورية،يضيها وهج شديد من اليوتوبيا،ومثل هذه الشيوعية اكثر تفوقا بدرجة لانهائية من الستالينية...انها تجسيد لامال وتضحيات سنوات طوباوية عديدة،وليس في قضيته مايربطها بواقع معسكرات العمل ولا زنازين الاعدام"!.. ومهما كان من الامر فان ارنست بلوخ يبقى فيلسوفا اثر فكره ونظريته على قطاع عريض من الماركسيين والليبراليين الشبان سواء في الاوربيتين -الشرقية والغربية-.كان منهج بلوخ في معالجة الاشكالات الفلسفية ذات صبغة صوفية محببة،وجاذبية شديدة-رغم صعوبة افكاره-وخصوصا شرائح الطلبة والشباب الذين همشتهم وعزلتهم مجتمعات الاستهلاكية البرجوازية في الغرب عن ممارسة اي دور في الحياة السياسية في مجتمعات تلك البلدان.مكتفين بممارسة الحياة العملية اليومية ذات البعد الواحد الاكثر تفاهة وسطحية.. واحدا من اهم عوامل السحر والاعجاب بفلسفة وافكار بلوخ هو عدم انسلاخها الكامل والصريح عن الماركسية،كما انها لم تصطدم بها او تعاديها واقعيا،فقد ظلت امينة لها وتتحدث باسمها وتنهل من معينها.ولكنها مع ذلك وفي الوقت نفسه فتحت الباب على مصراعيه للخروج من/عن الماركسية!.فهي جذبت العقول الميالة للاشتراكية،ولكنها دفعت بهم بعيدا عنها في آن واحد،لما يترتب عليه الصراع من اجلها على مصاعب وعقبات وتضحيات ونفس ثوري عزوم وطويل،وهذا لايتوفر لدى من يكدح من اجل لقمة عيشه المرة،ومن يعش ليومية رتيبة مقيتة في انانيتها المنهكة والقسرية.وبلوخ نفسه كان يعي ذلك.ويعتبر فلسفته عبارة عن صراع ومواجهة بين اليوتوبيا والايديولوجيا،مادامت الايديولوجيا كما لمسها بلوخ وعاشها تهيمن على نظم وطبقات اجتماعية سائدة ومستغلةفي الخطاب السياسي،ولكنها محرومة من الحريات،وما دامت اليوتوبيا وكما تصورها بلوخ،وبكل تجلياتها واحوالها،هي الاقدر على قدح الشرارة في اتون التاريخ. من الثابت ان بلوخ لم يعني بالايديولوجيا انها الماركسية بالذات،ولا حتى الشيوعية بمفهومها النظري الاوسع.ولكنه لم يستطع ان يمنع تلاميذه الذين درسهم ومريديه من قراءه عن تأويل وتفسير فهمه للاديولوجيا كأشارة دالة على الماركسية بالتحديد!.وهذا اللبس هو مافهمه الكثير من اعداءه واصدقاءه ايضا كمعنى مقلوب!. فمن يستطيع ان يمنع نقاد بلوخ الماركسيين الارثوذوكس من ان يعقلوا الامر على النحو نفسه،ويعتبروا دعوته لتجديد الماركسية وتحريرها من الدوغما جزءا من ايديولوجية العداء للشيوعية،او التحريفية-وهي الراية التي حملها البيروقراطيين السوفييت ضد كل من انتقد ممارساتهم وادانها!-او ان يضعوه-بلوخ-في خانة،هربرت ماركوز،وميلوفان دجيلاس،وغيرهم من اصحاب وجهات النظر المستقلة والمختلفة عن العقيدة الرسمية التقليدية،وان يشددوا النكير والرفض لافكار بلوخ(التحريفية)ومن سار على نهجه؟!.. وكما وصف ماركس كانط ك"فيلسوف الثورة الفرنسية".نعت الماركسي الالماني"اوسكار نيجت"بلوخ ب"الفيلسوف الالماني لثورة اكتوبر". في الفصل الاخير من كتابه السفر:"مبدأ الامل"والمعنون ب:"ماركس والانسانية:"اهاب الامل".يقول بلوخ:"ان العقل لايمكنه الازدهار دون الحلم،والحلم لايمكنه النطق دون العقل،والاثنان يجدان وحدتهما في الماركسية-فأي علم اخر لايملك مستقبلا واي مستقبل اخر لايملك علما".فهل هناك بعد هذا من شك في ماركسية بلوخ؟!. حضر وفاة بلوخ الآلاف من الطلاب وهم يحملون المشاعل،رمزا لشعل الامل الذي لايخبو كالعنقاء تبعث من رمادها،فالامل خالد لايموت.وقد عبر الامل الحياة ليمتد لما بعد الموت في اسطورة الحياة الاخرى كعنوان لماهية الانسان!. .............................. وعلى الاخاء نلتقي...
#ماجد_الشمري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ارنست بلوخ/من الدوغما الشاحبة الى لاهوت الامل ويوتوبيا المست
...
-
ارنست بلوخ/من الدوغما الشاحبة الى لاهوت الامل ويوتوبيا المست
...
-
ارنست بلوخ/من الدوغما الشاحبة الى لاهوت الامل ويوتوبيا المست
...
-
ارنست بلوخ/من الدوغما الشاحبة الى لاهوت الامل ويوتوبيا المست
...
-
ارنست بلوخ/من الدوغما الشاحبة الى لاهوت الامل ويوتوبيا المست
...
-
ارنست بلوخ/من الدوغما الشاحبة الى لاهوت الامل ويوتوبيا المست
...
-
الجنس المقهور
-
(كذبة خروشوف حول -موجز تاريخ الحزب)..قراءة وتعليق!..(3)
-
(كذبة خروشوف حول-موجز تاريخ الحزب)..قراءة وتعليق!.(2)
-
(كذبة خروشوف حول-موجز تاريخ الحزب)..قراءة وتعليق!.(1)
-
بيان الحزب الشيوعي العراقي يوم14شباط عام1949/المجد للشهداء.
-
1963/عندما يكبو التاريخ
-
مآثر: ستالين-بيريا ومفوضية(المسوخ)للشؤون الداخلية!!!.(11-الا
...
-
مآثر: ستالين-بيريا ومفوضية(المسوخ)للشؤون الداخلية!!!.(10)
-
مآثر: ستالين-بيريا ومفوضية(المسوخ)للشؤون الداخلية!!!.(9)
-
مآثر: ستالين-بيريا ومفوضية (المسوخ) للشؤون الداخلية!!! .(8)
-
مآثر:ستالين-بيريا ومفوضية(المسوخ)للشؤون الداخلية!!!(7)
-
مآثر:ستالين-بيريا ومفوضية(المسوخ)للشؤون الداخلية!!!(6)
-
مآثر:ستالين-بيريا ومفوضية(المسوخ)للشؤون الداخلية!!!(5)
-
مآثر:ستالين-بيريا ومفوضية(المسوخ)للشؤون الداخلية!!!(4)
المزيد.....
-
مادورو يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
الجزء الثاني: « تلفزيون للبيع»
-
عز الدين أباسيدي// لعبة الفساد وفساد اللعبة... ألم يبق هنا و
...
-
في ذكرى تأسيس اتحاد الشباب الشيوعي التونسي: 38 شمعة… تنير در
...
-
حزب الفقراء، في الذكرى 34 لانطلاقته
-
تركيا تعزل عمدة مدينتين مواليتين للأكراد بتهمة صلتهما بحزب ا
...
-
تيسير خالد : سلطات الاحتلال لم تمارس الاعتقال الإداري بحق ال
...
-
الديمقراطيون لا يمتلكون الأجوبة للعمال
-
هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال
...
-
الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|