|
النَّص الدينيُّ: كيف يتأسس؟
سامي عبد العال
الحوار المتمدن-العدد: 5158 - 2016 / 5 / 10 - 07:58
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إلى الآن لم (تفكِّر) الثقافةُ الإسلامية في كيفية تأسيس النص الديني؟! لقد جاء وحلَّ بمعطى لغويٍّ تؤكده ماهيته دون نقاشٍ. ما ينطبق على النص الأول(القرآن) سينطبق تباعاً على نصوص الفقهاء والمفسرين حتى شرُوح اللغة. وبالتالي سيصبح الاقتراب منه ممنوعاً. لتقف دوائرهُ المحرّمةُ دون مقاربته تأويلاً وتداولاً. النطاق الدلالي المضروب بمحيطه لا تعاينه الألفاظ والعبارات العادية. لقد أوجد معجماً من كلمات اللا مساس Taboo بصدد كتابته ومادته وبلاغته. فتلك الأنشطة الإنسانية تفترض ضمناً تاريخية اللغة حتى تتم بحريةٍ. بيد أنها ستقف بلا فاعلية هذه المرة. وإذا كان النص عصياً على اختراق اللغة فثمة استحالة لتجارب المعنى. فجميع التفسيرات ما هي إلاَّ فرض الرؤى فرضاً حتمياً. لحظةُ التأسيس ليست خاطفةً ولا مؤقتة. هي تستغرق عصوراً من العمل عيلها: إخفائها، إلباسها كل أنظمة القيمة والدلالة. فالنص لا يُولد من خلالها مباشرة لكنه يدور مع طباق الثقافة السائدة لتمتين صورته المُثلي. وحتى إذا كان نصاً ثانوياً فإن التقديس يتلامس جوهرياً مع معنى التأسيس. التأسيس صنو التقديس في الثقافة الاسلامية. إنها يتبادلان المقاعد فيغدوان معبرين عن نفس الشيء. من هنا تبدو الأسئلة مهمةً حول تلك القضايا. لو تساءلنا عملياً حول الوضع النصي السابق لكان لنا مسافة تسمح برؤية الأشياء والمعتقدات على حقيقتها. كما أنَّ العقل العربي والاسلامي لا ينظر في الأسس عادةً. كيف كانت، ولماذا صارت وإيلام ستؤول في المستقبل؟! سؤال المصير لا يشغلنا حتى وإنْ كان قريباً في إطارٍ دمويٍّ هو جماعات الإرهاب الديني. لكن هل تفكر الثقافة، أية ثقافة، هكذا بجمع فكري؟ أي بهذا الزخم النوعي لنسق التصورات داخل آفاق الإنسان. طبعاً: الزخم يعني مناخاً فكرياً يتأمل بكثافةٍ مغايرةٍ فيما يصاغ. لأنَّ تأسيس النص يقع في المنطقة الخفية من العقل الجمعيٍّ. إنَّه يخاتل الوعي ليربطه بأسباب عميقة خارج الواقع. فكرة القداسة المجانية في موضعها وغير موضعها تارةً أخرى. والكيفية مبادئ واجراءات تتيح لمن يفكر أن يكون حراً دون حدٍّ. تجعله في حالة تعمُق بامتداد جذور الأفكار وكيف تتحول من مرحلةٍ إلى أخرى. وايجاد طرائق فذه لغربلة التأسيس ونقده المتواصل. كانت بدائل التأسيس عقيدة الإعجاز. وهي رغم كونها تعني الادهاش والندرة في المعاني إذ يأتي بها النص لكنها دفعته فوقاً بمنأى عن الأفهام. كان إعجازاً تأسيسياً لا في رؤاه الحية بل في انفصاله عن الواقع. ولهذا كانت النصوص المقدسة قادرة على قلب العالم والتاريخ رأساً على عقب. فإعجازها يعلِّق بها كافة مناحي الحياة ليصبح تطورها وتحولها لا قيمة لهما بجوار النص. الاعجاز عقيدة لأنه غير مبرر إلاَّ على إيمان ليس محله النص فقط بل هناك تصورات بديلة تسنده مثل الوجود الإلهي والعالم والحقائق التاريخية وصورة الآخرة. كان الاعجاز تتويجاً لها. كما أنه يرسخ مفاهيم اللغة التوقيفية من مشكاتها العليا. أي مهما تكن اللغة انسانية ومتطورة لكن الإعجاز يرجعها ثانيةً إلى مصدرٍ غير إنساني. بهذا المنحى النافي للاختلاف تعد الثقافة الاسلامية ثقافة نصية textual culture. حيث يمثل النص ثقلاً تاريخياً نزن به كافة مظاهر الحياة ومواقفها. هو يضاف إلى المعاني سلباً أو إيجاباً، بجانبنا أم ضدنا حينما يستشهد به عادة. لكون النص معياراً خفياً يحضر حيث تغيب حقائق الواقع بالتبعية. وإنْ كان الواقع حقيقياً لن يعدّ كذلك سوى بشهادة النص. ماذا وراء هذا التأسيس الخرافي لواقعنا وللنص بالتساوي؟ - تجلط النص- بهذا المغزى المادي- على هيئة بقعة لغوية غير قابلة للذوبان. وهذا واضح في جعله مادة سحرية ليست له. ومن حينها تسند كل كلام تاريخي وثقافي ومعرفي. هذا واضح في استعمال الآيات والمقولات الدينية في غير سياقها حتى أضحت تمائم. وتجرى كأنها تمرر المضمون على جناح التأسيس المُسلِّم به. فالمستوى البعيد له جعل كل من يتمسح به يدعم مواقفه خلال الحياة العامة. - طالما النص كذلك سيحتاج إلى طبقةٍ آلية من المفسرين. لأننا كأناسٍ عاديين لم نستطع فهمه بداية. بالتالي سيكون مُتاحاً لمفسريه أن يلاصقونه ويعتبرنه مادة للتكَّسب والتسلط. كلُّ نص مؤسس هكذا لتنذر له مجموعات من الشراح وراء الشراح حتى يأخذون مكانه. لدرجة أنَّهم يقفون جنباً إلى جنب مع قداسته. وفي تاريخ الإسلام السياسي كان المفسرون لهم أهمية تفوق النص الأصلي. الأمر جزء من لعبة اللغة التي تستبدل الصورة، النسخة بالأصل. وستكون هذه النقطة أكبر ثغرات التأسيس لأنَّها ستنوعه وستجعله عرضةً للنقد المباشر. - يفترض التأسيس كون النص غامضاً دوماً. هو ليس منطوقاً في كلمات لكنه كتلة لغوية فيزيائية كما هو. لن يجدي تحليله وسبر أغوار معانيه. فهذه أشياء تحتاج تأكيداً لمعانٍ بجانب الأخرى. وتتطلب ابرازاً للمختلف دون سواه. وتلك القضاياً لا يسمح بها التأسيس بالمفهوم السابق. كل اختلاف طالما لم يمس التأسيس الأوسع للنص لن يكون فاعلاً ولن ينصرف إلى رؤى ثريةٍ في الحياة. - يتعارض الوضع التأسيسي للنص مع إمكانية الإيمان به. الإيمان يحتمل معايشة المعنى وفهمه بشكل متنوعٍ والاختلاف حوله. كيف سيتم ذلك مع طباق الحواجز التفسيرية للوصول إليه؟ بالتالي فإنَّ العجز مصير البحث عن حقائقه. النص المقدس بالتحديد مالم يتحول إلى تجربة تاريخيةٍ لن يكون مؤثراً. وبدلاً من كون التأسيس تجدُّداً مفتوحاً يصبح مطرقة تحطم أدمغة معارضيه ومؤيديه. - يؤدي هذا التأسيس إلى تقديس النصوص المجاورة له. لأنَّها ستزعم امتلاكاً لحقيقته واحتكار التحدث باسمه. وهذا يفسر أجيال المفسرين من عصر إلى عصر بينما جوهر الدين لم يتحقق فعلياً. إنَّ رجال الفقه ومعارفهم وعلاقاتهم رغم كونها موجوده لكنها تعزل الدين عن الوجدان الحي. تمنعه وراء مماحكات وأمور هي أقرب إلى الطبائع منها إلى المعرفة العنيفة. كما أن هؤلاء الوسطاء كانوا "نموذجاً وظيفياً" -function-al لخدمة أغراض السياسة والطوائف والمذاهب المتصارعة. - سيدعو التأسيس إلى التحارب حفاظاً على وجوده المفارق. والقتال بلا نهاية على تفسيره. فحينما رفع الخوارج المصاحف على أسنة الرماح في إحدى المعاك قال على ابن أبي طالب حاربناكم على تنزيله وسنحاربكم اليوم على تأويله. فأي تأسيس دجمائي سيحول النص إلى ميدان حربٍ بلا طائل. أبرز مظاهر الاختلاف الديني هذا التناحر إلى درجة الإبادة للطوائف والملّل والنِّحل. ليس الدواعش إلاَّ نسخة أخيرة تتواتر في تراث المسلمين. حتى هؤلاء الأكثر اعتدالاً- سواء مؤسسة أم مذهب- يحملون بذور التقاتل الشرس. فصدمة التأسيس ستتحور لديهم إلى منطق صراعي عاجلا أم آجلاً. مازالوا على شفا الانزلاق. يظهر ذلك في الفتاوي القمعية والمواقف من أصحاب الديانات الأخرى. - سيقف التأسيس ضد منطق اللغة وقوانينها. فاللغة تغاير معانيها بحسب السياقات. كما تتسع أبنيتها بحكم التراكم الدلالي. كيف سيكون ثمة تغاير بينما يعلن التأسيس من الوهلة الأولى ثبات اللغة حرفياً. هذا الفهم الحرفي للنصوص كان طابعاً مشتركاً في تاريخ جماعات العنف الديني. ولهذا كان الحرف يقتل، فلم تخرج جماعة إرهابية إلا بفضل الفهم الحرفي للنصوص. إذن ليست القضية ما إذا كان النص ذا مصدر إلهي أم أرضيّ. هذه قضية مزيفة لن تزيد المعالجة إلا ثنائيات متناسلة. مثل الله / الإنسان، الانبياء/ البشر، الأرض/ السماء، الواقع /الغيب، المقدس/ الدنيوي. الثنائيات كذلك لأنَّها عصية على الإثبات. ويتساوى التفكير فيها من عدمه. فلن نستطيع تجاوزها نظراً لاستقطابها الحاد لكل الأفكار المنفتحة. كما أن الثقافة الاسلامية لديها مقدره مهولة على التأرجح فوق النهايات الحادة. وفي هذا لن يختلف نصٌ ديني بشري عن غيره أيا كان مصدره. إن طرائق تعاملنا معه تسلب أيَّ تنوع في وجوده. فلن يبلغ القارئ معانيه المتنوعة دونما اعتباره مقدساً. كأنَّ التأسيس يضع العربة أمام الحصان. فالحصان(التأويل) يجدر عربة النص فيأتي التقديس اللا تاريخي ليقلب الأمر. لكن المفارقة تلعب دورها، فطالما ثمة لغة فلا يوجد "أصل نصي" خارج التاريخ. اللغة والخارج يتعارضان تعارضاً يهدر المعنى. لأنَّ الأخير دوماً في حاجةٍ إلى تجربة حية بالنسبة لمتلقيه. الفهم تجربة النص عبر أزمنة تأويلية لا تتوقف. هذا مبدئيا يطيح باعتقاد سلفي(أصولي) باعتبار النصوص أصولاً مستعادة كما هي. باعتباره مادة لا تُفنى ولا تُستحدث من عدم على غرار المواد الطبيعية. وهنا ستجد اللغة نفسها مشابهة للطبيعة عن كثب. فاللغة ليست مادة في أقنية معلبةٍ. إنها دوال signifiers قادرة على التوالد اللانهائي. أي أنَّ التداعي الحر للدلالات يناطح أيَّ أصل يناوئها. كلُّ نص حتى يكون كذلك يفترض سلفاً حركة التاريخ. النص ذاته هو الفعل اللغوي لمضمونه استناداً إلى تراث هو الحاضر الغائب. ورغم بنيته التعبيرية التي لا تنازع لكنها تتعدد في كيانها الاشتقاقي وفي مسيرتها الدلالية. يأتي النص، أي نص، كمضمون بعيد وناءٍ عبر اللغة. فلن يكون حاضراً في معانيه من أولِّ وهلة. التعبيرات كي تنتج المعنى لابد لها من أصداء ثانية وثالثة... ومتواترة باستمرار. وعليه ينبغي استعمال الإيقاع الحياتي لما يجعلنا نفهم الكلمات كما لو هي نحن. فاللغة تتمتع بهذا الطابع التاريخي لإيجاد الأشياء وتضييعها بالمثل. والتضييع ليس التلاشي لكنه التراكم الاختلافي لما كان مقصوداً من وراء المعنى. من هنا فإنَّ النص الديني لن يشكل معطى غير قابل للغياب. فطالما يجري داخل لغة سائلة فسيخضع لعملية انتاج الدلالات. فهي آثار الغياب إلى حد المعاناة. كما يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي: المعنى في العربية آتٍ من المعاناة. معنى الشيء حالته التي صار إليها وخرج منها. وبهذا هي محنته الوجودية لما سيكون عليه. وحدها بنيةُ معناه ستظهر حين يعاني. فالمعاني إذن آثار عميقة بفضل تغاير الأشياء والعلاقات عبر تجارب طويلة الأمد. أليس ذلك جديراً بإعادة النظر في أسس النصوص وقراءتها؟!
#سامي_عبد_العال (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بلا نهاية: أفيون الشعوب
-
الأسئلة الملعونة في الثقافة العربية
-
الإله على ورقة دولارٍ
-
لماذا المرأة عورة...؟!
-
الحريم في المجال العام
-
الموت كفعلٍّ سياسيٍّ
-
رأسمالية الوهم
-
نهاية العمل أم نهاية العالم؟!
-
حيوان الثقافة
المزيد.....
-
مواقفه من الإسلام تثير الجدل.. من هو مسؤول مكافحة الإرهاب بإ
...
-
الإمارات تعلق رسميا على مقتل -الحاخام اليهودي-.. وتعلن القبض
...
-
الإمارات تعلق رسميا على مقتل -الحاخام اليهودي-.. وتعلن القبض
...
-
من هم المسيحيون الذين يؤيدون ترامب -المخلص-؟
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرتا اعتقال نتنياهو وجال
...
-
الأميرة المسلمة الهندية -المتمردة- التي اصطادت النمور وقادت
...
-
تأسست قبل 250 عاماً.. -حباد- اليهودية من النشأة حتى مقتل حاخ
...
-
استقبل تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024 بجودة عالية
-
82 قتيلاً خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
82 قتيلا خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|