|
صادق خان: تجديد التعددية الثقافية وتصحيحها
خالد الحروب
الحوار المتمدن-العدد: 5156 - 2016 / 5 / 8 - 09:36
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ثمة الكثير مما يُبهج في فوز صادق خان رئيسا لبلدية لندن، كما ثمة الكثير مما يثير المخاوف إزاء مستقبلات تعايش المسلمين في الغرب واتجاهاته. اول ما يُبهج هو علو قامة تعددية وكوزموبوليتانية هذه المدينة العريقة، التي لم تنحن امام هوج تيارات العنصرية والاسلاموفوبيا التي عصفت بأوروبا في السنوات الاخيرة. لندن التي ظلت تكبر وتتوسع تعددياً وتعايشيا إلى ان تساوى فيها عدد من ينحدر إلى اصول انجلوـساكسونية مع عدد من ينحدر إلى اصول اخرى تقدم صفعتين بذات القوة لطرفين متناقضين: صفعة في وجه العنصريات الأوروبية وتيارات اليمين المتطرف التي اشتغلت على تخويف وإرهاب شعوبها من المسلمين، وصفعة قوية اخرى في وجه العنصريات الاسلاموية وتيارات التعصب الديني التي اشتغلت بدورها على اختزال الغرب واوروبا بتعريفات "الكفر والكفار" وتسويغ الإرهاب ضد المدن والمدنيين هنا وهناك، من باريس إلى بروكسل وغيرهما. يُبهج كثيراً ان اطروحة التعددية الثقافية التي قام عليها الجزء الاعرض من التسيس الاجتماعي في اوروبا وامريكا الشمالية تستنشق الآن دفقة هواء صحي بعد سنوات من الهجوم المُستمر عليها من قبل سياسيين ومفكرين وحتى مؤيدين سابقين لها، انشقوا عنها. التعددية الثقافية، وخاصة في تعبيرها الانجلوـسكسوني، ونماذجه البريطانية والالمانية والهولندية الابرز في اوروبا، تعني الإحتفاء بالتعدديات الدينية والإثنية وعدم مطاردتها او محاولة إنهائها عبر برامج الإدماج القسري في ثقافة وقومية عليا موحدة، كما حاولت فرنسا طيلة تاريخها (خلال وبعد حقبة الاستعمار). انصار التعددية الثقافية، وبإختصار مبتسر، يجادلون بأن إفساح المجال للثقافات والاديان والطوائف والاثنيات المختلفة كي تعبر عن ذواتها في سياق تعددي وليبرالي واسع سوف يجرجرها إلى تيار الوسط العام، ويقلم تطرفاتها الدينية او القومية من دون تدخل الدولة والسياسة، مُبقيا على ما هو تعايشي فيها، ونابذا لما هو كريه فيها. السياسة البديلة، كما يشير انصار التعددية الثقافية، تعني إجبار الاقليات والجاليات على تبني ثقافة وممارسات البلد والمجتمع المُستضيف، بالقسر المباشر او غير المباشر. وهذا يقود إلى استفزاز ردود فعل دفاعية وهجومية قصوى عن الهويات والاديان بما ينعش جوانب التطرف فيها ويقوي متطرفيها، وهكذا وعوض ان تتدحرج الغالبيات نحو الوسط العام، تتشتت إلى هوامش التطرف بعيدا عن الضوء او تحت الارض. تمتلك التعددية الثقافية تماسكاً نظرياً تسنده وقائع وتواريخ طويلة، مقارنة بنظرية الإدماج الثقافي الفوقي التي يبرز النموذج الفرنسي كمثال رئيس لها، وهي وقائع تعود بعيدا إلى حقب الاستعمار البريطاني والفرنسي وآليات اشتغالهما في البلدان المُستعمرة. لم يرد البريطانيون تحويل الشعوب والمجتمعات التي استعمروها إلى بريطانيين ثقافة ودينا وممارسة بل اهتموا بولاء الجميع السياسي للعرش البريطاني والخضوع لسيادته. على الضد من ذلك، تملك الفرنسيون هاجس فرنسة الشعوب والمجتمعات التي استعمروها وتحويلهم إلى جزء من "فرنسا الام" وثقافتها ولغتها، بالطوع تفضيلا وبالقسر إن لزم الامر. نقاد التعددية الثقافية قالوا ويقولون بأنها توفر البيئة الخصبة لتوالد غيتوات الإنعزال بعيدا عن الوسط العام، وهناك تترعرع كل انواع التطرف الديني والثقافي، وتنتج في نهاية المطاف خليطا من التجمعات السكانية المتناقضة والتي لا يجمعها ناظم ثقافي او مسلكي او اجتماعي مُوحد. وعوضا عن التعايش المُفترض التي تتأمله التعددية الثقافية فإن ما يتنامى في الواقع كراهيات حقيقية مردها تواصل التباعد الثقافي والإنعزال بين شرائح ومكونات يُفترض انها تابعة لمجتمع او وطن واحد. وهذا الاخير، اي الوطن، والولاء له هما الضحية الاولى لفشل التعددية الثقافية، بحسب نُقادها، ذلك ان من تربوا في احضان الجاليات الثقافية والدينية المعزولة عن الوسط العريض للمجتمع المُضيف لا يشعرون بأي ولاء للبلد الذي ولدوا فيه ويحملون هويته وجنسيته، بل مستعدين لتفجير انفسهم فيه وضده. وفر الإرهاب الاسلاموي بدءا من تفجيرات 11 ايلول 2001 في نيويورك إلى تفجيرات آذار 2016 في بروكسل كل العتاد التنظيري الذي احتاجه نقاد التعددية الثقافية، سواء من انطلق بالنقد من موقع الحرص والإنصاف، او اولئك المدفوعين بعنصريات دفينة انتهزت تواتر الاحداث وارهابها وسعرت الخطابات المعادية للمسلمين المباشر منها او المركب. على خلفية عريضة كهذه إذن، ومع الاختزال المُخل، يأتي نجاح صادق خان، مُقدما احد امثلة نتاج التعددية الثقافية في نسختها البريطانية. هناك إذن، شرائح مهمة من المسلمين تدحرجت بالفعل نحو الوسط العام للمجتمعات التي تعيش فيها وانخرطت فيها. صحيح ان نسب عدم الانخراط وعدم الاندماج هي الاكبر، لكن الخلاصة لا تؤشر على فشل ذريع للتعددية الثقافية حتى لو لم تؤشر على نجاح كبير لها. إذن يجلس اليوم صادق خان على كرسي رئاسة بلدية لندن في وسط سياقات تحف بها الشكوك والمخاوف، ومنظورا إليه بمتابعة لصيقة، وبأمل، وبتربص، من قبل جهات عديدة. يتأمل منه انصار التعددية الثقافية ان يقدم مثالا يعزز من مواقع النظرية التي تعرضت للإهتزاز جراء الضربات المتلاحقة من الواقع المتواتر، او التنظير الناقض لها والذي لم يتوقف. ويتربص به ناقدو التعددية الثقافية وكارهو المسلمين والاجانب سواء في بريطانيا او الغرب عموماً ليقولوا بأن ولاء "هؤلاء الاجانب" لبلدانهم مستحيل التحقق طالما انهم يتميزون عن غالبية المجتمع المضيف بهوية دينية مغايرة. وإلى جانب هؤلاء واولئك، هناك مسلمو بريطانيا الذين تتنازعهم تيارات وضغوطات وتأثيرات إعلام إتهامي. قليل من هؤلاء ومعهم متطرفون اكثر خارج بريطانيا يرون في خان مجرد عميل بريطاني لا ينتمي اصلا الى الاسلام إذ يقبل ان يكون جزءً من "نظام كافر" يعادي المسلمين هنا وهناك. هؤلاء سوف يتصيدون كل كلمة وفعل يقوم بها خان ليقولوا بأنه لا يخدم الاسلام والمسلمين من موقعه، بل يقبل بأن يكون أداه في يد "الاعداء". لكن هؤلاء قلة قليلة، والاهم منهم الغالبية الكاسحة. ومن جهة هذه الغالبية سوف يُثقل كاهل السياسي الصاعد بحجم الآمال والتوقعات المرصوفة على كتفيه، ذلك انها تقدم هويته الدينية على هويته البريطانية الاوسع. تريد منه الغالبية، الخائفة والمتوترة في معظمها، ان "يمثلهم" وينطق بإسمهم ويطالب ب "حقوقهم"، ويغير من الصورة الإعلامية عنهم، متغافلين كونه رئيسا لبلدية لندن البريطانية وملايينها التسعة متعددة الاديان والهويات والإثنيات. وثمة في الخلفية البعيدة هاجس لا يمكن اغفاله يأتي من خيبة الأمل العريضة التي غرق فيها مسلمو العالم بسبب باراك اوباما وفترة رئاسته الامريكية، وهو هاجس ربما، وفقط ربما، يدخل حسابات خان. صحيح ان هناك فوارق كبيرة جدا في الحالتين والمشهدين، لكن الخشية من تخييب آمال ملايين من الناس داخل وخارج بريطانيا قد تكون واحدة من حسابات رئيس البلدية الجديد. لا يستطيع خان وهو في الموقع الأبرز في المدينة الكوزموبوليتانية الأهم في العالم، والاكثر تعددية وتعايشاً، ولا يجب، إلا أن يكون ما بعد هوياتي وما بعد ديني. وهذه هي الطريق الاكثر رسوخاً وضمانا ليس فقط لتعزيز ثقافة التعدد والتعايش في بريطانيا، بل وايضا لخدمة مسلميها و"اجانبها" واقناع كثير منهم بأن الإنخراط العريض في المجتمع هو الوسيلة الانجع للدفاع عن النفس، وليس الانعزال والتقوقع. لا يعني هذا مطالبة خان بخلع هويته جانبا وتأكيد ملكيته أكثر من الملكة نفسها، فلا هذا ممكن ولا مطلوب، كما ان فائدته عكسية حتى لو قام به. يُساق هذا الكلام ببرود اعصاب ومن موقع الكتابة والتنظير، فيما وقع السياسة والاحداث قد يتحول اعصارا يجرف كل الحسابات الوئيدة والتنظير المُسبق. لكن وبكل الحالات يبقى ان التحدي الكبير الذي يواجهه صادق خان يتمثل في رسم توازن دقيق مُستل من دقة معادلات الكيمياء التي ينقلب الناتج فيها إلى عكس ما يُراد لو ان نقطة واحدة من هذا المكون او ذاك زيدت أو أنقصت.
#خالد_الحروب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طرابيشي.. مثقف المروءة
-
«الإخوان المسلمون»: مقاربات القطبيّة والتطرّف
-
بروفايل «الفلسطيني العادي» ... خليط الأزمنة والهويات
-
هل يستقيل عباس ويقلب أوسلو على صانعيه؟
-
رحيل فاطمة المرنيسي سندبادة فاس المعولمة (٢ من ٢
...
-
رحيل فاطمة المرنيسي سندبادة فاس المعولمة (١ من ٢
...
-
إصلاح التعليم الديني... من هنا نبدأ!
-
رحل المرنيسي ويبقى سندبادها
-
الإرهاب يدمّرنا قبل تدمير الآخرين
-
الإنتفاضات الفلسطينية تكسر الجدار الحديدي
-
عناد شبان فلسطين يقلب الاجندة
-
اللاجئون السوريون: ماذا عن روسيا وايران؟
-
المسلمون والقدس.. الزيارة والاستثمار
-
تأملات في -محور الممانعة-
-
خير جليس ... محاصرا باللغة!
-
الخصوصية الثقافية والخطاب الاعتذاري
-
سيرورة التطرف والداعشية .. ودورنا جميعا
-
الداعشية في مناهجنا الدراسية
-
كيف سيُكتب تاريخنا؟
-
خضوع الفقيه للسلطان ... وتسييس الدين!
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|