|
الانسان المتفوق لدى نيتشه
واثق حسين مهدي
الحوار المتمدن-العدد: 5156 - 2016 / 5 / 8 - 02:09
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
عشر سنوات قضاها زرادشت منعزلاً في كهفه مستغرقاً في التأمل والتفكير، متوارياً عن الناس الذين أحبهم كثيراً فاتجه إلى غابة بعيداً عن وطنه وبحيرته حتى يزيد في حبهم استغراقاً، ها هو الآن يغادر كهفه وينشد الناس فيقف أمام حشد منهم ويخطب فيه قائلاً: "إنني آت إليكم بنبأ الإنسان المتفوق، فما الإنسان العادي إلا كائن يجب أن نفوقه، فماذا أعددتم للتفوق عليه؟. إن كلاً من الكائنات أوجد من نفسه شيئاً يفوقه، و أنتم تريدون أن تكونوا جَزْراً يصد الموجة الكبرى في مدها، بل إنكم تؤثرون التقهقر إلى حالة الحيوان بدل اندفاعكم للتفوق على الإنسان، وهل القرد من الإنسان إلا سخريته و عاره؟. لقد اتجهتم على طريق مبدؤها الدودة و منتهاها الإنسان، غير أنكم أبقيتم على جل ما تتصف به ديدان الأرض، لقد كنتم من جنس القرود فيما مضى، على أن الإنسان لم يفتأ حتى اليوم أعرق من القرود في قرديته. لقد أتيتكم بنبأ الإنسان المتفوق، إنه من الأرض كالمعنى من المبنى، فلتتجه إرادتكم إلى جعل الإنسان المتفوق معنى لهذه الأرض و روحاً لها. ما الإنسان إلا حبل منصوب بين الحيوان والإنسان المتفوق، فهو الحبل المشدود فوق الهاوية."
لطالما عانى فريدريك نيتشه ذلك المفكر الجبار في إعطاء تفسير للحياة، و كثيراً ما تملكه اليأس في إيجاد هدف سام يستحق أن يعاش من أجله، لقد نذر حياته كلها في سبيل الوصول إلى الحقيقة التي عذبته ومزقت حياته، ففتش عنها في كتب فلاسفة اليونان القدماء وعند فلاسفة العصور الوسطى والحديثة وصولاً إلى شوبنهاور، و كما قال "إن عاشق الحقيقة إنما يحبها لا لنفسه أو مجاراة لأهوائه بل يهيم بها لذاتها ولو كان ذلك مخالفاً لعقيدته"، إنه لطريق وعر خطير ذاك الذي سلكه نيتشه ولكنه مضى فيه حتى أصابه الخبل و تاهت بصيرته.
لقد كان تائقاً إلى إيجاد إنسان يتفوق على إنسانيته، و لعلّ فكرة "الإنسان المتفوق" لنيتشه هي من أهم المفاهيم التي أنتجها فكره، و على الرغم من أنه لم يشر إليها إلا قليلاً في مقدمة كتابه "هكذا تكلم زرادشت"، إلا أنه قد يبدو من المنطقي الاقتناع بأن نيتشه قد كون في ذهنه طريقة يكون فيها الإنسان أكثر من كونه إنساناً مفرطاً في إنسانيته، و كما يبدو فإن هذا المفهوم يكشف عن الطريقة التي رأى فيها نيتشه الحياة من منظوره الخاص وحاول أن يرينا إيّاها عن طريق زرادشت، شخصيته الرئيسية في كتابه "هكذا تكلم زرادشت".
"لقد مات الإله ونحن من قتلناه" لقد كان هذا بيان زرادشت الأول معلناً فيه موت المعنى اللامتناهي للقيم والمبادئ الأرضية، لقد انتهى مصدر التشريع و تحققت فرصة الانتشار للعدمية السائدة، فأراد زرادشت أن يضع حلا لموت الإله و للفراغ الأخلاقي الذي ستفرضه العدمية، "الإنسان المتفوق" كما وصفه زرادشت هو ذاك الذي يكون على أتم استعداد بأن يخاطر بكل شيء في سبيل سمو الإنسانية ونهضتها، فارضاً ومؤسساً لقيمه الخاصة في عالم يلقن فيه الناس قيمهم، مما يعطيه قدرة السيطرة والتأثير في حياة الآخرين، هذا التأثير الذي سيطال حركة التاريخ لا بد أن يكون مستمراً إلى الأبد.
"‘إنني أحب من لا غاية لهم في الحياة إلا الزوال، فهم يمرون إلى ما وراء الحياة... أحب من لا يطلبون وراء الكوكب معرفة ما يدعو إلى زوالهم أو ما يهيب بهم إلى التضحية، لأنهم يقدمون ذاتهم قرباناً للأرض، لتصبح هذه الأرض ميراثاً للإنسان المتفوق" كذلك تكلم زرادشت... فلا قيمة إذن عند نيتشه للإنسان الحالي ولا يكتسب أية أهمية إلا في كونه جسراً ومعبراً لظهور الإنسان المتفوق، لذلك تراه يهزأ بكل من عده التاريخ عظيماً بين الناس، قائلاً أن الجيل الذي يلد العظماء لم يولد بعد وأن لا رجل في هذا الزمان يمكنه التفوق على ذاته وكل ما على الناس فعله هو أن يتشوقوا إلى المثل الأعلى ويضحوا من أجله بكل شيء حتى يخرج من سلالتهم في مستقبل الأزمان.
في الواقع إن إجابة نيتشه عن معنى الحياة تبدو مثخنة بالمعاناة، فمفهوم تكريس حياة بأكملها في خدمة "إنسان متفوق" آخر إنما هو دليل على عبثية هذه الحياة وفقدانها للمعنى، لقد تخيل الحياة خالدة أبدية بلا بداية ولا نهاية فهي تعيد نفسها مراراً وتكراراً، بكل معاناتها وتعاستها وآثامها، و مع ذلك فإن النقطة الأكثر أهمية قد لا تكون في أبدية الحياة ولكن في الطريقة التي يرى فيها الإنسان المتفوق هذه الحياة، فهو يراها مختلفة كل مرة عن الأخرى مما يزيده سعادة وشوقاً إلى تكرار هذه الحياة نفسها مراراً وتكراراً، و هو على دراية تامة بكل ما قد جرى فعله ويطلق تفسيراته على هذا الأساس، إنه يقدر هذه الحياة فعلاً على الرغم من تعاستها و سخافتها... كما تكلم زرادشت: "أواه! كيف لا أحن إلى الأبدية وأضطرم شوقاً إلى خاتم الزواج، إلى دائرة الدوائر حيث يصبح الانتهاء عودة إلى الابتداء. إنني لم أجد حتى اليوم امرأة أريدها أماً لأبنائي إلا المرأة التي أحبها، لأنني أحبك أيتها الأبدية... إنني أحبك أيتها الأبدية."
إذن لقد كان طموح نيتشه هو أن يرى مجتمعاً يسوده أناس متفوقون ولكل واحد منهم خيره الخاص وشره الخاص وعليه أن يزداد ارتقاءً في خيره وفي شره أيضاً، فإن أعظم شر إنما هو أعظم خير أيضاً للإنسان المتفوق، ولكن هل يمكن أن تستمر الحياة في هكذا مجتمع أم أن القوي سيأكل الضعيف حتى يقف آخر الظافرين منتحراً بقوته وعنفه كما انتحر إله نيتشه نفسه برحمته!.
#واثق_حسين_مهدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فرمت سيارته.. الداخلية القطرية تتحرك ضد -مُفحط-
-
المفوضية الأوروبية تعلن تحويل دفعة بقيمة 4.1 مليار يورو لنظا
...
-
خنازير معدلة وراثيا..خطوة جديدة في زراعة الأعضاء
-
موسيالا -يُحبط- جماهير بايرن ميونيخ!
-
نتنياهو يؤكد بقاء إسرائيل في جبل الشيخ بسوريا
-
فون دير لاين: الاتحاد الأوروبي يعد الحزمة الـ16 من العقوبات
...
-
الدفاع الروسية: أوكرانيا فقدت 210 جنود في محور كورسك خلال يو
...
-
رئيس حكومة الإئتلاف السورية: ما قامت به -هيئة تحرير الشام- م
...
-
سوريا: المبعوث الأممي يدعو من دمشق إلى انتخابات -حرة ونزيهة-
...
-
الجيش الإسرائيلي يعترف بتسلل مستوطنين إلى لبنان
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|