أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ابراهيم الوراق - مسار عمرو خالد ، وخالد الجندي ، في الميزان















المزيد.....



مسار عمرو خالد ، وخالد الجندي ، في الميزان


ابراهيم الوراق

الحوار المتمدن-العدد: 1391 - 2005 / 12 / 6 - 09:12
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


إن من يمن الطالع أن المقال الأول في هذه المجموعة قد لاقى صنوفا عديدة من الردود الذي لم يبخل فيها علينا أصحابها بالسب والتجريح ، ولم يستثن منا نبزهم ظاهرا ولا ظاهرا ، ولا مخبرا ولا منظرا ، وقد توقفت كثيرا عند هذه الردود ، متأملا ، متسائلا ، كيف نستطيع أن نوصل الحقيقة إلى عموم المخاطبين ؟؟؟ أهل نسلك معهم مسالك العلم الذي يمحص الحقائق ، ويفند الأباطيل ؟؟؟ أم ندخل عليهم من تشققات قلوبهم وحناياعواطفهم كما فعل غيرنا ؟؟؟ أم نبحث عن وسيلة نتواصل بها مع هؤلاء الذين حشدوا عقول الناس على الخرافة والدجل ، وتلبسوا لهم زي النفاق والخداع ؟؟؟
إنني قد فكرت كثيرا في طريقة التعامل مع هذه المعضلة التي احتارت منها عقول كثير من المفكرين والمثقفين في وطننا الإسلامي ، فارتأيت كما رأى غيري ، أن نفتح جبهات على مستويات عدة ، تشمل الأفكار البسيطة ، إلى المعقدة في عملية التنمية الإجتماعية ، وتحتوي على كل موارد النظر البشري ، أفقيا وعموديا ، عمقا وسطحا ، وتتفاعل مع جميع مكونات المجتمع من البنهاء إلى البلداء ، ومن النوابغ إلى الكسالى ، و*تتواقف* إلى جانب قضايا الإنسن في ترابطه بالمجتمع أو بنفسه ، وهذا المسلك في البحرير والتنوير ، لا أحسبه سهل المرام ، قريب المطلع ، لا يستدعي منا جهدا إضافيا ، وعملا متواصلا ، ولا يحتاج منا إلى زمان طويل ، وتفكير عميق
وسأحاول في هذا المقال أن استوعب ما عن لي من أفكار أراها في قرارتي سائغة تذهب بوحر الصدور ، وتقتضي طرح الأسئلة المباشرة حول بؤر عميقة تحتاج إلى نقد وتمحيص ، وتنتظر شمول البحث لها في حاضرتها المنكوبة ، فإن حصل ما أردنا فحسبنا أننا قدمنا شذرات من مشروع إعادة تشكيل العقل المسلم ، وتنظيم الروابط الذهنية عنده ، وتهذيب تعامله مع مستويات العيش الممنوح في هذا الزمان الأغبر الذي تتداعى فيه علينا حملات هاجمة على هويتنا وحضارتنا وثقافتنا ، وإن لم يحصل ، فقصارى جهدنا أننا وضحنا ما أضمرناه في ثنايا ما كتبناه في المقال الأول ، وعللنا ما انتقدناه هناك بما نعتقده صوابا محتملا للخطإ ، وسنتحدث فيه عن هذه ظاهرة الخطاب الديني الجديد ( عمروخالد ، وخالد الجندي كأنموذجين ) ببعض تفاصيلها التي تناثرت إلى ذهني ، في هذه اللحظة المتوهجة التي رأيت فيها رغبة من نفسي ، في كتابة مقال جديد ، أضيفه إلى سابق ما قررته في عمرو خالد من آرآء لم أرني متنازلا عليها لضعف الردود والتعليقات التي جابهتنا ، ولإنعدام ما يستوجب تحريك ضمير خاضع لمقاييس يشعر معها بصدق الحجة ، وصراحة الموقف .
في البداية سأحاول أن أتحدث أولا عن ثاني الأثافي التي تبلورت صورتها في أذهان الكثير من المتتبعين للقنوات الفضائية المتاجرة بالإسلام ، هذا الرجل الثاني في هذه الحلقة هو خالد الجندي المصري الذي يعرفه شباب فيديو كليبات الإسلامية ، ثم اعرج أخيرا على أهم المعالم التي أستسيغها سببا لتنامي هذه النغمة الجديدة ، والظاهرة الخالدية
هذا الرجل الثاني (خالد الجندي ) لا يكاد خطه يخرج عن مرسوم خط عمرو خالد ، سواء في طريقة الدعوة ومنهجها ، أو في استمالة العواطف والأحاسيس بالكلام العابر لسقف العقل الى حنايا العاطفة ، أو في تناول جزئيات لا تمس جوهر الدين ، وعضد الشريعة ، فحين ننتقد عمرو خالد ، فإن خالد الجندي ، مستهدف بذلك ، من باب الدلالة الضمنية ، لأنه إحدى مصاديق هذه الدلالة بالإلتزام أو بالتضمن
فعمرو خالد - رغم ما رد به مقالنا الأول من تهم غير مستقيمة في منهج الرد العلمي ، ولاثابتة في معيارية التصحيح والتضعيف العقلي ، - قد أثبتنا عوار منهجه ، وسقم حجته ، وفساد مسلكه ، وحررنا ولو بالإشارة ، أوالإيماء طريقته في ترتيب عقليات شبابنا بأفكار بسيطة -تضخمها الصورة وطريقة العرض - تبعد وظيفة العقل العلمي ، والآليات المفكرة في الذات ، بتلك الوظائف السلوكية التي لا تشكل جوهر الإسلام ولا عمقه ، ولا تستوعب الطرح الشمولي للقضايا الكبرى في العقيدة (نظرية المعرفة ) والعبادة ( المبنية على اليسر ورفع الحرج فيما لا حرج فيه ) والسلوك ( التفاعل مع الآخر كائنا من كان ) ، وهذا ما يعنى في الثقافة الحديثة بنظرية التجزيئ المفككة لمجموع الدين ( أو الفهم الذري التفكيكي ) ، وهي التي أوقعت قديما وحديثا ، في فهوم خاظئة ، وأنظار بعيدة عن روح الشريعة ومقاصدها ، وأحاطت عقولنا بغلالة السلبية والتجريد والإقصاء ، وأبقتنا أسارى لهذه الطريقة- المجزئة للدين - والتي تغلب وإلى اليوم على عقليات كثير من المسلمين الذين لا يتقنون فن التعامل مع الدين ككلية موحدة ، تتشاكل فيها جميع المظاهر والأشكال ، وتتناغم فيها الأجزاء والفروع فالخطباء والوعاظ في المثل ، يركزون على حديث واحد ، أونص منفرد ، دون استحضار الوحدة الكلية للموضوع ، فيخوضون في الشرح ، ويسرحون في الإستخراج والإستنطاق ، بدون ان يراعوا ما يرتبط به االنص المتداول من وحدات أخرى ، وأجزاء مكملة لتركيبة الموضوع والمحمول ، فيتشكل عند الكثير من المستمعين لهم ، أن الموضوع يعاني حالة من التناثر في عالمه ، ويعيش وحيدا في حياته ، لا يتساوق مع فصيلته ، ولا ينسجم مع مفرداته وهذه معضلة كبيرة لا يمكن معالجتها إلا برؤية الإسلام كلا ، أو جميعا ، لا يقبل التشييء ولا التجزيئ ، والمتتبع لهذه الموجة الجديدة يلحظ هذا في خطابات عمرو خالد ، وخالد الجندي ، وعلماء الإعجاز العلمي ...!! وغيرهم ممن لا يتحركون إلا فلك الفضائيات الرابحة ، وحين ننتقد هذا المسار فإننا نعتب على أنفسنا وعلى غيرنا ، ممن لهم حق التقرير ، والتحرك في بناء مصير الأمة ، ونعنف جمود مسارنا ، وكل مسارجدي لم يتمنهج في طرق مقبولة في منطق الحضارة ،ولم يتحرك بقابلية إحداث التأثير والتأثرفي حدود النظرة العامة للمنطلقات والوسائل والثمار ، فلماذا لا نسعى كوزارات مهتمة بالشأن الديني ، أو كمؤسسات ترغب في صلاح الأمة ، أو كأفراد يكتبون عن هموم الأمة وتطلعاتها ، إلى أن تكون لدينا خلايا للتخطيط ، تدأب الخطى لوضع استراتيحية للعمل الديني ؟؟؟ ولماذا لا نحاول أن تكون لنا دورات وجامعات ربيعية وصيفية للتكوين الديني ، والتثقيف المذهبي ( عند من يرى رعاية المصالح الكبرى في وحدة المذهب ككاتب المقال ) ؟؟؟ ولماذا لا نتحرك في نطاق الفعل المضاد بالتأصيل والتبديع والتجريح في التأطير الديني ؟؟ ولماذا ننتظر فرصة خارقة تتدخل في تبيان الحق ، وإزهاق الباطل ، حتى تنغلق على هؤلاء الأجواء ، ويتكدر الهواء ، و يتلوث المكان في حلوق أو مسام الذين يتاجرون بالدين؟؟
وللحقيقة نقول : إن عمرو خالد ، أوخالد الجندي ، أو غيرهما لن يستطيع أي منهما أن ينفع الأمة بشيء ، ولا أن تستفيد منه علما ولا عملا ، وهذه حقيقة قد لا يقبلها من رأى بعض المظاهر التي بدأت تنتشر في وسط المتدينين ، مع فراغ المحتوى ، كظاهرة الحجاب مثلا ، لأن المشكلة الكبيرة عندنا كأتباع للإسلام ، ليست قائمة في جزئيات بسيطة ، أواعتقادات يمكن حذفها بإعاضتها بغيرها ، بل هي أعقد من أن يفهمها عمرو خالد ، أوخالد الجندي ، أوغيرهما ، فمشكلة الأمة ليست في قشور ينصب عليها غرامهم الداخلي فيخالونها علاجا دائما ، أو شفاء ناجعا ، ثم ينقشع الصباح ، فإذا بالعلاج القاضي على أصل العلة ، يصير مرهما آنيا أو مرحليا ، لا يستطيع مقاومة الوضع الحقيقي الخافت من وراء هذا الوهم المسيطر والمستبد بالعقل ولو لأيام عديدة .
إن مشكلة الأمة لم تعالجها الخطابات الدينية الصريحة ، والأعمال الإسلامية الشارحة للوضع على ما هو عليه في حقيقته ، ( أيام ان كانت الخطابات مركزة على إظهار محاسن الإسلام أمام الفكر الليبرالي الرأسمالي ، والفكر الشيوعي الماركسي ، أيام أن كانت الأبواق ترتفع بقيمة الحضارة الإسلامية الروحية !!!، أمام الحضارة الغربية المادية !!! ، أيام أن كانت التحركات موجهة إلى الصعود في انتخابات هيئات الطلبة في الجامعات ، أو الفوز بمقاعد في البرلمان ، أ وفي مجلس الشعب ، ردا لهجوم االتيارات والأحزاب المتعلمنة والماركسية ) ولم تقدر رغم ضخامة أتباعها ، وارتفاع مستوى تفكيرها ، أن تغير من قيم التفكير عند الناس شيئا ، أو أن تدخل تعديلا ظاهراعلى خريطة المجتمع الإسلامي ، اللهم إلا ما كان من نواح طالها التحوير في التفكير الديني عند كثير منا ، فقد تحول الإسلام بسبب هذا إلى معلاق تعلق عليه كل الآمال ، في الإقتصاد ، في السياسة ، في الإجتماع ، في كل ميدان من مجالي الحياة ، وحين نطالب هؤلاء في زمننا هذا بهوية هذا الإسلام الذي يريدون تنفيذه ، أهل هو إسلام مستورد من إيران ؟؟ أم من باكستان ؟؟ أم من افغانستان ؟؟ أم من مصر ؟؟ أم من أي مكان سيستورد هذا الإسلام ؟؟ تجدهم لا يطيقون الإجابة ، فهل هو إسلام حركي ؟؟ أم جهادي ؟؟ أم سلفي ؟؟
وحين نطالب هؤلاء أيضا بتحديد نوعية الدولة التي يطالبون بها ، لا يعدو أن يكون كلامهم نوعا من الدعاية الفجة التي لا تطيق إلا التحايل والخداع ، فمن الدولة القطرية ، !!! إلى الدولة الأممية ، إلى الدولة المعولمة ذات الجناح الواحد
فتحديد نوع من هذه الأصناف وغيرها ، لا تمتلك التصاريف الفكرية في تشكلاتها على أرض الواقع أن تفرضه علينا ، لأن الخيار للأقوى الذي يمتلك اليوم حضارة علمية قوية تتدخل في تقرير مصير الشعوب ، أما الأسلاميون فحسبهم أن يغيروا اللباس بما يفرضه الطقس السياسي ، فرب قائل يقول : إنها تجارب قديمة مضت ولم تفلح ، وسنكرر الطلب لعله سينال صدفة من القدر فيتحقق الحلم ، فهذا لا اعتراض عليه ضرورة ، لأنني أعلم أننا لن نصل مع المتحجرين إلى عائدة وفائدة ‍‍‍‍!!!!! ونحن نقول له : إن الماضي هو الحاضر ، فماذا حققه هؤلاء في الماضي ، حتى يكون أنموذجا للحاضر ؟؟؟؟ فهل الرؤى تغيرت ؟؟ وهل المنطلقات تحددت ؟؟
إنني أود هنا أن أشكر كل الذين قرأوا مقالي الأول، من كتاب ، وصحفيين ، وسياسين ، كما أشكر الذين نصبوا لنا مجانيق السب والشتم ، كما أشكر كل المستفسرين عن سبب كتابة هذا المقال ، وعن الدواعي الكامنة من وراء الإصطكاك بهذه الطود العظيم ، وعن مقدار الإتاوات التي حصلت عليها ممن يرضيهم هذا المقال ؟؟ وتالله لا أدري من هم ؟؟ اليهود !! النصارى !! الله أعلم بهوية المستفيدين من هذا المقال ، إنه الشيطان الذي أرضيته ، كما قال أحدهم !!! وإنك أخي حين تقرأ ذلك في تعاليقهم ، لابد أن تلمس كثيرا من أمثال هذه العبارات الدالة على عماية في الظن ، وقد رددنا عن بعض ذلك مما نرا ه مؤهلا للرد ، أو احتمت فيه الثائرة على معتقدنا ، فرددناه بما لا نعاب عليه من باب (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بما اعتدى عليكم ) ، ويعلم الله أننا لم نر مسوغا للرد العلمي على هؤلاء ، لأنهم لا يتوفرون على أدوات معرفية تجعلهم يتعرفون على الأحكام المتعلقة بهذه القضايا ، وينتقلون إلى المشاريع التي يتبنى الطروحات الحضارية لمشاكل الأمة ، فجهالة الكثير بموارد الصواب والخطإ ، يحطم هذه الخيارات ، ويجعلها ذرات تذروها الرياح ، وقد وعدت بعض المعلقين بتحرير رد علمي على عمرو خالد ، وغيره من اتباع هذه الموجة ، لكنني حين بحثت وجدت عشرات الردود عليه ، فلا أراني محتاجا إلى تكرار ردودهم التي لا ينبني عليها مزيد فائدة ، وسأكتفي هنا بمناقشة منهج الدعوة التي يعتمد عليها عمرو خالد ، وخالد الجندي بدون أن أرتب مقالي بالطرق المنطقية التي تؤسس فيها النتيجة على المقدمة ، وعذري أنني أقتطع لنفسي منهجا في الكتابة يعتمد على ذكر القرائن والأسباب والوجوه ، وأدع الحكم عليها للقارئ الذي بإمكانه أن يربط بين الخيوط المبثورة برابطة من عنده ، توصله إلى لغة ما بين السطور التي أرمز اليه بهذه الدوال اللغوية ، فهذا المنهج شخصاني تغلب عليه طريقتي في الكتابة الذاتية
فمن هو خالد الجندي ؟؟
هذا الرجل ظهرت صورتة مع الفضائيات الإسلامية !!! ، وسطع نجمه خصوصا مع فضائية أوربيت ، فهو كعمرو خالد من مصر التي أنتجت الكثير من الدعاة الصادقين جزاهم الله خيرا ، والمخادعين ممن يشملهم حكم التنافس على البروز في الفضائيات الإسلامية التي تتاجر كما قررنا بعواطف المسلمين وهمومهم ، فخالد الجندي ظهر على شبكة أوربيت ، وعمرو خالد ظهر على فناة اقرأ المنتمية إلى السلسلة الذهبية!! أ ر ت
وكلاهما كان له حضور في إحدى هذه القنوات ،.... والمشاهد العربي يلاحظ معي تنافس هذه القنوات في عرض المشاهد الجنسية المثيرة للرعونة ، والمتنافية لدعوة هؤلاء العلماء !!! والتي تمتنع عن عرضها قنوات أخرى ، تحريزا على الآداب العامة ، واحتراما للذوق ، فلم اختار هؤلاء هذا الفضاء الجنسي لنشر دعوتهم ؟؟ أو لنعكس السؤال جنبا ، لماذا اختارت هذه القنوات للظهور عبر شاشاتها أمثال عمرو خالد ، وخالد الجندي وغيرهما ؟؟ فكوني وعموم المشاهدين من المتتبعين لبرامج الفضائيات ، نتساءل عن السبب ، ونستفسر عن سر اللعبة التي لا تنطلي بوضوحها ، إلا على العقول التي لا تعرف إلا الأفكار الجميلة !!! (التي ضاع الإسلام معها .... ، لأنها تخدع بمعسول الكلام ، وترشق بعبير المقال )، ولا تقبل لنفسها أن تتساءل عن سدى ولحمة كل حركة وفكر ، أو ترضى بالحلول الجزئية الترقيعية .
إن خالد الجندي ، خريج الأزهر الشريف الذي لا نعرفه إلا من أيام سيرة طه حسين الذاتية ، وعمرو خالد كما قررنا ، لم يتلق تعليما دينيا ، وهذه مفارقة أولى بين الشخصيتين ، وإن كان بينهما أوجه شبه في مجموعة من القيم ، فهذا الأزهري بإمكان شهادته العلمية أن تؤهله لمنصب الدلالة عن الله ، والخلافة عنه في تبين الحلال ، وتحريم الحرام ،!!! وعمرو خالد لا تخوله شهادته إلا عد أرصدة العلماء المتاجرين بالمشترك بين الإمة (الدين ، الحضارة ، القيم ..) المكدسة في البنوك
فأمثال هذه الشواهد الدينية كثيرة في أوطاننا الإسلامية ، ولكنها وللحقيقة أقول: لا تدل على اجتهاد أصحابها في المواد الشرعية ، ولا تفوقهم في تذوق مفاهيم العلم الشرعي ، فالشهادات والشارات العلمية لا ترشد إلى وجود العلم ، ولا تدل على انعدام الجهل ، ولا تقف دليلا على التحصيل ، لكن الذي يقدس الشهادة ويحكم لها ، أو عليها ، ذلك الإنتاج العلمي ، أو ما يسمى بالملف الإبداعي ، فالميزان الذي يجب أن تصرف إليه هذه الشواهد ، هو مقدار إنتاجيتها لقيم العلم ، والتعامل مع الحياة في حدود الإبتكار، فماذا أستطيع أن أقوله ؟؟ إن هو إلا ألم ممض ، يقول معه الكاتب ، ماجاءنا من علم ولا ابداع من هؤلاء الذين تثاقلت حقائبهم بالشواهد ، ورءوسهم بالشارات
فكم من شواهد زورت ، !! وكم من امتحانات سربت أجوبتها ، وكم من غشاش إستحق الرتبة الأولى !!! وكم من راسب نال جزاء تفوقه !!! كل هذا أحكيه والتاريخ جبار ، وسيعلم الذين صاروا اليوم أساتذة وعلماء أي منزع ينزعون !!! فمافائدة هذه الشواهد إذا كان أستاذي في العربية أو الدراسات الإسلامية لا يعرف شيئا عن اللغات الأجنبية ؟؟؟ بل كيف استطاع أن يجتاز الإمتحانات التي يشترط فيها تعلم هذه اللغات ؟؟ وكيف حصل على هذه الشواهد ؟؟ إنه الغش والخداع والكذب ، وهل ننتظر من أمثال هؤلاء أن يخدموا الأمة وقضاياها المصيرية ؟؟ وهل ننتظر من هؤلاء أن يكونوا نماذج حقة لحديثهم على المنابر عن الغش والتدليس ؟؟
فالفارق بين عمرو خالد ، وخالد الجندي ، كما ذكرنا ، هو التخصص ، فالأول رغم تخصصه الإقتصادي ، قد فاق الثاني من حيث كثرة ونوعية الأتباع ، لأن الأول أحكم ديباجة اللعبة ، والثاني ، ولو ألانت لسانه بعض المفردات الدينية ، فإنه لم يرق بمستوى وعظه وخطابه إلى درجة التباكي المخادع ، والسبب في حدود اعتبارنا أن الكثير من أبناء الإسلام لا يفهمون أريحية الإسلام وحيويته ، وإنما عرف ( مضعف مجهول !!) لهم على أنه دين الشدة والجفاء ، ومورد القسوة والغلطة ، والباعث على المشاعر الحزينة ، والأحاسيس الغامظة .
فالدعوات التي تسترق القلوب ، وتستعطف الجيوب ، وتتوسل بإسم الدين ، شأنها هكذا ، تعتمد على تصوير الدين مستوعرا ، وتبليغ عقل المسلم إلى درجة من السمو الهلامي الذي يرى فيه تكاليف الدين متعالية في الصعوبة لا يمكن الوصول إليها إلا بزوال الذات ، والتمرغ ، أو الموت في حضن المتبوع المراد تتبع خطواته !!! قدريا بنص الواسطة والوسيلة المؤولة بما يقتضيه التحريف المقصود ، من مشيخة نصبت نفسنا آلهة دون الله ، أو من علماء لا يرون الحقيقة إلا ملكا لهم تحيى في قفصهم ، وتؤول إلى وكرهم ،وتنتهي إلى دائرتهم ، ويعد كل خروج عن هذا الخط مهيعا لا تؤمن خطورته ، ولا تسلك جادته ، فاستمرار هذه التصورات في مسارنا الديني ، سيجعل الإسلام نسخة بشرية كما حكى القرآن عن الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، وسيجعل الفكر الديني يلف قماش البشرية الحادثة على المطلق القديم الموضوع علاجا لتعاقب الزمن ، واستدارة الأكوان ، ثم إن تطاول بنا الأمد كما حدث لنا ، سنكون بين يدي دين يخنق نفسه بيديه ، فيصح في حقه أن يوصف بدويبة القز التي تقتل نفسها بنسيجها
والسبب الثاني الذي أراه في تفوق عمرو خالد على خالد في كثرة الأتباع ، ,وإن كان ذلك كمفهوم ( الأكثرية ) لا تزكي عملهم ، ولا تقربهم من الصواب ، أن خريجي المدارس الدينية يكونون عادة في بعد عن الحياة العامة التي تتحكم فيها قيم أخرى ، لا يراها طالب العلم إلا نوعا من المحال الذي لا يحق له أن يصل إليه ، وإن حاول فإنه لن يجد الطريق معبدا للبلوغ إليه فهل يعرف طالب العلم الشرعي ، نعومة الحياة ، ورقة الطبيعة ؟؟ وهل يعشق الجمال والحياة ، ويتمايل طربا للعود والأوتار؟؟ كل هذا لا أرى طالب العلم إلا بعيدا عنه ، خصوصا طلبة العلم الديني ، الذي لا يحمل إليه إلا أبناء الفقراء والمساكين قهرا ممن لم تهذب الطبيعة أخلاقهم ، ولم تلن الحضارة قناتهم ، ‍‍‍‍‍‍!!!! ولا تعرف أحصرته اليابسة إلا ركبا ممعزة تجثو عليها غيضا ويأسا ، ( وهذا كثير ، والنادر لا حكم له ) فكيف نتصور ممن هم من هذه الطينة ، أن يكونوا أهلا للفتوى التي تحتاج إلى فهم للواقع بلفه ونشره ، وإلمام باللحظة التي تعيشها الأمة ، وهذا إن صح تسميته بفقه اللحظة ، فهو من القيمة بمكان
وفي الواقع نرى هذه العينات تعيش بخلاف المدارس النظامية التي يغلب عليها الإختلاط والتحرر ، فعمرو خالد أنموذج للمدارس العصرية ، وخالد الجندي من الطراز الآخر - خريج مؤسسة لا يسلم طلبتها من مغامز أخلاقية يرتادونها ليلا أو نهارا -سيما إذا رفع عمامته !!! واقتبس لباسه الأزهري ، وحمل السبحة المذهبة ، ولا أدري أهل هي ذهب خالص أم لا ؟؟
إن عمرو خالد كما نعلم ، قد امتهن مهنة المحاسب ، وخالد الجندي ينشر ويستورد ويصدر ، ويعد هذا مؤشرا ، أو قاسما آخر مشتركا فيما بين الشخصيتين اللتان احتضنتا أحلام وآمال شبابنا المسلم ، ولقائل أن يقول : أهل إمتهان مهنة المحاسبة ، أو النشر والتصدير والإستيراد ، حرام في الشرع ؟؟ فنقول له : ومن أين فهمت هذا ؟؟ إن عالم الدين من باب الورع ، يجب أن يكون ممتهنا للحرف الشريفة ، مستقلا عن عطايا الناس وهباتهم ، حتى لا تكون كلمته مبتذلة ، ووعظه ساقطا من أعين سامعيه ، فعلماؤنا الذين تؤول إليهم الإجتهادات الفقهية القديمة ، كانوا معروفين بمهن خاصة ، عرفوا بها عبر التاريخ ، فالغرابة عندي، ليست في المهنة ، وإنما في تحول التاجر إبتداءا إلى عالم دين !! يصول ويجول في دورب الفتوى بدون مراعاة للشرائط التي تقف كمنارات يهتدي بها المجتهدون - في إطلاقهم ، أوفي حدود اختصاصهم داخل مذهب معين - إلى استنباط الحكم الشرعي من الأدلة المكملة للنص القرآني ، كما هو معروف عند علماء الأصول ، فليست الفتوى بصعبة أيضا على التاجر الضليع التي تملك أدوات تحليل النص الديني ، وتشربت مداركه روح الشريعة الإسلامية ، ومقاصدها الكبرى ، لكنها عسيرة على تاجرنا اليوم ، صعبة على المضاربين بأسهمهم في يم المعاملات الدولية والوطنية ، والسبب واضح ، والقصد معروف ، وهو تشعب فروع الثقافة الإسلامية ، وكثرة التخصصات التي أحدثت في الثقافة الدينية ، فعالم الدين اليوم يلزمه تتبع ما تدبجه المحابر والمطابع من إنتاجات علمية ينتفع بها في تقريره للرأي الديني ، في النوازل المستعصية على العقول الكبيرة ، بله الصغيرة ، فلا يستفاد من علم عالم اليوم ، ما لم يطعمه بالثقافة الإنسانية والكونية ، حتى تتكون لديه ملكة الفهم على أسس رصينة تجعل صلاحية الشريعة مستمرة وممتدة على الزمان والمكان ، أما أن يفتي كل من يطقطق حبات السبحة بأنملته ، ظنا منه أن الباب مفتوح لكل متسيب ، ممنوح لكل متسكع ، فهذا عين العوار الذي أصيب به الكثيرون ممن يقولون : نحن لا نفتي ، ‍‍‍!!! وإنما نقص أو نعظ ، وتلك بلية أخرى من خزايا عمرو خالد ، وخالد الجندي ، وليتي بهم لو أدركوا زمن عمربن الخطاب ض لأشبعهما ضربا بدرته ، خصيصا ذلك المسمى بعمرو خالد ، فهو الذي يعتمد كثيرا أساليب القصاص !!!!الذين حذر منهم الإمام السيوطي في كتابه ، و ابن الجوزي في تلبسيه
أما تغليطهم لعموم الأمة بأنهم لا يفتون ، فهذا أس الكذب ، وعين الزور ، فهل غابت عنهم حدود الفتوى ؟؟ أم تخفو من وراء هذا التضليل خشاة الإفتضاح ؟؟ إن تقريرهم بصوابية مسلك من المسالك ، أو تخطئة سلوك من السلوكات ، يعد رأيا ، والرأي ولو لم يكن فتوى ، فهو في مجال التحليل والتحريم فتوى ، خصوصا إذا صدرت ممن يزعم أنه عالم دين ، أو واعظ ، فيأخذها عنه شبابنا ممن لا يفرقون بين التبر والتراب ، ولا يميزون بين الغث والسمين ، بعجرها وبجرها ، فينعقون بها في المجالس ، وكأنها أحدوثة أو حديث لا يقبل الرد والنقاش
والمتتبع لحركة الفقه في وطننا الإسلامي ، يلمس تضلع المجالس والمجامع العلمية بهذه المهمة الكبرى ، التي يسبب إنفلاتها انفجارا أو بركانا من الدم ، كما حصل في كل التفجيرات التي استهدفت الأبرياء والعزل من المدنيين
والمجامع العلمية ، والهيئات الرسمية ، تتكون من متخصصين في مجالات عدة من فروع الثقافة ، حتى تستكمل الفتوى جميع شرائطها التي تنضبط بها مع مستحسنات العقل ، ومواطئات المجتمع ، مما يعد تقريبا من الفهم الصحيح للنص الديني ، او حقيقة من حقائقه
وقد استمعت إلى حلقات من وعظ الجندي ، وآخرها في قناة البحرين ، وهو يتحدث عن آيات الطلاق ، فبدأ في تمطيط الكلام وتمديده ونشره ولفه وتقليصه وتجعيده ، فتعجبت من هؤلاء العلماء ، ومنهم سنة وشيعة ، وهم محدقون به ، ينتظرون مزيدا من غزارة علمه ، والأدهى أنه يشعر من خلال رسائله إلى أذهان المستمع ، أن القرآن أراد هذه الحقائق ، وهذا من تخريفاته وتمخرقاته ، أو كأنه يقول لهم لقد أتيتكم بجديد من اعجاز نظم القرآن الذي لم يكتشفه الجرجاني والباقلاني ، وهذا من التلاعب الذي يوقع الناس في الزلل ، ويوردهم المهالك ، لأن القرآن سيتحول مرة أخرى ، الى ظاهرة لغوية وبلاغية ، ونظما (معجزة ) كما كان في الزمن الأول ، وأيام اشتجارات الفرق الكلامية ، فيغيب القرآن عن العمل والتأثير في الأمة
كما أنني لا حظت في كلام هؤلاء الفقهاء الجدد ، أنهم لا يحترمون المواطنة في عقول متتبعيهم
وهذا أمر آخر قد سبب حنق البعض ، وبغض الآخر للأنظمة كلها ، مما يعني أننا لا نريد من خلال وعظنا سلميا إجتماعيا ، ووئاما أخويا على المصالح الكبرى للأمة
وللدلالة على هذا التعسف الذي يمارسه هؤلاء ضد المواطنة الصادقة أمران :
أولا
أننا نعيش في مجتمعات مدنية ، ترتبط بنظم الدولة وقوانينها التي تصادق عليها الهيئات التشريعية ( وهي ملزمة لكون الإمامة عندنا ليست من اصول الدين ، وأنما هي من المصالح التي تتفاعل فيها عقول أهل الحل والعقد ) في أوطاننا ، وهذه القوانين تدور في فلك القوانين والمعاهدات والمواثيق الدولية التي تقررها أمم الكون بغض النظر عن حالها الراهن
فهذه القوانين الكونية ، لابد من مراعاتها في الفتوى ، والوعظ ، والخطابة ، حتى لا ننسبها إلى الكفر ، زعما أن لا حاكمية إلا لله ، أو أن المشرع هو الله وحده ، أو نخفف من ارتباط المواطن بها ، فنحدث عنده صخبا فكريا يدعوه إلى التطاول على أمن الدولة واستقرارها ، فلا بد من تفعيل الخطابات الدينية مع القوانين المدنية والدولية ، التي لا تخرج عن كونها عرفا يأخذ به بعض المذاهب ، أو نصا في المصلحة المرسلة التي يعد الإستحسان العقلي جزءا منها ، ولا بد من تيسير فهمها على المسلم حتى لا يشعر بعزلة عن العالم الذي نعيش فيه ، ونحتاج اليه ، ونرغب في الوصول إليه
ثانيا
موقف هؤلاء من الغرب ومن حضارته ، فلقد لاحظت أن الكثير من هذه الخطابات تعتمد على تهجيين الغرب واحتقاره ، بل من الخبث الذي يمارسه هؤلاء ، أنهم يزرعون في عقول كثير من أبنائنا ، أن الغرب سبب مشاكلنا وأزماتنا ، ولو كانت هذه المشاكل خللا بنيويا في عقولنا كعرب ، أوغيابا للظروف الصحية لبناء مجتمع تنموي متطور، وحين نتحدث عن الغرب نتحدث عن الحقد الذي يغرسه هؤلاء في أفئدة فارغة ، حول اليهود والنصارى ، وعن الديانتين السماويتين ، وهذا إن لم يكن له تأثير على مسارنا في أوطاننا العربية التي لا تتكون من أقليات إسلامية او مسيحية ، فإن تأثيره سيكون سلبا ، في دول يتعايش فيها المواطنون بسلم وسلام ، بغض النظر عن دياناتهم ومذاهبهم ، وإن حدتث حروب أهلية ، أو ظلم اجتماعي ، بسبب وعظنا الديني ، ولا تحدث عادة هذه النعرات إلا بسببه ، فإننا سنعيش مشاكل كبيرة على مستوى المواطنة الصادقة
والذي يؤلمني وأنا أرى غالب هؤلاء يتسكعون في طرقات باريس ، أولندن ، أو واشنطن ، ولكنهم لا يعشقون إلا الحرية ، أو المال ، أوغيرذلك ، مما نحتاج ان تمدنا به أوربا وأمريكا ، ولو كان على الأقل لجوءا سياسيا ، كما فعل بعض المجرمين الذين استضافتهم الدول الغربية ، ومتعتهم باللإحتماء بها ، والإختباء في سراديبها ، وعندما سمنوا تنكروا للجميل ، فابتغوها عوجا بإرهابهم الفكري والديني والنفسي والجسدي ، فهل امثال مؤهلون لحماية معتقد المسلمين الذين يعيشون غربتهم عن أوطانهم ؟؟ وهل أمثال هؤلاء يتمتعون بخلال الإسلام التي لاتبيح الغدر والخيانة ؟؟ وهل يعد هذا خيانة أو وفاء بالعهد للدول التي انتشلتهم من الفقر والحرمان الذي عاشوه بسبب تنكر مجتمعاتهم لهم ؟؟
إنني اتعجب من أمثال هؤلاء ، وهم يرون أوربا وأمريكا غنيمة لهم ، بل يقوم أحدهم على منبرالمصطفى صلى الله عليه وآله ، وهو من هو تخلفا ورجعية ، ويقول : اللهم اجعل نساءهم غنيمة لنا ، !!!أليس هذا دعاءا مضحكا ؟؟ تالله لا أدري ماذا يريد هذا من نساء أوربا وأمريكا لو كن غنيمة له ؟؟ أهل يريدهن ليعلم لهن الدين الذي أباح له كره الناس واحتقارهم ؟؟ أم يريدهن للعقدة التي استحكمت بوثاقها على عقول هؤلاء
فهل احترم هؤلاء عند عموم الأمة مبادئ المواطنة بمفهومها الموضوعي والشامل ، وهم يسعون إلى تخريب أوربا وأمريكا ؟؟؟ بل تخريب العالم بعدما كبدوا مجموعاتهم التي ينتمون إليها خسائر فادحة على مستويات عدة
عود على بدء
إن عمرو خالد ، وخالد الجندي ، كلاهما قد استطاع أن يصل الى قلوب الطبقة المرفهة ، في أوطاننا ، والمنعمة من أصحاب الشقق الفاخرة ، والعمارات الشاهقة ، والفيلات المونقة ، والسيارات الفارهة ( مثل سيارة الأستاذ خالد الجندي ) لأنها كما قال الجندي : ذات سلطة ونفوذ ، فكلاهما قد نال حظوة ومكانة في قلوب هؤلاء الذين لا يعرفون مشاعر رحيمة ، ولايشعرون بشفقة انسانية ، بل لا وجود للعواطف النبيلة داخل أفئدتهم المصتدئة ، ولامكان للإنسانية في تفكيرهم المهترئ ، وهذه حقيقتهم وهم يعانون انفصاما ذاتيا ، وأمراضا عصابية كثيرة ، ويتزلفون إلى المشعوذين والدجالين ممن يتوهمون منهم خلاصا ، وانقاذا لهم من كوابيسهم المزجعة ، وأحلامهم المفزعة ، وإنني حين أذهب هذا المذهب لا يفهم منه ، أنه حقد الفقراء على الأغنياء ، ولا جهل المنكور - كما قالت بنيات عمرو خالد في ردودهن -بالفنادق المصنفة من العيار الثقيل ضمن الشبكة العالمية للفنادق ، ولا بداوته المفرطة كأنه ابن الصعيد أو نائب في الأرياف ، كل هذا لم يعرف به الكاتب ، فهو ابن عروس تطل على المحيط الأطلسي بفنادقها التي لا تعجبه إلا في فصل شتائها ، وهي جاثمة تحت ركام من السحاب المتراكب ، الذي لا يذكره إلا بأفكاره ، وهي تتراءى له على شاطئ أغادير ، أو على ضفاف ابي رقراق ، وهي يسترق موسيقى النوارس ، وتغني معها للأمجاد الذين مضوا بخناجرهم وزماراتهم ودفوفهم وهم يتحلقون في رقصات تذكره بأول سطر في وجوده الذي لن ينس تركيبه بين مد وجزر الحياة ، لكن العجب عنده قد حصل حين عاشر هؤلاء الأغنياء ردحا من الزمن ، فلم ير منهم إلا واضعا كف حائر على ذقن مائل ، يستنجدون الأشجار والأحجار والأودية أن تمنحهم عطفا ولينا ، فمن أفقر شعوب العالم ؟؟ ومن جوع إفريقيا التي تتمتع بخيرات هاجرت إلى مدينة تفوح منها عطور أدغال افريقيا مع مسكة النسيم التي تتحامى بين الوهاد ، وتتموج مع التيار ، وترتفع مع السحاب ، لتحملها مواد مكررة تغزو عقولنا العربية المهجرة إلى مرافئ التاريخ المنسي بين ثنايا العمائم وافخاد النسوان ؟؟ ومن شكل هذه الطوابير من الجوع الذين تمتلأ بهم جنبات الكون ، وهم يستعطفون رضى الأفكار الدينية لعلها تجود معها الأيادي بالصدقات والعطايا ؟؟ ولا أدري إلى أي رقم سيصل الفقر فيتحول الكير الى نافخ لشرارات الحقد المتناثرة مع كرويات الدم الذي تظنه الأفكار الدينية غسالا للخطيئة والذنب ؟؟؟فمن العاصم من عقاب المجتمع الذين سينزل لا محالة على رقاب الذين لم يرحموا الإنسان ، ولم يحترموا كرامته ، ولم يعزوه كما أراد بحريته ؟؟ ومن أين الطريق الى عنان السماء لتقبل دعوات البطون المتدسمة بالمال الحرام ؟؟
إن حفنة الأغنياء مطالبة شرعا وعادة وإنسانية برد ما انتهبت ، وإعادة ما أخذت ، ولن يرحمها بكاءها بين يدي عمرو خالد ، وخالد الجندي إلا برد المظالم التي اقتطعتها بغير حق ديني ، ولاموجب شرعي ، وهذا كما هو معروف شرط موجب لقبول التوبة ، إما اظهار الرجعة إلى رحاب الدين بقماش على الرأس ، او بلحية تسبل على الذقن ، أو بإظهار بعض الحركات الخاشعة في المسجد ، لا يغير من واقع الذنب شيئا ، ولعمرو خالد ، ولغيره أن يعرف بأن الذنب اذا تجاوز حدود الفرد إلى المجتمع ( حقوق العباد ) يسمى ذنبا متعديا ، لا تصح التوبة منه بدون استحضار الطرف الثاني ، خصوصا إذا تعلق الذنب بمقاصد الشريعة الخمسة ، من مال وغيره ، خلا العرض فيتجاوز فيه ، لئلا يسبب ذلك ضررا أقوى ، فيحترز من ارتكاب الأخف دفعا للأقوى ، وهذه تحريرات الفقهاء اعتمادا على النصوص الكلية والمبادئ العامة للشريعة الإسلامية ، وحين نساءل عمرو خالد ، أو خالد الجندي ، وهما قد تحولا بين قصور الأغنياء ماذا تغير من واقع احوالهم ؟؟ وأقصد هنا أحوال الأغنياء ، كما أقصد أحوال هذين العالمين اللذين لم يزدهما اختلاطهما لهذه الطبقة إلا قربا من الأناقة والنظافة الزائدة على المحصول منها شرعا ، أو زواجا عرفيا من مسيحية كما حدث لشيخنا خالد الجندي ، أو تحرشا على فتاة بدعوى الزواج ، كما حصل لعمرو خالد على ماذكرت بعض المواقع في النت ، والعهدة على المثبت لها ، أما أنا فيكفيني أنني لا أريد أن يحصل هذا في الواقع حقيقة ، وإنما حكيت ما قرأت ، وحاكي الكفر ليس بكافر ، كما يقول علماؤنا ، وحين أنقل هذا وأسأل الله عز وجل أن لا يحصل ، لا يشملني قول المصطفى صلى الله عليه وآله ، كفى بالمرء اثما أن يحدث بكل ماسمع ، لأنني لا أنجر هنا وراء الإفك والبهتان الذي عساه أن يحصل لهما من قبل الأعداء ، كما حصل لنا في حياتنا ، ولكنني اعاتب عليهما عدم ردهما لهذه الفرى والأكاذيب وما دام كل منهما لم يرد هذه التهم ، فستبقى الألسن تلوكها كدليل تتوسل به عقول الهدم عندنا إلى استظهاره كبينة على اتهام كل من في الساحة بأنه إما ممثل كاذب ، أو جاهل آفن ، فالضرورة الدينية تفرض علينا خوض هذا الغمار ، لا أن نسكت عن الكلاب التي تنبح للقافلة السائرة كما يقول كل من لم يستطع ردا مفحما ، ولا دفاعا قويا ، فالسكوت عن الآخرين في عالم النت صار مظهرا للضعف والخور ، وإظهار الإنسن لحقيقته كما يعرفها هو من نفسه مطلب مقدش وشرعي ، فالمتهم هنا إذا كان -ونتمنى ذلك - بريئا ، فالنصوص الأصولية تستوجب عليه أن يكشف عوار الأباطيل التي تنسب إليه بالأدلة ، ولو يمينا جازمة ، صادقة ، أو غموسا كاذبة حتى يتبين الناس أمر الداعية الذي نصب نفسه هداية إلهية ، ودلالة ربانية فالكرامة الإنسانية ، والواجب الديني ، يحتم صون العرض من باب الإلزام الشرعي ، ويتطلب دفاع كل متهم عن نفسه ، بإعادة الإعتبار لها ، ومقاومة أعدائها ، وما دمنا لم نتطلع على محرر لهما ، فإننا نتساءل مع جمهرة من المتسائلين ممن يهمهم أمر الأمة ، أهل صحيح ما كتب عن خالد الجندي في الروز يوسف ؟؟ من تزوجه عرفيا ، ومن مداهمة امرأته صحبة رجال الأمن لشقته التي استأجرها لصالح الزوجة الأخرى بالعرف ، وهل صح الخبر بأن أبناء خالد الجندي يدرسون في مدارس مسيحية ؟؟ وهل خالد الجندي هذا ، قد وضع له شاربا مصطنعا للتسجيل مع قناة أخرى هروبا من العقدة التي عقدها مع شركة أخرى ؟؟ إذا كانت هذه الأشياء صحيحة ، فلم لا يترك هذا الميدان إلى أجل غير معلوم ، يصلح فيه نفسه ، ويغير فيه من قيمه ؟؟ وأتساءل عن مصير الأموال المدخرة من الوعظ الديني ؟؟ أهل هي مكدسة في البنوك ؟؟ أم صارت هبات لأهالي دافور ؟؟ أم تحولت إلى عقارات ؟؟ أم إلى جهة معينة ؟؟ لو صح الخبر بجمع هذه الأموال ،و ما هي الطريقة التي جمعت بها ؟؟ أهل بيع الأشرطة والأسطوانات ؟؟ أم الوعظ الديني عبر الشبكات ؟؟ أم هناك موارد أخرى ؟؟
إذا كان الوعظ الديني ، هو المورد ، فهل يجوز شرعا ، أن نستغل الوعظ ببهرجته حتى نتقاضى عليه مبالغ مالية ؟؟ ألا يعد هذا نوعا من الإثراء بالباطل ؟؟ وما الفرق بين هذا السبيل وبيع القاضي لضميره بحكمه بالباطل ؟؟ وإذا كان من الدين جمع هذه الأموال بهذه الطريقة ، فما درجة الوعي بالورع عندنا ؟؟ أليس النبي صلى الله عليه وآله ، قد نهى عن أخذ قوس على التعليم ؟؟ أليس النبي قد أخذ هبات المتصدقين ، وهم يمارسون واجبا شرعيا ، اعتمادا على ما سيأخذونه من أموال الصدقات التي كلفوا بجمعها ؟؟ وأتساءل في استغراب أهل اكتشفت المخابرات المصرية حقيقة ، وجود علاقة متهمة بين خالد الجندي وجهات أخرى ؟؟
كل هذه الأسئلة في خصوصيتها بخالد الجندي ، أو عمرو خالد ، في عمو ميتها تحتاج إلى إجابة منهما ، حتى نتبين وجه الصواب من الحق ، أما حملهما على البراءة الأصليه فهذا مردود بقابلية حدوث هذا ، وقرينة سكوتهما عن رد التهمة الموجهة إليهما ، ولقائل أن يقول : إن صاحب المقال قد تطاول على الشيخين في شؤونهما الخاصة ، وقد رد به علي في مقالي الأول ، ولصاحبه الحق في ذلك ، ما دامت هذه الأفكار تجوس خلال عقله ، لكنني أعلمه بأن المعنيين من علماء الدين عند كثير من شبابنا ، فلا يغتفر في حقهما ما يغتفر في حق الآخرين ممن لا تأثير لهم على مستويات عليا ، ولا قابلية لخطاباتهم عند جماهير الأمة ، وأقول لأخي : إن الدين علاقة فيما بيننا وبين الله ، فلا بد من أخذه عن أهله المعتبرين ، ممن لا يبتغون به عرض الدنيا الزائل ، ولا يرتزقون به على موائد الظلمة والمجرمين ، وإلا انخرمت عدالتهم ، وانخدشت مروءتهم ، واتضعت شخوصهم ، فمن باب الحماية للدين من الإرتزاق ، والتوسط به إلى الأموال ، نعنف الكلام في وجوه هؤلاء الذين يتكالبون على الفضائيات باسم الدين ، ونقول لهم : إن كنتم تتقاضون الأموال على وعظكم ، فلبئس ما كنتم تفعلون
بعد هذه الفذلكة ، لابد من ذكر بعض الأسباب الكامنة وراء هذه النعمة الجديدة ، والتي تعتبر كمدخل نفسي لدراسة هذه الظاهرة التي نحاول أن نبين كما قلت ، مجال خطإ منهجها في الدعوة إلى الدين
أولا
إن ظاهرة عمرو خالد ، والجندي ، لا يمكن فصلها عن تاريخ الصحوة الإسلامية التي برزت منذ عشرات السنين كردة فعل على الأوضاع السياسية والإجتماعية التي تعاني منها الأمة الإسلامية أعواما كثيرة ، وهي ترزح تحت وطأة الإستعمار الأجنبي الذي استباح بيضتها وسطا على خيراتها ، وسلب منها أرضها ، وقد قامت كل القوى الوطنية في حركات جماعية لرد الغارة على العالم الإسلامي ، متمثلة في كبار العلماء ، ومجسدة في عموم الشعوب الإسلامية المتلفة حول قضاياها الوطنية ، وقد استمر هذا الوضع سنوات أودت بالكثير من أرواح المقاومين ، وجيوش التحرير ، وانتهى عهد الإستعمار باستقلال الشعوب ، وظهور قطبين يتنافسان سيادة العالم ، ودخل العالم الإسلامي في تحالفات مع إحدى القطبين ، قطب رأسمالي ليبرالي يؤمن بالملكية الفردية التي قد لا تتنافى في بعض جزئياتها مع نظرية الإقتصاد الإسلامي ، وقطب شيوعي يمتهن حرية الأفراد بتقديس مبدإ الجماعة الذي يتنافى مع الفردانية التي حاولت بعض التجارب السياسية الأولى أن تفرضها كواقع عملي للنظام السياسي الإسلامي ، فقرب ديار الإسلام من الغرب ، وتفاعل الغرب الرأسمالي مع بعض القضايا الإسلامية المصيرية ، أدى الى تقارب بين الرؤى الإسلامية والغربية في مجالات عدة ، وقد تعززت هذه المواقف بدعم غربي لبعض الحركات الإسلامية المجابهة للمد الشيوعي الزاحف على العالم الإسلامي ، وانتشأت حركات إسلامية مناهضة لهذا الفكر ، كالحركة الوهابية مثلا التي قامت ضد الحركة الشيعية التي تبلورت مع مبادئ الثورة التي نفثها الخميني في شرارة الشعب الإيراني ، وحاولت الزعامات الدينية الشيعية الإيرانية تصديرها إلى دول العالم الإسلامي ، كما قامت ضد حركات الإسلام السياسي الذي يدعو إلى إعادة الخلافة الإسلامية ، فهذه الحركة وغيرها قد خدمت مصالح الرأسمالية العاتية وهي تعصف بالقطب الآخر وحلفائه ، ولم يظهر هذا جليا للعيان ، ولم يتضح للعالم الإسلامي ، إلا بعد هزيمة الإتحاد السوفياتي في أفغانستان ، وإصابة دول المعسكر الشرقي بشلل كلي ، وابتداء أولى تدابير البروستريكا بزعامة غورباتشوف ، وظهور تفاوت بين الزعامات الدينية والسياسية ، خصوصا بعد احداث 11 شتنبر ، يوم أن صارت الحلوق المتعطشة من النكير على الشرق في قفص الإتهام ، إذ ذاك تبين للجميع ، أن السحرقد انقلب على الساحر ، وأن الجزاء كان على شاكلة سنمار ، وأن الذين هجروا من بلدانهم إلى الغرب فرارا مما يسمونه إستبدادا سياسيا ، هم الذين تحولوا إلى أبطال ورموز أسطورية في الجهاد عند الدمويين ، أو للإرهاب عند الذين يتحيون الفرصة للقضاء عليهم تحت يافطة محاربة الإرهاب الذي تتزعمه امريكا ودول الغرب ، فانتقال العالم إلى قطب موحد ، زاد من مشاكل وهموم العالم الإسلامي ،وارتفعت وتيرة الصراع بعدما أظهرت الدراسات المستقبلية أن الإسلام هو المخاصم المرتقب ، وأن العالم الإسلامي هو المنافس بحضارته وقيمه للغرب ، فهو وإن ظهر كقطب ضعيف لا يستطيع الحراك والمشي لتثاقله من القيود التي كبلته منذ سنين ، ولتباطؤه لعدم قدرته على الخيار الثاني الذي هو مقاومة حضارة الغرب بما يماثلها من تكنولوجيا وصناعات ، فإنه يصور في خلايا أدمغة الذين يخططون أنه الأسد النائم ، فهل هو حقيقة كما يقولون ؟؟ أم إطماع للسياسين حتى ينقضوا على موارده الطبيعية التي لا يمتلك قوة لحمايتها ؟؟؟
ثم تأتي هذه المحاولات التي قامت بها أمريكا في تغيير خريطة الوطن العربي السياسية ، واحتلال بعض بلدان العالم الإسلامي بموجة من الأحاسيس أدت إلى جو مختنق، تحتقن فيه الأمة الإسلامية بركانا من المرارة والإمتعاض ، وتفتعل بداخلها أفكار غريبة عن الغرب والعالم المتقدم ، فلا أظن في تقديري ، جامعة تجمع المسلمين مثل شعورهم بالمظلومية ، واحساسهم بالضيق من الغرب ، سيما في أيامنا التي يجابهون فيها حربا حضارية أخرى لا يخالها كثير من المتتبعين خارجة عن دائرة الحروب الصليبية التي تعتمد مبدأ الثأر للإنسان الغربي على أنه كتلة مقدسة يجب الإنحناء لها ، وطأطأة الرءوس لغرورها ، والإقتداء بها في ديمقراطيتها ، والتعلم على طاولة حضارتها ، وهذه الجامعة هي التي يستغلها كثير من الذين يريدون توسيع الهوة فيما بيننا وبين الغرب ، وتستفزها المتاجرون بالعواطف بخطاباتهم الحماسية التي لا تغير من واقع الأمر شيئا ، وحين ندرس تاريخ الحلول التي تواطأت عليها الإرادات الفاعلة في ميداني السياسة والثقافة نجد أفكارا كبيرة تشظت مع الزمن فصارت لا تجمعها رابطة ، ولا تؤسس عندنا نظرية ، فقد جربنا الحلول كلها من أدنى اليمين إلى أقصى الشمال ، لكننا لم نظفر إلا بزوبعة من الأفكار التي انتهت جدتها ببداية دخولها الى عالم تنفيذها ، وكانت أفكار الحركة الإسلامية جزءا من هذه التشريحة التي تتمخض داخل الحرم الجامعي ، ثم تسربت من الكليات إلى النقابات والهيئات المدنية ، ثم تحولت الى جماهير الشعب بتضييق الخناق عليها من قبل الإنظمة السياسية ، ثم تشكلت في أحزاب تسعى إلى الحكم عبر صناديق الإقتراع التي تعد مظهرا للديمقراطية الغربية ، فهل كانت تمتلك الطاقة المؤهلة للهيمنة على مراكز الدولة ؟؟ وهل الغرب سيترك الفرصة لها لتخوض غمار تجربة الحكم التي لايراها الغرب إلا بعين الخائف على مصالحه واستقراره ؟؟
وها نحن قد شهد نا في مسرح الوطن العربي صعودا وهبوطا من وتيرة هذه الحركات ، فما أن تجتاز صناديق الإقتراع ، حتى تقع بين فكي الكماشة التي تقرضها إربا إربا ، كما حدث في تجربة الجزائر والسودان ، ومصر غدا ، فأوضاع الحركات الإسلامية متدهورة اليوم لبعدها عن الفاعلية في المجتمع ، ولتركيز أغلب أفكارها على الجمع بين الدين والدنيا ، أو بين الثابت والمتحول ، أو المطلق والنسبي ، أو لنقل تقرير مبدأ الحاكمية لله ، وقد تولد عن هذا جانب من الحركات التي تغنت بالجانب القيمي الأخلاقي ، مع اختلاف طرق البداية والنهاية ، ووسائل العمل ، وسبل الحركة ، ويرسم هذا المنحى الذي أنتحته الحركة الإسلامية في ذهن المفكر العربي ، صورة لتنازلها عن مشروع الحاكمية الذي كان ضحيته سيد قطب وغيره من التيارات التكفيرية ، واستبداله بشعار تخليق المجتمع أو الحياة العامة الذي لا يثير غضب الأنظمة ، ولا يبعث على التشنج ، بل هو متداول بين العموم ، و مطمح رؤى الكثير ، وقد اهتدأت هذه العاصفة بين الحركات الإسلامية والأنظمة السياسية ، وتعاملت إلى جنبها كشريك في المشاريع المجتمعية والتنموية حتى حدثت بعض المثبطات الدولية فتلغمت العلاقات مرة أخرى ، وتلبدت الأجواء بعد لطفها ، وتركبت الأحمال الوديعة في ثياب الأصلال السوداء ، كما حدث في الجزائر بعد انهيار ستار الديمقراطية التي تتغنى بها الأنظمة ، وغلبت هذه النبرة الحزينة بصوتها الجهور ، حتى على الكتابات التي جاءت كبديل للأدبيات التي امتدحت الديمقراطية قبل بدو سقمها ، وفشل ما تعلق عليها من حلول ، وفي هذه الفترة حدثت إرتجاجة كبيرة على مستوى الفكر الإسلامي ، والعقل العربي ، وتوارت النيران تحت ثياب الرماد في فتور ينذر بالقفزة المتنامية في باطن الضعيف العاجز عن طي الزمان لمشروعه ، والإختراق به إلى ميدان التطبيق المحسوب خاليا من المعيقات التي لا تتشكل في عقل الذي لا ينتظم أبعاد اللعبة في تفكيره ببداياتها وعواقبها ، وهذاالحضور الخافت ظهرت ملامحه على كل المجالات التي تعتمل فيها الحركة الإسلامية ، بعد أن انغلقت في رحبائها كل السبل والوسائل التي تؤدي إلى تحكيم شرع الله ، كما تؤكده الأدبيات الإسلامية ، واستمرت الأوضاع في فتورها حتى ظهرت هذه الأصوات التي لا توحدها مبادئ ، ولا تحتويها جوامع فكرية ، ولا يعرف لها سابقة في الحقل الديني ، بل الأغرب في هذا أنهم لا يمتلكون مجدا علميا ، ولا ذكرا مجيدا ، وقد برزت إلى الأطراف كما هي عادة الأوهام ، والحقائق النسبية ، تبتدأ خافتة مضمرة في طوايا القلوب ، ثم تطفو على الساحة كخلإ تنتجعه الذوات المولعة بالجديد ، ثم يرسوالسفين بعد أيام على شاطئ الأمل الوديع ، ثم يتمدد ساعة للنسيان ، ثم يصادره الأجل المحتوم بالخناق ، فهذه الظاهرة قد بدأت صامتة ، ثم تحولت إلى بهرجة وأضواء سالبة للقلوب ، وهذا لم يحصل لكونها بديلا عن الإسلاموية السياسية ، وانما لفراغ الجو لها من منافس يقدم مشروعا بسيطا تتقبله عقول الناس ، وترضاه نفوسهم ، فالمشاريع الموجودة اليوم كبيرة على عقول الناس المدهوسين تحت عجلات متطلبات الحياة ، ( الإسلام النقدي - الليبرالية العلمانية ) وهي نتيجة للجهود التي مضت ، وللتاريخ الذي تكاملت دوراته ، فالمواطن العادي لن يستطيع أن يتعرف على أدق تفاصيله ، وأن يلم بجميع جزئياته ، وأن يتحرك مع بعض نتائجه التي يراها في أحكامه القبلية جزءا من الأنا الذي يدافع عنه
فعمرو خالد ، وخالد الجندي وغيرهما ، لم يسطع نجمها إلا بعد سواد موجة الضباب والحلكة التي خلفتها إخفاقات الحركة الإسلامية في تمرير الإسلام إلى كرسي الرئاسة والزعامة ، والذي ساهم في قفزة صورتها إلى اذهان كثير من الناس الإعلاميون ، وأنصاف المثقفين ، والمتعالمون ممن لم تتيسر لهم سبل فهم الإسلام
ومن هذه الإشارة ندرك أن عمرو خالد وخالد نتيجة ظرفية لخمود نيران الحركة الإسلامية ، وانطفاء وهجتها المتوقدة ، ووسيلة للمضاربين بالمعلومة في ميدان الإعلام ، وفائدة للتهميش الذي نال الطبقات المترفة في خطابات المتقدمين
ثانيا
إن هذه النغمة لا تطرح الإسلام إلا تكاليف بسيطة تستهدف الخلاص الفردي ، وتستقبل الأرواح الجريحة الممتلئة حقدا على الدنيا (الصعاليك الذين هم من الشرائح التي تفاعلت مع هذه الخطابات) ، أو حبا لملذاتها ( الأغنياء الذين رأوا في هذه الدعوة كما في الدعوة الصوفية نوعا من التخفيف عليهم في تعلاتهم التي سببتها المادية المفرطة ) أو تثاقلا من وعثائها ( كالمعطلين والطبقات المثقفة الذين يستشعرون تناقضا بينهم وبين الواقع ) ، ولا تسعى هذه النغمة إلى طرح الإسلام ، أو تأسيسه ، نظرية في المعرفة ، ومنهجا في الحياة ، وسلوكا مجتمعيا يلتزم بالخلاص الجماعي
وهذه النغمة من سيئاتها تفتيت عضد الدين ، وتمريق وحدته إلى ذرات متشظية في ساحة الإلتزام والتدين الصحيح ، وهذا الفهم الذري( الفهم المفكك ، أو التجزيئ ) للإسلام ، وتفهيمه للناس بهذه الطريقة ، سيقلل من قيمة الوحدة الدينية (نصا ومنهجا ) في مرحلة حرجة في تاريخ أمتنا المهددة بالحملات التبشيرية ، والمقصودة بالمخططات المقللة من شأن الهوية والحضارة والإنسان ، والدارس لأحوال التدين ، يلحظ هذا المغمز باديا في جميع التجارب التي غالت في جانب دون جانب ، فإما إفراط في الروح أو تفريط فيه ، أوغلو في المادة أو إسفاف بها ، أو تضخيم لفرع دون أصل ، أو تقديم لمندوب على واجب ، أو جزء على كل ، وإذا سيطرت هذه الثقافة التفكيكية عند من لا يتقن هذه التقنية ، ستخلق لديه حرجا في التفكير، وعسرا في الفهم ، وستؤدي به لا محالة إلى التشكيك في مورد الدين ومصدره ، والإفتتان في منهج الحياة والسلوك ، والتقليل من قيمة الدين والعبادة ، وستحتم عليه مشروعية الأسئلة ، وضرورية البحث عن الأسرار المستبطنة من وراء الحقائق العليا ، أو الظنون المغلفة بالوهم ، أن يضع كل شيء على مشرحة التفصيل والتجزيئ التي لن يخرج منها في غالب أحيانه إن لم يتملك المناهج العلمية للبحث إلا حائرا بائرا ، بل من الصعب عليه أن يخرج من هذه الدوامة إذا دخل إليها ، لتداخل النتائج مع مقدمات أولى لحقائق أخرى ، وسيبقى في حلقة دائرية مفرغة تتسلسل فيها الأسئلة ، وتتناسل فيها النتائج والمقدمات ، ولا تتناهى دوراتها إلا بالتسليم والخضوع الغير الإرادي
وضرر هذه النعمة على الإسلام تشييئه وفق الأرادة البشرية التي تتغير لحدوثها ، بعوامل كثيرة ، وتتمحور في طرود عكسية لا استقرار فيها ، وتخدم المصالح الخاصة قصدا ، أو مصالح الغير غفلة ، فالإٍسلام الذي قصت أجنحته ، وخارت إرادته ، وساءت بسبب الفهم البشري معالمه ، لن يستطيع تحريك المجتمع ، ولا تفعيل مشاريع الأمة الكبرى ، وستكون الأمة نتيجة لهذا الفهم بين يدي إسلام مشلول لاقدرة له على الحركة ، ولادور له في هموم الناس وطموحها ، وفي حدود معرفتي ، لا أرى من التجارب القديمة تجربة أقرب من إسلام عمرو خالد ، وخالد الجندي إلا هذه التجارب الصوفية المتماهية في تقديس الأشكال والمشايخ ، ولا أرى في الحاضر تجربة تماثلها مثل اليبرالية المقنعة بوهم الخلاص الفردي ، وبالأشكال الهوائية الفارغة من المحتوى
ثالثا
إن آفة هذه النغمة أنها تغيب العقل والمنطق ، وتكتفي بالعاطفة والأحاسيس الباطنية ، والدارس لعلم النفس القرآني ، يجد أن آيات كثيرة تدعو إلى استثمار العقل في قضايا كبيرة تتعلق بألوهية الله ، وتقضي بحاكميته المطلقة ، فابتناء الحكم على قواعد العقل الصريح والتفكير المنطقي الصحيح ، يجعله قابلا للديمومة والإستمرار ، وقائما على أسس لا تقبل التحوير والتبديل ، كالتأمل في نظام الكون الذي انتدبنا القرآن إليه ، وحثتنا عليه تجارب الأنبياء والرسل ، والهدف الملقى في أرض التأمل ، هو أن نعقل المعنى ، ونفهم أن من وراء هذا السبك البديع قوة قادرة على الفعل والإيجاد
وقد يبدو هذا تقديما لمورد العقل قبل الشرع ، كما يقول المعتزلة ، لكن عذري عن عدم الخوض في هذا ، أنني لا أريد إلا أن أبين خطأ اعتماد العاطفة في تمرير الخطاب الديني إلى عقول الناس بحجة تغير المثيرات لتلك العواطف ، وعدم تحديد طرق التعامل معها ، فقد يكون أحيانا تهورا وطيشا ، وقد يكون مرات تعقلا واتزانا ، وما دامت هذه الأحوال تعتري حكم العاطفة ، فإن تغييب لغة العقل ، وعدم تأسيس النظرة الروحية عليه ، سيؤدي حتما إلى النتائج التي أدت إليها التجارب الأخرى ، من تغليب جزء على جزء ، ومن تعالي طرف على طرف ، كما نرى في فتيات عمرو خالد والجندي وغيرهما ، ممن يعتبرن الجزء الضخم من الإسلام هو ذلك القماش الذي تلف به الأخوات رءوسهن ، أو ينظرن إلى كمال الإلتزام بالإعتناء ببعض المظاهر العبادية التي لا يقوم لها اعتبار أمام كليات الإسلام التي نصت مقاصد الشريعة على الإحتفاظ بها ، وهذا ليس مقتصرا على فتيات عمرو خالد ، وخالد الجندي وغيرهما ، بل نجده حتى في فتيانهم ، وهم يدوسون الوهاد والنجود من تفاصيل الإسلام ، بإظهار عواطف حانية تشبه إلى حد ما ، تلك الوسائل المحتشمة ، والطرق الخانعة التي تمارسها المسيحية في إظهارها لمحبة الجميع ، وتألمها لرزء الإنسانية ، وحين يتحدث أحدهم بهذه العواطف فيمزجها بحكايات مضخمة لصورة الإلتزام عند البشر عموما ، تراه لا يعدو سقف الأفكار البسيطة المنبطحة على رحاب العاطفة التي تهيجها الأساطير والخرافات ، كما تحميها كلمات الحماسة والفخر ، كما تميتها طقوس التبتل والعزلة
وتغييب رؤية العقل في التدين يؤدي الى أضرار خطيرة أعظمها خلخلة مراتب الأعمال ، وتمزيق وحدة النص الديني ، فيتحول الحجاب بتصميمه الجديد، إلى دليل على الكمال ، ولو كانت الملتزمة به قمة في الشبقية والفجور ، وتتحول المتبرجة الى عاهرة داعرة ماجنة ، ولو استعصى تذليل ركوبها على العظماء ، وتغييب العقل في النصوص الشرعية أيضا ، يؤدي جدلا إلى تعطيل حاسة النقد عند المسلم ، فتتمحور تجربة الدينية في طراز من التبعية العمياء ، والتقليد المفرط الذي لا يتماشى مع التفاعل في الحياة مع معطيات الشرع والبيئة والكون والمجتمع ، والتاريخ يحكي افتتان الناس بالطقوس والأشكال التي احجمت عنها عقول كثير من العلماء الذين لم يروا بسمة الحياة إلا في سعيد بن جبير ، والإمام مالك ، وأحمد بن حنبل، وغيرهم ممن رأوا قيمة العقل في احتقار السواد المتماوج بين إرضاء العاطفة والعقل
وتحقيق المناط في هذا الأمر ، أن الإسلام بهذا الفهم سيصير آثارا في متاحف القلوب لا يعتمل في الحياة بالشكل الذي دبرته قدرة اللطيف الخبير ، ولا تنطبع صوره في عمق تجربة المسلم إلا في فراغات مجوفة تبلغ فيها العاطفة ذروة الإنتشاء ، بكونها حازت القدح المعلى في الحقيقة ، ولو لم يسبق ذلك اعتقاد جازم ، ولالا أفكار قبلية تستتبع بسلوك هادف
رابعا
إن هذه النغمة قد استفادت من حيث الشكل كما قلنا ، مما تختزنه الذاكرة العلمية من وسائل وتقنيات حديثة ، بل تعدت ذلك ، إلى تبني الليبرالية المتحررة في توظيف اللباس والإخراج كما لاحظنا ، لكن أهل تبع هذا التجديد في الوسائل والآليات ، تجديد آخر على مستوى المضمون والمحتوى ؟؟ أم مازالت تلك الخطابات عند هؤلاء تراثية ، تعتمد على المعلومات المكتنزة في كتب تراثنا ، والمحتضنة في بطون كتب سلفنا ؟؟
إن الحقيقة التي نعرج عليها هنا ، وإن كانت لايقبلها بعض المرتزقين بالدين ، ولا يرضاها كثير من التراثيين ، ستسوقنا إلى تحديد رؤيتنا للأفكار التي تتداولها ألسنة خطبائنا ووعاظنا ، وتستدل بها مصادرنا المتبوعة ، وتستند إليها ثقافتنا المكتوبة والمقروءة ، أن كثيرا من الأدبيات التي تستبد بهذه المساحة من الإستدلال ، لا تعدوا أن تكون اجترارا للماضي بغصصة المؤلمة ، وتحريرا للواقع على شكل التجارب الماضية بنقائصها ومعايبها ، واستنساخا في أجلى مظاهرها الجميلة ، لنتاج العقول التي قاومت شراسة واقعها بما أبدعته من أشكال التعابير التي صارعت بها تلك التيارات الزاحفة على جثمان الأمة الإسلامية ، فالتصوف مثلا كان في الأول تعبيرا عن النفرة من المادية المفرطة ، والحيدة عن المناهج التي صاغت الدين في استدلالات كلامية وفلسفية ، والسلفية كانت طفرة في الفكر الإسلامي ، ونزوعا نحو مقاومة سيادة الفكر الصوفي المنيم في لحظات العجف في تاريخ حضارتنا ، والتخلف في مسار فكرنا ، وهكذا دواليك ..‍‍‍...!!! لكن بعدما انداحت الدائرة ، واتسعت الآفاق وانتهى العهد الأول ، تمحورت في قوالب أخرى جعلت الحقيقة المطلقة ملكا لها ، والسعادة الأبدية في السير من ورائها ، ولم تكتف الإرادات بهذا بل تناولت التجربتين بالتحريف حتى صارتا مظهرا لتبليط الأجواء والظروف لمن يستفيدون من موت العقل الديني ، و خنوع الحضارة الإسلامية ، و تمزيق الأمة الإسلامية ، وتبليد أحاسيس الكرامة البشرية
فاعتماد هذه النسخة بدون مراعاة تضاريس الحياة ، أو ما يسمى بدعامة الواقع ، يعد نوعا من المجازفة التي ستؤدي إلى تشوهات على مسار حياتنا اليوم ، ومستقبل ابنائنا وتاريخهم لاحقا ، وتأزيم تفاعل النصوص مع المواضعات الإجتماعية ، وتحجيم تماشيها مع الحقائق الحادثة ، لا يتناسب وسعة النص لحدود الزمان والمكان ، وصلاحيته للتطبيق على مستويات كبيرة ، فالتقريرات التي جاءت بها النصوص الدينية ، والمبادئ التي اتحفتنا بها ، لا تفرض نمطا معينا من السلوك ، ولا واقعا خاصا في الحياة ، بل جاءت بالكليات العامة ، والأفكار الكبرى ، والمبادئ المثلى ، ثم تركت تقنينها وتركيبها في الحياة ، خاضعا للمعايير التي تتكامل فيها حاسة السياسي ، والفقيه ، وأهل الحل والعقد
وحين يأخذ الواعظ من هذا التجارب الروحية ، بدون مراعاة عامل الزمان والأشخاص والواقع يكون قد رجع بالتاريخ إلى الوراء ، وأعاد الكرة مرة أخرى بالتجربة البائدة ، وهذا عيب الخطابات التراثية التي تريد تصنيف الحياة ، كنقطة سوداء ، ضمن نقط تاريخنا القديم ، فعمروخالد ، وخالد الجندي (وإن كانا يظهران بمظاهر حداثية ليبرالية ) لا يخرجان في وعظهما عن هذا النمط الكلاسيكي ، من اجترارالتراث الجامد الذي لا يتماشى مع متطلبات الحياة الحديثة ، ولا يعدوان هذه الأفكار التي تصور تاريخ رموزنا ملائكيا ، وواقع اجدادنا بريئا نظيفا ، ولا يريدان منا إلا أن تستسلم عقولنا لهذه التجارب ولو عصفت بعقولنا وكياننا وحضارتنا
خامسا
إن هذه الموجة الجديدة ، قد أرى في اعتباري أن من بين أسباب ظهورها بهذا الشكل الملفت للإنتباه ، ما حصل في قانون القيم والأخلاق من خلل في ظروفنا الراهنة ، وما ساد المجتمع الإسلامي من اضطربات نفسية واجتماعية حدثت نتيجة لإخفاقات تعيشها الأمة في ميادين كثيرة ، سياسية واجتماعية في ظل العولمة والنظام العالمي الجديد ، فهذه النغمة لاقت صدى النفوس الجريحة المتعايشة مع واقع متوتر يغزو الضعفاء بالأمراض النفسية والعصابية التي لا تنفع معها إلا أدوية مسكنة ، كوعظ عمرو خالد ، وخالد الجندي ، فالتناقض بين الأنا الأعلى أو الضمير القيمي الأخلاقي ، يصطدم مع واقع تتفاوت فيه نسب الجريمة والإغتصاب والفجور (بمعانيها البعيدة ) وتتقاسم جغرافيته المصالح والمنافع الكبرى للقوى القوية ، ومرارة الواقع ، وزئبقيته ، قوة هذا المسلم العادي ، أو المسلم المثقف ،الذي لا يقدر أن ينصب الجسور بين الواقع (المعاش) ، والقيم المنظمة للمنطق الموضوع إراثة أو كسبا كأداة عاقلة في الذات البشرية ، و المتصاهر مع الدين ، والتنشئة الإجتماعية ، والأعراف والتقاليد ، فهذه التركيبة أو المجموع ، عملة معقدة لا تستطيع العقول بعدما داهمتها الحضارة أن توجد لها تفسيرا شافيا يجعل بنية النفس في مأمن ومعزل عن الإصابة بالأمراض المحيطة بإنسان اليوم ، ولا أن تحدث لها طريقا للخلاص من ضيق وحرج الحياة اليومية التي تشعر البؤس والروتين
والدارس لسيكولوجيا الإنسن المقهور، لا محالة ، سيجد أن ما يقوم به أتباع عمروخالد ، وخالد الجندي من البكاء والنشيج الحزين نوع من التعبير عن التنفس الذي يحصل عند الشعور بالخفة واللطافة ، وهذا مظهر آخر للبكاء على غرار ما يفسر به قديما من الإحساس بكابوس الذنب والخطيئة التي نتذرع الى غفرانها بهذه العملية البسيطة التي لا تكلف إلا وعظا عاطفيا يركز على تضخيم العقاب والعذاب ، أو على إظهار سعة رحمة الله وفضله العميم ، ثم تجود الأعين الجامدة بقطرات حبلى بالحزن ، وتنضح العروق بقشعريرة حارقة تذيب الذات في تعبير متسام في الباطن يشعر بالإنتشاء والإطمئنان ، وقد يكون هذا التعبيرعملية جيدة في رحلة غير منضبطة في عالم اللاشعور ، وقد يكون حسنا إذا كانت الحياة ستنتهي بعده إلى الخلد الأبدي ، أو إلى عالم الإنطواء المتسيب في دائرة النفس المريضة التي لا تستشعر الوجود الا كومة من السواد المظلم ، أما والحقيقة تعاكس هكذا ، فإن اعتبار هذا انتباهة دائمة ، او مقياسا للتوبة النصوح ، بدون التفاصيل الكبرى على مستوى محددات العقل والدين للفعل المثمر ، فهو ما أعتب عليه كل من اعتمده وسيلة في بناء الأمة التي لا نريدها فقاعات تومض ثم تدول ، أو زعانف تتكسر في اليوم سبعين مرة
فالعمل للإسلام يقتضي توضيح صورة الإسلام بجميع أبعادها لعموم المسلمين حتى لا تغلب جانب على جانب ، كما يستلزم وجود طاقة روحية تجمع بين ذات النص ، وروحه ، وعقله لتتحرك في هذا الواقع المتناقض بسلبياته ، بنفسية منبسطة مستريحة
سادسا
لقد رأينا مما بينا سابقا ، أن مفهومية الدين عند الناس مختلفة ، وأن حقيقته المتداولة بين عموم المخاطبين به متعددة ، فمنهم من يراه المخلص الذي لا وجود لحلول شاملة إلا به ، ومنهم من يراه سبيلا لشفاء الأوام ، وجابرا للإنكسار العاطفي الذي طعم به من جراء تناوله لحوامض الحضارة بدون اعتدال ، ومنهم من يراه كنزا يدخره ليوم الشيبة والتهدل ، ومنهم من يراه معطلا للفكر ، وقامعا للحرية ، وسببا إلى التخلف ، ومنهم من يراه حياة برزخية لا تعيش في أرضها إلا تجليات الحقيقة المطلقة ، ومنهم من يراه غير ذلك ، والناس متفاوتون في تقديرهم للحقائق ، خصوصا تلك التي تنتزع ماهيتها أنواع كثيرة ، وسوف أسلط الضوء هنا على الطائفة التي رسمت الدين كخط التماس ، لا يحق فيه مساس الأذى بعد الدخول فيه ، وهذا مع مافيه من غلو ، واستعلاء على نقائص البشرية ، فإنه يصور الدين محجرا لمتع النفس ، محطما للآمال المعتورة للهمم ، معطلا للأشواق التي تدعو إلى إجادة العمل وإتقانه ، وليس من الغريب عند هؤلاء أن يتركوا الإلتزام به ، والعمل بمقتضاه ، مافتئ طبعه صعب المراس ، عسر الفهم والإدراك ، ضخم الإتباع والإقتداء ، لا يطيقه إلا كبار السن ممن ماتت شهواتهم ، واحترقت رغباتهم ، ومالوا إلى السكون بعد الهوج ، وانحنوا للتيار بعد الإعترام ، ولا يقدر على تكاليفه إلا الأفذاذ الذين شابت منهم النواصي ، أومن تباعدت بهم الأحلام الوردية عن رحباء الدنيا إلى متاع الآخرة الدائم ، فهؤلاء حين نظروا إلى الإسلام من هذه الكوة لم يستفيدوا منها إلا سوداوية في الرؤية ، دفعت بهم إلى نكران أصل الدين ، أو التعامل معه من كونه لاماوائيا متماهيا في أبعاد الرؤية ، مستفيضا في حدود الماهية ، أواعتباره مادة سامة يضر تجرعها بتخدير العقل والذات ، أو عملية لا تصرف إلا بعد نهاية الأمل في الحياة ، أو نظرية قائمة بثباتها في تفسير الكون والإنسان والحياة ، كل هذا الكم من الرؤى ، جعل بعد الأسيجة ، بين الدين والشباب المستوعر لتكاليفه ، والمستعبد للإلتزام بمبادئه ، والمحتار الذي حامت به الظنون حول الشك والريبة في أصله ، و تناوبته رجات الشعور بالخطيئة التي لن يتخلى عليها في حياته ،ولن يقاسي مصادرتها التي تأرحجه بين مدي الإلتزام والإنحراف ، والذي ساهم في صياغة هذه الأجواء ، طبيعة فهم الدين ، الذي ارتكز في عقولنا بتوجيهات العلماء الذين رأوه غلوا في جوانب ، وتسامحا ومرونة في جوانب أخرى ، و يضاف إلى هذا طريقة عرض الإسلام من قبل الدعاة الذين حولوه إلى هرم متوحش لا يجوز التقرب منه إلا ضحية مسلوبة الإرادة ، ميتة الإنسانية ، محمولة على آلة الخنوع ، وينساق مع هذا التصور، اعتبار الدين إلهي المصدر ، رباني المقصد ، كوني النظرة ، بشري التطبيق ، وهذا التصور يعطي وثوقية بمورد الدين وأصله ، ويفرض استسلاما لفصه ونصه ، لكنه قد لا يضمن أن لا ينغمس الإنسن في مراعاة التقاليد والعادات والأعراف التي تكون رسم الدين في تعريفه الشامل في مذاهبنا الإسلامية ، كما لا يقي من الولوغ في قمامات الخضارة التي استقاءت التكنولوجيا كل مافيها من طابويات
فالشباب الذين حاولوا الإلتزام داخل قيم الإسلام ، إلتوت عليهم السبل ، فلم يفقهوا طريقة ترتيب قيمهم التي يؤمنون بها ، كخلاص من مساءلة يوم القيامة ، وبين واقعهم المتحرر الذي يعيشون فيه حرية وتمددا على قيم المتعة والمادة ، وحين ظهرت هذه البوصلة الجديدة يممت وجوههم شطر هذه النغمة التي تقرب الإسلام إلى أذهان الناس على انه دين حضارة وحرية وفكر ، فتصورت عند شبابنا مجموعة من القناعات الجديدة حول الدين ، وتكونت عندهم مفهومية أخرى للدين ، بديلا عن الدين المتبطش المتجبر الذي عاشوا ضغطته مع التيار القديم ، فترنمت الحياة العامة بقوالبها مع موسيقى الدين الذي طبل بيد دعاته الذين يجيدون العزف لأحلام هؤلاء وصارت النصوص المظفرة بالبقاء ، لا تعارض الواقع الظاهر للحياة المعاصرة ، ولا تجافي بين التمسك به ، وبين الترفه بوسائل الرفاهية العصرية ( اللباس العصري ، المخيمات ، جمع المال ، المراكز الإجتماعية ... ) وليس هذا بمستقبح في عقولنا ، ولا بمستوعر في تصورنا ، لكننا وإن قبلناه ضمنا ، فإننا نعلم أن تقديمه إلى المستمعين كنظرية في إعادة الإعتبار لقيم الدين ، وتوضيحه لقيم المغايرة بين الواقع والمثال ، سهل على اللسان المتحدث به ، مستساغ عند المستمع لتفاصيله ، بعيد في التطبيق عند من يحاوله ، مستصعب في إنزاله إلى أرض الواقع ، لأننا كدعاة ، نمارس العمل الديني ، ولكننا لا نمتلك صياغة بقع من حياتنا ، ولا نقدر على تجاوز حدود ما وضعنا في حيزه ، وهذه حقيقة وضعنا ، فنتمنى أن تعيش دعوات العلماء على هذا النحو من تقريب الإسلام بشموليته ( وهذا هو المغمز الذي أستظهره هنا ) إلى أذهان المسلمين ، وتوضيح معالمه الخالدة في تفسير تناقضات النفس ، واخفاقات الروح ، ومحاولات إزالة ما عساه أن يقع بين النص والواقع ، وبين النفس والحياة من ارتباكات
سابعا
إن تقديم الإسلام بهذه الطريقة سواءا في عالم الوهم ، أو في عالم الحقيقة ، يحقق وهما آخر أكثر ضراوة من الذي نحاربه ، فالدين في اعتبار الشباب متصلب ووعر للأمر الذي ذكرناه آنفا ( التناقض بين قيم الأرض ، وقيم السماء) ، ولفهوم آخرى تغلب بغلوائها على عقليات كثيرة من شباب امتنا ، وهي تنظر إلى سعة الجامعات والكليات الإسلامية التي تفصل حدود الزمان و المكان ، وهي يعتلي الفضاء في التوجيه ، بشموخها العلمي ، أو بجهلها بموارد الحضارة !!! ، أو إلى هذه المكتبات الضخمة التي تعج بملايين الكتب الإسلامية والأدبية ، أوتحلق في عنان الأرض مع الأثير ، فترى هذه الفضائيات التي تبث ثقافات مختلفة ينتظمها رابط الثقافة الدينية ، فهذه النظرة جمعاء ، تستكثر أدبيات الإسلام وتفخمها ، وتستصعب دراستها بأجمعها ، وتستعظم نهاية ما فيها من مطولات ومختصرات ، فكم من سنة يحتاج إليها طالب علم التفسير ، علم الحديث ، أو علم العقيدة حتى يدرس كل ما كتب ؟؟ وكم من زمن يحتاج إليه الغائص في بطون المصنفات الجامعة للرواية والدراية ؟؟ إنها أعمار طويلة لو وجد الإنسن إليها سبيلا ، !! وأنى له ان يفرغ لمدارستها على يد أهلها لو بقيت لهم بقية !! ، لكنه في هذه النغمة يجد نفسه بين يدي كتيبات صغيرة ، تهدى ولا تباع ، توطن نفسه على البداءة في السير والسلوك ، وتصوره له جاهزا بكل تفاصيله ، فيسير برهة من الزمن الذي يتوهج فيه العقل ببقية ما علق به من أفكار قرأها ، أو سمعها ، ثم يتعثر به المسير ، فلا يجد في نفسه رغبة إلا في ما هو بسيط في عملية الإلتزام ، وحتى في الإستفادة من العلم الشرعي ، فيقبل على القرص الصلب ، والأسطوانات ، والفضائيات ، التي يجلس في محرابها دقائق أو ساعات قصار ، ثم يتحول في نفسه إلى مالك للحقيقة ، عارف بالشرع ، فيسبب له ذلك تطاولا حقيرا على كل من يراه عالما بالعلم الشرعي الذي يفتقد إليه ، وحين يفتح عينه على هذه الثقافة السريعة كالزمن الذي يعيش فيه ، يراها منساقة مع ما يفر منه من تعقيد في الثقافة العلمية ، فيهرع إلى من يصور له الإسلام أحلاما بسيطة ، واشكالا وطقوسا هينة ، وحين يمارسها في عمق تجربته ، يستشعر من نفسه فكاك العقدة التي أفزعت تفكيره ، وهو لا يجد وسيلة لتعلم الدين ، ولا طريقة تيسر له معرفة العلوم الشرعية ، فإن وجد من الوقت ما يكفي ، فإنه لا يعرف المقدم من المؤخر ، ولا صغار العلم من كباره ، ولا المبتدأ ولا الخبر ، بل لا يعرف إلى أي مكان ينتهي ، ولا إلى وجهة يتجه ، وقد رأيت هذا كثيرا ممن أراهم ضحايا الغفلة ، ونتجة ضياع العلماء ، وممن لا يروننا إلا عملاء ( لأننا نلتزم بميثاق البيعة ، ولا نخرج عن قرارت ولاة الأمور ) لا علماء ، فهذه طرق جمع العلم في زمن العولمة التي تضغط على مؤسسات العلم الشرعي بالتقنيات أو التهم
وآفة هذا ، أن الدين سيتحول إلى قشور ، تمهد لها هذه الثقافة البسيطة التي تنهشها أنياب الخطباء والوعاظ المشهورين ، إما بالتهور في ميدان السياسة ، أو بالحكي والقصص والمناقب القديمة ، التي ينقلها الأثير مع صراخ الطائرات ، وعويل السيارات ، في كل يوم جمعة ، كما تظهر لي هنا آفة أخرى ، وهي تغطية الثقافة الدينية المؤصلة ، بلفافة النسيان ، ومواطئة المجتمع على البسائط من الأفكار
ثامنا
إن الأفكار الكبيرة تموت بسبب هذه النغمة التي تروج لإسلام عاطفي بسيط في تراكيبه ( وهذا لا يتنافى مع يسرية الإسلام وتيسيره ، ولا أعنيه قط في كلامي ، وإنما أعني تفكيرا آخر ) وحركاته ، فالأفكار التي تتوارد على الساحة ، لا ترقى إلى مستوى ما زبرته أيدي المفكرين الكبار ، في الحضارة والعمران كمالك بن نبي وغيره ، فما قيمة هذه السطحية في التفكير ، أمام فكر متنور متجذر في الماضي ، ومتعمق في الحاضر؟؟ وما قيمة ما تروجه أوتار هذه النغمة مما ترمي اليه أنظار الكثيرين ممن لا يعيشون تحت ضوء الشمس ، ولا يظهرون إلا مع ضياء القمر ، ولا يحاولون شهرة ، ولا ضوضاء ، ولا تعريفا بأنفسهم ؟؟
فلنعود عقول أمتنا إن كنا صادقين ، على التفكير الكبير ، ولنفتح لهم المجال لتقرير مبادئ حياتهم ، ولنترك الوصاية عليهم جانبا بإسم الدين ، فإن صلاح هذه الأمة في طريقة فهمها للأشياء على ماهي عليه ، في واقعها الأول ، لا كما يخطها بين حنايا القلوب بعض أرباب هذه النغمة الجديدة رسوما وأشكالا وطقوسا خالية من التأثير على المدى البعيد ، وإن ظهرت لنا في مقدمتها بعض ملامح التغيير التي تدل على حياة القلوب ، لو وجدت من يعبد لها الطريق اللاحب الذي يجعلها تعيد عزتها ، وكرامتها بين الأمم والشعوب ، فما فائدة البكاء ، أو التخشع ، أو التبرقع بالأشكال ، !! إذا كان المسلم لا يفهم حقيقة دينه ، ولا يستطيع الدفاع عن الشبهات التي يثيرها خصومه ؟؟ بل ما فائدة هذه الأشياء كلها إذا تكن مستندة إلى معارف دينية يتترس بها المسلم من الطعنات التي تقذفها قالة السوء ممن يرومون الدين الإسلامي أو غيره بالأباطيل ؟؟ وما فائدة هذا التأثير الجزئي ، والمخدر المرحلي ، قدام هذا الكم الضخم من الأفكار التي تسعى إلى إعادة الإعتبار للعقل العربي، وللضمير الديني ، عند المسلمين ، أهل ينساق مع اليمين ، أو ينجرف مع اليسار ، وبينهما من التفاوت من اعتماد التراث ونبذه ما يجعل الفراغ سحيقا ، والهواء متهاديا بينهما ،فكيف نستطيع أن نتعامل مع هذه التيارين التي تجمع بينهما ، بعض القواسم المترادفة ، أو العلائق المشتركة التي تجعلهما متحدين على مبدإ المشاركة في تقرير مصير الأمة ؟؟ فهل ستعجر هذه النغمة ، أو ستملك الجرأة ، لتفسير هذا النتاقض الموجود بين الأطياف المتعددة القائمة في دنيا الأفكار اليوم ؟؟ وهل توجد لديها نظرية مستقبلية لتلطيف مواقف الحركات المتحركة في تضاريس الفكر والثقافة والسياسة وهل ستبحث في غور العولمة عن ملاذ لهذه الأمة وخلاص يقيها الرق والإستعباد ؟؟
فلا أظن أن عمرو خالد ، وخالد الجندي على مكنة مستطيعة ، وقدرة فائقة ، لمجابهة هذه الأفكار الكبيرة التي تخطط لها معاهد دولية تضع استراتيجيات لتشطيب أحاسيس الوطنية والمحلية والهوية ، ولا أظن أن عمق فكره قد بلغ هذه الذروة التي تسامت فيها أفكار المفكرين والمثقفين ممن تعتور كتاباتهم حياتنا الفكرية والثقافية في أوطاننا ، وهم يتحادثون ويتباحثون مع عموم العقلاء عن الهوية الحضارية والثقافية والإجتماعية لشعوينا الإسلامية التي دهستها عجلات العولمة الخشنة
تاسعا
إنني أرى أن من بين الأسباب التي أعطت إشارة المرور لهذه الظاهرة ، ما تعانيه العقلية العربية التجريدية المجزئة للموقف الواحد إلى أجراء ، والعاجزة عن ترتيبه في عموم يشتمل عليه الحكم الكلي ، فتحرير الأحكام عند الكثير منا لاتستدعي موضوعيتها كل مكونات المركب حتى يترتب عليها تصور جامع يسوق الى تصديق مقرون بنسبة حكمية بالصحة أو الفساد ، وإن كان لنا في هذا من عيب ، فإنه يؤول إلى أمرين اثنين : أولهما ، ابتعاد المسلمين عن رؤية السماء في تحقيق مناط الحكم ، وثانيهما ، ضعف أدوات التحليل المنطقي عند أمة لا تعرف في أول نشأتها ، إلا امتصاص الصور الذهنية البلاغية من عمق الطبيعة والحياة ، ولم تتعرف على هذه الأدوات إلا بعد أن حورتها من اليونانية إلى العربية ، ووظفتها في قيمها الفكرية من نحو وبلاغة وتفسير وحديث
فهذه العقلية المجزأة ، هي التي تسبب المضايقة للأفكار المتنورة والحرة في وطننا العربي والإسلامي ، وتصد السير بعثراتها التي تكبل الطريق ، فهل تأليه المخلوقات من دعاوي المعرفة النظرية ؟؟( والتأليه هنا ليس في شكل تخصيصه بالعبادة ، وإنما لتفرده بما لله من إطلاقية وفعل ) وهل إنتقادات أتباع عمرو خالد لنا تدل على إيمان هؤلاء بأن المعرفة الدينية كل لا يتجزأ، وأن قيم المنطق تفرض النقد والرد ، ومعاملة المثل بالمثيل ؟؟ ( وانت تلحظ تأليه عمرو خالد في الردود التي سود بها أتباعه صفحات كثيرة ) وهل يملك هؤلاءعقليات تحليلية حين ينبهرون للشعار واليافطة سواء كانت إعلامية دعائية ، أم مخادعة كاذبة ؟؟
عاشرا
إنني أرى أن من بين أسباب تجاوب هذه النغمة مع شبابنا المعاصر الذي يعيش سقفا من الإحتياجات التي تتمركز كلها ، حول حدود ضيقة من التفكير في الجنس ، وبناء الغد ، وإرادة السيطرة على الطبيعة بقوة ....، وهوس شبابنا بهذا لا يعني موت العقل الباطني ، والضمير الداخلي ، ولكنه محتقن داخل القفص الذي تضربه آليات كبيرة فاعلة في مستجنات الإنسان ، لها قوة الحركة والإستبداد في عالمنا المعاصر ، والكثير من شبابنا يشعر بهذا الحرج والحنق الذي يكتنف حياته بسواد من النظرة ، وضيق في الأفق ، ولا يدري كيف ينسل من بين انياب هذا الأخطبوط المنقض على حياته بتغيير شامل للبنى التي يعرفها في صفحة قيمه الأولى التي تلقاها فطرة ، أو تنشئة اجتماعية ، أوبيئة ، أو ثقافة ، والتي تحدد عنده الرؤية الكونية التحليلية لذرات التكوين البشري تحت أطباق السماء ، وفوق سقف الأرض
وقد يوصل هذا التناقض الحاصل بين المثال (الأنا الأعلى ) الذي يعتبر في الغالب
ميتافيزقيا ، وبين الواقع المحتضن لمجموعة من التقنيات والمعادلات التي تتفاعل فيه ، إلى حدود الخرف ، والإكتئاب ، والأمراض العصابية والنفسية التي تعصف بكيان الإنسان ، وتؤدي به إلى الضياع والتيه ، وهذه النغمة في حدودها الأعلى ، ( بمعنى غاية جهدها ) جاءت لتتعامل مع الخزان الممتلئ من الغرائر المحصورة في الشباب تكوينا ، ولترطب الأجواء المتطايرة بشرر التنافر بين هوية الإنسن الباطنية ، وبين حياته التي تنفصل فيها الأدوار مابين قوة وضعف
والشباب المعاصر ، يشعر برغبة أكيدة في مجاملة الغرائز، والتصدع معها على مطرح النشوة والإنتشاء ، ولكنه يقاوم بوخز داخلي ، يجره إلى الماضي المقولب في حدود الدين والعادة والعرف والتقاليد ، فيشعر بدوار يسحقه تحت رجله ، فلا يدري كيف يقابل بين نقيضين في تفكيره ، فلولا ذلك الجزء القليل المرتبط بأصلية أفكاره ، لقآء تلك الأفكار ، ولرماها جنبا ، مستجيبا لصوت قلبه وعاطفته ، فالتحليل السيكولوجي لهذه الظاهرة الدينية ، يكشف لنا عن نوعية العلاقة فيما بين هذه النغمة ، والمغرمين بها من شباب اليوم ، وهي كما بينا في مقالنا ترجع إلى استجابة باطنية ، لنفوس تضجرت من محدثات الحياة العصرية ، وتثاقلت من عسر الإرتباط بها بخيط معقود في الوسط يجمع بين حدي العولمة والأصالة ، وبين طرفي الباطن والظاهر ، والواقع والمثال ، فسيمياء النغمة يبينها متبرجة تضع المساحيق على وجهها ، وتنطلي على خداع فكري وبصري ، وتبتني على المغالطات والمزايدات المؤسسة لقانون الوهم والإيهام في العقول ، وحالة اتباعها ( باطنيا ) كما أسلفنا تستظل بالوحدانية والفردية والشخصانية المتبوتقة في حفر ضيقة من التفكير الآلي الذي يصور الواقع على أنه مجموعة من الكواكب المتفجرة بشواظ الجور والظلم الغير الإنساني ، أما في الظاهر فيسوقهم الإندفاع المتهور إلى اعتبار السراب ماء يشفي الغلة ، ويزيل الظمأة ، ولا نستبعد النجعة حين نرمي بفكرنا إلى حدود قريبة من منحدر هذه الظاهرة التي أوقعت الشباب بوهمها في مخدع يزيل فيه هؤلاء عنت الحياة ، ويطرح فيه هؤلاء شعور الخوف والذعر المصاحب لتراكب الأيام في عمق التجربة الإنسانية ، فإزاحة هذا الوهم الذي يراودها ، والتخفيف من قمع الكابوس الذي يطاردها ، جعل مجموعة من الشباب يتحلل كحبات انفرطت من عقدها ، في عماية النغمة الجديدة التي أخمدت جزءا قليلا ( على مستوى التدجين الباطني ) من مشاكل الشباب وهموهم ، فهل تستطيع هذه الأفكار التراثية القديمة التي لا تتجاوز الرقائق والمواعظ والمناحي والمهدئات والمسكنات الظرفية أن تحدث تغييرا في النفس البشرية المعقدة في تركيبها ؟؟ وهل تستطيع هذه النغمة أن تفسر الوجود المعقد في تفاصيلة الحالية لجميع المسلمين على اختلاف تطلعاتهم ومشاربهم ؟؟ وهل تستطيع هذه النغمة أن تقاوم مشروع الحداثة والعولمة بهذا الإستعمال الهزيل لمقتنياتها ( جهاز محمول ، ربطة عنق ، ديكورات ، صور متحركة ..) ؟؟ وهل تستطيع الخطابات الدينية أن تفك لغز نا ، وتحل عقدتنا ، وتمنحنا قوة نجابه بها قوة طاغية من الفكر والنتاج ؟؟ وهل تستطيع الخطابات الدينية أن تأتي بكلمة في هذه المواضيع الخطرة التي تتفرع منها أبواق تقلبها صراعا مع الغرب والشرق ؟؟
إنني ألاحظ في بعض الخطابات الدينية جنوحا عن الصواب ، وإسفافا بعقولنا ، وهي تحاول أن تجسد لنا مفارقات بين حضارة الإسلام والغرب ، وقد تعتمد مثل هذه الخطابات على بعض المعطيات التاريخية المنتشئة في ظروفها التي لا نعرف عنها إلا أنها قد قيلت مما قيل ، فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر، ونحن حين نريد الوقوف عندها في سمائيتها لإخضاعها لعامل التجربة الأرضية نجد الكثير منها قد لا يستقيم إلا مع المزايدات التي تستحضر الخصام مع الآخر ، وكأنها تريد إخباره بسمو حضارتنا ، وليس هذا بمستنكر في ميدان الرد العاطفي ، أما المنطق العلمي ( الابستمولوجيا ) فيفرض على ربان الفكر الديني أن يعترفوا بما عن لهم من تصورات لا يفضون بها إلا لأعماقهم التي تخرجها زفرات حرى تذهب مع تكسرات الضباب النتفرق في عنان العقل العربي ، كما يتطلب منا إهتمامنا بتراثنا وحضارتنا أن لا نجامل التاريخ القديم في قدسيته الموهومة ، ولا أن نتطاول على التاريخ الحاضر الذي سينسب لنا إعترافنا بإيقاع أيدينا على مواطن الخلل المصيب لنا بالبوار والكساد .
إن إبراز قيم التفوق ، نوع من الصدى الذي لا ينفع أمام هذا الصوت المرتفع بصعقه ، والمتسلل إلى أغوارعقولنا الخامدة لتهب من وسنتها وغفوتها ، أما تباشير اليوم الجديد الذي تلوح له الأيدي ، فلا أراه إلا نوعا من عقيدة الإرجاء التي لا ترى الخلاص في أنفسنا ، وإنما تراه في كائنات حية تعيش في سردابها ، أو في سمائها ، أو تحت أرضها ، وهب أننا ننتظر فهل الظروف طيعة للشهود والحضور ؟؟ أم مازالت فينا بقية جاهلية تدعونا إلى تقديس أصنام الوهم والخيال ؟؟
تالله لا أدري كيف أعبر عن هؤلاء الذين يصعدون منابر الوعظ الديني ولا ينثرون في عقولنا إلا حقدا على الحضارة الغربية ، أهل يعد هذا نوعا من التدجيل الذي يمارسه هؤلاء ؟؟ أم هم صادقون فيما يهيجون به مواطن البؤس في دواخلنا ؟؟ أم تفوههم بمقولة رعناء تصور الحضارات مسامير تنزع بسرعة ويدق في مكانها آخر، سيغير تاريخ الكون ، وسيكسبنا رقما في معادلة التغيير ؟؟ وما فائدة أن يقول أحدهم : إنكم إذا استعملتم كذا وكذا ، وتجنبتم كيت وكيت ، ستكون لكم حضارة شامخة عالية الشأن ، رفيعة الشأو ، تزيل عار الكون الدموي بعدلها المنبسط على العدو والصديق !! ؟؟أهل الحضارة كد وسعي وأرقام ، أم تخاريف ولغط تفصله الحناجر المتدسمة بأدهان الولائم والأعراس ؟؟ أهل هذه حقيقة مشروع هؤلاء لو كان لهم مشروع ، أم التزلف للمناصب بدهاء ومكر قديم ( وما أهديكم إلا سبيل الرشاد )؟؟
إنني أعد هذا ، نوعا من الغلو الهابط المسقط لحس الشعور بالدونية من جراء تأخير العقل وطيه المتعمد ، واعتقد أن في مقدورنا أن نعترف بأن النقائص التي توجد في الغرب توجد عندنا أيضا وبنسب كبيرة ، والواقع جبار في شهادته ، لا يعرف الكتمان ولا شهادة الزور، كما أن في محمول تفكيرنا أن يكتشف أسباب تقدم الغرب وازدهاره اليوم في ميادين كثيرة نرى فيها متخلفين ورجعيين ، أما إذا بقينا هكذا نلعن الحضارة ونسبها ، ونعتبر غزوها لنا شماعة نعلق عليه تأخرنا وهدر كرامتنا ، فإننا سنبقى تابعين لهم في حياتنا ، نستفيد من علمهم ، ونفتخر عليهم بساميتنا ، وتكريم الله لنا ، ونتعزز عليهم بملكنا للحقيقة ، وربحنا للدنيا باستعمال ما أنتجوا من مخترعات ، والهروب إلى بلدانهم طلبا للعيش والحياة !! ، وفي الآخرة بقربنا من مورد النجاة بحرق جثتهم ، وأخذ حسناتهم ، وتحنان الحور العين إلينا
وحين ينقشع الظلام ، ويحمد القوم السرى ، سنبكي للأمس الضائع ، يوم لا ينفع الندم ، وسنقول للمغرر بهم : لقد تاجرنا بعواطفكم سنوات ، وتلاعبنا بمصائركم أعواما ، فابكوا معنا ، ولنبك مع كل الشعوب المستعبدة بالفكر الديني البشري ، لعلنا نفتح كوة في الأوزون تنزل منها الأطباق الطائرة تحمل إلينا تكنولوجيا لم يصل إليها الغرب والشرق ، فياله من حلم
واخيرا لن أنسى وأنا أضع نهاية لهذا المقال الثاني ، أن اذكر بضحالة المعلومات التي يزرعها هؤلاء في موات عقول شبابنا ، وينفثونها في روع خزانات ابنائنا ، وينقشونها في تفكير كثير من اتباع الإسلام ، ولا أظن أن الأفكار الكبيرة ستتماشى مع هذه التصحر العلمي المستعبد لكثير منا ، بل لا أحسب في عالم الأفكار اليوم فكرا يسير الى جانب هذه الوضعية المتردية للثقافة العربية إلا هذه النغمة الهزيلة الفقيرة
فأشكر محمد همام ، وأحمد الأسعد ، وغيرهما ممن يعرفون معنى العبارة والكلام
وأهدي هذا المقال إلى كل مفكر في الوطن العربي والإسلامي الكبير
وأهديه إلى الجامعات الكبرى (السربون ، مثلا ) في كل مكان ممن أنتظر في يوم من الأيام أن أكون تلميذا فيها



#ابراهيم_الوراق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صراع الوهم ، أم صراع الإرادات
- عمرو خالد بين الأسطورة والحقيقة
- شظايا في افق الكلمات
- اعباء الروح 1
- حوار بين العقل والعاطفة رقم 6
- 1-2-3-4-5-مرابع البؤس -الانسان ، الزمان ، المكان- رقم
- حوار بين العقل والعاطفة رقم 45
- حوار بين العقل والعاطفة -رقم 1-2-3-
- ثورة من أجل الحقوق أم على الظلم...؟
- مجالس سامرة ..محاورة بين التلميذ وشيخه


المزيد.....




- دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه ...
- في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا ...
- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ابراهيم الوراق - مسار عمرو خالد ، وخالد الجندي ، في الميزان