|
المثقف والمؤسسة .. جدلية الرفض والقبول
وليد المسعودي
الحوار المتمدن-العدد: 1390 - 2005 / 12 / 5 - 11:08
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يبدأ المجتمع كتكوين ثقافي تربوي من خلال المؤسسة ، وهنا المؤسسة مرتبطة بالاسرة والمحيط الاجتماعي القرابي ومن ثم الى محيط المجتمع الاكبر ، الذي يضفي بدوره جميع الانساق الثقافية ويجعلها ضمن هرمية دائبة من التداول والقبول والامتثال داخل هذا المجتمع ، بحيث تغدو رؤية الافراد الخارجين عن ذلك النسق الاجتماعي السائد تنتمي الى فضاءات ومجالات النبذ والخطيئة والعصيان وفقا لطبيعة المجتمع وما تحيطه من قيم وعادات رسخت داخل الذاكرة الجميعة لدى الافراد عموما ، من هنا فإن التبعية تبدأ كمعطى اولي لدى المجتمع وجاهزية قيمه وعاداته ، خصوصا إذا كان ذلك المجتمع يقع ضمن قابليات واحدة وصور في غاية التشابه والتجانس بلا اية امكانيات للخروج وتكوين الاطر والصور المختلفة والمغايرة عن انساق الثقافة السائدة التي تحكم ذلك المجتمع . ان الذي يعمل على ترسيخ الاطر الاجتماعية الثقافية مرتبط بقدرة الفاعلين الاجتماعيين على إسباغ الجديد والغريب الذي من الممكن ان يساهم في شحذ الذاكرة الجمعية بالافكار والثقافات غير المؤصل فيها وعي النهاية كمعطى اولي ومسبق داخل الممارسة الوجودية لل" العلامات " الظواهر الثقافية من طقوس واحتفالات واعياد تشكل جزءا راسخ الجذور لدى المجتمعات ، فالمثقف الذي يقف الى جانب الانحناء كلغة مؤيدة الى واقع ثقافي مجتمعي وسياسي واقتصادي هو بالضرورة يشكل جزءا من ديمومة ذلك المجتمع ضمن التماثلية غير المؤسسة على الاختلاف والفرادة والتوزع الفكري الثقافي المختلف والمتعدد ، وهنا المثقف تتداركه الكثير من الامتيازات التي تجعل مطلق حياته مبررة بشكل ايجابي حاملة لذلك الضمير السعيد مادام يقع كمثقف ضمن جاهزية قيم راسخة لاتتغير او يصيبها مؤثرات الزمن والمتغيرات البشرية المستمرة ، ومن هنا نقول ان ذلك المثقف لايعيش التناقض كمحصلة وجودية بشرية تؤدي الى التغيير ، اي انه غير متصل بجدل الحياة وسيرورة نفي النفي التي تؤسس التلاقح والتزاوج والتبادل والتغيير على نطاق الافكار والانظمة والاطر الاجتماعية .. الخ ان المثقف يمارس التبعية بشكل إطلاقي لايمكن الفكاك منها خصوصا بعد تأصيلات دائمة لقيم المدينة التكنلوجية الضابطة لقدرة الافرا د ضمن انساق تحركها إرادة الاقلية ، وهذه الاخيرة تعمل على تذويب المثقف ، دمجه بعدة وسائل وطرق تقود المجتمع الى التلاحم في نطاق إحادي البعد وفقا لمصالح هذه الاقلية ، وذلك يتعلق بالمجتمعات الحديثة التي ماعاد يذكر ضمن خيالها البشري القدرة على التغيير وبناء الاشكال المحتلفة عن جاهزية الاقلية المهيمنة على العالم بفعل امتلاكها للاجهزة الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ، اما فيما يخص المجتمعات التي لم تهضم الحداثة والاشكال المنتجة في الغرب المعاصر ، فإن المثقف يعيش نفس الاشكالية من قدرة النسق على السيطرة والاحتواء سواء تعلق الامر بجهاز القبيلة او الطائفة او المجتمع المنغلق ضمن طوبى الامة القومية التي لم تعش او تؤسس كيانها القومي المرتبط باللغة وتاريخ الجماعة البشرية ، ولكن الانغلاق والتبعية لدى المجتمعات الحديثة أكثر سيطرة وديمومة ، وذلك لان مجتمعاتنا لم تصل الى ذلك الانغلاق النهائي داخل التكنلوجية المسيرة من قبل السياسي - الاقتصادي المسيطر على التبعيات الاخرى من الثقافي والاجتماعي وكل مايشمل حركة الافراد ودخولهم ضمن عوالم زائفة او وهمية من المتعة واللذة والقيمة الحقيقية للوجود البشري ، فالمؤسسة مادامت قائمة على شمول الافراد ضمن نسقها ، فانه يصعب عملية التجاوز او تأكيد حقب زمنية مختلفة عن الاخرى ، فالثورات التي حدثت في تاريخ البشرية ارادت ان تغير " سيستم " نسق الافكار وتنتج البديل الانساني الذي يضفي التطور والسعادة البشريتين ، فالحداثة كثورة معرفية على سبيل المثال حققت سيطرة الانسان على الطبيعة بشكلها النسبي ، ولكن تلك السيطرة لم تشمل المجتمعات وفق حاجاتها ومدركاتها التي تقود الى الشعور بتماثل العالم ضمن كيفية معينة لاتؤصل التشيؤ كعنصر رئيسي ضمن الحضارة الحديثة افرادا ومجتمعات ، الحداثة ايضا انتجت التبعية بالنسبة للمثقف ، وهنا نقصد نوعا معينا من المثقف الذي يندرج ضمن خانة الاكتساب الطبيعي لمنتجاتها من حيث تبعيته الى المالكين واصحاب الامتياز الذين يؤسسون قيمهم على الاخرين ، وكأنها معطى نهائي مكتمل . ولكن هل من الممكن ان نتحدث عن المثقف الذي ينفر من إشكالية النسق وسيطرة المؤسسة على مجمل التطورات والتغيرات التي تنتجها الذات البشرية بلا إرادة معينة للتبضيع والمتاجرة ، اي عدم جعل الثقافة سلعة تجارية تؤسس نمطية زائفة من القيم والافكار ؟ نقول من الممكن ان نتحدث عن ذلك المثقف ولكن ضمن خانة التجهيل والتهميش والمراقبة وربما القمع بشكله المادي والمعنوي ، فالثقافة التي تكون مشبعة بأطر الحريات والديمقراطية بشكلها الحديث لاتستطيع أن تستوعب روحية النقد الموجه الى شكل الديمقراطية الرأسمالية ، وذلك لانها قائمة على مجتمع سياسي متشابه بالاهداف والبرامج ، اي احادي البعد ، بحيث تغدو كل منتاجات الحرية عبارة عن سلعة او رأسمال يحرك الاخرين يعطيهم المجال الاكبر للحركة والنشاط اكثر من غيرهم ، كذلك الحال ضمن المجتمعات التي تمثلت فيها النماذج الشمولية الاستبدادية من حيث شمول النسق وسيطرته على الاخرين وهنا نسق الحزب الواحد والفكر الواحد ، كان المثقف أكثر تبعية وانغلاقا من غيره بفعل انصهاره ضمن بوتقة الايديولوجيات المكتمله كشكل يؤسس العنف تجاه الاخرين . يوجد الكثير من المؤسسات الثقافية التي تتبنى الفعل الثقافي الدائب على اشكالية التغيير وبناء الاطر المختلفة عن جاهزية النسق الشمولي ، ولكنها تقع ضمن وضعية المثقف الذي يشتغل على نطاقات التغيير كسبيل انساني بشكله النسبي ، بأعتبار المؤسسة اكثر حضوة وامكانية من المثقف ذاته . ان المثقف والمؤسسة التي لاتعمل على تماثل الافراد ضمن نسق واحد شمولي لم يوجدا بعد بالشكل الذي يضفي الانتشار على نطاق الافراد عموما من اجل تجاز الاستغلال المؤسطر بعدة وجوه ووسائل تشمل محركات الاعلام الجماهيري واساطير الرياضة والفنون والثقافة وجميع المدركات التي لاتقود الى بناء عالم انساني محاط بقيمة الانسان ذاته بعيدا تأسيس الطوبى البشرية التي حاولت اجتراحها جميع الثورات التي حدثت في تاريخ البشرية ، ولكن هل الطوبى قد انتهت كمعطى ثقافي سياسي اقتصادي .. الخ ، انها لم تنته مادام العالم يسير ضمن كيفية واحدة وضمن سياق يؤكد النهايات ، التي تشمل الانسان والافكار والقيم والثقافات .. الخ من اجل تدعيم مركزيته المطلقة . ان المثقف الخارج عن تبعية المؤسسة يعيش ما اسمية بحالة الخوف من القادم الجديد الذي من الممكن ان يكتسح الاشياء جميعا مادام ذلك القادم حاملا لجاهزية ثقيلة من الاسلحة التكنلوجية العابرة لحدود الدول الوطنية ، هذه الاسلحة متعددة الرؤوس ، اقتصادية وعسكرية وثقافية .. الخ ، بحيث تنطبق على ذلك المثقف فعلا عنصري النهاية والتلاشي مادامت الحياة لاتحمل بوادر التغيير إلا ضمن اجهزة المنتصر والغني ، فإن التبعية تزداد عمقا واتساعا مع اقتراب السيطرة اكثر واكثر ، مع فشل المشاريع التحديثية في المنطقة العربية الاسلامية ، الامر الذي يقود الى جعل العالم كله نسقا شموليا لايتسع من حيث اللغة والحقيقة والسلطة والمعرفة .. الخ وهنا نتسائل كيف يمكن ان تتم تبعية المثقف للمؤسسة اوكيف تعمل الاخيرة على جعل المثقف خديما او تابعا حسب تعبيرات اديبنا الجاحظ ؟ ان المؤسسة بشكلها النسبي والسائد لدى الكثير من المجتمعات هي جهاز هاضم لطاقة الافراد على الاختلاف او تكوين الصور الجديدة ، تسير ضمن منحى مغلق من حيث الاعتبارات والاسس والقوانين المشكلة من خلال نموذج مسبق وجاهز ، انها تمنع الحرية بشكلها الانساني وتجعل العالم منزويا ضمن سيرورات عبثية بالنسبة للافراد الذين لديهم الرفض او عدم القبول بالامتثال لجاهزية قيم معينة تبثها المؤسسة ، ومن ثم يصبح ذلك المثقف يعيش الازمات الوجودية من حيث عدم وجود من يتبنى الافكار والقيم التي يحملها مادامت المؤسسات السائدة تنتج التماثل الاجتماعي ضمن صيرورة معينة مسجونة في افق واحد، وهنا تحدث الاشكالية الكبيرة بين ان يهضم المثقف ويتم توظيفة بما يخدم الآخرين ومن ثم يتحول الى أداة مفكرة لاتملك القدرة على الاختلاف والتجاوز والتغيير والبدل .. الخ انه يسير ضمن قابلية واحدة ومعطى ابداعي واحد ليس غير ، وبذلك سوف ينال ذلك " الاداة " الحضوة والتقرب والامتياز المادي الوجودي المعاش بشكله الدنيوي . هل من الممكن ان تتم عملية خلق مثقفين غير خاضعين الى تبعية مؤسسية معينة خصوصا بعد تأصلت كثيرا قيم التشابه والامتثال في عراق الدكتاتورية من خلال توظيف الكثير من المثقفين من اجل خدمة المؤسسة الشمولية العسكرية القائمة على إلغاء الانسان وجودا ومعنى ، اصلا ومآلا وابداعا في الكثير من الحروب الزائفة سواء تلك الممارسة داخل الوطن ضد الكثير من الابرياء العراقيين او تلك الممارسة على الاعداء الوهمين وفقا لدرجة الزيف الايديولوجي التي كانت تتبعها هذه المؤسسة الشمولية العسكرية ؟ من الممكن ان يتم ذلك من خلال تعددية المؤسسات الحاملة لاشكال وصفات الحرية ذاتها ، والتي تعمل على إضفاء طابع الخير الانساني وتعميم جانب التمدن والانفتاح وتكوين الكثير من الحقول الثقافية والاجتماعية غير المنصهرة ضمن بوتقة الواحدي التماثلي ضمن قابليات لاتؤسس الاحترام الحقيقي لجوهر الانسان ، من الممكن من خلال إعادة تشكيل العالم ورفض جميع المؤسسات او الاشكال التي تريد ان تجعل الاخرين يعيشون حالة التماهي والضياع المطلقين مع قيم جاهزة سواء تبثها الذات ومنتجاتها المؤسطرة طقوسا واحتفالات او تلك التي تباشرها الذوات المتشعبة والحاملة لقدرة التأثير الرأسمالي المشيئ لذاكرة الانسان وحاجاته واحلامه بالتغيير نحو عوالم افضل وكينونة بشرية مثلى .
#وليد_المسعودي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العنف الذكوري ضد المرأة
-
الذات العراقية بين احتلالين
-
المرأة العراقية بين الواقع والمثال
-
أدلجة الحقيقة - عنف المعنى
-
الديمقراطية والحركات السياسية الاسلامية
-
شريعة الافكار
-
الدولة الناشئة في العراق -السيادة والديمقراطية
-
جسر الأئمة واساطير السياسة
-
الذات العراقية من تأصيل العذاب الى تأبيد الاغتراب-نحو إعادة
...
-
ميشيل فوكو والنزعة الانسانية
-
نحو تأصيل جديد لثقافة الحرية
-
الانسان العراقي بين الدكتاتورية والارهاب
-
دولة الاستبداد - دولة الحرية
-
قبول الاخر
-
الدولة الديمقراطية
المزيد.....
-
هوت من السماء وانفجرت.. كاميرا مراقبة ترصد لحظة تحطم طائرة ش
...
-
القوات الروسية تعتقل جنديا بريطانيا سابقا أثناء قتاله لصالح
...
-
للمحافظة على سلامة التلامذة والهيئات التعليمية.. لبنان يعلق
...
-
لبنان ـ تجدد الغارات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت
...
-
مسؤول طبي: مستشفى -كمال عدوان- في غزة محاصر منذ 40 يوما وننا
...
-
رحالة روسي شهير يستعد لرحلة بحثية جديدة إلى الأنتاركتيكا
-
الإمارات تكشف هوية وصور قتلة الحاخام الإسرائيلي كوغان وتؤكد
...
-
بيسكوف تعليقا على القصف الإسرائيلي لجنوب لبنان: نطالب بوقف ق
...
-
فيديو مأسوي لطفل في مصر يثير ضجة واسعة
-
العثور على جثة حاخام إسرائيلي بالإمارات
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|