|
بين الطائفية والانتماء
مُضر آل أحميّد
الحوار المتمدن-العدد: 5138 - 2016 / 4 / 20 - 14:36
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
N-Affil او الحاجة الى الانتماء، مصطلح اشاعه الباحث ديفيد مكليلاند ليعبّر به عن حاجة الشخص للشعور بالانتماء الى مجتمع اكبر، وإن كان صغيرا. يبحث كلّ منا عن مسمى ينتمي اليه، او اسم ينضوي تحته، او كنية يُعرف بها؛ فيكتفي البعض بأسرته الصغيرة، ويبحث آخرون عن لقب اكاديمي، ويلتصق غيرهم بجمهور ناد رياضي او فرقة موسيقية؛ إلا إن الأكثرية تبحث عن انتماء أكبر يعطيها الشعور بالمَنعة ويغدق عليها الإحساس الواهم بالصواب والابتعاد عن دائرة الغلط فتنتمي الى الأديان، والمذاهب، والقوميات، والأعراق، والطبقات الاجتماعية.. الخ. تعملُ الحاجة الى الانتماء بصورة عجيبة بإعجاب تقلبّات العقل البشري، فكلّما خبت نار انتماء وشارف بريقه على الذهاب، نجدُنا نبحث عن انتماء جديد يسد فراغ الانتماء الذي سبقه، ويعوّض شعور الخواء الذي ملأنا بعد تشظي انتماءنا السابق. وبحسب عالم النفس الأميركي، هنري مورَي، فإنّ الحاجة الى الانتماء حاجة نفسية ملّحة –الى جانب الحاجة الى الإنجاز والنفوذ- لا يمكننا تجاوزها إلا الى بإشباعها. ويخلط البعض مخطئين بين الحاجة الى الانتماء والطائفية. فالطائفية هي نوع متقدم جداً من الانتماء يجعل المنتمي لا يتوانى عن تأكيد انتماءه الى طائفته ولو عنى ذلك الضرر ببقية الانتماءات. إشتّقَ مصطلح الطائفية من الفعل (طاف)، فكأن الطائفي يطوف العالم دون أن يبتعد عن مركز طوافه وهو طائفته؛ فهو يرى الصواب والخطأ بعيون طائفته، ويفسّر دوافع الآخرين من وجهة نظر طائفته، ويقسم الناس الى صنفين: من طائفته، ومن غير طائفته. ومشكلة الطائفية انها تقضي على حاجتنا الاساسية بالانتماء لتنقلها من كونها حاجة نفسية الى ارادة واعية تكون في أحسن حال لامبالية، وفي اسوأها شريرة عنيفة. لطالما أفرز الخراب الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي تنتجه الحروب خلطاً بين المفهومين؛ ولنأخذ العراق مثالاً: يناقض نفسه، او يخدعها، من يدّعي أن لم يكن وجود للانتماءات الطائفية في عراق ما قبل 2003، فقد كانت كل طائفة واعية لانتمائها ومعتزّة بثقافتها، وفي كل طائفة تواجد اولئك الذين ابحروا بقوارب الطائفية الى أعماق أبعد فكانوا لا يكتفون بالانتماء وانما اضافوا اليه عداوة الانتماءات الاخرى. لكن الاختلاف كمن في الاستقرار السياسي، وإن كان ديكتاتوريا؛ والاستقرار الاقتصادي، وإن كان خجولا؛ والاستقرار الاجتماعي، وإن كان مُقنّعا. كانت تجمع الانتماءات المختلفة انتماءات صغيرة تطغى على انتماء الطائفة، او تحيّده؛ فكان يجمع شخصين عملهما في نفس الدائرة، ولا يفرقهما انتماءهما المذهبي؛ وكان يجمع اخرَين انتماءهما الى نفس رابطة مشجعي ناد كروي، ولا يفرقهما انتماءهما الديني؛ او انتماء كبير، فكان يجمع الجميع، أو الغالبية، انتماءهم الى وطن، ولا تفرقهم انتماءاتهم التي كانت جانبية قياساً بهذا الانتماء الأكبر. وفي عام 2003 شهدنا زوال الانتماء الكبير، ومعه زال ما كان يطغى على الانتماءات الأصغر. ولأن الحال أخذت بالتردي، وأخذت سفينة العراق بالغرق، لم يكن لدى الناس الا الركوب في قوارب الطائفية مبتعدين عن سفينة غارقة بصحبة من اعطاهم انتماءً جديدا يُعيد اليهم شعور الأمان الذي فقدوه. مشكلة تلك الانتماءات انها لم تبقَ انتماء حاجة، فبعد فترة وجيزة أصبحت انتماءات ارادة لامبالية او شريرة. فأصبح الوطن مجرّد سوق يطوف به اصحاب الانتماءات لسد حاجاتهم او اشباع رغباتهم، وأصبحوا يرونه بعيون طوائفهم، ويعرّفونه بما ترتضيه طائفتهم. لو اردنا الإجابة على سؤال "من يُلام على ذلك؟"، لوقفنا أمام اجابتين لا ثالث لهما: الجميع. أو لا أحد. ومع أنني اميل الى الأولى، إلا انني سأبحث الثانية لسهولة عرضها. فمن وجهة نظر العلم، حاجة الناس في الانتماء ليست واعية ولا يُسيطَر عليها؛ ومن جهة اخرى، اننا نناقش مثالاً كان الانتماء الطائفي فيه مكبوتاً ثم اصبح أمام "حريّة" وهرج طائفي دونما سابق اعداد او وعي. ومن جهة ثالثة، كان الشعب المثال ينظر الى واحد من عدوين، بحسب الشخص الذي تسأله رأيه، هما: النظام الديكتاتوري. والقوى الامبريالية. أما في عراق ما بعد 2003، اصبحت "القوى الامبريالية" مجرد لاعب ثانوي، وتوجهت أنظار الشعب الى توليفة متنوعة من الانتماءات المتسببة في نزول سفينة العراق الى القاع. فالسني لا شكّ يلوم الوجه السنيّ في الحكومة، ولكنه يبقيه في نهاية قائمة اللوم، او يكيل اليه لوماً أقل مما يفعل ما سواه؛ وكذلك يفعل الشيعي مع ابن طائفته، ومثله المسيحي، والإيزيدي، والصابئي؛ وكذلك يفعل الكُرد والعرب. ولو فصلّنا لرأينا أنّ هنالك تفرقة أيضاً بين اصحاب نفس الانتماء ممن ينتمون الى مدينة دون أخرى، أو حزب أو تجمع دون أخر. قد يشير مُشير الى دعوات البعض وادعاءاتهم بوحدة الوطن والشعب مستدلا بها على بطلان دعواي وبيان مشروعي التخريبي، وله أقول: لا يدعو انسان في العراق الى وحدة الشعب والوطن أحد دون أن يرى نفسه، او حزبه او طائفته او توجهه، قائدا لذلك الشعب الواحد والوطن الواحد. ولا يطالب انسان في العراق الى فدرلة الشعب والوطن إلا لأنه لا يرى نفسه، او حزبه او طائفته او توجهه، قائدا دون تلك الفدرلة. العرب السنّة يرون عراقاً موحداً بانتماء الى محيطه العربي وقيادة قريبة الى ما قبل 2003 مع بعض التحسينات والتعديلات. العرب الشيعة يرون عراقاً موحداً بانتماء أخوي الى اخوة المذهب في ايران. وكل منهما يراه موحدا تحت قيادته. أما الكُرد فعندهم اقليم يشبع حاجة الانتماء، يعتبرونه دولة مستقلة في بعض الأحيان، ولكنّهم يرغبون بالمشاركة في حكم المركز على أية حال.
هل مِن حلّ يحلحل تشابكات الانتماءات الطائفية في العراق فيُحلّ على اهله بعض الراحة؟ بالطبع، وعدم معرفتنا الحل لا يعني غيابه، ولكنني اعرف التالي: الاصرار على وحدة العراق أرضاً وشعباً ومحاولة جعلها واقعا بالنار والحديد ليس حلاً. لم تزل فكرة تراودني عن حلّ لمشكلة الطائفية في العراق حتى لاح لي بريق رأي في الموضوع؛ انّ مشكلة العراق في خلط ابناء شعبه بين ان ينتموا وبين أن يكونوا طائفيين. يجب علينا تعزيز فكرة الانتماء الى الطوائف والانتماءات المختلفة لسد حاجة الانتماء وطرد ارادة الطائفية. انّ تعزيز انتماء الشخص وتعريفه بواجباته ومسؤولياته تجاه الجماعة، والتي لا تضر بحقوق الجماعات الاخرى، انما يزيد ثقته بقراره، ويجعله يتحمل مسؤوليته، وربما قد يترك التشكي ويبتعد عن بث مظلوميته في مناسبة او دونها، ويجعله يعرف الأشخاص الذين يشكوهم ويشكو اليهم عند الحاجة. وربما، بعد حين، تعود الانتماءات الصغيرة شيئا فشيئا لتجمع المختلفين، وتجعل دعاة الطائفية أقليّة من جديد.
#مُضر_آل_أحميّد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجُرذ
-
المتطرف يفتخر، والمثقف يخجل
-
رأيي.. ورأي الآخر
-
خلافة الفكر الداعشي
-
لماذا الحوار المتمدن؟
-
لا أزمة ثقافة، بل أزمة تفكير
-
بين المطرقة والسندان!
-
إبراهيم وأمّة العجائز
-
اللادينية الجديدة.. عالمٌ جديد جبان
-
أنستهزئ بالإسلام؟
-
تجارة الحريّة: الحجاب أنموذجاً
-
وداعا ً للسياسة
-
لأنكِ بنت!
-
انتهى زمن الفلسفة؟!
المزيد.....
-
رصدتهما الكاميرا.. مراهقان يسرقان سيارة سيدة ويركلان كلبها ق
...
-
محاولة انقلاب وقتل الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا.. تهم من ا
...
-
ارتفاع قياسي للبيتكوين: ما أسباب دعم ترامب للعملات المشفرة،
...
-
الكربون: انبعاثات حقيقية.. اعتمادات وهمية، تحقيق حول إزالة ا
...
-
قائد القوات الصواريخ الاستراتيجية يؤكد لبوتين قدرة -أوريشنيك
...
-
روسيا تهاجم أوكرانيا بصاروخ جديد و تصعد ضد الغرب
-
بيع لحوم الحمير في ليبيا
-
توقيف المدون المغربي -ولد الشينوية- والتحقيق معه بتهمة السب
...
-
بعد أيام من التصعيد، ماذا سيفعل بوتين؟
-
هجوم بطائرات مسيّرة روسية على سومي: مقتل شخصين وإصابة 12 آخر
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|