|
العقلانية العربية الحديثة
ناظم عودة
الحوار المتمدن-العدد: 5133 - 2016 / 4 / 14 - 20:39
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
منذ نهايات الربع الأول من القرن العشرين، أحدثَ علي عبد الرازق وطه حسين تلك الصدمة المعروفة للفكر العربي، وهي صدمة موجهة للعقل لأنها انتقدت الأسس الثابتة لهذا العقل الذي اقتنع بالمبادئ التي أُعطيتْ له من دون أنْ يكون له دور في تمحيصها ونقدها، فكان أنْ وقعَ في مشكلة معرفية وهي سيطرة القبليات والنقل على منهجه الفكري. كان هذا تمهيداً جيداً، لظهور أجيال أخرى وجدتْ أنّ هذا العقل يُعنى بجانب واحد ويهمل الجوانب الأخرى، فشرعَ زكي نجيب محمود منذ الثلاثينيات إلى إظهار أهمية المنطق العلمي الحديث الذي ينبغي للعقل العربي أنْ يعتمدَهُ في التفكير، وما بين الثلاثينيات والأربعينيات انتقد ميتافيزيقا العقل العربي، وفي بداية الخمسينيات اعتنق فلسفة العلم ولاسيما الفلسفة التجريبية والمنطق الوضعي والبرجماتية. تضمّ العقلانية العربية مجموع الرؤى والمواقف الفكرية والدراسات المستقلة عن الدين بوصفه رؤية ومنهجاً وإطاراً معرفياً، والمتخذة من العقل والعلم بديلاً معرفياً ومنهجياً ومجالاً للرؤية. إنّ الفكر العلمي، لا يختلف عن الفكر الإنساني في شيء، فهو جزء من المنظومة الفكرية للعقل الإنساني، وكان له دائماً دور في تجديد الفكر الإنساني، ومساهمة رئيسية في تطور نظرية المعرفة. ولذلك فإنّ العلم يتطلب أساساً عقلانياً لبناء النظريات والبرهنة على صحتها وطرحها في نسق فلسفي يجيب عن بعض الأسئلة الخاصة بالظواهر العلمية. فالعلاقة بين العقلانية والعلم هي علاقة وثيقة تظهر من خلال فلسفتهما القائمة على تطبيق المنهج العلمي الذي يقوم بوظيفة التفسير تفسيراً يأخذ بالمبدأ العقلاني والعملي في التثبت من صحة فرضياته، بدلاً من الأسلوب القديم القائم على التأملات والاعتقادات الغيبية. وقد نشأت العقلانية العربية بعد انكشاف عدم كفاية المعرفة القديمة وعدم كفاية علومها في تحقيق متطلبات الحياة العصرية في التعليم والتصنيع والحاجة المتزايدة لدراسة الاقتصاد والمجتمع على وفق النظريات العلمية الحديثة، فنشأت حاجة إلى اكتساب المعارف العقلية الموطئة للنزعة العقلانية. وقد بدأت إرهاصات هذه العقلانية منذ القرن التاسع عشر، وتطورت خلال القرن العشرين. كان القانون المتحكّم بالحياة العربية حتى بدايات القرن العشرين هو القانون الفقهي النصي والنقلي، وقد تأسست بموجب هذا القانون كلّ مؤسسات المجتمع وفي مقدمتها التعليم والقضاء. فخضع تفسير الأشياء والأفكار والحوادث إلى الدليل النصي، في مقابل تغييب كامل للعقل بإزاء النص والنقل. فكانت هذه المرحلة الطويلة، التي أصبح فيها العقل وعلومه كالمنطق والفلسفة والطبيعيات في موضع ازدراء وتحريم وتغييب، من أسوأ مراحل التاريخ العربي في التأخر العلمي والفكري والاجتماعي. وفي مقابل هذا التأخر، تقدّمت أمم كان الإسلام يحكمها، ثم استغلت تلك الأمم تقدمَها في ميدان العلوم والصناعات في استعمار البلاد الإسلامية والعربية، فكانت الصدمة الكبرى خير موقظ للعقل الشرقي التابع الذليل لقوانين رجال الدين وتفسيراتهم وفتاواهم وتعصبهم وضيق نظرتهم للحياة العصرية. فكان لابد للخروج من هذه الأزمة الحضارية بالانعتاق من هيمنة الدين بالصيغة التي وضعها رجال الدين للتحكم بالحياة والفكر والإنسان. بدأت إرهاصات الاستقلال الجزئي عن الدين لدى الطهطاوي الذي نقل لنا أفكاراً سياسية تتضمن شرائع لأنظمة سياسية قائمة على مقدمات فكرية مستقلة عن الدين ومتعارضة معه، ونقل لنا الدستور الفرنسي والقوانين الفرنسية القائمة على تشريعات مستقلة عن الدين، ونقل لنا انبهاره بالحياة الفرنسية التي تسير على نحو متحضر ومتطور بعيداً عن الالتزام الديني. لكن الطهطاوي كان ذا العقلية الأزهرية والمشبَّع بروح الثقافة الدينية التقليدية، كان جريئاً في النقل والطرح. ومع أنه أراد التوفيق بين ما نقله من الأفكار والنظم السياسية والقوانين المدنية وأنماط الحياة المدنية وبين الشريعة الإسلامية، إلا أنّ استجابة الواقع في ذلك الوقت لم تكن استجابة مثالية، وأخذت بذور العداء للأفكار ذات الأصول الأوروبية، تنمو داخل بعض المؤسسات الدينية ولدى بعض علماء الدين الذين وقفوا موقفاً متطرفاً من هذه الأفكار، وتحصنوا بمسلّمات سلفية تقليدية أكل الدهر عليها وشرب، استغلوا العاطفة الدينية القوية لدى العرب في تكوين تيار مناهض لهذه الأفكار. وقبل الطهطاوي، كان الجبرتي، أيام الحملة الفرنسية، قد أبدى تعجبه وإعجابه بالاختراعات الفرنسية في ميدان العلوم، وقد انبهر حسن العطار بعلوم الحملة الفرنسية ونقل هذا الانبهار إلى تلميذه الطهطاوي فطلب منه تقييد كلَّ شيء في أثناء رحلته إلى فرنسا. ينبغي أنْ نفرّق بين العقلانية العربية الناشئة والعقلانية الغربية بوصفها نزعة فلسفية لا تعترف - في نظرية المعرفة- بغير الاستدلال العقلي كما لدى ديكارت وسبينوزا ولايبنتز. وفي هذا التفريق، لا يُعتبر فيلسوفان مثل جون ستيوارت مل وديفيد هيوم فيلسوفين عقلانيين وإنما فيلسوفان ماديان لأنهما لا يعترفان بغير الحس والتجربة منهجاً معرفياً. فالعقلانية، إذن، هي نزعة، ولا يمكن لأيّ فكرة تمجّد العقل أو العلم أنْ تكون عقلانية بإطلاق المفهوم. لكي نفهم العقلانية العربية على الوجه الأكمل، ينبغي أنْ نصنفها إلى اتجاهات بحسب ظهورها في الفكر العربي الحديث: - الاتجاه المدرسي: وهو اتجاه تحدث عن العقل والمعقولات بنفس الطريقة التي جرى الحديث فيها عن العقل في الفلسفة الإسلامية. وهذا الاتجاه لم يتعرّف على أيّ نظرية من نظريات العقلانية الحديثة في الغرب، لذلك كان حديثه عن العقل متوافقاً مع كتابات الفلاسفة المسلمين في موضوع العقل. بمعنى، أنّ هذه الكتابات كانت تطابقية وذات غاية بيداغوجية، ولم يتمخّض هذا الاتجاه عن أيّ نظرة نقدية تحليلية لموضوع العقل في التراث الإسلامي لأنّ الغاية من ذلك كانت دائماً غاية مدرسية مؤطرة بإطار ديني تُلْمِعُ إلى أنّ الدين الإسلامي قائم على التفكير العقلي ومن ثمّ لا تعارض بينه وبين العقل. ففي أخريات المرحلة التعليمية التقليدية تحدّث حمزة فتح الله في المواهب الفتحية عن العقل وذكر نصوصاً للعرب فيه، وكذلك تحدث عنه حسين المرصفي في الوسيلة الأدبية، لكن تلك الإشارات كانت عرضية وتقليدية في بيان أهمية العقل، وهي منقولة بتصرف من المصادر الإسلامية التي تضمنت فصولاً عن ماهية العقل والنصوص المقدسة الواردة فيه والحديث عن حجيته في مصادر الأصول، وبعض الكتب ضمّت الكثير من الحكايات الخرافية حول العقل. وهذا يعني أنّ المدارس الدينية كانت تشير إشارات بسيطة وهامشية إلى العقل على الرغم من جذوره المهمة والأصيلة في التراث العربي والإسلامي. وعلى الرغم من تحريم دراسة المنطق والفلسفة في المدارس الدينية كالأزهر وغيره من المدارس، إلا أنّ الحديث عن العقل وأهميته في الإدراك والنظر إلى الأشياء كان متداولاً على استحياء في هذه المدارس. على حين كانت المدارس الدينية في النجف تقوم بتدريس المنطق والفلسفة والعقيدة ولاسيما لدى علماء الأصول بعد أنْ أزاحوا التيار الأخباري عن طريقهم على أثر نزاع عنيف، فالأدلة "عند المجتهدين [الأصوليين] أربعة: الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل (...) وأما عند الأخباريين فالأولان خاصة"(1). ولو نظرنا إلى هذا الاختلاف الفكري الذي جدّده وألهبه حماساً أحد ألمع علماء القرن السابع عشر الميلادي وهو الشيخ محمد أمين الإسترآبادي (توفي سنة 1623م، وكان معاصراً لثلاثة من أقطاب التيار العقلاني في الفلسفة الأوروبية وهم: ديكارت وسبينوزا ولايبنتز) فإننا نتعرّف على طبيعة الجدل الفكري الديني الذي دار حول حجية "الدليل العقلي" في مقابل حجية "الدليل النقلي" أو النصي. وقد أبان الإسترآبادي فلسفتـَـه في كتابه: الفوائد المدنية، على وجه أكمل ودافع عن فكرة أنّ الدليل العقلي دليل ظني ووهمي، وهو ما لا يجوز اعتماده دليلاً قاطعاً في الحكم، قال: "لا يجوز الاعتماد على الدليل الظني في أحكامه تعالى أصلاً سواء كان ظنيّ الدلالة أو ظنيّ المتن أو ظنيهما"(2). وحجته في عدم اعتماد الدليل العقلي الذي يسميه: الدليل الظني، هي في أنه "ليس في المنطق قانون يعصم عن الخطأ في مادة الفكر"(3). وهو يُلْمِعُ بذلك إلى أنّ المنطق الذي درجَ المنطقيون والفلاسفة على تعريفه بأنه القواعد العاصمة للفكر من الوقوع في الخطأ. والشيخ يشير هنا إلى أنّ قواعد المنطق هي قواعد صورية تنطبق على الشكل دون المادة ومن هنا جاء تحذيره ونقده لأصحاب الدليل العقلي. وتحدث بالتفصيل عن الظنيات والوهميات، وقسّمَ العلوم النظرية إلى قسمين: الأول "ينتهي إلى مادة قريبة من الإحساس"(4) كالهندسة والحساب وأبواب المنطق، والثاني "ينتهي إلى مادة بعيدة عن الإحساس"(5) كالحكمة الإلهية والطبيعية وعلم الكلام وعلم أصول الفقه والمسائل النظرية الفقهية وبعض القواعد المذكورة في كتب المنطق. وأراد بهذا التقسيم طبعاً أنْ يحتجَّ به على الأصوليين الذين خاضوا في مسائل القسم الثاني اعتماداً على العقل. ويبدو لي أنّ حضور التراث الفلسفي الشيعي في علوم المنطق والفلسفة والكلام المتمثل بأعلام هذه العلوم كالشيخ الصدوق أحد كبار محدثي الشيعة، والشيخ المفيد الذي أخذ بالدليل العقلي، ونصير الدين الطوسي الفيلسوف والعالم الكبير والشريف المرتضى وغيرهم ممن خلّفوا مؤلفات عديدة في جميع العلوم وأسسوا الدرس الفلسفي الأكاديمي في هذه المدارس الدينية، أقول إنّ الحضور المكثف لهذا التراث في المدارس الشيعية كان له أثر واضح في استئناف الحديث عن العقل والدليل العقلي في أصول الفقه. لكن ينبغي أنْ نشير إلى أنّ هذا النمط من النشاط الفكري كان بشكل عام تقليدياً ما عدا التحليل الرفيع الذي قدّمه الإسترآبادي عن العقل على الرغم من أنه ينتمي إلى تيار الأخباريين النقليين. وتركَ هذا الجدل الذي دار بين المذهبين أثراً واضحاً في الحركة الفكرية في النجف حتى نهاية الخمسينيات كما لدى الشيخ محمد مهدي النراقي في جامع السعادات(6) ولدى الشيخ محمد رضا المظفر الذي تناول موضوع العقل والاجتهاد والتقليد والدليل العقلي ونظرية المعرفة والدليل المتعالي وسوى ذلك في كتابه: بداية المعارف الإلهية(7). ومع ذلك، فإنّ هذا الحديث لم يتجاوز البيئات الدينية، وحتى في هذه البيئات بقيَ حديثاً مستعاراً ومستعاداً من الفلسفة الإسلامية، ولم يخرج عن حدود "التعليقة" و"الحاشية" و"شرح الحاشية" و"التلخيص" وإيضاح التلخيص وسوى ذلك من الاصطلاحات المتفقة المعنى والخالية من الابتكار والتجديد. ولم تتطور المعرفة العقلية بأفكار ونظريات جديدة إلا في الربع الأول من القرن العشرين. - الاتجاه الإصلاحي: وهو الاتجاه الذي استعمل العقل والعلم في موضع الإرشاد والتنبيه والإصلاح. وكان هذا الاتجاه يدعو إلى نوع خاص من النظر العقلي وهو النظر الذي لا يتعارض مع الثوابت الأساسية ومنها الشريعة لأنّ معظم الإصلاحيين كانوا من التيار الإسلامي، وفي مقدمة هؤلاء جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا. فالأفغاني الذي نــــبـّهَ إلى العقل في أكثر من مناسبة، تحوّلَ في رسالة (الردّ على الدهرين) إلى مفكر سلفي لا يختلف عن الغزالي في (تهافت الفلاسفة) كلاهما كفّرَ الفلاسفة وكلاهما كان سلفياً يعتمد الحجة النقلية النصية في النقد مع أفضلية للغزالي في موسوعيته وعمق تفكيره ومناقشته بعض المسائل الفلسفية المعقدة في نطاق النقد العقلي الصرف وإنْ انطلقَ من مقدّمة مسبّقة. وكان العقل عند الأفغاني خادماً للإيمان، كأنّ العقل مجرد آلة وظيفتها إثبات ما كان ثابتاً أصلاً في النفس بطرق الاستدلال الصوري. تطوّر الأمر قليلاً مع محمد عبده الذي بيّــنَ أنّ الإيمان في الإسلام مبنيّ على أساس العقل، وأنّ "الأصل الأول للإسلام" هو "النظر العقلي لتحصيل الإيمان" وأنّ "الأصل الثاني للإسلام" هو "تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض"(8). واتخذ ذلك منهجاً في تفكيره، لكن علينا أنْ ننتـــبه إلى أنّ هذه الحماسة للعقل وتقديمه على ظاهر الشرع عند التعارض، كانت في بعض المسائل الفرعية دون غيرها، وكذلك في المسائل الفقهية دون المسائل العَقَدية. ومع ذلك، فإنّ هذه الفكرة وفّرت شيئاً من المرونة في التفكير في ذلك الوقت. وقد تضمن كتابُه: رسالة التوحيد، وهو مجموعة محاضرات ألقاها في المدرسة السلطانية ببيروت في سنة 1886 كلاماً في العقل، فقرّر أنّ القرآن "أمرَ بالنظر واستعمال العقل" وقال: "تآخى العقل والدين لأول مرة في كتاب مقدّس على لسان نبي مرسَل بتصريح لا يقبل التأويل"(9). وكان العقل لدى جميع المفكرين الإسلاميين مفهوماً مقيّداً وليس مطلقاً، وعندما خرج أنطون فرح عن ذلك القيد وخرج هانوتو عنه أيضاً على الرغم من أنهما غير ملزمين بذلك القيد لاختلاف الملة والعِرق والمذهب الفكري، حاورهما الشيخ محاورة فكرية نتلمسُ منها دفاعاً عن الثوابت بإزاء التفكير العقلي المطلق. لكنّ هذه المرونة المحمودة من الشيخ محمد عبده، انتكستْ على يد تلميذه محمد رشيد رضا الذي اتجه اتجاهاً سلفياً محضاً متمذهباً بمذهبَيْ ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، فدعا إلى "إنشاء جماعات تدعو إلى الإسلام وتقوم بنشره على أسس سلفية نابذة التقليد والبدع والخرافات، داعية إلى الإسلام الخالص من شوائب الشرك والبدع"(10). وتحت اصطلاحَيْ: "البدع والخرافات" جرت محاربة المذاهب الأخرى وتكفيرها، ومحاربة الصوفية وتكفير أصحاب النزعات العقلية والعلمية ممن كانت مصادرهم العلوم والمعارف والفلسفات الغربية الحديثة. اتخذ محمد رشيد رضا مجلة: المنار، لاستئناف الفكر السلفي وإحيائه ونشره، واتخذها أيضاً منبراً للإفتاء السلفي، وتحريم أيّ فكرة جديدة، وكشفت هذه الفتاوى عن تقليدية فكر هذا الشيخ فانتُقِدَ من قبل محمود أبو رية ومحمد فريد وجدي وآخرين بسبب هذه السلفية والتقليدية التي لا تناسب العصر. وظل طوال حياته يتجاذبه مؤثران: المؤثر السلفي النقلي النصي كدليل من أدلة الاعتقاد الوجوبية، وكان مرجعه في ذلك ما كتبه ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب، ومؤثر أستاذه محمد عبده، فخلاصة حديثه في: الوحي المحمدي أنّ العقل والعلم لا يغنيان عن الإيمان(11). وهو يرى أنّ العقل الحرّ والمستقلّ والعلم العقلي الوجداني هما من يقيم الحجة على الوحي المطلق(12). وتحدثَ في تفسير المنار واصفاً منهجه بأنّ العقول الصافية وحدها التي تتمكن من تفسير القرآن وما ينطوي عليه من معارف عالية ومطالب سامية(13). وينبغي أنْ لا ننخدع من استعماله لمصطلحات من قبيل: العقل الحرّ، والعقل المستقلّ، والعلم العقلي الوجداني، والعقول الصافية، فهو يعبّر عن موقفه من المعرفة العقلية التأويلية للنص المقدَّس أو التفسيرات العقلانية لهذا النصّ، وقد طوّر موقفه الخاص بالمسائل الدينية إلى عموم النظر العقلي الحرّ في طَرْق مسائل قد تتعارض مع الشريعة، وفي أحيان أخرى كان موقفه نابعاً من عقيدة سياسية كالموقف من الفكر الجديد المتأثر بالفكر الغربي الحديث. وحتى موقفه السياسي تأثر بهذه النزعة السلفية فكان يدعو إلى الجامعة الإسلامية عن طريق الخلافة العثمانية، ووضعَ في ذلك كتاباً هو: الخلافة، (1922) دافع فيه عن الوجوب الشرعي للخلافة، وحجته في ذلك ما قاله العلماءُ السلفيون قبله، قال: "أجمع سلف الأمة وأهل السنة، وجمهور الطوائف الأخرى على أنّ نَصْبَ الإمام، أيْ توليته على الأمة، واجب على المسلمين شرعاً لا عقلاً فقط كما قال بعض المعتزلة(14) وقد خالف الوجوب الشرعي في مسألة "نَصْب الإمام" بإعمال النظر العقلي، بمعنى أنّ الدليل النقلي لا يقتضي الوجوب في ذاته من دون التمحيص العقلي في المسألة، ومثله كان موقف الجاحظ وعبد الرحيم الخياط والكعبي، كما نقل لنا سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد(15) واستدلوا بأمور لخّصها السعد في متن المقاصد بقوله: "واجب على الخلق سمعاً عندنا، وعند عامة المعتزلة، وعقلاً عند بعضهم، وعلى الله عند الشيعة، وليس بواجب أصلاً عند النجدات، وحال ظهور العدل عند الأصمّ، والظلم عند القوطي"(16). إنّ هذا الاتجاه؛ الاتجاه الإصلاحي، شأنه شأن الاتجاه المدرسي، لم يقُم بتحديث مبحث المعرفة العقلية في الفلسفة الإسلامية بأفكار جديدة من العقلانية الأوروبية الحديثة. وظلّ مفهوم العقل ينطوي على مشكلة في الفقه الإسلامي وعلم الأصول، وكان الخلاف واقعاً في: هل يمكن أنْ يكون العقل دليلاً وحجة في الحُكْم على نحو ما رأينا عند الأخباريين والأصوليين وغيرهما؟. الاتجاه المادي: وهو اتجاه يؤمن بالمادية العلمية، ويرى أنّ الاكتشافات العلمية هي المسؤولة عن تقدمنا الحضاري والتي قدمت إجابات عن العديد من الأسئلة المحيرة وساهمت في حلّ المشكلات الكبرى في المعرفة والوجود، هي نتاجُ عقلٍ بلغ الدرجة القصوى في الأصالة والعمق في التحليل المادي للعالم، لكن الحكم في النهاية للمادة والدليل المادي لا الدليل العقلي عند أصحاب هذا الاتجاه. وهذا الاتجاه يعتقد أنّ اكتشافاته مطابقة للعقل ضرورة ولا تتناقض معه لكنّ فعلَيْ البرهان والتصديق تتكشفان من خلال الدليل المادي لا الدليل الظني أو الحَدْسي أو الميتافيزيقي. رائد هذا الاتجاه في الفكر العربي هو شبلي الشميل الذي وظّف جميع أفكار الطبيعيين الاجتماعيين في حديثهم عن الأديان وأصل الأديان ونشأتها في النفس الإنسانية وما بُنِيَت عليه من أمور خرافية، لينتقدَ- رغبةً منه بالإصلاح العقلي- واقعَ العرب في ذلك الوقت الذي ساد فيه تغييب العقل وراء الاعتقاد بالأوهام والأساطير. وكان كتابُه الرائد: فلسفة النشوء والارتقاء - وهو ترجمة لأفكار عالــِم الأحياء الألماني بوخنر، أضاف الشميل إليها الكثير من الشواهد والتفسيرات المأخوذة من تاريخ العرب وواقعهم- كتاباً إصلاحياً في شطر منه عندما يناقش مسائل الدين، وعلمياً في الشطر الآخر عندما يستعرض النظريات الطبيعية والعلمية في الإنسان والوجود، وفلسفته قائمة على أنّ المادة باقية وهي لا تندثر أو تفنى "إلا من حيث الصورة فقط، وأما من حيث الجوهر فهي دائمة"(17). وهذا خلاف نظرية الصور الأفلاطونية، لكنه ينسجم تماماً مع النظريات المادية الكلاسيكية والحديثة. وهو يعتقد أنّ جميع العناصر التي يتألف منها الإنسان موجودة في الطبيعة، وبما أنها كذلك فتفسيرها وتفسيره لابدّ أنْ يكون تفسيراً طبيعياً. فوقعت أفكار دارون العلمية وأفكار سبنسر الاجتماعية في نفسه موقعاً آسراً، فهما كانا يسدّان نقصاً هائلاً في الفكر العربي في نهايات القرن التاسع عشر. وقد أجاب شرح بوخنر لنظرية التطور الدارونية عن العديد من الأسئلة التي ظلت حائرة لدى الشميل وإسماعيل مظهر وسلامة موسى(18). - الاتجاه الديكارتي: وهو من أهمّ الاتجاهات المؤثرة في الفكر العربي المعاصر، وكانت بدايته في الربع الأول من القرن العشرين على يد طه حسين الذي أشاعه بين تلامذته وكذلك الفيلسوف الفرنسي المدرّس بالجامعة المصرية حينئذٍ وهو إميل برهييه(19) الذي قام بتدريس نصوص ديكارت الفلسفية لتلامذته المصريين وكانوا سبعة طلاب(20) سيكون لهم أثر واضح في الفكر العربي لاحقاً. وبعد التعريف بفلسفة ديكارت من قبل طه حسين وبرهييه في الجامعة المصرية في سنة 1925، قام أحد تلامذتهما وهو محمود الخضيري بترجمة كتاب: مقال عن المنهج، ونشره في سنة 1930 ليتعرف الفكر العربي لأول مرة وعلى نحو مباشر على أفكار ديكارت من خلال أحد مؤلفاته المهمة. لم يكن الكتاب مجرد ترجمة وإنما قام الخضيري بافتتاح الترجمة بدراسة وافية عن ديكارت وحياته وعصره وفكره ومصطلحاته وآراء مؤرخي الفلسفة بنزعته العقلانية. وعرضَ الخضيري فلسفته عرضاً وافياً كان بمنزلة المدخل لها ولمجمل الفلسفة العقلانية. وكان منهجه في الترجمة يقوم على تقريب الاصطلاحات الفلسفية بتأصيلها باصطلاحات الفلسفة الإسلامية، أما اصطلاحات ديكارت الخاصة به فقام بتوضيحها من فلسفة ديكارت نفسه(21). تضمن كتاب ديكارت "مقال عن المنهج" معالجة مسائل جوهرية عولجت معالجة فلسفية كالبرهان اليقيني في العلوم (القسم الأول) وأصول قواعد المنهج العقلاني (القسم الثاني) وقواعد الأخلاق المستنبطة من منهجه (القسم الثالث) والأدلة العقلية على وجود الله ووجود النفس (القسم الرابع) وأخيراً مسائل الطبيعيات. وشكّل الكتابُ ودراسةُ محمود الخضيري إضاءةً مهمة لهذه الفلسفة التي أخذت تؤثر في الفكر العربي منذ الربع الأول من القرن العشرين. وأثار تبني منهج ديكارت ردودَ أفعال عديدة ولاسيما النقد الذي وُجِّهَ إلى طه حسين. وفي سنة 1949، كتب يوسف كرم ثلاثة فصول مهمة عن العقلانية الأوروبية الحديثة ممثلة بديكارت وسبينوزا ولايبنتز في إطار تاريخ شامل عن تاريخ الفلسفة الحديثة يمكن للقارئ أنْ يتعرف على تطور الفكر الفلسفي الحديث كرونولوجياً وبمنهج لا يتجاهل التطور التاريخي بما عُرِفَ عن يوسف كرم من معرفة موسوعية كبيرة بالفلسفة وتاريخها. ومثلما ترجمَ الخضيري، تلميذُ طه حسين وبرهييه، كتابَ: مقال عن المنهج قام عثمان أمين، تلميذُ يوسف كرم، بترجمة كتاب التأملات في سنة 1951. وكان يوسف كرم نفسه قد دافع عن الفكر العقلاني ونشر هذا الفكر من خلال محاضراته الجامعية ومؤلفاته الفلسفية. كان طه حسين قد فاجأ الأوساط الثقافية في العالم العربي بنظرية جديدة عن الشعر الجاهلي هي خلاصة لآراء بعض المستشرقين، وخلاصة لمنهج ديكارت الفلسفي العقلاني الذي أقامه على رفض المسلمات والافتراضات والأفكار القَبْلية واعتنق الشك فيها جميعاً منهجاً للوصول إلى حقائق الأشياء. فتوصل طه حسين إلى أنّ الشعر الجاهلي كله منتحل بعد "ظهور الإسلام" فهو إسلامي "تـَمثَّل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تـَمثَّل حياة الجاهليين"(22). وخلقَ المنهج الذي سار عليه طه حسين من الناحية التطبيقية مناصرين ومناهضين، منهم محمود أبو رية الذي قام بعمل نقدي كبير لما وصل إلينا من حديث نبويّ في كتابه المهم: أضواء على السنة المحمدية المنشور في (1957). وقد وجد أنه "لا يكاد يوجد في كتب الحديث كلها مما سموه صحيحاً، أو ما جعلوه حسناً (...) قد جاء على حقيقة لفظه ومحكم تركيبه. كما نطق الرسول به، ووجدتُ أنّ الصحيح منه على اصطلاحهم إنْ هو إلا معانٍ مما فهمه بعض الرواة! وقد يوجد بعض ألفاظ مفردة بقيت على حقيقتها في بعض الأحاديث القصيرة وذلك في الفلتة والندرة، وتبيّن لي أنّ ما يسمونه في اصطلاحهم حديثاً (صحيحاً) إنما كانت صحته في نظر رواته، لا أنه صحيح في ذاته، وأنّ ما يقال عنه (متفق عليه) ليس المراد أنّ البخاري ومسلم قد اتفقا على إخراجه، وليس من شروط الحديث الصحيح أنْ يكون مقطوعاً به في نفس الأمر لجواز الخطأ والنسيان والسهو على الثقة"(23). إنّ أهمية المنهج الديكارتي بالنسبة للفكر العربي المعاصر تكمن في أنه كان يوفّر للمفكرين العرب الرؤية الخالصة من دون تأثير المقدمات الـمُسبَّقة، وكان له الفضل للتمهيد للأخذ بالأفكار العلمية الحديثة. لكن هذه الرؤية لم تشمل جميع حركة الفكر العربي وإنما انحصرت ببعض المفكرين كطه حسين ومحمود أبو رية وآخرين. وقد ساعد المنهج الديكارتي المفكرين على تقويض بعض البنى الثابتة في التفكير التقليدي والتفكير المدرسي الجامد، لا طلباً للتقويض في ذاته ولذاته، بل رغبة في الوصول إلى حقائق الأشياء. وفي سنة 1959 ترجمَ عثمان أمين كتابَ مبادئ الفلسفة لديكارت، ووضع نجيب بلدي كتاباً حول ديكارت وحياته وعصره وأفكاره العلمية وآرائه الفلسفية، وأصبح الكتاب مرجعاً أساسياً لدراسة ديكارت. وكان نجيب بلدي، يدعو إلى قراءة ديكارت قراءة تتجاوز مرحلة الدهشة والذهول إلى فهم الحقائق البسيطة الأولى التي أرجع ديكارت إليها فلسفته في ما بعد الطبيعة، وأنْ، كما قال نجيب بلدي، نفهمه حين "يشرح منهجه وحين يمارسه، لا أنْ نُكوّن فكرة عامة عن هذا المنهج ونحاول تطبيقه"(24). وكان هدفه من هذا الكتاب كما لخّصه: "فهم المعاني البسيطة وحقائق العقل السليم التي نادى بها ديكارت"(25). وقد حظيت العقلانية الديكارتية بتأثير سحري في الفكر العربي منذ الشروع في الكتابة عنها في نهايات القرن التاسع عشر ومنذ اعتناقها من قبل طه حسين، فكان لهذه الفلسفة حضور متجدد من خلال مجموعة من المؤلفات التي تناولت الفلسفة الديكارتية وقيمتها في تكوين الفكر الحديث. الاتجاه الإسلامي العقلاني: وهو اتجاه غرسه، في الدراسات الفلسفية، مصطفى عبد الرازق في كتابه: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية (1944) وكتابه الآخر: الدين والوحي والإسلام (1945). وذهب إلى أنّ العقل هو الأساس لحلّ مشكلة العلاقة بين الدين والعلم، وينبغي أنْ نفطن إلى أنّ مفهوم العلم عندئذٍ كان يشير إلى تضمنه للنظريات المتعارضة مع الدين تعارضاً جذرياً، سواء أكانت نظريات علمية بحتة أو نظريات فلسفية. وهو يفرّق بين العقائد التي هي أساس الإيمان التي ينبغي للعقل أنْ يتقيّد بها(26). ونقل لنا رأي دوركايم في أنّ الدين مرادف لما وراء العقل(27)، بمعنى أنّ العقل قاصر عن بلوغ هذه المرتبة من المعرفة. ونقل أيضاً رأي سبنسر وماكس موللر في أنّ "الدين هو نوع من الإدراك لما يفوت العلم وينقطع دونه العقل"(28). أما في الفكر الإسلامي غير المدرسي، فقد كان الرائد الأبرز هو علي عبد الرازق في كتابه: الإسلام وأصول الحكم (1925) الذي يمثّل بحقّ التيار العقلاني في الفكر الإسلامي الحديث، فقد قوّضَ جميع المسلَّمات الثابتة في الفكر الإسلامي التقليدي ولاسيما في الفقه والتشريع واستنباط الأحكام المتعلقة بالحكم ووضع أصولها الدينية على توهمات وأغاليط كشفها علي عبد الرازق كشْفَ خبير بقضايا الفقه والحديث والتاريخ الإسلامي. وكان يناقش ويحلل وينفي ويثبت ويقبل ويرفض وينتقد بمنهج عقلاني أبان من خلاله تهافت الأدلة التي اعتُمِدَت أصولاً للخلافة والحكم الإسلامي منذ وفاة النبي حتى الخلافة العثمانية. ويخيل لي أنّ هذه الجرأة التي قـــوضَ فيها علي عبد الرازق تلك الثوابت المقدسة وما رافقها من ضجة قضائية وسياسية وفكرية ضد مشروعه في التنوير، قد فتحت السبيل أمام طه حسين الذي وضع كتابه عن الشعر الجاهلي بعد سنة واحدة من صدور (الإسلام وأصول الحكم). وإذا كان طه حسين قد أعطى كتابَـــهُ مرجعيةً فلسفية أوروبية فإنّ عبد الرازق بحثَ في أدلة التراث الإسلامي ليعثر على أدلة التهافت فيها من دون مرجعية أوروبية إلا في بعض الإشارات إلى نفر من المؤرخين الأوروبيين. وقد قام منهج عبد الرازق على الشك في بعض المفاهيم التي تأسس عليها القانون الإسلامي الخاص بالخلافة والحكم، كمفهوم: الإجماع، وهو مفهوم خطير، ناقشه نقاشاً عقلياً أصيلاً، ولاسيما في تدقيق المرويات التاريخية التي قام عليها الإجماع، وكشف عن دور الإكراه الذي يُمارس لتحقيق الإجماع القسري والذي تغافل عنه المشرعون، وهي مسألة مهمة حتى اليوم(29). وناقش الآراء القديمة والحديثة المتعلقة بـ "نصب الإمام" أو الخليفة(30). وناقش مسألة "الوجوب الشرعي"(31) ومسألة الخلافة وتحققها بالقوة(32) وتحولها إلى حكم نفعي ومسألة القضاء وافتقاره إلى النظام وتنافر الأحاديث بشأنه منذ أيام الرسول(33)، والحكم والرسالة كاشفاً أنّ ولاية النبي كانت "ولاية الرسالة غير مشوبة بشيء من الحكم"(34). وخلصَ إلى أنّ القرآن والسنة وكذلك "حكم العقل وما يقضي به معنى الرسالة وطبيعتها" يمنعنا من الاعتقاد أنّ النبي كان "يدعو مع رسالته الدينية إلى دولة سياسية"(35). وخلاصة نظرية علي عبد الرازق في الخلافة تتلخص في ما توصل إليه من بحث دقيق في التراث الإسلامي في الفقه والحديث والتفسير والأصول: "لم نجد فيما مرّ بنا من مباحث العلماء الذين زعموا أنّ إقامة الإمام فرض من حاول أنْ يقيم الدليل على فرضيته بآية من كتاب الله الكريم. ولعمري لو كان في الكتاب دليل واحد لما تردد العلماء في التنويه والإشادة به، أو لو كان في الكتاب الكريم ما يشبه أنْ يكون دليلاً على وجوب الإمامة، لوجد من أنصار الخلافة المتكلفين، وأنهم لكثير، من يحاول أنْ يتخذ من شبه الدليل دليلاً. ولكنّ المنصفين من العلماء والمتكلفين منهم قد أعجزهم أنْ يجدوا في كتاب الله تعالى حجة لرأيهم فانصرفوا عنه إلى ما رأيت، من دعوى الإجماع تارة، ومن الالتجاء إلى أقيسة المنطق وأحكام العقل تارة أخرى"(36). وناقش محمد يوسف موسى وهو فقيه مصري مجدّد، موضوعَ القرآن والفلسفة في كتاب صدر له بالعنوان نفسه في سنة 1958 وهو في الأصل القسم الأول من أطروحته للدكتوراه بالفرنسية التي نالها بعد الحرب العالمية الثانية. وكتابه قائم على مناقشة العلاقة بين الدين والفلسفة بوصفها نسقاً عقلياً. وكان محمد يوسف موسى ذا آراء مهمة وجريئة في الدفاع عن الفلسفة والعقل والعلم في وقت كانت فيه هذه المفاهيم تحمل دلالة سياسية في التبعية للغرب وترويج أفكاره، ودلالة دينية في المروق عن تعاليم الإسلام وشريعته. كان محمد يوسف موسى يعتقد أنّ أحكام الغزالي على الفلاسفة "لا يزال لها أثرها حتى اليوم من نزع الثقة بهم، وتنفير الناس منهم"(37). وهو يرى أنّ القرآن جعل المسلمين "يتدبرونه إلى أنحاء التفكير الفلسفي، وهذا ما أعدّ العرب والمسلمين للتفلسف، ولفلسفة التراث الإغريقي الذي عرفوه فيما بعد"(38). والقرآن قد اشتمل على "أصول الفلسفة الإلهية والطبيعية والإنسانية والاجتماعية، فكان بذلك داعياً إلى تفلسف المسلمين فيما بعد"(39). - الاتجاه الرشدي: وهو الاتجاه الذي قام بإحياء فلسفة ابن رشد وتبنى أفكارَه في المادة والعقل، وفي مقدمة هؤلاء أنطون فرح الذي أراد أنْ يؤصّل أفكاره المادية عن طريق ابن رشد فاتخذه إماماً لنزعته المادية. وقد كان هذا نهجاً سائراً إلى اليوم لدى المفكرين العرب، فإذا ما اعتقد أحدهم بنظرية معينة فإنه يبحث عن أصولها في التراث وربما يتعسّف في إيجاد الدليل. ومع ذلك، ينبغي أنْ لا نغفل عن أهمية انفتاح العلوم والفكر ومناهج التعليم على النظريات الحديثة، وما كان لها من أثر في تطور الفكر والتعليم في العالم العربي قياساً على ما كان في القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين. وأهم من تبنى الفكر الرشدي وحاول إعادة إحيائه هم: أنطون فرح، ومراد وهبة، ومحمود قاسم، ومحمد يوسف موسى، وعاطف العراقي. وقد تبنى هؤلاء فكرة ابن رشد في عدم التعارض بين العقل والإيمان. - الاتجاه الأكاديمي الجديد: وهو اتجاه نشأ وترعرع في أوساط الجامعة الحديثة التي تأسست في البلدان العربية على وفق قوانين وأنظمة غير دينية، مما أتاح لها أنْ تتناول جميع النظريات والأفكار الفلسفية والعلمية من دون رقابة المؤسسات الدينية ولاسيما في البلدان التي ازدهرت فيها الحركة الفكرية كمصر والمغرب والعراق والجزائر وسوريا ولبنان. وكان لهذا الاتجاه دور كبير في تطور الفكر الفلسفي في منذ أربعينيات القرن العشرين. مما ترتّبَ عليه ازدهار المصطلح الفلسفي، فنشأت المعاجم والموسوعات الفلسفية، ووُضِعَتْ الأطاريح في مختلف الموضوعات والمسائل الفلسفية والعلمية. وكان لتأسيس المدرسة السورية البروتستانتية (الجامعة الأمريكية منذ 1920) ببيروت من قبل مبشّر أمريكي ليبرالي في سنة 1866 أهمية في تحديث الدراسة العقلية فقد تضمنت موادَّ علمية حديثة مثل: الفلسفة والرياضيات والفلك وعلم الحيوان والنبات والجيولوجيا وغيرها من العلوم الإنسانية. وفي مصر، تنبّه علي مبارك إلى فقر الواقع العربي في وقته إلى الدرس العلمي والعقلي فقام بتأسيس دار العلوم لتُعنى بدراسة الجوانب العلمية، وتعاقدت الجامعة المصرية في عهد مصطفى كامل مع عدد من المستشرقين لتدريس العلوم الحديثة، فتأسست شيئاً فشيئاً العلوم العقلية مستقلة تدريجياً عن الدين. لقد تخرّج من هذه الجامعات عدد كبير من الطلبة المؤمنين بقيم العلم والعقل ونمت في نفوسهم ملكة النقد للعلوم التقليدية، والتطلع للمعرفة العقلية. (1) الحدائق الناضرة، الشيخ يوسف البحراني، تحقيق وتعليق: محمد تقي الايرواني، دار الأضواء، ط2، بيروت، 1985، مج1، ص167، 168. (2) الفوائد المدنية والشواهد المكية، محمد أمين الإسترآبادي، تحقيق: الشيخ رحمة الله الرحمتي الأراكي، مؤسسة النشر الإسلامي، ط1، قم/إيران، 1424هـ، ص 295. (3) المصدر نفسه، ص 258. (4) المصدر نفسه، ص 256. (5) المصدر نفسه، ص 256. (6) جامع السعادات، محمد مهدي النراقي، انتشارات إسماعيليان، قم/إيران، 1979، ج1، ص 68. (7) بداية المعارف الإلهية في شرح عقائد الإمامية، محمد رضا المظفر، مؤسسة النشر الإسلامي، ط10، قم/ إيران، 2002، ج1، ص 9-21. (8) الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده، تحقيق وتقديم: محمد عماره، دار الشروق، ط1، القاهرة، 1993، مج3، ص 301. (9) رسالة التوحيد، الأعمال الكاملة، مج3، ص 374، 375. (10) منهج الشيخ محمد رشيد رضا في العقيدة، تامر محمد محمود متولي، دار ماجد عسيري، ط1، السعودية، 2004، ص 9. (11) ينظر: الوحي المحمدي، محمد رشيد رضا، مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر، ط2، بيروت، 1352 هـ، ص 90، 91. (12) ينظر: المصدر نفسه، ص 93. (13) ينظر: تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المنار، ط2، القاهرة، 1947، مج1، ص17. (14) يقصد: حاتم الأصم البلخي (ت 237 هـــ) الزاهد المشهور، وهو من قدماء مشايخ خراسان. ينظر: طبقات الصوفية، أبو عبد الرحمن السُّلَمي، تحقيق: مصطفى عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، ط2، بيروت، 2003، ص86. (15) ينظر: شرح المقاصد، مسعود بن عمر بن عبد الله الشهير بسعد الدين التفتازاني، تحقيق وتعليق: عبد الرحمن عميرة، عالم الكتب، ط2، بيروت، 1998، ج5، ص 235. (16) المصدر نفسه، ج5، ص 235. (17) فلسفة النشوء والارتقاء، شبلي شميل، دار مارون عبود، طبعة جديدة، بيروت، 1983، ص18. (18) أشرنا بالتفصيل لذلك في مبحث مستقل من هذا الكتاب. (19) هو مؤلف الكتاب الموسوعي: تاريخ الفلسفة في القرن الثامن عشر، نقله إلى العربية جورج طرابيشي في سنة 1982. (20) ينظر: مقال عن المنهج: ديكارت، ترجمة: محمود الخضيري، دار الكتاب العربي، ط2، القاهرة، 1968، ص 47. (21) ينظر: المصدر نفسه، ص 103، 104. (22) في الشعر الجاهلي، طه حسين، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب، 2006، ص 7. (23) أضواء على السنة المحمدية، محمود أبو رية، دار المعارف، ط6، القاهرة، 1994، ص 7، 8. (24) ينظر: ديكارت، نجيب بلدي، دار المعارف، ط2، القاهرة، 1968، ص 10. (25) المصدر نفسه، ص 11. (26) ينظر: الدين والوحي والإسلام، مصطفى عبد الرازق، مؤسسة هنداوي، مصر، 2012، ص11- 12. (27) ينظر: المصدر نفسه، ص 15. (28) الدين والوحي والإسلام، مصطفى عبد الرازق، طبعة مؤسسة هنداوي، القاهرة، 2012، ص 16. (29) ينظر: الإسلام وأصول الحكم، علي عبد الرازق، دراسة ووثائق: محمد عمارة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2000، ص 133، ص 134. (30) ينظر: المصدر نفسه، ص124. (31) المصدر نفسه، ص126. (32) المصدر نفسه، ص 129. (33) المصدر نفسه، ص 139، 140. (34) المصدر نفسه، ص 167. (35) المصدر نفسه، ص 167. (36) المصدر نفسه، ص122. (37) القرآن والفلسفة، محمد يوسف موسى، دار الكتاب المصري/دار الكتاب اللبناني، القاهرة/بيروت، 2012، ص 37، 38. ورد هذا الرأي في بحث لمحمد يوسف موسى بعنوان "بين رجال الدين والفلسفة" نُشِرَ في المجلدين الثاني عشر والثالث عشر لمجلة الأزهر، ودخل كاتبه في نقاش مع محمد فريد وجدي. ينظر: المصدر نفسه، ص 37، 38. (38) المصدر نفسه، ص 10، 11. (39) المصدر نفسه، ص 14.
#ناظم_عودة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية مشرحة بغداد: الحافات القصوى للحياة والموت
المزيد.....
-
رئيس الوزراء الفرنسي يدعو النواب لـ-التحلي بالمسؤولية- وحكوم
...
-
سوريا.. مدى تهديد فصائل المعارضة وتحركاتها السريعة على بقاء
...
-
أكبر صندوق ثروة سيادي في العالم يعاقب إسرائيل
-
هل فعلا يجب شرب 8 أكواب من الماء يوميا؟
-
نصائح لتعزيز منظومة المناعة في الشتاء
-
مصر ترفع اسم ابنة رجل أعمال شهير من قائمة الإرهاب
-
عيد البربارة: من هي القديسة التي -هربت مع بنات الحارة-؟
-
من تاباتشولا في المكسيك إلى الولايات المتحدة.. مهاجرون يبحثو
...
-
منطقة عازلة وتنازل عن الأراضي.. كيف يخطط ترامب لإنهاء الحرب
...
-
رغم العقوبات على موسكو.. الغاز الروسي مازال يتدفق على أوروبا
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|