|
قصص فلسفية – الحلقة السادسة
نبيل عودة
كاتب وباحث
(Nabeel Oudeh)
الحوار المتمدن-العدد: 5130 - 2016 / 4 / 11 - 23:31
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
قصص فلسفية – الحلقة السادسة
نبيل عودة
حتى يهديهما الله...
كانوا ثلاثة أصدقاء لا يفترقون، يدخلون يومياً الى البار ويحتسون بضع كؤوس من الخمر.. حتى حفظ البارمان عاداتهم، ونوع مشروبهم وساعة دخولهم، وكأنهم مربوطون بعقارب ساعة مضبوطة تماماً.. لدرجة انه كان يبدأ بتجهيز الكؤوس الثلاثة، قبل ظهورهم، وما ان يظهروا في مدخل البار الا والكأس الثالثة قد جهزت.. فيجلسون الى طاولتهم المفضلة وقد وضعت كؤوسهم أمامهم فور جلوسهم.. حتى أضحوا جزءاً من أجواء البار ووجوهه المعروفة. ومرت الأيام دون ان يتغير نظامهم... وفي أحد الأيام حدث أمر غريب لفت أنظار البارمان وسائر رواد البار.. كانت مفاجأة مطلقة.. دخل صديق واحد من الأصدقاء الثلاثة.. كان يبدو حزينا وكئيباً... لم يجلب البارمان الكؤوس التي ملأها للأصدقاء الثلاثة.. بدل ذلك اقترب من الصديق الوحيد المتبقي من الثلاثة وقال مفتعلاً الحزن: أقدم التعازي باسمي وباسم صاحب البار.. كيف فقدت صديقيك؟ لا يا سيدي، ليس الأمر كما يبدو.. صديقاي هاجارا، وهما بخير والحمد لله.. واحد هاجر إلى أستراليا والأخر الى أميرِكا.. وبقيت لوحدي كما ترى.. هل أجلب لك كأسك يا سيدي؟ ليس كأسي فقط، بل الثلاث كؤوس، وكأننا ما زلنا ثلاثتنا نأتي كل يوم، لقد أقسمنا ان ندخل باراً في نفس الساعة، حيثما نكون في أرض الله الواسعة، وان يشرب كل واحد منا كأسه وكأسي صديقيه، وكأننا نجلس سوية لم نفترق. لذا يا عزيزي.. أجلب لي الكؤوس الثلاثة وكأننا ما زلنا ثلاثتنا نشرب سوية... وهكذا استمر الوضع.. يدخل يومياً بنفس التوقيت، ويجلس ليحتسي ثلاث كؤوس وكأن صديقيه يشاركانه الشرب. ومرت سنة أو أكثر.. والصديق محافظ على برنامجه، ويخبر من في البار عن أخبار صديقيه، وكيف انهما يتصرفان بنفس الشكل وفي الساعة المشابهة في بلادهم الجديدة. ولكن، في يوم ما، حدث ما لفت انتباه رواد البار وأثار تهامسهم. دخل الصديق كعادته.. وطلب كأسين فقط رافضاً الكأس الثالثة.. البعض راهن انه فقد أحد صديقيه.. البعض قال ان الجيل يفرض علية التقليل من الخمر.. والبعض قال ربما وضعه المادي لا يسمح له بشراء ثلاث كؤوس... جلس كعادته يحتسي الخمر من الكأسين، ولم يطق البارمان الصمت، وعدم معرفة ما جرى، اقترب منه وسأله: ماذا مع كأس الصديق الثالث.. هل وقع لأحدهما مكروه؟ أبداً أبداً.. الصديقان بصحة جيدة ويشربان الخمر يومياً.. ولكني عدت الى ديني وصلاتي ولم أعد أشرب الخمر.. وأشرب فقط كأسين عن صديقي حتى يهديهما الله ويكفان عن الشرب.. تماماً كما هداني!! ملاحظة: في هذه القصة فكرة فلسفية بسيطة عن "فشل التفكير المنطقي" لدى بعض الناس (استمرار بطل القصة في شرب الخمر بحجة انه يشرب عن صديقيه)... وليس مجرد لسعة فكاهية. أو غمز ضد الدين، كما تفلسف بعض الجهلة !!
*********
العودة الى عالم العقل! - ما هو التفكير السليم؟ طرح محاضر الفلسفة هذا السؤال وهو يضع حقيبته اليدوية على المنضدة وحتى قبل ان يجيل نظره بوجوه الطلاب في قاعة المحاضرات، وأردف: - ما هي العقلانية؟ طرح السؤال الثاني ونظراته تجول على الأرض أمامه. تقدم خطوتين نحو الجهة اليمنى، بمظهر يبدو كأن فكره مشغول بقضية أكثر تعقيداً مما كشفه بسؤاليه، همس أحد الطلاب متسائلاً: "هل ينظر الى مقدمة حذائه؟"!! السؤالان اللذان طرحهما المحاضر أعادا الطلاب بسرعة الى أجواء درس الفلسفة، فحل الصمت والهدوء، وانتظم الجلوس، واستعد كل طالب بقلمه ودفتر ملاحظاته، البعض شغّلوا المسجلاتـ ليبقى ذهنهم متيقظاً للمحاضر.. قال طالب اسمه فؤاد بصوت خافت: "ما باله يتصرف بغرابة.. حتى بدون تحية صباح الخير اليوم؟". استدار المحاضر الى الجهة المعاكسة، خطى بضع خطوات وهو في نفس وضع النظر الى مقدمة حذائه، عندما حاذى اللوح الأبيض في وسط الحائط ، استقام دائراً نحو اللوح، وكتب بقلم التوش الأسود بخط كبير وبمنتصف اللوح: RATIONALISM". بعدها التفت الى الطلاب في القاعة، نظر في وجوههم، ابتسم ابتسامة كبيرة وقال: - صباح الخير.. اطمئن يا فؤاد لم انس تحية الصباح، أيضا لم اكن أنظر لبوز حذائي، لا شيء فيه يستحق النظر، أشغلتني فكرة تتعلق بدرس اليوم.. أعتذر.. وآمل انكم قضيتم نهاية أسبوع جميلة. اليوم نعود الى عالم العقل. آمل انكم لم تتركوه في إجازة؟! انطلقت ضحكات من مقاعد الطلاب، واصل المحاضر بعد ان جلس وراء طاولته وعيناه كعيني الصقر تتفرسان بوجوه طلابه: أصل الكلمة المسجلة على اللوح راتيو "RATIO" وتعني عقل أو بصيرة والبعض يفسرها قيمة، هذا الاصطلاح "راتسيوناليزم" – يعني المذهب العقلي – للفرد يقال راتسيونالي – أي عقلاني، منطقي، اي الإنسان الذي يبني مواقفه على التفكير السليم، يجب ان يتحول لديكم بالأساس، الى قيمة قياسية للتفكير العقلاني.. وهو يعني ان الوعي والعقل هما مصدر المعرفة الأساسي وليس التجربة والعمل والأحاسيس. بالطبع الوعي والعقل لا يتشكلان من الأفكار الزائفة التي ما تزال تقيد انطلاقتكم. بكلمات أخرى يجب ان تصلوا الى الإقرار بسلطة العقل، أي العقلانية، او المنطق العقلي والقصد منه الموقف المبني على التفكير السليم. مثلا لو سألتكم ما الذي يجعلكم تتأكدون انكم أبناءٌ للجنس الإنساني؟ سؤال بديهي كما يبدو.. هل تظنون ان الشكل مقرر؟ وانكم على ما نشأ عليه آباؤكم؟ هل الإنسان حالة مستقرة لا تتغير منذ جدنا آدم؟ هل عقل طالب في الجامعة مثل عقل قبلي يعيش معزولاً عن كل ما هو تطور علمي ومدني في العالم والمجتمع؟ ليس كل ادعاء صحيحاً بمقياس الشكل فقط. هناك مسائل جزئية تجميعها يقودنا الى مسائل أكثر شمولاً. هل إنسان اليوم هو نفسه إنسان عصر الكهوف؟ هل المقياس هو شكلي فقط؟ الفلسفة اليونانية القديمة عرّفت الإنسان بأنه مواطن المدينة – الدولة، حسب أرسطو، وأقيم الحد بينه وبين الأشياء الخارجية، الأمر الذي مكّن من تجريد الإنسان، غير المواطن في المدينة – الدولة من مسائل ملموسة مختلفة. المسيحية تطرح طبيعة الإنسان بمعنيين، الجسد والروح. تعتبر البدن أصل الخطايا والآثام، تركز على العالم الداخلي للإنسان، العالم الذي يكفل له الخلاص عبر الكثير من الفضائل وعلى رأسها الصبر والإيمان. فلسفات عصر النهضة التي أعقبت الرينيسانس أكدت على استقلالية الإنسان ولا محدودية قدراته الإبداعية. اي صار العقل هو المقياس.. إذن، تعالوا نلخص ان الإنسان هو العقل، الا اذا شعر أحدكم ان هذا التلخيص يحرمه من صفات غير عقلانية، ليرفع أصبعه.. مثلاً عضلاته هي المعيار لكونه إنساناً؟ أفلاطون العظيم مثلاً، جرد الإنسان في جمهوريته من الكثير من الشمولية في الصفات والأدوار، حدد أنماطاً لكل فئة إنسانية في جمهوريته، نمط الحكام، نمط الفلاسفة، نمط الحراس للحفاظ على عدم تجاوز الإنسان من نمطه المقرر الى نمط آخر.. أي إنسان أفلاطون ليس وحدة متشابهة. لاحظوا ان التقسيم هنا يتعلق بالحالة المادية والفكرية والمكانة الاجتماعية، الغني لن يكون عاملاً. ربما يشتري الحكمة بأمواله، يشتري السلطة بأمواله، او يشتري قيادة حراس النظام بأمواله، يحصل على مكانته في نظام أفلاطون بقوة قبيلته.. لذا ليس بالصدفة ان جمهورية أفلاطون العادلة لم تكن الا نظاماً قمعياً يحافظ على الانقسام المجتمعي ويقيد الشخص بخانة معينة لا يمكن ان يغيرها. أي ببساطة ما يعرف اليوم بالنظام القمعي الديكتاتوري. اذن ما هو الإنسان، او ما هو المميز الأهم للإنسان؟ انه العقل. الفلسفة تطرح العقلانية بصفتها أسلوباً في التفكير يقوم على الاحتكام للقدرات العقلية. حتى الذين لا يستعملون عقولهم لا يعرفون انهم لا يستعملون عقولهم، سيوافقونني على كل كلمة أطرحها حول العقل، لأنها لا تعني لهم الا مواعظ وإرشادات. آمل انكم مختلفون وتجاوزتم تلك المرحلة.. طبعا قدراتنا العقلية مختلفة. لكني أّدعي اننا جميعاً قادرون على تدريب العقل على التفكير المجرد من التأثيرات الغير عقلانية. مثلا لو ظن أحدكم انه الإسكندر المقدوني؟ من سيصدقه؟ هذا الظن سيظل معزولاً ولا يجد من يدعمه، سيظل صاحبه وحيداً في ظنه، قد يرى به الناس فاقداً لعقله. لنفترض ان أحدكم ظن انه تجاوز محمود درويش شعرياً، لأنه نشر قصيدة او أكثر.. ويشعر انه متمكن من اللغة ومن الأوزان الشعرية، والكل يشهد له من أمه حتى خالاته وصولاً الى جداته اللواتي نسين القراءة والكتابة لطول المدة التي لم يقرأن فيها حرفاً... من أخيه الطفل ابن السادسة حتى جده شبه الخرف في ملجأ العجزة.. من صديقته التي يتبادل واياها الإشارات عبر النوافذ، حتى الناقد الذي يتصيد المغرورين ويكتب نقداً مقابل أجرة، زد له الأجرة تحصل على مرتبة أكبر، ضاعفها تصبح طليعة الشعر، ضاعفها مرة أخرى يصبح محمود درويش متأثراً بشعرك قبل ولادتك وقبل ان تمسك القلم... مثل هذه القناعات يسهل إسقاطها رغم شهادة الناقد المدفوعة الثمن. لكن تخيلوا خرافة تسيطر على ملايين الناس، مثل حكاية ظهور العذراء في مصر ثم في لبنان ومرة في الناصرة وأخرى في الرامة.. واحدة تدمع واحدة تنزف دماً وأخرى زيتاً من زيت الرامة الممتاز.. وأخرى تظهر مضيئة.. هل يمكن بالعقل وضع حد لهذه التخيلات؟ هذا وهم لا علاقة له بالإيمان ولا بنص الدين، مع ذلك يشد الملايين، تقوم مؤسسات لترعاه وتروجه، وخلال زمن طويل يصبح بحد ذاته قوة مادية تؤثر على ملايين الناس. ينسجون حول الخرافة قصصاً عن حدوث عجائب.. بالأساس شفاء من الأمراض، لو حسبنا ان 20 مليون إنسان سحرتهم قصص ظهور العذراء في مختلف أنحاء الأرض، وشفي من مليون مريض جاؤوا خصيصا بطلب الشفاء 50 شخصاً.. ما هو المؤكِّد ان الشفاء كان بسبب ظهور العذراء؟ لماذا لا ننسب الشفاء الى الأدوية التي كانوا يبلعونها أيضا أثناء تعرضهم للعجيبة؟ لأنه من الناحية الإحصائية، العجيبة لم تشفِ الا عدداً ضئيلاً جداً من الناس، والطب قادر على إشفاء نسبة كبيرة جداً تزيد بمئات النسب، قد تصل الى 85% حتى من الأمراض المستعصية والقاتلة. أي من مليون شفت العجيبة 50، ولكنهم 50 ضمن العلاج الطبي، ولكن الطب يشفي 800 ألف حالة. اذن من نصدق؟ الطب، العلم، العقل.. أم الوهم والتخيل والخرافة؟ بالطبع هذه حالة قائمة في مختلف العقائد... ولا فرق بين مجتمع متقدم ومجتمع متخلف. بين إنسان متعلم او إنسان غير متعلم. للخرافة مؤسسات عظيمة القوة والتأثير تروجها وتنظم لها الطقوس وتعطيها مصداقية. الزمن يجعلها أكثر ثباتاً وقوة، لدرجة ان محاولة نفيها من شخص ما سينظر اليه بأنه غريب الأطوار وغير متزن. الآن تعالوا نفحص قصة أخرى... وصلتني رسالة قبل أسبوع، من دكتور في علوم التربية.. يقول فيها ان الرسام الذي رسم صورة النبي محمد، احترق ودفن سراً، وان الحكومة الدانماركية تخفي هذه المعلومة، وان مسلمَين يعيشان في الدانمارك اكتشفا الأمر بالصدفة أثناء مرورهما بجانب المقبرة التي دفن فيها الرسام. إذ سمعا صراخه وعذابه من داخل القبر. دعاني الدكتور المحترم لتوزيع هذا الخبر، لان توزيعه، كما يعتقد المحترم، يكسب موزعه أجراً كبيراً عند الله.. الى آخر هذه الكلمات التي يعرفها كل الناس غيباً.. هل عقلكم يشتري هذه الحكاية؟ انتبهوا: المرسل ليس شخصاً عادياً، دكتور في التربية... لا أعرف ماذا يربي.. لا تضحكوا.. في مسيرتكم التعليمية حشوا رؤوسكم بأوهام وخرافات لا تقل جنوناً عن رسالة دكتور التربية... حالته ليست نادرة للأسف، بل هي السائدة. انتم اخترتم موضوعاً لا يقبل أحكاما تخيلية. تعالوا نفكر بعقلانية.. أسئلة كثيرة يطرحها هذا الخبر.. سأساعدكم على طرح بعضها. لماذا مسلمان فقط اكتشفا ذلك، في دولة نسبة المسلمين فيها قليلة جداً؟ ألم يسمع عابرون آخرون من الدانماركيين الذين يشكلون الأكثرية المطلقة من السكان، صراخ المسكين من القبر؟ أم خلا الشارع الا من الشخصين إياهما؟ ما الذي يؤكد ان الصراخ من القبر، اذا صح.. هو صراخ الرسام وليس صراخ كافر آخر؟ هل قال في صراخه انه فلان ابن فلان وانه يعاقب بسبب الرسم إياه؟ دفن سراً، كما تقول الرسالة... يعني لا توضع أية إشارة تشير الى قبره. او الى المقبرة التي دفن فيها. هل فحص الشخصان اللذان سمعا صراخه، حقيقة الصارخ، وكيف تأكدوا من شخصيته ومن قبره ومن مقبرته؟ هل يحدث حقاً في العالم الذي نحياه، ان يصرخ الميت صراخاً مؤلماً يصعد من القبر ليسمعه الناس؟ بالطبع لا أطرح موقفي من الرسام وما قام به.. ليس هذا موضوعي ولا موضوعكم. موضوعنا ان نصل الى موقف من المعلومة التي يوزعها دكتور التربية.. وهو بالطبع يعترف انه تلقاها من آخرين، أي انه اشترى الحكاية وتحمس لها، لأنها وقعت في نفسه موقعاً حماسياً وقبلها عقله بدون فحص، بدون تفكير وبدون منطق بسيط، كما تعود وهو طفل ولم يتغير رغم الدرجة العلمية في التربية. يوزع الحكاية ليسكب أجراً عظيماً. هل هذا تصرف عقلاني؟ نحن هنا نواجه صراعا بين العقل وبين الخرافة.. بين الحقيقة وبين الوهم.. اليست معانقة الحقيقة خير من حكاية زائفة، من وهْم روجه مختلَّين، او ربما شخص لا علاقة له بالدانمارك ولا يعرف اذا كانت الدانمارك في أوروبا او شمال أمريكا؟ او شخص أراد إنجاز فكرة ما خدمة لما يظن وجوب حدوثه؟.. فاشترى الحكاية كل من اعتاد عقله على الآمال الزائفة وعلى الحقائق غير المثبتة، حتى لو كان دكتوراً في التربية او الاقتصاد او الفلسفة؟ الفلسفة أيضا لا تخلو من مروجي مواضيع لا منطق فيها ومنهم أصحاب أسماء معروفة.. لكن الفرق ان الفلاسفة يفسرون ويحاولون طرح منطق لقناعاتهم، نقدها قد يكون سهلاً على المختصين، سهلاً على كل إنسان طور قدرات عقلية مستقلة بحيث لا تضلله الخرافات والقصص غير العقلانية. لو قلت لكم اني اكتشفت دواء فعالاً يقضي على السرطان.. وانا لا أفهم في الطب أكثر من استعمال الأسبرين لوجع الرأس، ماذا ستقولون عني؟ - سنقول الأستاذ فقد عقله.. انطلق صوت فؤاد. ابتسم المحاضر: - لن ألبي لك هذه الأمنية يا فؤاد. نعود لموضوعنا، طرحت أسئلة، الجواب عليها يساعد على استخلاص موقف.. لكم حرية التفكير، لا ألزمكم بموقف، ألزمكم فقط بتقديم المبررات لمواقفكم.. - المنطق يقول ان المعلومة لا عقلانية. ارتفع صوت من مقعد في وسط القاعة. بعد تردد وابتسامة خفيفة قال المحاضر: - هذا استنتاج مبني على الإحساس.. أريدكم ان تبرروا بالتفصيل لماذا هو غير عقلاني.. لا أريد جوابكم اليوم.. أريد تبريراتكم.. ان تظهروا قدرات عقلكم على التحليل وطرح أسئلة الشك او مبررات صحة الحدث والوصول الى جواب مبرر بمنطقكم. اتركوا ما أقوله لكم ولا تتأثروا بموقفي لإرضائي. ما يهمني كيف تستعملون دماغكم، كيف تبنون حججكم، كيف نقرر ما هو عقلاني وما هو غير عقلاني بالاعتماد على التفكير المجرد. هذه هي قوة الفلسفة. هذا هو أكبر تجلي لمفهوم ان تكون إنسانا بالمضمون والعقل وليس بالشكل فقط، مع أهمية الشكل وعلاقته بالمضمون وهو موضوع آخر لن نخوض فيه اليوم. أجال نظره في الطلاب وقال: - ستجدون ان عدد الذين يصدقون دكتور التربية، أكثر بمليون مرة من الذين يرفضونها ويقولون انها غير عقلانية. لكن هذا المقياس لا يخصنا. لأنه يرتبط بسيطرة الخرافة على العقل بنسبة أكبر من سيادة العقل في جميع المجتمعات البشرية، بل في جميع العقائد التي ظهرت في التاريخ البشري منذ بدأ الإنسان مسيرته مستقلاً عن سائر المخلوقات في الطبيعة. طلابي الأعزاء، لا توجد أدوات لفحص العقلانية او اللاعقلانية مثل سماعة القلب مثلا.. او تصوير بالأشعة.. او فحص في مختبر الدم.. لنعرف مستوى الدهنيات والسكر وبالتالي هل يوجد عقل ام مجرد مادة خام غير مستعملة! هنا تحتاجون الى تجرد كامل من التأثيرات الشعبية، او ما يسود الفكر الدارج في الشارع. التزموا بعقلكم الذي ينمو اليوم جديداً نقياً منفتحاً متحفزاً للنشاط... لا تخذلوا عقولكم. انتم أمام تحدٍّ.. اما ان تجتازوه، او تعلنوا استسلامكم وعودتكم الى الحظيرة الطافحة بالعقول الخاملة. انظروا الى طاولتي.. ماذا ترون؟ حقيبة جلد سوداء؟ لا شيء آخر على الطاولة.. لو قلت انها ليست حقيبة بل لوحة شطرنج؟... لسخرتم مني حتى بدون تفكير.. لو قلت لكم انها كتلة ذهب ربما تتهموني تلقائياً بفقدان العقل. انفجر الطلاب بالضحك.. وضحك المحاضر. انطلق صوت طالبة من المقاعد الأمامية. - ما هي أدواتنا الأخرى عدا العقل لنثبت صحة او عدم صحة هذا الادعاء؟ - هناك حالات فحصها متيسر.. مثلا عبر المناهج العلمية التي تقوم على مبدأ الشك البناء، ان استنتاجات العلوم هي وليدة العقل والمعرفة والمنطق، بينما حكاية الصارخ من القبر، قائمة على إسقاط القدرات النقدية والشك وتحويل حكايات غير مثبتة الى حقائق لا يجوز التشكيك فيها. فحص حقيقة حقيبتي هي من الحالات البسيطة، من الصعب ان نفحص مسائل ذهنية تتحدث عن الخوارق، هذه لا يتيسر لنا فحصها باللمس والرؤية والفحص المخبري والشم والذوق والتحليل الكيماوي والمقارنة.. فقط بالبراهين العقلية والعلمية. سألت الطالبة: - كثرة المصدقين لحكاية الصارخ من القبر، ألا تشير الى إمكانية صحتها؟ - هذا جواب غير مبرر، يعتمد على عقلك التاريخي المتواصل في سيطرته على ذهنك ومشاعرك.. دربي عقلك على التفكير، حتى بصراعك مع ذاتك، مع ما تعتبريه حقائق لا يجوز التشكيك فيها. التفكير العقلي له اتجاه يقول ان الإنسان عبر المحاكمة الواعية، بعيداً تماماً عن سيطرة موروثاته العقلية التي شكلت وعيه، بعيداً عن العواطف التي قد تجر العقل الى الشلل والى موقف عاطفي غير مبرر، حتى لو كان بالصدفة صحيحاً، يجب ان يسعى الى تفسير الحدث وإقرار مدى عقلانيته، او مدى لا عقلانيته، بدون اعتبار لرأي الأكثرية السائد. الفلسفة هي نقيض الأفكار الفطرية الموجودة في أذهانكم حتى هذه اللحظة. ليس من السهل التخلص من الأفكار التي نشأنا عليها. ليس من السهل ان نستوعب الواقع الموضوعي الذي يتشكل خارج وعينا وخارج إرادتنا. يجب القطع بين العقل وبين النفسية الوضعية التي نشأنا عليها كلنا. - من أين اذن هذه القوة الهائلة لما تسميها الأفكار غير المثبتة؟ - سؤال ممتاز.. قوة الأفكار، أية أفكار كانت، او التخيلات الوهمية، تحصل على قوة هائلة من المؤسسات القوية التي ترعاها وتروجها عبر ملايين الدعاة، بتوظيف أموال هائل، عبر صمودها التاريخي الممتد آلاف السنين الذي يعطيها مصداقية وقوة ليس من السهل مواجهتها، أمامكم خياران، فإما ان تنطلقوا نحو المستقبل بوضع العقل كبوصلة للحياة، او تحصلوا على شهادة عليا بامتياز وتظلوا بعقل يقبل حكايات خرافية مثل حكاية الصارخ من القبر، او الوهم الشخصي بأني أهم شاعر وأهم قائد عسكري وأهم عاشق.. ولكنه وهْمٌ لن تجدوا من يدعمه الا بعض المنتفعين وسيسقط سريعاً وقد يسقطكم معه. العقلانية هي انتصار لإنسانيتكم وتعزيزها، يجب إثرائها بالعلم.. بالرياضيات بالفيزياء وبسائر العلوم.. والأهم بالبراهين الصحيحة والمثبتة، يجب تنمية التجربة الحياتية، تحويل العقل الى الأداة الوحيدة في المعرفة. هذا لعلمكم ينفي المبدأ الذي يدعي ان الأحاسيس او التجارب الحسية، هي الطريق الأساسي للمعرفة. ربما أثقلت عليكم في هذا الدرس.. اسمحوا لي باضافة صغيرة قبل الخروج للاستراحة، علمياً تبث ان الأحاسيس، المشاعر الحسية.. غير موثوقة، وان المعلومة المبنية على المشاعر الحسية، غير مؤكدة، ولا أقول خاطئة وتحتاج الى إثبات عقلاني. سأروي لكم حكاية رمزية حول المنطق العقلاني او غير العقلاني، لعلها تساعدكم في التفكير، او تساعدكم في التخلص من الضغط العقلي الذي أدخلتكم به: جاء لاعب كرة قدم مشهور الى قارئة البخت ليعرف ما ينتظره في الموسم الجديد من مكاسب مالية ومجد وألعاب وتسجيل أهداف.. دفع الرسوم الكبيرة لمساعدة القارئة ودخل لغرفتها. كانت عجوزاً شمطاء تضع فوق أنفها نظارات سميكة تثير الشك بقدرتها على الرؤية الكاملة. جلس أمامها، نفخت بموقد فحم صغير بجانبها، فارتفع دخان أخضر.. قامت بحركات بلا معنى فوق الموقد، طلبت منه ان يفتح كفيه أمامها. مسحت بيديها على كفية مرات عدة.. نفخت، طأطأت رأسها تقرأ كفيه وتهز رأسها يساراً ويميناً وتهمهم، ثم تمتمت بكلمات غير مفهومة.. وصرخت: "أجل.. أجل" وقالت للمسكين الجالس أمامها: "هم.. هم.. هم.. أرى أخباراً جيدة بكفة يدك الشمال.. لك مستقبل باهر في السماء، حيث أعدَّ لك الملائكة ملعباً رائع الجمال، لا مثيل له في الأرض، ستكون ملك اللعب فوق، اما في كفة يدك اليمين فأرى خبراً صعباً.. اعذرني على صراحتي: ارى ان عزرائيل قد حجز لك دوراً للعب غداً في الساعة الرابعة بعد الظهر". قطع صوتُ فتاة تجلس في المقدمة ضحك الطلاب: - استاذي اسمح لي أن أرد على قصتك بقصة أخرى تخرجنا أيضاً من اللخبطة العقلية التي أدخلتنا بها... كان لنا معلم رياضيات عبقري، مات والد أحد الطلاب، لم ينفك الطالب يبكي والده يومياً. في درس الرياضيات لسبب لا نعلمه انفجر بالبكاء المر. بعد ان تمالك نفسه، قال انه تذكر والده فبكى. قال له الاستاذ: "هل تعلم يا صديقي انه يوجد في الحياة ما هو أسوأ من الموت؟" فسال الطالب: "ما هو يا أستاذ؟ "فرد المعلم: "مثلا ان تقضي ليلة كاملة مع فيثاغوروس!!" وانطلقت ضحكات المحاضر أعلى من ضحك طلاب الفلسفة... [email protected]
#نبيل_عودة (هاشتاغ)
Nabeel_Oudeh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصص فلسفية – الحلقة الخامسة
-
قصص فلسفية – الحلقة الرابعة
-
عيد البشارة عيد كل النصراويين
-
علي سلام شريك بالمؤامرة الصهيونية..!!
-
حجج صبيانية وراء التصويت ضد ميزانية بلدية الناصرة
-
قصص فلسفية - الحلقة الثالثة
-
من يخدم قرار إضراب يوم الأرض?
-
قصص فلسفية – الحلقة الثانية
-
إذاعة الشمس والإعلام العربي في كتاب للمعهد الإسرائيلي للديمق
...
-
صفحات من تراثنا الفلسطيني
-
وداعا للفنان، الرسام والمسرحي سهيل ابو نوارة
-
بمناسبة عيد الأم: ستبقين أمي...
-
فلسفة مبسطة: أمباتيا، اباتيا واتاراكسيا ..
-
قصص فلسفية - الحلقة الأولى
-
فلسفة مبسطة: علم المنطق
-
8 ﺁﺫﺍﺭ 2016 في ظل القمع للمرأة ف
...
-
فلسفة مبسطة: طالبوا الإله ..
-
فلسفة مبسطة: الصراع الطبقي .. من ستالين حتى زينب!!
-
تجربتي والتباس الوعي القصصي عند البعض
-
الثورة العلمية التكنولوجية أنتجت واقعا اقتصاديا- اجتماعيا جد
...
المزيد.....
-
موزة ملصقة على حائط.. تُحقّق 6.24 مليون دولار في مزاد
-
تقارير عن معارك عنيفة بجنوب لبنان.. ومصدر أمني ينفي وجود قاد
...
-
قوات كييف تعترف بخسارة أكثر من 40% من الأراضي التي احتلتها ف
...
-
إسرائيل تهاجم يوتيوبر مصري شهير وتوجه له اتهامات خطيرة.. وال
...
-
بوليتيكو: الصين تتجاوز الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في
...
-
وسائل إعلام عبرية: اختفاء إسرائيلي في الإمارات والموساد يشار
...
-
غرابة الزمن وتآكل الذاكرة في أعمال عبد الله السعدي
-
فوائده كثيرة .. ابدأ يومك بشرب الماء الدافئ!
-
الناطق باسم -القسام- أبو عبيدة يعلن مقتل إحدى الأسيرات الإسر
...
-
-تحليق مسيرة ولحظة سقوط صواريخ-.. حزب الله يعرض مشاهد استهدا
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|