|
عهد قديم وعهد جديد-13- إيل تحت المجهر
طوني سماحة
الحوار المتمدن-العدد: 5130 - 2016 / 4 / 11 - 23:26
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بين سانتا كلوز أو بابا نويل وإيل إله كنعان الكثير من القواسم المشتركة. كلاهما يحب النوم. سانتا يعمل يوما واحدا في السنة ويمضي بقية الوقت متواريا عن الانظار يغط في نوم عميق في القطب الشمالي. كذلك إيل، فهو يعيش كسولا في عزلة عن خليقته في جبله المقدس. لا شك أن سانتا يحب الطعام الشهي، لذلك تجده بدينا، ممتلئ الجسم، مستدير البطن، فيما إيل يمضي الوقت يأكل أشهى اللحوم والطيور والاسماك. تتبدل الأزمنة والاوطان والثقافات. يكبر الأطفال ويتزوجون وينجبون ويموتون وسانتا في غفلة عما يدور حولهم. كذلك إيل، يتقاتل الآلهة حوله، يحوكون المؤامرات، يقتل بعضهم بعضا، حتى أن ابنه بعل ينحّيه جانبا ويمسك بزمام الرئاسة دون أن يعي ما يدور في فلكه. أخيرا كل من سانتا وإيل يتمتعون بقضاء الوقت الى جانب ماما كلوز وماما عناة.
فيما يبدو إيل إله كنعان أشبه بعجوز ساذج منفي منعزل تماما عن الناس، نرى إيل إله إسرائيل حاضرا وعاملا يتفاعل مع خليقته. الله، في العهد القديم، يحمل مشروع بناء الإنسان. على عكس إيل، هو صاحب رؤيا: ما كاد يخلق الله الانسان للمجد حتى رأى تحفته ينحدر مسرعا في طريقه للموت الابدي. أدرك الله مأساة الانسان بسبب عبوديته للشر والخطيئة، فمد يده له منقذا. شاهد الله جهل الانسان فقدّم له الحل. أبصره مصابا فضمد جراحه. لحظ دموعه فمسحها. رآه ميتا فأحياه. مشروع الله للإنسان هو مشروع حضاري، روحي، أخلاقي، ثقافي، فلسفي، تثقيفي، وطني، ديني، وإنساني.
يفتتح الله سفر البدايات، أي سفر التكوين، بعمل الخلق. خلق السماوات والأرض. خلق الكواكب والأجرام. خلق البحار والجبال. خلق الحيوان والنبات، وفي النهاية خلق الإنسان: "وجبل الرب الاله ادم ترابا من الارض ونفخ في انفه نسمة حياة فصار ادم نفسا حية" (تكوين 2: 7). لقصة الخلق هذه رمزية خاصة تعطي الإنسان بعدين: بعدا روحيا وبعدا ماديا. فهو، أي الانسان، مولود من الطين ترابي الجسد سماوي الهوية. يخطئ من يظن ان الانسان مجرد مادة. فالتجربة الإنسانية تغوص في عالم الروح منذ أن وجد الإنسان وإلى أن ينتهي. إن أردتُ أن أعطي السفر الأول للخلق عنوانا، لأطلقت عليه تسمية سفر الحياة. خلق الله الإنسان وأعده للحياة، أي ليكون كائنا حيا. قرأت لبعض النقاد يتهكمون على المسيحيين بالقول "لو سألت المسيحي: ما الهدف من وجودك؟ لأجابك بسرعة: لكي أعبد يسوع." لا شك أن عبادة الإله هي مكوّن أساسي من مكونات العلاقة الإلهية الإنسانية. لكن سفر البدايات يعطينا جوابا أعمق عن الهدف من خلق الانسان في صفحاته الأولى: "خلق الله الإنسان على صورته ومثاله. ذكرا وأنثى خلقهما". كما أن الله يحيا، كذلك صار الانسان كائنا حيا. عندما تضع امرأة طفلا، هي تهدف بالدرجة الأولى أن تعطيه الحياة، أن تتمتع بالعلاقة معه، أن تضحك معه، أن تغمره وأن تعانقه وتقبّله. إن كان عامل الطاعة يمثل جزأ أساسيا من علاقة الطفل بأمه، إلا أنه لا يختزلها بأي شكل من الأشكال. فالحياة هي الهدف الأسمى لهذه العلاقة. كذلك المسيحي، هو مولود للتمتع بالحياة. علاقة الطاعة بينه وبين الله هي نتيجة حتمية لحصوله على الحياة. لكن الانسان المطيع هو أبعد ما يكون عن جهاز مبرمج ينفذ الأوامر فحسب، بل هو كائن مخلوق على صورة الله يحيا ويحب ويخلق ويبدع ويكتشف ويفكر ويتفاعل مع الخليقة بأكملها. ثقافة الكتاب المقدس هي ثقافة الحياة بدأٌ بسفر الخلق أو التكوين وانتهاءً بسفر الرؤيا الذي هو سفر غلبة الإنسان على الموت. الكتاب المقدس هو باختصار ملحمة الصراع بين الموت والحياة، بين البر والشر، بين القداسة والخطيئة. اختصر يسوع هذا الصراع بالقول في يوحنا 10 "أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف". في خضم هذا الصراع بين الذئب والراعي، يحدد يسوع الهدف من تجسده بالقول " أما أنا فقد أتيت ليكون لهم حياة وليكون لهم أفضل". وفي الترجمات الإنكليزية نقرأ “I have come that they may have life, and that they may have it more abundantly. "، ما معناه أما أنا فقد أتيت ليكون لهم حياة، وليكون لهم فيض كثير منها". لسنا نغالي إن قلنا أنّ الملايين من البشر خلال الألفي عاما الماضيين قد اختبروا فيض الحياة الأسمى من خلال تبنيهم رسالة يسوع الناصري. أعادت رسالة المسيح بناء أسر بأكملها بعدما غرق الكثيرون في بحر التفكك والانحلال والموت الأدبي. رسالة يسوع هي التي حوّلت شاول الطرسوسي من إرهابي الى القديس بولس. هي التي حوّلت زكا من سارق وعشار الى تائب يعلن رفضه الاستمرار في حياة السرقة ويصر على التعويض على كلٍ من ضحاياه بأربعة أضعاف. هي التي حولت أوغسطينوس الجزائري من فاسق الى قديس. عاش أوغسطينوس حياة الزنى لخمسة عشرة عاما مع امرأة لم تكن أبدا زوجته وأنجب منها طفلا. ثم تخلى هذا الشاب عن عشيقته ليتزوج من ابنة السنوات العشرة التي كانت وريثة لثروة هائلة. لكن بما أن القانون الروماني آنذاك لم يكن يسمح بزواج الفتاة قبل عامها الثاني عشر، كان عليه أن ينتظر سنتين. سنتان كانتا كفيلتين بأن تعيداه لذاته فيقرر التوبة وعدم الزواج فيما بعد ليحيا ما تبقى من حياته أسقفا عفيفا. وتطول السلسلة في الماضي والحاضر، فكم من الناس كانوا قبل معرفتهم بالمسيح عبيدا للمال والسلطة والشهرة والشهوة والشر، اكتشفوا فيما بعد أنهم كانوا أمواتا بالذنوب والخطايا، مع أنهم كانوا يتنفسون ويأكلون ويشربون. هؤلاء الناس قرروا التضحية بهذه الحياة الرخيصة التي تقود للموت من أجل الحصول على الحياة الأفضل التي بشر بها السيد المسيح.
ثقافة الكتاب المقدس هي ثقافة الحياة من ألفها الى يائها. هي ثقافة دينونة الموت. هي ثقافة الحصول على الحياة الأفضل في هذا العالم وفي الآتي. ليس في أدب الناس ما هو أروع من قصة الفداء التي سطرها الانجيل، بغض النظر عما إن كان البعض يعتبرها رواية تاريخية أو خيالية. على مدار التاريخ البشري، كتب الشعراء أجمل القصائد بالمرأة، لكن حياة الكثيرين منهم كانت تعج بقصص الغدر والخيانة والتخلي عن امرأة لأجل أخرى. سطّر الكتّاب والادباء أروع قصص الحب والغرام، لكن قليلون هم الذين عاشوا حبا حقيقيا مجردا من الذات وهادفا لإسعاد الآخر. في خضم الفشل الإنساني، يأتي الكتاب المقدس ليقص علينا أجمل ما يمكن أن تنتجه أدبيات الأرض والسماء. خلق الله الانسان وأسكنه في جنة عدن كيما يحيا فيها. لم يمض وقت طويل حتى سقط الانسان في شباك الموت. مضى الزمن وصار الانسان يغوص أكثر وأكثر في أوحال الانحلال والهلاك. تحولت حياته الى بحر من الدماء والقتل والسرقة والشر. نظر الله للإنسان كما تنظر الأم الى ولدها الضال. أدرك أن عمل يديه الذي نفخ فيه نسمة منه ذاهب لا محال للموت. عندها تحركت مشاعر هذا الإله نحو الانسان وقرر أن يفتديه من قبضة الموت. وهكذا كان، تجسد الله في شخص يسوع المسيح لكي يموت على الصليب فداء عن الخاطئ والمسكين ولكي يدفع بدمه ثمن العدالة الإلهية كما نقرأ عن لسان المسيح في إنجيل يوحنا " لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد ، لكي لا يهلك كل من يؤمن به ، بل تكون له الحياة الأبدية لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم ، بل ليخلص به العالم الذي يؤمن به لا يدان ، والذي لا يؤمن قد دين ، لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد وهذه هي الدينونة : إن النور قد جاء إلى العالم ، وأحب الناس الظلمة أكثر من النور ، لأن أعمالهم كانت شريرة لأن كل من يعمل السيآت يبغض النور، ولا يأتي إلى النور لئلا توبخ أعماله وأما من يفعل الحق فيقبل إلى النور ، لكي تظهر أعماله أنها بالله معمولة".( يوحنا 3 : 16-21) أُدرك مسبقا أن البعض سوف يعترض عليّ قائلا "إن كان الله يحمل مشروع حياة للإنسان، كيف تراك تبرر سفك الدماء في العهد القديم؟" إزالة للترداد والتكرار، أقول إن الرد على هذا السؤال قد تمت الإجابة عليه في مقال "عهد قديم وعهد جديد-6- الحرب على كنعان: إبادة جماعية أم دينونة؟"
إن كان إيل قد اكتفى بالسكن في جبله المقدس آكلا شاربا ونائما، غير آبه بما يدور حوله، إلا أن إيل إله إسرائيل متواجد دوما وسط خليقته حاملا مشروع خلاص وحياة. يبتدأ هذا المشروع بالخلق، يرافق الانسان ملى مدى تواجده على الأرض وينتهي بسفر الرؤيا سفر النهايات الأرضية والبدايات السماوية حيث يعلن السيد المسيح لرسوله يوحنا عن مخططه للحياة "و انا يوحنا رأيت المدينة المقدسة اورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله مهيأة كعروس مزينة لرجلها و سمعت صوتا عظيما من السماء قائلا هوذا مسكن الله مع الناس و هو سيسكن معهم و هم يكونون له شعبا و الله نفسه يكون معهم الها لهم و سيمسح الله كل دمعة من عيونهم و الموت لا يكون فيما بعد و لا يكون حزن و لا صراخ و لا وجع فيما بعد لان الامور الاولى قد مضت... و اراني نهرا صافيا من ماء حياة لامعا كبلور خارجا من عرش الله و الخروف في وسط سوقها و على النهر من هنا و من هناك شجرة حياة تصنع اثنتي عشرة ثمرة و تعطي كل شهر ثمرها و ورق الشجرة لشفاء الأمم و لا تكون لعنة ما في ما بعد و عرش الله و الخروف يكون فيها و عبيده يخدمونه و هم سينظرون وجهه و اسمه على جباههم و لا يكون ليل هناك و لا يحتاجون الى سراج او نور شمس لان الرب الاله ينير عليهم و هم سيملكون الى ابد الابدين".
في ختام هذا البحث، لا أعرف كيف قال النقاد ان الله هو إيل وأن الشعب الإسرائيلي عبد إيل إله كنعان. ثمة من يقرأ ولا يقرأ أو ثمة من لا يجيد القراءة.
#طوني_سماحة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عهد قديم وعهد جديد-12- إيل العبري وإيل الكنعاني
-
أما يكفي أيها السيف دماء؟
-
شبهة وردود-2- ما لي ولك يا امرأة؟
-
هل مسموح أن يتعرض أبو سليم للإذلال؟
-
شبهة وردود-1- يسوع سارق الحمير
-
عهد قديم وعهد جديد-11- حمورابي وموسى
-
عهد قديم وعهد جديد-10- جولة على معتقدات القارة الفتيّة
-
عهد قديم وعهد جديد-9- قراءة في الهندوسية
-
هل قال أيوب أن السماء ترتكز على أعمدة أربعة؟
-
مرحبا أيها الحب!
-
عهد قديم وعهد جديد-8- قراءة في البوذية
-
كافر أنا
-
عهد قديم وعهد جديد -7-جولةعلى آلهة حوض البحر الابيض المتوسط
-
رأيت يسوع- قصة خيالية
-
منطق آلهة سادية أم بشاعة وسادية القدماء؟ رد على مقال الاستاذ
...
-
عهد قديم وعهد جديد -6-الحرب على كنعان، إبادة جماعية أم دينون
...
-
حسناء باريس... وردة ذبلت أم أشواك دامية؟
-
عندما يكون الدم ثمن الحرية
-
إنسان يموت وكلب يعيش
-
عهد قديم وعهد جديد -5- إسمع ما يقوله إيل الثور الإله، سيّدك
المزيد.....
-
وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور
...
-
بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
-
” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس
...
-
قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل
...
-
نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب
...
-
اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو
...
-
الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
-
صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
-
بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|