|
هل كان الصدر سياسيا فاشلا؟
علي المدن
الحوار المتمدن-العدد: 5130 - 2016 / 4 / 11 - 14:45
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أول مرة طرحت هذا السؤال على نفسي كان في التسعينيات، بعد أن استولى اليأس على كل تفاصيل حياتنا في المهجر، وبعد أن فقد الناس ثقتهم بالأحزاب السياسية الإسلامية وتعالت الأصوات والكتابات بإدانتهم وتحميلهم القسط الأكبر من المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع من حرمان وضياع. اليوم، وفي ظروف مشابهة لما كان عليه الوضع في الأمس، يطرح السؤال من جديد، لا بل يصرح البعض بذلك بلا وجل ولا تردد. ألا يشرح هذا التشابه في التوقيت الخلفيات التي تقف وراء طرح هذا السؤال؟ ما علاقة محمدباقر الصدر كـ (سياسي) بأوضاعنا؟ ولماذا يلقى باللائمة عليه كلما فشل السياسيون الإسلاميون في إدارة أحوال البلد؟ هل الحكم على تجربة الصدر بالفشل نابع من قراءة تاريخ الرجل وفكره ومواقفه والأجواء التي عاشها، وعشناه جميعا، شعبا وأحزابا ودولة، في ممارسة السياسية؟ أو أن لهذا الحكم علاقة به باعتباره عضوا مؤسسا في حزب سياسي ومنظرا لشكل من أشكال الدولة؟ لنلخص أهم المحطات التي مر بها الصدر في مسيرته السياسية: أولا: كتب الصدر أفكاره السياسية في عشرة أسس تداولتها كوادر حزب الدعوة الإسلامية، فكان فيها منظّرا أمميا. وثانيا: كتب الصدر أفكاره السياسية وقدمها كدستور أولي مقترح بين يدي قادة التجربة الإسلامية الوليدة في إيران، فكان فيها فقيها دستوريا "شيعيا". وثالثا: كتب الصدر "مطالبه" السياسية وسجلها صوتيا كنداءات قبل اعتقاله واستشهاده، وجّه خطابه فيها إلى الشعب العراقي وحكومته آنذاك، فكان قائدا ومواطنا عراقيا. في رأيي هذه أهم المحطات في تجربة الصدر السياسية، وقد تتخللها أو تسبقها مواقف وكتابات أخرى إلا أن ما يجمع كل تلك المواقف والكتابات هو هذا المخطط الثلاثي الذي أقترحه. وكما أن هذا المخطط مختلف في محتواه فإنه مختلف أيضا في الصفة التي كان عليها الصدر حين كتب فكرة هنا أو طالب بأمر هناك. إن الحكم على تجربة الصدر في السياسة وشؤونها يختلف تبعا للزاوية التي ننظر من خلالها إليه. فالسياسة كممارسة شيء، والسياسة كفكر شيء آخر. في الثانية يكون الصدر منظّرا ويمكن تقييم أفكاره عبر مقارنتها بالأشكال الأخرى التي يقترحها منظرون سياسيون آخرون في معالجة مفاهيم الدولة وإشكالياتها، مع الأخذ بالاعتبار الانتماء الحضاري والفكري الذي ينتمي له. أما في الممارسة، فإنه ليس للرجل منها نصيب إلا في مواقفه العامة من هذا الحدث السياسي الداخلي والدولي أو ذاك باعتباره فقيها ومفكرا إسلاميا، وتبلغ تلك المواقف ذروتها في أيام حياته الأخيرة حين كتب نداءاته الثلاثة. وعلى ما تقدم فإنه إنْ كانت عنايتنا تتجه للحكم عليه كمنظر سياسي، فإن الصحيح هو الحكم على أفكاره بالصحة والخطأ، وليس بالفشل والنجاح، اللهم إلا في التجارب التي تستلهمه، فإن الحكم حينها يكون عن مدى مطابقة تلك التجارب السياسية مع أفكاره، ونجاعة تلك الأفكار على مستوى التطبيق. أما إذا كانت عنايتنا تتجه للحكم عليه على أساس ممارسته للسياسة، فإن الصدر لم يمارس السياسة بالمعنى الحقيقي لكلمة ممارسة، إنما رفع الرجل صوته ببعض المطالب نتيجة لما يمثله في الواقع الاجتماعي الذي ينتمي إليه من رمزية كقائد. ولو عدنا إلى تراث الصدر، فإننا لا نعثر له فيه على تعريف لنفسه كـ"سياسي"، بل هو يقدّم نفسه في كتاباته التنظيرية كفقيه ومفكر، وفي نداءاته كفرد من أفراد المجتمع، كمواطن له حقوق، كقائد يطالب بحريات أمته وشعبه. إذن، فالحكم على تجربة الصدر السياسية ينحصر في أدائه الأخير كما مثلته تلك الندءات، وما حملته من مطالب. فما الذي دعا إليه الصدر، وبأي أسلوب؟ هذا يدخلنا مباشرة في تحليل تلك النصوص الثلاثة القصيرة، وهو ما لا نود الخوض في تفاصيله الآن، ولكن من الواضح أن الصدر دعا إلى مطالب تمثل أبسط الحقوق السياسية لأي مواطن في العالم، طالب بالكف عن عمليات القمع والتعذيب، ووقف حملات الاعتقال التعسفي والإفراج عن المعتقلين، وعدم الاكراه على الانتساب لحزب البعث، واحترام الحريات العامة في الاعتقاد الديني واقامة الشعائر، والدعوة إلى انتخابات حرة، وتمثيل برلماني صادق، وإفساح المجال لجميع أطياف الشعب العراقي ومكوناته بممارسة حقهم في المشاركة السياسية في إدارة البلد، ثم ختم كل ذلك بدعوة الشعب إلى حمل تلك المطالب والاستمرار في النضال من أجلها. وهو في كل ذلك لم يظهر تمييزا في خطابه بأي شكل من الأشكال، لا عرقي ولا ثقافي ولا سياسي ولا ديني ولا مناطقي ولا غير ذلك، حتى إنه لام السلطة في إفراغيها حزب البعث العربي الإشتراكي من مضموته الإيديولوجي وتحويله إلى عصابة تمتهن القتل والتعذيب. إن تجربة الإدارة السياسية في بلد معقد كالعراق كانت ولاتزال غير ناضجة، بل إن تحليلات أعمق المنظرين والمحللين السياسيين في العالم تصنفها ضمن التجارب الفاشلة في الحكم، وهي لا تنفك ترواح في نفس أزماتها القديمة من احتكار للسلطة وقمع للحريات وغياب للشفافية وتفشٍ للفساد. وفي هذا السياق ينبغي الانتقال بالسؤال حول ما كان الصدر فعله، إلى ما كان متاحا له. إن خلط التجارب والأزمنة وإلغاء ما هو مأساوي من تجاربنا في ممارسة السلطة لا يفضي إلى فهم أفضل لتاريخنا السياسي. صحيح أن الثوار والمصلحين أشد الناس عرضة للنقد، ولكن من الصحيح أيضا أنه لا توجد أمة حفظت مكانتها في التاريخ دون تضحيات. إن الأمم الحية هي تلك التي تدافع عن كرامتها، والتي تحفظ لرموزها تضحياتهم من أجل قيم الحرية والحقوق والمساواة. إن التركيز على مآلات الأحداث والتغاضى عن الجرائم الهمجية للعقلية البعثية السادية ينتهي بنا إلى تجريح الذات أكثر من تقدير انجازاتها، وإلى الحط من رموزنا الوطنية بدل تخليدهم. إن من يعرف حزب البعث يعلم علم اليقين أن أي حديث عن مناورة سياسية مهما كان شكلها بسيطا وساذجا يعد ضربا من المستحيل، وأن أي فرصة للمطالبة بالحقوق معدومة، وليس هناك ما يوضح هذه الحقيقة أجلى وأوضح من استشهاد الصدر نفسه. لقد دعوتُ قبل أيام في سياق المظاهر الاحتفالية بذكرى رحيل الصدر إلى التعاطي مع فكره وفقا للأعراف العلمية في الأوساط الأكاديمية، وقلت إن الاحتفال بفاجعة رحيله بلا إشاعة لأجواء النقد والتحليل والنقاش يقلل من مكانته كمفكر، واعتبرت الإشادة به كعبقري وكمناضل وكإنسان مستقيم أخلاقيا أمرا مفروغا منه، إلا أن ذلك لا يعفينا من الارتقاء في تناوله من الخطاب التبجيلي الرومانسي إلى خطاب تحليلي نقدي يلاءم أكثر مع حجم الصدر كعقل مبدع، ومع هذا يظن البعض أن مفهوم النقد يمكن ممارسته بخفة دون إقامة المسوّغات العلمية الكافية. إن خطر التعسف في الرأي عند تحليل تاريخنا السياسي القريب يزداد حين نهمل أننا كنّا نعيش في ظل أعتى الدكتاتوريات همجية وتخلّفا في القرن العشرين، إذ مع الإهمال يتم تناسي قيم "الحرية والحقوق والعدالة والمساواة" التي تشكل كرامة الأمة الحية وروحها التي تميزها عن قطيع العبيد الأذلاء. وهذا التعسف لا يمس شخصية واحدة هي شخصية محمد باقر الصدر، بالرغم من المكانة المعنوية الهائلة لهذه الشخصية والخسارة العظيمة بفقده، وإنما يشمل جميع الرموز الوطنية وقوافل الأحرار من كل الأحزاب والتيارات والمذاهب والقوميات، إنه حط من وعينا وقيمتنا وتاريخنا كأمة.
#علي_المدن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مهنة الفيلسوف
-
أحوال ملوك التتار المغول
-
لماذا استهداف مساجد الشيعة؟
-
الأنموذج الملهم بفعل الخير
-
العرب على مفترق طرق اللاهوت
-
البصرة والخليج الداعشي
-
السلم أولاً
-
المغمور من تراث الصدر الفقهي والأصولي .. جذاذات أبحاث منتظرة
-
ما يشبه بيانات القمة
-
مأزق الإله الرسالي
-
المسألة الدينية ومحطات الوعي الثلاث في الثقافة العراقية
-
إدارة التوحش
-
ما يستفزني
-
بؤس الوجود الرمزي للمثقف
-
نقد الممارسة الأيديولوجية عند ريمون رويَّه
-
عذابات النص بين كاتبه ومترجمه ومتلقيه
-
رسالة من الجماهير الغاضبة في البصرة
-
التراث .. أداةً لتزييف الوعي
-
بذرة التفلسف
-
السياسة والأمل
المزيد.....
-
الأميرة المسلمة الهندية -المتمردة- التي اصطادت النمور وقادت
...
-
تأسست قبل 250 عاماً.. -حباد- اليهودية من النشأة حتى مقتل حاخ
...
-
استقبل تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024 بجودة عالية
-
82 قتيلاً خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
82 قتيلا خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
-
أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
-
غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في
...
-
بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
-
بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|