أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ميشيل حنا الحاج - من جعبة ذاكرتي الفلسطينية-8: مذبحة صبرا وشاتيلا وعملية جيمس بوند لانقاذ رفاق منها















المزيد.....


من جعبة ذاكرتي الفلسطينية-8: مذبحة صبرا وشاتيلا وعملية جيمس بوند لانقاذ رفاق منها


ميشيل حنا الحاج

الحوار المتمدن-العدد: 5128 - 2016 / 4 / 9 - 16:01
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


ملاحظة: هذه حلقة أخرى من كتابي القادم بعنوان "رحلة في ذاكرتي الفلسطينية" وهي كالحلقة السابقة طويلة بعض الشيء، لكنها أقل طولا منها. أرجو المعذرة، مع وعد للقارىء بأنه سيجدها حلقة مفيدة وغير مملة أبدا، رغم كونها تروي قصة مأساة من المآسي التي عانى منها الشعب الفلسطيني.
***********


دخل الاسرائيليون الى بيروت فور مقتل بشير الجميل، مطمئنين الى عدم وجود مقاومة تذكر تواجههم بعد رحيل الفلسطينيين عن المدينة. ولكن بعد يومين أو ثلاثة من سيطرتهم على العاصمة اللبنانية، رغم بعض عمليات المقاومة التي واجهوها، وأبرزها تلك التي وقعت قبل يوم ضد جنديين يتناولان القهوة في مقهى ويمبي في شارع الحمراء... نفذت مذبحة كبرى في مخيمي صبرا وشاتيلا سيظل التاريخ يذكرها نظرا لحجمها وبشاعتها، ولتذكيرها بمذبحة سابقة في تاريخ القضية الفلسطينية، هي مذبحة دير ياسين التي وقعت في التاسع من نيسان عام 1948، رغم أن عدد الضحايا في دير ياسين، كانوا أقل عددا. فالمقارنة ليست بين عدد الضحايا، بل بالجرح العميق الذي أحدثته المذبحتان في النفوس الفلسطينية، خصوصا وأن مذبحة دير ياسين، رغم ضآلة حجمها من حيث عدد الضحايا، الا أنها شكلت مفترق طرق في القضية الفلسطينية، وأدت الى حركة الهجرة السكانية للكثيرين من أبناء فلسطين.

وتأكيدا للدهاء الاسرائيلي، لم يلجأوا الى تنفيذ تلك المذبحة على يد جنودهم ومقاتليهم، اذ فوضوا القوات اللبنانية التابعة لحزب الكتائب اللبناني، لينفذوها وكالة عنهم، مع تواجد بعض الخبراء الاسرائيليين معهم، فكانت بداية مفهوم الحروب بالوكالة في منطقتنا، والتي انتشرت فيها وباتت نهجا عاديا في أعوام لاحقة.

ومع ذلك، لم تكن البصمات الاسرائيلية غائبة تماما عنها، اذ جرت المذبحة بتخطيط واشراف وزير الدفاع الاسرائيلي آريال شارون، الذي تواجد على سطح بناية مرتفعة مطلة على المخيم، يراقب سيرها بمنظاره المقرب والمكبر، مخالفا أبسط قواعد معاهدة جنيف الرابعة في كيفية التعامل مع السكان الواقعين تحت نير الاحتلال، والذي يفرض على القوات المحتلة، واجب حمايىة السكان وعدم تعريضهم للأذى.

وفي سنوات لاحقة، أجرت لجنة اسرائيلية باسم لجنة كاهانا تحقيقا في تلك المجزرة، وأدانت اللجنة شارون وحملته مسؤولية ما حدث. ولكن الأمر اقتصر على الادانة وعلى اجباره على التخلي عن منصبه كوزير للدفاع، دون عقاب فعلي أو ملموس. بل تلقى المتهم وساما في مرحلة لاحقة، عندما أصبح في عام 2001 رئيسا لوزراء اسرائيل.

وكما تركت لجنة كاهانا الوزير شارون بدون عقاب فعلي، تركته منظمة الأمم المتحدة أيضا والمجتمع الدولي بدون عقاب فعلي، رغم أن لجنة دولية ترأسها "شون ماكبرايد" - مساعد الأمين العام للأمم المتحدة، بل ورئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة لاحقا، قد أجرت تحقيقا مستفيضا، وانتهت بتقرير المسؤولية الاسرائيلية عما حدث، باعتبارها قوات احتلال وتوجب عليها حماية المدنيين الواقعين تحت نير الاحتلال، بل ووصفت في تقريرها ما حدث بأنه جريمة ضد الانسانية. الا أن محاكمة لشارون أمام محكمة الجنايات الدولية، لم تجر أبدا رغم الادانة الدولية الواضحة والموثقة بتقرير أممي اعدته لجنة دولية هي لجنة "شون ماكبرايد".

وأنا شخصيا علمت لأول مرة بوقوع تلك المجزرة، في الساعة السابعة تقريبا من مساء السادس عشر من ايلول - سبتمبر. وكنت يومها قد ضقت ذرعا من البقاء في الفندق الذي التزمته منذ اكتمال الاحتلال الاسرائيلي لبيروت، فلم أغادره الا مرة واحدة لأتابع عملية مقتل الجندي الاسرائيلي في مقهى ويمبي الذي لم يكن بعيدا عن الفندق. وهكذا فكرت في عصر السادس عشر من الشهر في أن أغادر الفندق، لأتناول الطعام في أحد المقاهي الشائع وجوها في شارع الحمراء القريب من الفندق.

وكنت يومها أهبط درجات الفندق في الساعة السادسة مساء تقريبا، وفي نيتي التوجه الى أحد المقاهي في شارع الحمراء الذي يعج بهذا النوع من المقاهي. ولكن بعد أن نزلت درجتين أو ثلاثة، حتى استوقفني شاب يافع أوروبي السمات، وأبلغني بأنه طبيب سويسري من مجموعة أطباء بلا حدود، وأنه قادم الآن من مخيمي صبرا وشاتيلا ليبلغ الاعلاميين في الفندق، بأن مذبحة تجري حاليا في مخيمي صبرا وشاتيلا. وطلب مني أن أقوده لبعض الاعلاميين ليطلعهم على حقيقة ما يحدث في المخيمين المذكورين. فطمأنته قائلا بأن رسالته قد وصلت، لأني واحد من الاعلاميين المتواجدين في الفندق، واعدا بأن أطلع الآخرين على ما يحدث في المخيمين، وبأنني سارسل فورا فريقا تليفزيونيا لأسجل حقيقة ما يجري في المخيمين. وهنا انصرف الطبيب اليافع مطمئنا، بينما بدأت أنا أبحث عن أحد فرق التصوير العاملين معي في وكالة دبليو تي أن، لأكلفه بمهمة الذهاب الى المخيم والتأكد من حقيقة ما يجري هناك. لكن أيا من الفرق الأربعة لم يكن متواجدا عندي في تلك اللحظات.

وحرت لبعض الوقت ازاء خطورة ما يحدث، وثقتي بأن الطبيب الصغير في السن، لم تكن له مصلحة في أن يكذب أو يبالغ. فالرجل قد سار على قدميه من المخيمين، ليصل مشيا على الأقدام الى فندق الكومودور، ليوصل تلك الرسالة للعالم. وكنت أنا العالم الذي بلغه الخبر المؤلم. ولكن يداي كانتا مغلولتين مع عدم تواجد أي من فرق التصوير الأربعة قربي أو في متناول يدي.

فرائف ديباجة ومساعده خالد، قد التزما منزليهما منذ دخول الاسرائيليين الى بيروت. ولم يكونا بين المقاتلين الذين غادروا الى تونس. وعندما سألتهما عن السبب في بقائهما، ردا قائلين بأن الاتفاق يقضي برحيل المقاتلين، وهما رغم حملهما للسلاح، لم يكونا من المقاتلين المنظمين في حركة فتح أو غيرها من التنظيمات الفلسطينية المقاتلة. فقد كانا ينتميان الى الميليشيا، والمنتسبين للميليشيا، لم يكونوا ضمن من شملهم الأمر بالرحيل. ومثلهما كان وضع محمد حيدر الذي التزم بدوره منزله منذ بداية التواجد الاسرائيلي في بيروت. أما أسعد فغالي وكن جوبسون، فكانا في مهمات تصويرية في بيروت الشرقية، ولم يكن الاتصال بهما أمرا سهلا، لأن هواتف الموبايل لم تكن قد عرفت آنئذ.

وترددت طويلا. هل أنتظر عودة فغالي وجوبسون، أم أتصرف بطريقة أخرى. وهنا أخترت أن أستعين بمصوري شبكة "ايه بي سي" الأميركية، التي كان هناك تعاون وثيق بينها وبين وكالة "الدبليو تي أن" التي أعمل معها وأدير الآن عملياتها في لبنان. فكنا نتبادل الأشرطة التي يصورها أي من الطرفين، خصوصا وأن شبكة الايه بي سي تملك تسعين بالمائة من أسهم الدبليو تي أن، في الوقت الذي تملك فيه شبكة "آي تي أن" البريطانية ، العشرة بالمائة المتبقية. وهكذا ذهبت الى مكتب ايه بي سي، وعندما انفردت بالمنتج المشرف على عملياتها، أبلغته همسا بما علمته من الطبيب السويسري، مقترحا أن يرسل فريقا على الفور الى المخيمين، على أن نحصل على نسخة من الشريط الذي سوف يصورونه. وبطبيعة الحال، لم يرفض منتح الايه بي سي مقترحي ذاك، وعجل بارسال أحد الفرق لديه الى أحد المخيمين.

ولكن شاء القدر أن يصلني أسعد فغالي ومعه شقيقه فادي عائدين من مهمتهما في شرق بيروت، بعد دقائق قليلة من مغادرة فريق أي بي سي متوجها الى المخيم. وهنا أبلغت أسعد بما حدث، طالبا منه ومن شقيقه، الاسراع بالذهاب الى مخيم صبرا للتحقق من وقوع مذبحة للفلسطينيين هناك. وبطبيعة الحال، عجلا في مغادرة الفندق متوجهين الى المخيم.

ولكن شاء الحظ أيضا، أن يعود بعد مغادرتهما بفترة قصيرة جدا، "كن جوبسون" ومعه مساعده "فلادو"، من مهمة لهما في شرق بيروت أيضا. فأبلغتهما بما لدي من معلومات، طالبا توجههما الى المخيمين. ولكني اقترحت عليهما أن يتجها الى مخيم شاتيلا، حيث أن أسعد قد توجه الى مخيم صبرا. وكان للمخيمين عدة مداخل، وتصادف أن كلا من فريق ايه بي سي، وفريقي دبليو تي أن، لم يلتقوا أبدا في المخيمين الواسعين والمتصلين ببعضهما. فكل فريق من فرق التصوير الثلاثة، وصل الى جزء في المخيم لم يصله فريق آخر من الفرق الثلاثة التي باتت تتجول الآن في أنحاء المخيم الواسع، مما ساعد على التقاط صور مختلفة وعديدة ومتعددة المواقع، تكشف فعلا ما كان يجري في المخيم، وكان قد بدأ يحدث كما قال الطبيب السويسري، منذ الساعة السادسة من مساء ذاك اليوم..وكان لا يزال يحدث في المخيمين البائسين رغم الظلام الذي حل. اذ تواصلت عمليات القتل على ضوء شعلات انارة تطلقها القوات الاسرائيلية المحتلة المحيطة بالمخيمين، مما ساعد على مواصلة عملية القتل والاعدام بدم بارد طوال الليل.

وعندما عادت الفرق الثلاث بأشرطتها واحدا تلو الآخر، اجتمعنا في غرفة المونتاج المشتركة، وبدأنا نشاهد معا تلك الأشرطة التي أذهلتنا ببشاعتها. فالأشرطة الثلاثة التي وصلتنا من الفرق الثلاثة، كانت جميعها تتضمن صورا لجثث لرجال ونساء بل ولأطقال ملقاة هنا وهناك، بدون مسعى حتى للتمويه عما حدث. فالكتائب الذين نفذوا المذبحة تحت اشراف آريال شارون، الذي كان يقف كما سبق وذكرت، وتأكد للجنتي كاهانا وشون ماكبرايد، على سطخ بناية مجاورة ويراقب بالمنظار مغتبطا ما كان بجري في المخيمين. وكان الكتائب كما يبدو، يريدون أن يعلم الجميع بما فعلوا، فلم يعترضوا على قيام المصورين الثلاثة، بتصوير الجثث الملقاة هنا وهناك دون احترام لحرمة الموت والموتى. بل وسجلت احدى اللقطات دخول أحد المسلحين الى منزل صغير، حيث سمع في داخله عملية اطلاق نار متكرر، وخرج بعده المسلح بادي السرور، مما فسر من المصور الذي سجل تلك الواقعة على الفيديو، بأن مهمته قد نجحت وقتل كل من تواجد داخل ذاك المنزل.

ومن مجموع الأشرطة الثلاثة، أعددنا نسختين من الفيديو المشترك لكلينا، واحدا لتبثه الدبليو تي أن، وآخر لتبثه شبكة ايه بي سي في نشرتها الرئيسية. وعجلنا بارسال الشريطين الى دمشق، حيث أنه لم تتوفر في لبنان آنئذ وسائل البث عبر الأقمار الصناعية، ونتيجة لذلك وضعت الشبكات الأجنبية، بما فيهم دبليو تي أن وايه بي سي، أجهزة أقمارها الصناعية في دمشق، لتبث منها الى العالم كل التقارير التي نعدها في لبنان عن وقائع الحرب وما بعد الحرب.

وكان قلقنا حول احتمال ألا يستطيع السائق الذي غادرنا قرابة منتصف الليل، عبور الحدود اللبنانية التي كانت تغلق في منتصف الليل في وجه من يرغبون في العبور، نظرا للظروف غير الطبيعية القائمة في البلاد. ولكن تعليماتنا للسائق شددت على أهمية عبوره بالشريط وايصاله الى ممثلي الشبكتين في دمشق مهما كلف الأمر...أي حتى لو اقتضى الأمر انفاق بعض النقود لاقناع المتشبثين باغلاق الحدود، لتشجيعهم على اظهار بعض المرونة في موقفهم ذاك.

ونجح السائق فعلا في مهمته، ووصل الى دمشق، لتبث فورا النسخة المعدة لاستخدام الدبليو تي أن، على كل شبكات اليوروفيزون كخبر عاجل طارىء، أي فلاش (Flash) كما تسمى الأخبار العاجلة جدا. وقامت بعدها الاية بي سي ببث شريطها في موعد نشرتها الاخبارية الرئيسية والتي كان موعدها بعد قرابة الساعة من قيامنا ببث الشريط الى اليوروفيزيون الذي يضم كل الاذاعات وقنوات التلفزيون الأوروبية، بل والعالمية أيضا. ونظرا لأهمية التقرير، فقد ذكرت وكالة "دبليو تي أن" لدى قيامها بالبث في نشرة عاجلة، أن معد التقرير ومنتجه هو ميشل الحاج.

ومع الساعة الرابعة أو الخامسة صباحا، بدأت أجراس الهواتف تقرع في مكاتب وغرف الشبكات الأخرى، ليبلغها مدراؤهم بأن ميشيل الحاج قد بث شريطا يقول أن مذبحة كبرى تجري في مخيمي صبرا وشاتيلا. "اذهبوا فورا الى المخيمين"، كانت الأوامر الغاضبة تصل للشبكات الأخرى تباعا. ومع الفجر هرولت العديد من فرق شبكات التلفزيون نحو مخيمي صبرا وشاتيلا في مسعى للتأكد من مدى دقة الخبر، متوقعين أن يكون فيه مبالغة كبرى. لكن الأمر للأسف، كان يمثل حقيقة مأساوية لمذبحة استمرت ثلاثة أيام، دون أن تسعى القوات الاسرائيلية المحاصرة للمخيمين، أن توقفها أو تخفف من حدتها.

وبطبيعة الحال، لم تتوقف مهمتي عندئذ على ما انجز من عمل جبار في ليلة السادس عشر من أيلول، اذ واظبت على ارسال الفريقين اللذين بقيا عاملين لدي، يوميا الى المخيمين، ليقوم كل منهما بزيارة المخيم المخصص له مرتين أو ثلاثة في كل يوم، يسجل فيها ما استجد من عمليات القتل، ومن صور لجثث القيت هنا وهناك في المخيمين. وكنت كلما عاد فريق من المخيم، أبادر فورا الى ارسال شريطه الى دمشق ليجري بثه للعالم فورا. وبلغ عدد السيارات التي أرسلت الى دمشق في اليوم الثاني من المجزرة، حاملة أشرطة تم تصويرها في ذاك اليوم، خمس سيارات في يوم واحد.

ولم نكن في البداية نعلم من كان ينفذ تلك المجزرة. هل هم الاسرائيليون أم هم الكتائب الناقمون على الفلسطينيين. ولكن في مساء اليوم الثاني، جاءني كن جوبسون ليبلغني بأنه قد شاهد "ايلي حبيقة"، أحد القادة البارزين في القوات اللبنانية الكتائبية، والمعروف جيدا للاعلاميين، واقفا على باب مخيم شاتيلا، ويصدر أوامره للمقاتلين من القوات اللبنانية للتوجه الى هذا الجزء او ذاك من المخيم الواسع. وهنا تأكدت هوية منفذي المجزرة، لكن ليسوا بالضرورة المخططين لها أيضا، خصوصا وأن ايلي حبيقة، لم يكن فحسب من أبرز قياديي القوات اللبنانية، بل كان المسؤول في تلك القوات، عن التنسيق مع القوات الاسرائيلية المحتلة.

ولكن مهمتي في اليوم التالي لم تكن تقتصر على تحريك فريقي التصوير، بل كانت أمامي مهمة أخرى وهي انقاذ زميلي ورفيقي رائف ديباجه ومساعده خالد، اللذين رجحت تواجدهما داخل المخيمين اللذين يواجهان تلك المذبحة المريعة. فالشباب من الفلسطينيين المتواجدين في المخيم، كانوا من أول المستهدفين بالقتل. وكان الزميلان في العشرينات من عمرهما.

فبعد أن أمنت ارسال الشريط الأول الى دمشق في الليلة الأولى للمذبحة، بادرت فورا للاتصال ب"غسان سالم" الذي كان يعمل أيضا مع الدبليو تي أن ولكن بالقطعة (أي لم يكن موظفا دائما ومثبتا). وكانت مهمته قبل وقوع الحرب واغلاق المطار، القيام بشحن الأشرطة التي تصورها الوكالة، الى لندن عن طريق شركات الطيران المغادرة سواء الى لندن أو لأي عاصمة أوروبية أخرى. ولكن غسان كانت له وظيفة أخرى، وهي عمله كسائق لسيارة اطفاء تابعة للدفاع المدني اللبناني. وبعدعدة محاولات للاتصال به هاتفيا، تحقق ذاك الاتصال به في منزله. فطلبت منه أن يأتيني الى فندق الكومودور مع بداية الصباح ودون أي تأخير للأهمية.

وفي الصباح الباكر، جاءني غسان سالم مستغربا، لعلمه بأن المطار مغلق، ولن تكون أمامه مهمة ما أكلفه بها. فمهمته المعتادة كانت تقتصر على عمليات شحن الأشرطة عبر مطار بيروت الذي كان مغلقا. والواقع أن غسان سالم كان هو أملي الوحيد الذي قد يمكنه مساعدتي فيما أسعى لتحقيقه، لأن فريقي التصوير كانا منشغلين بعمليات التصوير المتلاحقة داخل المخيمين، والتي كانا ينفذانها بدون كلل وموجة بعد أخرى طوال اليومين الثاني والثالث للمجزرة. وهكذا بات غسان المقيم في لبنان منذ زمن بعيد، هو الأمل الوحيد الذي علقت عليه آمالي,

وسألني غسان فور صوله مع باكورة الصباح "خير .. ماالمطلوب". ولم يكن قد سمع بعد بما كان يحدث في المخيمين، أو سمع بعض الأقاويل التي كانت حتى ذلك الوقت بالنسبة له ولسكان بيروت، مجرد أقاويل. فالعالم قد سمع عن المذبحة نتيجة الشريط الذي تم بثه. ولكن ذلك تم بعد منتصف الليل، وبالتالي فان الخبر لسكان بيروت المستغرقين في النوم، والذين لم يشهدوا بعد تلك الصور والفيديوهات، كان لم يزل بالنسبة لهم في حدود الأقاويل. فسألته ان كان يعرف رائف وخالد، فرد طبعا أعرفهما. التقيت بهما عدة مرات في المكتب عندما كنت أذهب لاستلام أشرطة للقيام بشحنها. وسألته ان كان يعرف أين يقيما، فرد "طبعا أعرف. انهما يقيمان في اطراف مخيم صبرا، وقد زرت رائف ديباجة مرة في مسكنه وشربت الشاي معه هناك". فقلت "حلو... هذا هو المطلوب...ما هي الطريقة لاخراجه من المخيم هو وخالد والاتيان بهما الي؟". وازاء علامات الدهشة التي ارتسمت على وجهه ازاء ذاك الطلب الغريب، شرحت له أن مجزرة تجري في مخيمي صبرا وشاتيلا منذ الساعة السادسة من ليلة أمس. وأن القتلة يقتلون من هب ودب من المتواجدين في المخيم وخصوصا الشباب من صغار السن منهم، مبينا بأنني أخشى على حياتهما مع وجود احتمالات كبيرة بتعرضهما للأذى. وصمت.

وفكر غسان سالم طويلا وقد أدرك فداحة المشكلة. ولكنه سرعان ما قال: "سأحاول اخراجهما من المخيم مستخدما سيارة الاطفاء التابعة للدفاع المدني والتي أقودها". وهنا أشرق وجهي ابتهاجا وقد لاحت أمامي بارقة أمل سألته: "هل تستطيع حقا أن تفعل ذلك" ، فرد "أستطيع أن أحاول.... والله يجيب اللي فيه الخير".

واخذ غسان يشرح خطته المقترحة لاخراجهما من المخيم. "سوف أقود السيارة الى داخله بسرعة كبيرة وأنا أطلق زامور سيارة الاطفائية المميز الذي يعلن أنني في مهمة اطفاء مستعجلة". سكت قليلا ثم قال " وان شاء الله يصير خير. سآخذ معي طاسات اضافية من تلك الطاسات التي يتسخدمها الاطفائيون، سأضعها على رؤسهم من باب التمويه لدى خروجنا". قلت حسنا. وهنا هم بالانطلاق لتنفيذ تلك المهمة. لكني استوقفته قائلا: "اذا نجحت في احضارهما الي، رجاء لا تجعلهما يدخلان الى الفندق من الباب الرئيسي. فاليدخلا من الباب الجانبي الذي تورد من خلاله الى الفندق اللحوم والأغذية... أي من باب الخدمات كي لا يلاحظمهما أحد" . وأضفت وانا أسلمه مفتاح غرفة من غرف الفندق استأجرتها في الليلة السابقة قبل أن أخلد للنوم، زاعما أنني أتوقع وصول زائر قادم من دمشق مع الصباح: "ليذهبا فورا الى تلك الغرفة التي أخصصها لهما. وحذرهما رجاء من التجول في الفندق. ليبقيا سجينين في الغرفة الى أن أجد حلا لكيفية التعامل مع قضيتهما" . واختتمت قولي بضرورة تحذيرهما بألا يصطحبا معهما الكلاشينكوفات التي اعتادا حملها أثناء عمليات التصوير". قال غسان "على بركة الله" . وانطلق لتنفيذ مهمته الجيمس بوندية تلك.

وغاب ثلاث ساعات أو أكثر قليلا كنت انتظر خلالها وأنا بفارغ الصبر والقلق. فالشابان لم يعودا بعد جولاتنا المتكررة معا، وتناولنا وجبات الطعام معا أكثر من مرة بحيث صار بيننا "عيش وملح"... مجرد زميلين...لقد باتا صديقين وأكثر"... عاد بعدها غسان ليهمس في أذني وأنا متواجد في صالة الفندق: "الأمانة وصلت. الشباب صارا في الغرفة التي حجزتها لهما". كم كان سروري في تلك اللحظة، وعبثا كنت أحاول لجم أصوات ضحكي المرتفع وهو يروي لي كيف انطلق الى داخل المخيم مطلقا صافرة وزامور الانذار معلنا عن وقوع حريق، وكيف كان أفراد الكتائب يفتحون الطريق له. كما روى كيف خرج بهما بنفس الطريقة في وقت كان قلبه يضرب بنبضات سريعة خوفا من اكتشاف الأمر وعدم انطلائه على الكتائب وعلى بعض الخبراء من القوات الاسرائيلية التي تواجدت مع القوات اللبنانية الكتائبية المنتشرة في المخيم. وكان خوفه الأكبر ألا يكتشف أولئك مجرد كونه ينفذ عملية اطفاء وهمية، بل أن يكتشفوا أيضا أنه فلسطيني الأصل، مما كان سيرجح ازهاق روحه والقاء جثته الى جانب الكثير من الجثث التي شاهدها ملقاة على جانب الطريق. ولكن كل شيء مر بسلام، وبات الشابان في أمان ولو الى حين.

وهنا صعدت معه الى الغرفة التي تواجد الشابان فيها، وبعد الترحيب بهما وما رافق ذلك من عناق حار والكثير من "الحمد الله على السلامة" وما أشبه، حذرتهما من الاطلال من نافذة الغرفة أو مغادرتها لأي سبب كان. وأكدت لهما بأنني سأطلب الطعام لهما يوميا من غرفتي المجاورة لغرفتهما... وعلى أنه طعام لي، ثم أمرره لهما عندما أتأكد بأنه لا أحد في الممر. وطلبت منهما أن يضعا على باب الغرفة اشارة عدم الازعاج كي لا يحاول المنظفون الدخول الى الغرفة. فكرت في كل شيء وبالقدر المستطاع في تلك اللحظات الحرجة.

وأمضى الشابان قرابة عشرة أيام سجينان في سجنهما الاختياري طلبا للسلامة في ظروف الاحتلال العصيبة. ولكن بعد مضي تلك الفترة الطويلة، استوقفني فجأة أحد موظفي الاستقبال في الفندق. وكان الموظف مارونيا، لكنه من الموارنة المعتدلين نسبيا. وفاجأني بالقول همسا أن ريحة الشباب في تلك الغرفة لتي تعرفها طلعت، وهناك خوف الآن بأن يصل الخبر للقوات الاسرائيلية فتأتي فجأة لاعتقالهما وربما لاعتقالك أيضا لتسترك عليهما. وأنهى كلامه بالقول محذرا :"دبرهما خارج الفندق قبل فوات الأوان".... صمت طويلا. لم أكن متفاجئا تماما، ولكني لم أكن قد وجدت ردا أقوله له. واخيرا خرجت عن صمتي لأقول "امنحني يوما آخر وسوف أتدبر أمرهما".

ولم يطل بي التفكير، اذ تذكرت أنه كان لخالد صديقة تعمل ممرضة في مستشقى القدس التابع لمنظمة التحرير. وكانت هولندية الجنسية، كما كانت تربطها بخالد علاقة حب. فذهبت الى غرفتهما، وبعد نقري على باب الغرفة نقرات سرية متفق عليها بيننا، فتحا الباب لي، فشرحت لهما الوضع. "ولكن الى أين نذهب؟". كانت المذبحة في المخيم قد توقفت وغادر مقاتلو الكتائب المخيمين، فكان الاحتمال الأول عودتهما الى المخيم. لكن ذلك لم يكن مضمونا تماما. وهنا اقترحت لجوءهما الى شقة الممرضة الهولندية التي تقيم أيضا في بيروت الغربية، وفي موقع غير بعيد جدا عن الفندق، فاقترحت عليهما الذهاب للاقامة عندها الى أن تنجلي الأمور. وكانت فكرة معقولة، ولكن خالد تردد في الموافقة قبل الاتصال بها والحصول على ترحيبها بهما.

وهنا اتصل بها خالد وعرض الأمر عليها، فردت بأنها ترحب به، لكنها لا تستطيع استقبال رائف معه، مضيفة بأن شقتها صغيرة جدا وليس فيها الا غرفة نوم واحدة. وهنا تدخلت في الأمر مقترحا عليها الحضور الى الفندق لتناول فنجان قهوة معي.

وحصل ذلك فعلا بعد ساعات قليلة، حيث مارست معها كل قدراتي على الاقناع، مبينا لها أن الأمر يتعلق بحياة شابين وحريتهما، مذكرا بأن خالد ورائف تربطهما صلة قرابة، وقد لا يوافق خالد على التخلي عن قريبه (أعتقد أنه كان ابن خالته). وتدريجيا اقتنعت بالأمر وبكونه الحل الوحيد لانقاذ من تحبه وانقاذ قريبه معه. وهكذا في مساء تلك الليلة، وتحت جنح الظلام، غادر الشابان الفندق وتوجها نحو شقة صديقة خالد حيث أقاما.

وبعدها انقطعت صلتي بهما، ولكني علمت فيما بعد أن رائف كانت له صديقة في لندن، وأنها قد تدبرت أمره، وحصلت له على تأشيرة لزيارة بريطانيا التي استطاع أخيرا الوصول اليها بعد فتح المطار ثم مغادرة القوات الاسرائيلية لبيروت. وأعتقد أنهما قد تزوجا وبقي بعدها مقيما في بريطانيا، بل وعمل فيما بعد مصورا في قناة أم بي سي. أما خالد، فلم أعلم الكثير عنه، الا أنني رجحت أنه قد استطاع المغادرة مع صديقته الى بلدها هولندا، بعد انسحاب الاسرائليين من بيروت.

واذا كانت تلك هي ما آلت اليه قضية الصديقين رائف ديباجة وقريبه خالد اللذين انقذا من موت مرجح في مخيمي صبرا وشاتيلا، واللذين تم انقاذهما بعملية جيمس بوندية بكل مافي الكلمة من معنى، فان الكثيرين من سكان المخيم، لم يحظيا بهذه الفرصة النادرة، وقضى العديد منهم على أيدي قتلة لا أعلم كيف كان مرتكبوها ينامون الليل، وعلى ضمائرهم وزر المئات من أرواح الذين قضوا على أيديهم. وتراوح عدد من قضى نحبه في المخيم خلال تلك المجزرة البشعة، بين خمسمائة ضحية، وهي الأرقام التي روج لها الكتائب، وثلاثة آلاف وخمسمائة ضحية، وهو الرقم الذي ذكره الفلسطينيون وأوردته الوكيبيديا في صفحاتها عن مجزرة صبرا وشاتيلا.

أما ايلي حبيقة الذي قاد وأشرف على تلك المذبحة، فقد أصبح فيما بعد نائبا في البرلمان اللبناني، ثم وزيرا في عدة وزارات لبنانية. الا أن أمره انتهى بمقتله نتيجة تفجير سيارته بمتفجرات زرعها مجهولون فيها.





#ميشيل_حنا_الحاج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- من جعبة ذاكرتي الفلسطينية - 7: أيام عصيبة لدى حصار بيروت ومغ ...
- أردوغان: الفراشة التي تتراقص حول المصباح المضيء الساطع، متى ...
- أزمة الفساد في العراق وقضية تواجد خلايا نائمة للدولة الاسلام ...
- بعد أوكرانيا، مساع أميركية لفتح جبهة أرمينيا-أذربيجان، تشاغل ...
- بعد تدمر، هل تتوجه العمليات العسكرية القادمة الى الرقة، دير ...
- من جعبة ذاكرتي الفلسطينية - 6: بصمات فلسطينية في ثورة ايران ...
- التناقض الغريب في موقف الولايات المتحدة بصدد مقاتلة الدولة ا ...
- بداية الارهاب في اوروبا مع احتمالات انحسارها في سوريا وانكما ...
- كتاب مفتوح للقادة في دول تضم بيرناردينو، باريس، بيروت، بن قر ...
- أسباب التفاوت في الموقف الأميركي نحو الدولة الاسلامية في الع ...
- من جعبة ذاكرتي الفلسطينية -5 : عندما أنقذتني ورقة من -فتح-، ...
- عودة الدماء للجريان في شرايين جسم تنظيم القاعدة
- من جعبة ذاكرتي الفلسطينية–4: فاروق القدومي والرسالة السرية ا ...
- من جعبة ذاكرتي الفلسطينية – 3 : عندما قدم عرفات خدمة شخصية ل ...
- من جعبة ذاكرتي الفلسطينية– 2: أنا والشهيد -أبو جهاد-
- تصنيف حزب الله كمنظمة ارهابية، يسعى لاضعاف آخر قوة عربية قاد ...
- لقائي الأول مع ياسر عرفات (أبو عمار)
- ما المقصود بخطة ب؟ تفتيت سوريا أم تكريس ظهور قطبين جديدين ال ...
- هل ننتظر -سيسي- تركي يريح انقره من أردوغان، كما أراح السيسي ...
- صراخ ضد قتل يحصد خطأ بعض الأرواح، وصمت ازاء قتل يحصد أرواحا ...


المزيد.....




- كيف يمكن إقناع بوتين بقضية أوكرانيا؟.. قائد الناتو الأسبق يب ...
- شاهد ما رصدته طائرة عندما حلقت فوق بركان أيسلندا لحظة ثورانه ...
- الأردن: إطلاق نار على دورية أمنية في منطقة الرابية والأمن يع ...
- حولته لحفرة عملاقة.. شاهد ما حدث لمبنى في وسط بيروت قصفته مق ...
- بعد 23 عاما.. الولايات المتحدة تعيد زمردة -ملعونة- إلى البرا ...
- وسط احتجاجات عنيفة في مسقط رأسه.. رقص جاستين ترودو خلال حفل ...
- الأمن الأردني: تصفية مسلح أطلق النار على رجال الأمن بمنطقة ا ...
- وصول طائرة شحن روسية إلى ميانمار تحمل 33 طنا من المساعدات
- مقتل مسلح وإصابة ثلاثة رجال أمن بعد إطلاق نار على دورية أمني ...
- تأثير الشخير على سلوك المراهقين


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ميشيل حنا الحاج - من جعبة ذاكرتي الفلسطينية-8: مذبحة صبرا وشاتيلا وعملية جيمس بوند لانقاذ رفاق منها