أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد باليزيد - ما العلمانية ولماذا الآن؟















المزيد.....



ما العلمانية ولماذا الآن؟


محمد باليزيد

الحوار المتمدن-العدد: 5126 - 2016 / 4 / 7 - 13:39
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


سؤال معقد وكبير هو عنوان هذا المقال الذي لن يجيب بطبيعة الحال جوابا شافيا كافيا وإنما طموحه المشروع أن يعطي بعض الملاحظات قصد إنارة الطريق لكل قارئ يبحث بشكل جدي عن الأجوبة اللاديماغوجية. تبعا لهذا، ارتأيت أن أحسن توطئة لهذا الموضوع هي مناقشة ما أتى على ذكره الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه "الدين والدولة وتطبيق الشريعة" سلسلة الثقافة القومية ع 29، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية 1996. وقد فضلت هذا النهج على أن أشحن الصفحات بعبارات مما كتبه كتاب أتفق معهم في هذا الموضوع مثل برهان غليون أو بوعلي ياسين.
يقول محمد عابد الجابري (ابتداء من الصفحة 108حتى الصفحة 113) :
هوامش هذه الفقرة ستكون هي نقاشي لما كتبه الدكتور وهي مرقمة أسفل الفقرة نفسها.
["يمكن القول إجمالا أنه ما من شعار من شعارات الفكر العربي الحديث-كان وما يزال- مدعاة للبس وسوء التفاهم كشعار العلمانية. والكلمة ترجمة غير موفقة ل اللائكية ، ذلك أن كلمة لايك لا ترتبط بأية علاقة اشتقاقية بلفظة العلم. ... وإذن فاللايكي هو كل من ليس كهنوتيا، كل من لا ينتمي لرجال الكنيسة.... وكما يقول جان لاكوا، [فإن فكرة اللائكية ليست المقابل المعارض لفكرة الدين، ولكنها تستدعي على الأقل التمييز بين ما هو دنيوي وما هو مقدس. إنها تفترض أن جانبا من الحياة البشرية لا يخضع لقبضة التعاليم الدينية، أو على الأقل يقع خارج سلطة رجال الدين ] (1)..ومن هنا كان المذهب اللائكي هو المذهب الذي يطالب بجعل الحياة العامة غير خاضعة لسلطة الدين ورجاله... واضح أن اللائكية فكرة مرتبطة أصلا بوضعية خاصة، وضعية المجتمع الذي تتولى فيه الكنيسة السلطة الروحية: المجتمع الذي يكون فيه الدين مبنيا لا على العلاقة المباشرة بين الإنسان والله، بل على علاقة تمر عبر رجل الدين . ..وأوضح من ذلك أن هذه الفكرة غريبة تماما عن الدين الإسلامي وأهله: فالدين الإسلامي قوامه علاقة مباشرة بين الفرد البشري وبين الله. وليس فيه سلطة روحية من اختصاص فريق وسلطة زمنية من اختصاص فريق آخر(2) وباختصار، فإن طرح شعار اللائكية، أي ما ترجم بالعلمانية، في مجتمع يدين أهله بالإسلام، هو طرح غير مبرر، غير مشروع، ولا معنى له. (3) فلماذا طرح هذا الشعار في العالم العربي إذن؟ وما هي الحاجيات التي أريد منه تلبيتها؟.... وإذن فشعار العلمانية طرح في العالم العربي في ارتباط عضوي مع شعار الاستقلال عن الترك (4) وعندما قامت حركة منافسة تطرح شعار الجامعة الإسلامية وكان ذلك في الغالب نوعا من المعارضة لاستقلال الأقطار العربية عن الترك، وبإيعاز من السلطات العثمانية، أخذ التعارض يتبلور بين اتجاهين: اتجاه يدعو إلى جامعة إسلامية بزعامة الأتراك واتجاه يدعو إلى دولة عربية أو اتحاد عربي (5) ... وإذن فالدلالة الحقيقية لشعار "العلمانية"، في هذا الإطار الجديد، إطار التنظير لدولة الوحدة، كانت مرتبطة ارتباطا عضويا بمشكلة حقوق الأقليات الدينية، وبكيفية خاصة حقها في أن لا تكون مرتبطة بدين الأغلبية، وبالتالي، ف"العلمانية" على هذا الاعتبار كانت تعني بناء الدولة على أساس ديمقراطي عقلاني وليس على أساس الهيمنة الدينية(6). .... وفي خضم الجدل السياسي الإيديولوجي بين الأحزاب والتيارات الفكرية، عبر بعضهم عن هذا المعنى بعبارة فصل الدين عن الدولة ، وهي عبارة غير مستساغة إطلاقا في مجتمع إسلامي، لأنه لا معنى في الإسلام لإقامة التعارض بين الدين والدولة(7). إن هذا التعارض لا يكون له معنى إلا حيث يتولى أمر الدين هيئة منظمة تدعي لنفسها الحق في ممارسة سلطة روحية على الناس، في مقابل سلطة زمنية تمارسها الهيئة السياسية: الدولة. (8) ... وفي رأيي أنه من الواجب استبعاد شعار "العلمانية" من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري "الديمقراطية" والعقلانية"، فهما اللذان يعبران تعبيرا مطابقا عن حاجات المجتمع العربي"(9)]
(1) هنا، بما أن الجابري أتى على ذكر ما قاله جان لاكوا، دون انتقاده، فهذا يعني أن الدكتور على رأي الأول: جزء من الحياة البشرية(السياسة أو ما يتعلق بالحياة الدنيوية وليس بالإيمان يجب أن لا يتدخل فيه رجال الدين. إذن هو مع أن يطبق ذلك المفهوم في المجتمع العربي وفقط أن لا نسميه "علمانية" بل يجب أن نحتفظ له باسمه الأصلي أو نبحث عن ترجمة موفقة.
(2) [[ومن هنا كان المذهب اللائكي هو المذهب الذي يطالب بجعل الحياة العامة غير خاضعة لسلطة الدين ورجاله... واضح أن اللائكية فكرة مرتبطة أصلا بوضعية خاصة، وضعية المجتمع الذي تتولى فيه الكنيسة السلطة الروحية: المجتمع الذي يكون فيه الدين مبنيا لا على العلاقة المباشرة بين الإنسان والله، بل على علاقة تمر عبر رجل الدين . ..وأوضح من ذلك أن هذه الفكرة غريبة تماما عن الدين الإسلامي وأهله: فالدين الإسلامي قوامه علاقة مباشرة بين الفرد البشري وبين الله. وليس فيه سلطة روحية من اختصاص فريق وسلطة زمنية من اختصاص فريق آخر وباختصار، فإن طرح شعار اللائكية، أي ما ترجم بالعلمانية، في مجتمع يدين أهله بالإسلام، هو طرح غير مبرر، غير مشروع، ولا معنى له]]
لنتمعن في هذا المقطع الذي بين[[.. ]]:
في البداية يقر الجابري بأن مطلب المذهب اللائكي هو "جعل الحياة العامة غير خاضعة لسلطة الدين ورجاله". بعد هذا يقول" واضح أن اللائكية فكرة مرتبطة أصلا بوضعية خاصة، وضعية المجتمع الذي تتولى فيه الكنيسة السلطة الروحية... بل على علاقة تمر عبر رجل الدين ". وهنا يلتبس المشكل: هل المشكل هو كون الكنيسة تتدخل في الحياة العامة، السياسية(الطرح1)، أم أن المشكل في أن الكنيسة تجعل نفسها، عبر رجالها، وسيطا بين الله وعباده(الطرح2)؟ في البداية يقر الجابري بأن المشكل هو (الطرح1) ثم بعد ذلك يقول أن المشكل(الطرح2)، ولذلك نحن لسنا في حاجة للعلمانية/اللائكية.

إذا كانت البرجوازية الصاعدة آنذاك في الغرب بنت نفسها بابتعادها عن الكنيسة ومحاربتها لها، وبذلك كانت اللائكية"العلمانية" هي محاربة تدخل الدين في ما تعتبره البرجوازية الصاعدة من اختصاص نفوذها، فإننا في الوقت الراهن، في العالم العربي على الأقل، في وضع مختلف تماما. إننا في مواجهة:
- من جهة طبقة سائدة( نسميها برجوازية أو لا ليس مهما هنا) أدمجت المؤسسة الدينية في هياكلها الإديولوجية من أجل أن يسبح الشعب بحمدها ظنا منه إنما يحمد الله، ويحمد فقره ظنا منه أنه يرضى ب معطى الله .
- ومن جهة أخرى الحركات التي تطالب بالتغيير(أو التي خلقت خلقا لتوهم الناس أن هناك من يطالب بالتغيير) وهي كنيسية أكثر من الطبقات السائدة.
ولو كان وضعنا هو "سلطة روحية من اختصاص فريق وسلطة زمنية من اختصاص فريق آخر"، لو كان الوضع هكذا لكانت مطالبتنا:
- إما الاحتفاظ على الوضع كما هو ما دام "مبدأ فصل السلطات" محقق.
- أو رفض وجود سلطة روحية بالمطلق حتى ولو لم تتدخل في السياسة وترك المخلوق حرا في علاقته مع خالقه دون وسيط.
إن العلمانية ليس من شأنها المطالبة بإلغاء وساطة رجال الدين بين المخلوق وخالقه، إن هذا مهمة ثورة دينية إن اقتضت الحاجة. إن شأن العلمانية هو سلخ الطبقة السياسية (سواء الحاكمة أو المعارضة أو الطامعة في الحكم) من العباءة الدينية وإظهارها على حقيقتها الدنيوية "المصالحية المادية".
(3) إن الجابري هنا يسقط في خطإ منهجي ألا وهو: يأخذ الدكتور الإسلام (إما كما هو في النصوص الأصلية أو كما يفهمه هو من النصوص الأصلية ويحلله ويقارنه بالوضع الذي رفع فيه شعار اللائكية في الغرب ليستنتج أن المجتمع الإسلامي في غير حاجة لهذا المشروع. على الدكتور:
- إما أن يأخذ كذلك المسيحية كما "كانت في الأصل" ليقرر هل المجتمع الغربي بعد القرون الوسطى كان في حاجة إلى اللائكية.
- أو أن يدرس حالة المجتمع العربي (الإسلامي) في القرن العشرين وبعده، وليس النصوص الدينية، ليرى إن كان هناك خلط بين السياسة والدين فنحن في حاجة إلى اللائكية/العلمانية وإن لم ير هناك خلط فلسنا في حاجة لشيء [ابن كيران السبحة الوزير البلجيكي... إن السماع بتركيز للوزير البلجيكي حفاظا على مصالح الشعب المغربي سيدخل ابن كيران الجنة لو كان راغبا فيها أكثر مما سيدخله لها تمرير حبيبات بين يديه حتى ولو كان يسبح بنيته.].
(4) لكن الاستقلال عن الترك هنا ليس له فقط مضمون قومي، فالاستقلال عن الترك هنا يعني كذلك عدم الخضوع لمن نصب نفسه "خليفة للمسلمين"، إنها إذن المحاولة الأولى لهدم سلطة الخليفة المبنية على الدين وليس على الدنيا.
(5) والترك هنا هم الطرف المستفيد من ربط الدولة بالدين والعرب هم المتضررون ولا شيء غريب في الاصطفاف المذكور.
(6) وإذا كانت "الهيمنة الدينية"، تعني تضرر أقلية دينية من دولة قائمة على دين الأغلبية، وإذا كان هكذا وضع يبرر إبعاد الدين عن الدولة، فإن استناد طبقة حاكمة على الدين وتأويلاتها له كي تؤبد سلطتها لابد وأن يكون الحل الجذري له، ليس هو طرد فئة سائدة مع تأويلاتها والإتيات بفئة أخرى بتأويلات أخرى سرعان ما ستنزلق، وإنما الحل الجذري سيكون هو حكم الدنيا بالدنيا وليس بالتأويلات الدينية.
(7) أولا الفصل لا يعني التعارض بمعناه التناحري. ثانيا أن من يقول أن "الإسلام دين ودولة" إنما يختلط في ذهنه مفهومان مختلفان: " "الإسلام دين ودنيا" من جهة و"الإسلام دين ودولة" من جهة أخرى.
- فالمفهوم الأول تشير إليه نصوص مثل "اعمل لدنياك كأنك ستعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك ستموت غدا."
-أما المفهوم الثاني فمن النصوص التي تنفيه نجد مثلا: "وشاورهم في الأمر"، و "أمرهم شورى بينهم.".... إن المخاطب بهذا القول هو النبي (ص)، والضمير "هم" يعود إلى قومه الذين يعيش هو بينهم أو يعيشون بعده وفي غيابه. فلنحلل هذا الخطاب:
أولا علينا أن نحدد ما المقصود بكلمة "أمر"، والتي يمكن إعطاءها المرادف "شأن". فالله تعالى يرسل الوحي لنبيه ليبين هذا الأخير لمن تبعه أمر دينه. وأمر الدين هنا يعني بلا شك نوعية الإيمان، التوحيد، العبادات، الإيمان بالأنبياء السابقين... لكنه سبحانه يترك مجالا لم يرد أن يفت فيه وأمر نبيه بأن يتركه "شورى" بين القوم المعنيين. وهذا الأمر، الشأن الذي لا يمكن أن يكون من طبيعة الحال مما يتعلق بالإيمان والعبادات، هو الأمور الدنيوية للناس. ولو أراد سبحانه وتعالى للدين أن يتدخل في شؤون الدنيا لكان أحق بشر بذلك هو نبيه (ص) الذي إنما ينطق بما يوحى إليه. لكن حكمة الإسلام، أو حكمة الله، أرادت أن تترك للبشر حرية كاملة في أمورهم الدنيوية، إذ لو أنزل الله تعالى على الإنسان كل شيء من السماء ووضح له كيف يصلي وكيف يزكي وكيف يكون دولته جمهورية أو دكتاتورية، لو فعل سبحانه هذا لكان الأمر متنافيا مع "تكريم الإنسان بالعقل"، ذلك أن هذا التكريم يجب أن يتمظهر على الواقع وذلك لن يكون سوى بترك مجال لتحرك هذا العقل، فكان ذلك المجال هو المجال الدنيوي كاملا. الإسلام إذن "دين ودنيا" وليس البتة "دين ودولة".

(8) هنا الفصل موجود ولا حاجة للمطالبة به، إنما المطالبة هنا يمكن أن تكون بإلغاء السلطة الروحية وليس إبعادها عن السياسة كما هو مطروح عندنا.
*** أليس من ينشرون الرقية إنما يجعلون الوسيط بين
**** إن القول بأن "الدين الإسلامي ليس كذا وإنما كذا" هو قول لا يحل مشكل.
(9) صحيح أن المجتمع العربي محتاج إلى "الديمقراطية" والعقلانية"، لكن أية ديمقراطية وأية عقلانية يمكن أن يؤمن بها من يعتقد أنه مخول لحكم الناس بواسطة فهمه "الوحيد الصحيح" للدين؟ سواء كان فعلا يؤمن بما يفعل أو يوهم الناس بإيمانه بذلك ما دام "الإيمان هكذا" يحافظ على وضعه.
مجمل نقاشي هذا لما كتبه الدكتور هو ما يلي:
أ) في البداية يمكن أن يفهم القارئ، كما فهمت أنا، أن الدكتور الجابري متفق مع مضمون "اللائكية" وأنه فقط يلاحظ أن مصطلح "العلمانية" ليس الترجمة الموفقة ل"لائكية"، وقد أشرنا إلى هذا تعليقا على إدماجه في نصه لقولة جان لاكوا دون أن ينتقدها.
ب) ثم في الأخير، وبعد تحليله(أعتقد للنصوص التراثية للإسلام وليس للواقع العربي) يقر بأن العالم العربي لا حاجة به ل"العلمانية" وإنما هو في حاجة فقط للديمقراطية والعقلانية.
في ما يخض النقطة الأولى لو أن الدكتور مع مضمون العلمانية وفقط يرى المشكل في المصطلح، اللائكية، الذي لم يترجم كما يجب، نقول أن هذا المشكل يجب أن تراعيه الثقافة العربية، بصفتها ثقافة تأخذ الآن من الآخر أكثر مما تعطي، فهذه الثقافة عليها أن تتعامل مع ترجمة ثقافة الآخر بكل جدية(1). لكن، بما أن المصطلح "علمانية" قد استعمل منذ عقود عدة، فلم يعد بالإمكان ولا من المجدي تحقيق مطلب الدكتور الجابري: "وفي رأيي أنه من الواجب استبعاد "العلمانية من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري "الديمقراطية" و"العقلانية"."إن ما يجب مناقشته هو هل المجتمع العربي الآن في حاجة إلى أن يتمثل ما يتضمنه هذا المصطلح من معنى أو نحن لسنا في حاجة لذلك؟ طبعا مع الاعتراف أن أي مفهوم فلسفي سياسي، ولو كان من المفاهيم التي يظن الناس أن لا خلاف حول مضمونها، أي مفهوم فلسفي سياسي يمكن أن يحمل حمولات متعددة أو يؤول تأويلات متعددة وذلك حسب الفئة الاجتماعية التي تطرحه. فحقوق المواطنة مثلا يمكن أن تفهمها فئة ما بأنها فقط حق الفرد في اكتساب الأوراق التي تثبت هويته والباقي سوف يأتي بجد الفرد واجتهاده[أو جد أجداده واجتهادهم]، بينما ترى فئة أخرى أن المواطنة لا تكتمل إلا بتوفير حقوق أولية مثل التعليم والصحة...
الدكتور الجابري يجيب على السؤال الأخير بالنفي وحجته أن طبيعة الإسلام[وهو نظر فقط إلى طبيعة الإسلام ولم ينظر إلى حال(وليس طبيعة)المجتمع العربي الآن] طبيعة الإسلام تغنينا عن العلمانية/اللائكية. وقد فصلت ردي على هذا في ما سبق.

كل الشعوب مهما كانت هويتها محتاجة وباستمرار إلى الديمقراطية والعقلانية، لكن العلمانية هي الحاجة الملحة والمباشرة للمجتمع العربي، ففي ظل هذا الوضع الذي يختبئ فيه الانتهازيون إلى جانب المجرمين الساديين، تحت نفس العباءة الدينية ونفس الشعارات، في ظل وضع كهذا إن الغيورين فعلا عن الدين هم الأجدر بهم أن يطالبوا، قبل غيرهم، بالعلمانية.
العلمانية هي أن لا يحكم أحد باسم الدين،لأن ذلك يعني أن الحاكم وحده المؤهل للكلام باسم الدين. يعني أن تأويل الحاكم للدين هو التأويل الصحيح. العلمانية هي أن لا يحكم الناس أكثرهم إيمانا ولكن أوضحهم رؤية سياسية و ذو الرؤية السياسية الأصلح. ذلك أن الإيمان لا يمكن قياسه و تفضيل الناس بعضهم عن بعض حسب مقداره. بينما المصلحة الدنيوية يمكن امتحان الناس على أساسها.
1) في علاقتها مع الدين، لا يمكن للدولة أن تكون إلا على الأوجه الآتية:
* دولة لا دينية ولا تهتم بالدين، وهذه حال جل الدول المسماة علمانية. إلا أنه في جل هذه الدول هناك مؤسسة موازية تهتم بالدين هي الكنيسة.
** دول لا دينية وتحارب الدين، وهذه دول لا يمكن أن تنجح لأنها دول تحارب شيئا مهما لدى مواطنيها، إنها مجرد ديكتاتورية نخبة مثقفة ما. والديكتاتورية التي تحارب الأديان ليست أفضل من التي تفرض الأديان فرضا.
*** دول دينية متعلقة بدين ما، وهذه الدول من الصعب أن تكون ديمقراطية لأنه من الصعب أن نجد وطنا "نقيا دينيا". هذه الدول، فضلا عما يمكن أن يشكله الدين (أو تأويلاته) فيها من متكأ إيديولوجي لسياسة نخبة معينة، فالأقليات فيها سوف تعيش تمييزا قد تكبر حدته أو تقل حسب الظروف.
**** دول "لادينية" لكنها تعلن أن الدين، بصفته شأنا من شؤون بعض، أو جل، مواطنيها، فهو هم من همومها. هذه الدول، بصفتها هذه، لا تتدخل في التوجيه الديني أو رسم خطوط المذهب أو الفتوى أو الإعلان عن أن مذهبا أو دينا ما أفضل من آخر. إن ما يمكنها أن تقوم به هو اعتبار الدين حاجة من حاجيات المواطن، وكما أنها يمكن أن تبني مسرحا أو قاعة رياضة عليها أن تبني دار عبادة كلما دعت الضرورة. إن الدولة التي تهدم المسارح كي تبني المساجد أو تهدم المساجد كي تبني المسارح إنما هي دولة ديكتاتورية نخبة صبيانية.
أما الدول التي تعلن، مثل المغرب، أنها دولة دينها الرسمي كذا وأنها مع حرية العبادات والعقائد. فهي لا تبرهن بهكذا إعلان سوى عن تخبط وخلط مقصود أو غير مقصود. وهذا الإعلان المزدوج لا يقصد في نظري سوى لمسألة إرضاء طرفين كل على حدة. فمن جهة إرضاء الجماعات السياسية الدينية وقطع الطريق عليها كي لا تركب على شعار الأسلمة، ومن جهة أخرى إرضاء الجماعات السياسية العلمانية والرأي العام العالمي كي لا ينظر إلى المغرب كدولة اضطهاد ديني، فلنناقش النص ما أمكن:
جاء في الفصل 3 من الدستور المغربي: "الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية". نرى أن هناك مقابلة في هذا النص بين طرفين: "الدولة" و"كل واحد"!
- هل الدولة هنا جهاز، مجموعة مؤسسات، أم هي فرد ومجموعة أفراد؟ أن يكون للمؤسسات دين فهذا شيء غامض. إن عبارة "دين الدولة هو الإسلام" يوحي بأننا بصدد الكلام عن أشخاص حقيقيين. وهذا يوحي بأن هذه المجموعة من الأفراد التي تكون النواة الأساسية للدولة(كالبرلمانيين والوزراء) يجب أن يكون دينها الإسلام. وماذا لو أتت الانتخابات بأغلبية برلمانية تدين بغير الإسلام؟ لكن قبل هذا السؤال نعلم أنه لا يسأل عن دين المواطن حين يقدم ملف ترشيحه للانتخابات، أم أن الجهاز السري [الذي هو فوق المساطر المكتوبة على الورق] هو من يتكلف بهكذا مشكلة؟
ثم أن عبارة "كل واحد" يمكن أن يكون مفادها أن الدولة لا تمنع الفرد من "ممارسة شؤونه الدينية" ما دام مجرد "واحد"، أي لا حق لأية جماعة بالمطالبة بأي " حق ديني". فالمسألة لا يجب أن تتخطى حدود "كل واحد"! أليس هذا ظلما في حق مجموعة ما، حي سكني مثلا، وجد أن غالبية سكانه، أو عدد كبير منهم، يدينون بغير الإسلام وفي حاجة لكنيسة مثلا؟

2) إن كل من يدعو إلى دولة الشريعة الإسلامية إنما يفعل ذلك من موقعين لا ثالث لهما:
- موقع الإديولوجي المغلط الذي يعي ما يقول ولكن لا يريد للناس أن يعوا، فهو شخص أو جماعة لا يهمهم سوى الوصول إلى السلطة. ولا يهمه أن يعرف الناس الدين وحقيقته كما لا تهمه المصلحة العليا للدين، لأن بناء الوعي الصحيح لدى الجماهير يعني عدم انسياق العدد الكبير منها وراءه بالحماس والانقياد الذي يريد.
- موقع الجاهل، أو في مستوى معين من الجهل، حيث أدى به البحث عن حلول سياسية لواقع متخلف ومعقد إلى أن يتبنى الحل الطوباوي الأسهل: "إعادة بناء نموذج اجتماعي" كان قد تم بناؤه في عصر ما. دون الأخذ بعين الاعتبار الفرق بين ظروف وظروف. ودون الأخذ بعين الاعتبار أن البناء الذي بناه الأجداد وعاشوا داخله بسلام حينا، تهدم لا لأنه لم يكن صالحا في عصرهم، ولكن تهدم لأن الخلف أراد له أن يستمر في عصور أخرى.
وسنتطرق لبعض الأمثلة لنبين أن شعار "الشريعة الإسلامية"، ليس سوى شعارا ديماغوجيا مرفوعا من طرف نخبة سياسية عاجزة [مع افتراض حسن النية] عن بلورة حل مناسب يُخرج الأمة من تخلفها وتبعيتها فتلجأ إلى الحل الأسهل.
قبل الخوض في الأمثلة يجب أن نوضح أولا أن الدين الإسلامي، وكل دين سماوي، هو شقين أساسين منفصلين الواحد عن الآخر تقريبا.
1) الشق الأول هو التوحيد والعبادات. هذا الشق يوضح لنا المعنى الفلسفي للدين وجوهره. ويوضح لنا معنى الإيمان بالله ومستتبعاته. كما يسرد علينا العبادات التي يطلب منا الخالق سبحانه أن نؤديها تعبيرا منا عن إيماننا به. وهذا الشق من الدين لا يتغير عبر الزمام ولا المكان. فمثلا لا يمكننا بعدُ مناقشة عدد الصلوات وهل عددها مناسب للعصر أم لا.
2) الشق الثاني من الدين هو ما يعطينا مبادئ عامة، وأحيانا أحكاما خاصة بظروف محددة، للمعاملات والمصالح الدنيوية والقوانين الوضعية وما يرتبط في الدين بالمصالح الدنيوية. وهذا الشق لا يمكن أن يكون ثابتا عبر الزمان منه سوى مبادئه العامة، مثلا " درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ". أما الأحكام الخاصة بكل حالة وبكل ظرف فلا يمكن أن تبقى صالحة في كل زمان ومكان. والأمثلة التالية تبين مدى صحة هذا المنطق:
*)المثال الأول، تعدد الزوجات: من المعروف وما لا نقاش فيه أن تعدد الزوجات، حتى حدود أربع، مسألة من الواضحات في الإسلام والتي، إلى زمن قريب، لم تكن تثير أي نقاش. لكن الظروف تغيرت في العقود الأخيرة فأصبحت هذه المسألة محط نقاش. ولطرح هذه المسألة للنقاش من طرفنا يجب أن نشير إلى أن هناك، أو يجب أن يكون هناك فرق بين أمران:
-;-) الأول أن نقول أن تعدد الزوجات يجب أن يحرم شرعا.
-;-) والثاني أن نقول أن تعدد الزوجات يجب أن يمنع قانونا.
فالقول الأول لا معنى له، لأن الشرع [ونقصد هنا فقط ما لا علاقة له بالعبادات والتوحيد]، الحالة الخاصة للتعامل البشري كما سنها رسول الله في زمانه، لا يمكن أن نُرجع الزمن لتصحيحها حتى مع افتراض أنها في حاجة إلى تصحيح. أما القول الثاني فيعني أن الحالة الخاصة للتعامل البشري في زمننا،[القانون الوضعي]، يجب أن يَمنع تعدد الزوجات. وأن هذا القانون لا يعطي أي حكم قيمة لا على ما سبقه في الزمان ولا على ما سيليه.
في زماننا هذا، حيث الناس لا يخضعون إلا لما فُرض عليهم قانونا، وليس للضمير أو الأخلاق أو الإيمان.(2) ، نعرف بسهولة أنه لو أباح القانون تعدد الزوجات بدون قيد أو شرط سوى الشرط [الذي يبقى مجرد شرط أخلاقي]، "إن استطعتم أن تعدلوا"، لو أباح القانون ذلك فسوف نرى آلاف الحالات أو مئات الآلاف من تعدد الزوجات من طرف رجال لا قدرة مالية لديهم ولا خلقية كي يعدلوا. إذن، منع تعدد الزوجات في مجتمع كهذا هو مجرد حل وقائي يقي المجتمع[دون أن نعير المرأة في حد ذاتها أي اهتمام] يقي المجتمع من تفريخ ملاين الأطفال الذين سيَقذف بهم آباؤهم إلى التشرد لعدم قدرتهم المادية والنفسية على تربيتهم وتحملهم. في هذا الوضع، [ودون أن نعير المرأة في حد ذاتها أي اهتمام]، فإن انتقاد شيخ ورع غني [قادر على العدل ماديا ومعنويا] فإن انتقاده لهذا القانون الذي لم يخصص فصلا لأمثاله ويعزلهم عن الرعاع الفقراء الجاهلين، وبالتالي يحرمه من حق منحه إياه رب العالمين، إن انتقاد هذا الشيخ لهذا القانون دون مراعاة المصلحة الاجتماعية الكبرى ليس سوى دليلا عن صبيانية هذا الشيخ الجليل. (*)
**)المثال الثاني، مسألة الربا: في هذه المسألة سنعطي هنا توضيحا عاما لما يسقط فيه بعض المعاصرين من أخطاء منهجية. فمثلا في مسألة تسمية ما تفعله البنوك ب"الربا" وتحريمه، كيف "يجتهد" فقهاؤنا؟
-) أول خطوة يقومون بها هي أنهم يأتون مباشرة إلى ما تفعله البنوك العصرية ويصفونه ب"الربا" دون أي اجتهاد أو محاولة لفهم ما تقوم به هذه البنوك.
-) الخطوة الثانية هي أنهم يذهبون إلى النصوص الدينية ويبدؤون طقس الذهاب والإياب من نص لآخر ليستخرجوا أخيرا الحكم "الربا حرام قطعا".
-) النتيجة: ما تفعله البنوك حرام.
يا له من اجتهاد!! فحكم "الربا حرام" لا يحتاج إلى أي مجهود أو اجتهاد، فبعد كل جدهم واجتهادهم لا يأتون، ولا يمكن أن يأتوا سوى بما أتوا به، "الربا حرام قطعا". لكن المجال الذي يجب أن يجتهدوا فيه هو العلم الذي سيمكنهم أن يعرفوا طبيعة عمل الأبناك وبالتالي هل فوائدها يمكن أن تدخل في حكم الربا أم لا، هذا العمل لا يجرؤون حتى على الإشارة بأنه يجب أن يتم أو أنهم فعلوه أو حاولوا. والسبب هنا هو أنهم لا يملكون قدرة الاشتغال سوى على النصوص الدينية وبالطريقة التقليدية. ذلك أن الاشتعال بالطريقة التي ذكرنا تتطلب من كل شخص يريد أن يفتي في مجال ما أن يكون أولا متخصصا في ذلك المجال ثم فقيها في الدين، وبعد ذلك تعتبر فتواه مجرد اجتهاد يمكن أن يصححه عالم آخر أو مجموعة علماء.

***) المثال الثالث هو حد الردة: هنا كذلك لا يجب أن نناقش هل هذه المسألة صريحة أو لا في القرآن أو السنة. إن ما يجب أن نناقشه هو مدى مسايرتها للمصلحة الإسلامية العامة حاليا.
إن شخصا معتكفا في غرفة، بين مكتبة مليئة بالمراجع النادرة من ديننا الحنيف، غير عالم بما هو عليه العالم الآن، حالم بمحيط "نقي دينيا"(3) ، إن شخصا كهذا لا يمكن أن يخرج علينا سوى بصيحة: "حد الردة" من الخطوط الحمر والتخلي عنه يعني التخلي عن الدين الإسلامي!
- بمنطق الدين نفسه، فالآية " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ-;- قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ-;- فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ-;- لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ-;- وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) " هذه الآية مثلها في الحكم مثل الآية "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا." لا يمكن أن تنسخ وهي حكم أخير وحتى من حيث الأسلوب فقد كان من الممكن أن تبدأ كالأخرى. "اليوم، لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ-;- قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ".
- بمنطق العقل [متدينا كان أو غير متدين]، الإسلام الآن ليس في موقع الضعيف الحجة كي يلجأ إلى العنف لإقناع الناس به. فدخول أشخاص من أقوام وديانات أخرى الإسلام دون إكراه يدل على أن العقيدة الإسلامية لديها من الحجة ما يكفي كي يدخلها الناس طواعية. فإما أن نقول يجب أن ندخل الناس في الإسلام بالسيف أو أن نقول لا حاجة لعقاب مرتد. فهل يعقل أن نقول أن الإسلام تكفيه الحجة كي يدخله الناس لكن يلزمه السيف كي يبقي على الناس داخله؟ إنه منطق أناس تعميهم الدعاية السياسية عن كل منطق.
إن مسلما، في المغرب مثلا، لن يصله أذى ما لم تقم حرب كونية دينية لا محدودة، أو فقيها خليجيا جالسا على زربية نفط وشغله الشاغل هو تصدير مناهج العنف واللاتسامح خارج بلاده، يجب أن لا يُعتد برأيهما في مثل هذه المسألة. فلنسأل المئتي مليون مسلم الذين يعيشون بسلام بين مليار وربع المليار "وثني أو مجوسي أو.." في الصين عن مدى فائدة قتل مسلم واحد ارتد عن الإسلام إلى المجوسية وهو أصلا كان مجوسيا فأسلم ولم يقتله المجوس؟!
يقول بعض المسلمين بخصوص هذا المنطق: ما شأننا و المجوس؟ هم لا يأمرهم دينهم أن يقتلوا المرتد ونحن يأمرنا بأن نقوم بذلك فيجب أن نقوم به؟ إن الإسلام الذي يأمر بقطع يد السارق في هذا العصر [رغم علمهم أن سيدنا عمر رضي الله عنه تخلى عن هذا الحد منذ عصره]، هو إسلام البترو دولار وليس إسلام محمد بن عبد الكريم الخطابي(4). ولهؤلاء الخيار أن يترحموا أو يَتَرَجموا على الزعيم محمد بن عبد الكريم الخطابي. ونحن هنا لم نأت على ذكر الزعيم الجليل عبثا، ولكن لنوضح ونعط مثالا تاريخيا على أن الحركات التحررية، والتي تريد أن تصنع دولا من أجل مواطنيها، وليس مواطنين من أجل النخبة الدنيوية أو الدينية، لم تكن أبدا تستعمل الدين لدغدغة مشاعر الجماهير التي تتبعها من ورائها، بفعل هذه الدغدغة، تبعية عمياء. ولنذكر بعد مثال الريف مثالا آخر هو "حزب الله". هذه الجماعة التي دوخت الغالبية العظمى بشعار الدين ومقاومة إسرائيل إلى درجة أن من كان بعيدا شيئا ما عن لبنان ولم يكن من المتتبعين النزهاء للسياسة هناك لم يلحظ أنها ساهمت في اغتيال مفكرين ومقاومين لبنانيين كانوا ممن ما يزال يقاوم إسرائيل والرجعية العربية. لكن أخيرا يدخل "حزب الله" الساحة السورية لصالح الأسد ضد الشعب السوري. فهل يعقل أن يكون الله مع الأسد ضد الشعب؟ أستغفر الله من مجرد طرح هذا السؤال الذي لم تجرنا له سوى السياسة وليس الإيمان الديني.
في شريط الأخبار بالجزيرة [صباح يوم 21/03/2016 ما يلي: "إسرائيل تشترط على تركيا إغلاق مكاتب حماس وطرد أطرها من أجل تطبيع العلاقات"، وبنفس الشريط ليس بعيدا عن هذا النبأ "مواطنون أمريكيون يتظاهرون تنديدا بالسياسة الاستيطانية لإسرائيل التي تدعمها دولتهم"]. كيف تصل الأمور بدولة، قوية نسبيا، ويقودها حزب إسلامي درجة المساومة على دعم حماس من أجل تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني ونحن نعلم أن مسألة أسطول الحرية "مرمرة" لم تحل بعد؟!؟!؟ أما فضيحة اتفاق تركيا مع الاتحاد الأوربي بخصوص أزمة اللاجئين فهي كذلك تبرهن على تخبط هذا النظام الذي وصل إلى السلطة عن طريق دغدغة المشاعر الدينية لمواطنيه. ينص الاتفاق على أن يستبدل الطرفان لاجئ بلاجئ. يرجع الاتحاد الأوربي إلى تركيا، قسرا، كل شخص دخل أراضيه بصفة غير قانونية مقابل أن تسلمه (U.E) تركيا شخصا آخر عالقا على أراضيها ويطلب اللجوء بشكل قانوني. إن تركيا هنا [دون أن نناقش موقف الاتحاد الأوربي]، تفعل ما يلي:
-) تساعد الاتحاد الأوربي على خرق القانون الدولي للجوء الذي يرفض الإرجاء القسري لكل من فر من أوضاع لا إنسانية كالحرب أو المجاعة أو الاضطهاد السياسي. لأن هذا الشخص أصلا لا يستطيع انتظار المساطر القانونية كما يستطيع أن يفعل من يريد أن يصدر سلعة إلى بلد ما.
-) إنها تساعد الاتحاد على التعامل الانتقائي لطالبي اللجوء بحيث لن يقبل هو إلا من سيكون صالحا لآلته الاقتصادية، وليس كل شخص فار من القتل.
-) إن تركيا ستجد نفسها في أزمة قريبا جدا، فماذا ستفعل هي بالمرجعين قسرا وبالذين دخلوا أراضيها ولم تقبلهم غرابيل (ج غربال) الاتحاد الأوربي؟ هل ستملأ بهم الشاحنات لترميهم داخل سوريا لقمة (من السماء) لداعش أم ستحتفظ بهم في شريط حدودي مؤمن من داعش وليس من الجوع؟
خلاصة أن تركيا هنا تقوم بالمهمة القذرة نيابة عن الاتحاد الأوربي لكن مقابل ماذا؟ نحن هنا لا يهمنا المقابل وإنما يهمنا أن نقول لمن ما يزال لديه شيء من العقل أن الادعاء بالأخلاق الدينية في السياسة ليس مجرد هراء. وأن الوصول إلى السياسة عبر الدين من طرف فئة ما هو الدليل الأول على فساد دين وسياسة هذه الفئة.
لكن هناك وجه آخر في المسألة لابد من نقاشه: إن الرأي السائد غالبا هو أن الدين يسمو بأمته إلى مستواه، ولهذا يريد الإسلاميون أن يُحَكموا الدين كي يسمون بالأمة. لكن الواقع الإنساني يدل على أن الدين[ليس وقت التنزيل]، أي دين، إنما هو صورة عن واقع أمته. فإدخال الدين الإسلامي في قرية أفريقية لن يجعلها تتقدم، وواقع القرى الأفريقية المسلمة خير دليل على ذلك. كما أن إدخال الإسلام في قرية، فرنسية مثلا، لن يجعل هذه القرية تتخلف. ذلك أن كل جماعة من هذه الجماعات الإنسانية، بدل أن تسمو إلى مستوى(دين ما) بدل ذلك تُنزل الدين أو ترفعه إلى مستواها. إذن " الدين لا مستوى له" بل مستواه هو مستوى الجماعة البشرية التي تحمله. وحين نقول أن "الدين لا مستوى له" فنحن لا نقصد هنا الدين كما أنزله الوحي. ف"الدين كما أنزله الوحي"، لا يمكننا الكلام عنه الآن لأنه وبكل بساطة لن ينزله علينا وحي. إننا نتكلم عن الدين الذي يعيشه الناس أو يحلمون أن يعيشونه.
3) سوف يتساءل المتدين:
- ألا تعني العلمانية منع كل متدين من الخوض في السياسة؟
- ألا تعني العلمانية وضع السياسة في موقع يحرمه من بلورة برنامجه السياسي حيث هو لا يمكن أن يستقي أحلامه السياسية[برنامجه] إلا من دينه والعلمانية تمنع هذا؟
هذه تساؤلات مشروعة ويجب الإجابة عنها بدون مراوغة أو غموض:
إن الحل المقترح من وجهة نظرنا هو ما يلي:
أن يقرأ كل فرد، أو جماعة، متدينة دينها بإخلاص وتعمق فيه ثم تستخرج منه برنامجا واضحا تدخل به باب السياسة ولكن دون الشعار الفارغ سياسيا:"أنا برنامجي هو الدين كذا"هذا الشعار الفارغ من المحتوى الذي يمكن أن يرفعه كل شخص . وهذا الحل العلماني له مزايا على الدين وعلى السياسة:
فبدل أن تقول "برنامجي إسلامي" فاقرأ مراجع الإسلام وإذا كانت الضريبة على الدخل التي يقر بها الإسلام مثلا هي 5% فقل إن برنامجي الضريبي هو 5% على الدخل. وبدل أن تقول برنامجي هو التآخي والتضامن الإسلامي قل مثلا أن برنامجك هو مجانية التعليم أو نصف مجانيته من المستوى كذا حتى المستوى كذا...وبدل أن تقل بأن الإسلام يرفق بالمرضى قل أن برنامجك هو مجانية الصحة أو أن العلاج مرهون ببطاقة التأمين عن الصحة أو غير ذلك، وقل بصراحة أن حدود المرأة في الحقوق هي كذا وكذا بدل أن تقول أنا أسعى إلى "كرامة المرأة"، كرامة غامضة(5). قل أن المرأة لها حق التعليم كاملا أو أنها لا يجب أن تدخل المدارس كذا، وقل أن المرأة من حقها أن تمارس جميع المهن وكل المهام السياسية أو حدد ما شئت. وقل أن حقها في مؤسسة الزواج والأبناء هو كذا وكذا. فالقول ب"كرامة" المرأة قول لا معنى له وهو لا يعدو أن يكون إعطاء "شيكات بدون رصيد"، لفئات اجتماعية من طرف نخب سياسية، ما أن تصل هذه الأخيرة موقع القرار حتى تعي الفئات الأولى أنها منحت أصواتها لمن لم يعدها بأي شيء محدد. أليس الهدف العام، الذي يجب أن تصبو إليه كل سياسة وطنية، هو كرامة المواطن بصفة عامة؟ فلماذا لا تكتفي الأحزاب السياسية برفع شعار "كرامة المواطن" دون تكليف نفسها عناء صياغة البرامج؟
إن عمل أي فصيل بهذا الشكل سيكون له مزايا متعددة:
- أن يستطيع المواطن التمييز بين مجموعة مسلمين[أو من أي دين آخر] يطمحون إلى أن تتجلى قيم دينهم في المناحي السياسية لدولتهم وبين جماعة سياسية تريد أن تجعل الدين سلما لكي تصعد فوق أكتاف الشعب.
- أن لا يختلط في أذهان الناس أي مسلم غيور على وطنه، مسامح يعيش قيم عصره ودينه، بكل من يدعي الإسلام ليذبح الناس كالقواعد والدواعش.
- كذلك من فوائد البرنامج الواضح، بهذا الشكل، هي أنه يمكن أن ينضم إلى هذا البرنامج أناس ذوو أديان أخرى أو حتى لا متدينين، بمعنى مواطنين، وهذا هو جوهر العلمانية: بناء المواطنة و بناء السياسة على "المواطنة". وبتبني فئات عريضة من الشعب هذا البرنامج، ستكون هذه الفئة قد خطت بالمجتمع، طوعا لا كرها، نحو قيم دينها.
- من جهة أخرى إن اجتماع جماعة سياسية على شعار غامض "برنامج الدين كذا" سيؤدي حتما بهذه الجماعة، إن هي قدر لها أن تنجح سياسيا حتى تصل مركز القرار، سيؤدي بها إلى التشتت. فبمجرد ما تصل هذه الجماعة مركز القرار وتريد أن تبدأ في تنفيذ السياسة أول ما سيكون عليها العمل عليه هو شرح النصوص الدينية العامة كي تأخذ منها المعنى الخاص بكل مجال: الضريبة ، التعليم القضاء، المسطرة الجنائية، المسطرة التجارية، العقارية.... وهذا هو التأويل الذي يمكن أن يختلف عليه اثنان [بالنسبة للمغاربة واحد مع راسو]، فكيف بجماعة سياسية مكونة من آلاف المواطنين ذوي المصالح الدنيوية [نظرا لانتمائهم إلى فئات اجتماعية مادية مختلفة(6) ] المختلفة أن يتفقوا كلهم على تأويل واحد للنصوص بخصوص كل القضايا والمجالات؟ وهنا بالذات سوف تفرنقع الجماعة أفرادا أفرادا(7). أو ليس من الأحسن تأويل النصوص مسبقا ثم بناء الجماعة السياسية، كل جماعة بالتأويل الذي يروق لها، ثم بعد ذلك خوض السياسة؟
(1)- فالمصطلح الذي يمكن ترجمته إلى العربية دون الابتعاد مليمترا واحدا عن معناه الأصلي فمرحبا بترجمته. مثلا (constructivisme) يمكن ترجمته من أفعال ومصادر موجودة أصلا في العربية.
- المصطلحات مثل(Pasteurisation) لا يمكن أن نبحث لها عن مصطلح مهما كان مطابقا لمعناها كالتعقيم مثلا، ذلك أن المصطلح الأصلي يشير إلى العالم صاحب الفضل في الاكتشاف (/Louis Pasteur) والبحث عن مصطلح آخر يعني التنكر لهذا العالم ونسيانه.
2) أزمة بعض الداعين إلى دولة إسلامية هنا تتلخص في قولهم: "إن دولة إسلامية سوف تبنى حين يكون كل الناس مؤمنين وأغلبيتهم إيمانهم قوي، وكأنه سوف يذهب إلى المريخ ليأتي بمواطني دولته المزعومة.
3) وقد يكون هذا الشخص بالذات من الذين يرزقهم الله من حيث لا يحتسبون، ذلك أن ابنه أو أخاه المسلم، يعمل في ديار الكفر [ويعيش دينه ودنياه بكل حرية وسلام]. ويُحَول إليه اليوروهات كي يعيش ويفتي.
نريد دولة دينية وفي نفس الوقت نريد أن تكون دول الآخرين دول لادينية كي ننعم فيها بحرية المعتقد والرأي (ألم يجد المعارضون الإسلاميون في الدول الغربية خير ملجإ من ظلم حكام بلدانهم، فلماذا يلجأ المسلم عند الكافر من جور المسلم؟) أو هل يسعى هؤلاء إلى أن تسود العالم دول "نقية دينيا" فيطرد المسلم من الهند ومن الصين ومن الولايات المتحدة وأوربا؟ ( الصين 233.000.000) .
4) لكن الفقيه النفطي سوف يحتج هنا قائلا: "نعرف أن سيدنا عمر ألغى ذلك الحد ولكن في عام مجاعة، ونحن الذين تجري دولارات النفط من تحتنا ما أبعدنا عن الجوع". صحيح يافقيه لكن الخدم من أصل مصري أو أندونيسي أو الخادمات الهنديات لا تجري تحتهم دولارات النفط.
5) إذا أردنا الكلام عن كرامة المرأة بشكل واضح وغير ديماغوجي، يمكننا أن نرى أن هناك شقين لهذه الكرامة. الشق الأول هو كرامة المرأة في البيت والثاني كرامتها في الشارع. بالنسبة للشق الأول، كرامتها في المؤسسة الزوجية فإنه سيعالج من زاويتين. الزاوية الأولى هي التشريع. وهنا لا أعتقد شخصيا أن أي جماعة إسلامية تنوي أو تستطيع وصول السقف الذي وصلته مدونة الأسرة المغربية في هذا المجال. الزاوية الثانية هي أنه مهما تقدمت النصوص فلا تطور لواقع المرأة ما لم يرافقه تغير في وضعها المادي أمام الرجل. والذين يروض أن هذا الرأي إنما هو نتيجة تأثرنا بالفكر الغربي الذي لا يقيم وزنا سوى للماديات نقول له أن من يعول على الأخلاق والضمير كي يمن الرجل على المرأة ب"كرامتها" إنما يوهم الناس أو يتوهم. أما كرامة المرأة في الشارع فهي رهينة بمسألتين: الأولى هي التشريعات ومن بين هذه التشريعات قانون التحرش. والمسألة الثانية هي وضع المرأة [الذي ليس سوى مرآة لوضع المجتمع ككل] وضعها المادي. فوجود نسبة من بنات المجتمع لا تجد ما تعيل به نفسها، أو عائلتا، سوى كرامتها، يجعل كل امرأة، في أعين بعض الرجال الذين هم بدورهم نتيجة هذا الوضع المعقد، يجعلها في أعينهم عاهرة محتملة.
6) يجب أن نشير هنا إلى أن بعض الجماعات السياسية الدينية ترى أن الكلام عن فئات اقتصادية مختلفة ليس سوى كلام غربي وأن الواقع الإسلامي هو (أو يجب أن يكون) أمة إسلامية لا فرق بين غني وفقير فيها إلا بالتقوى!!. حلم صبيان أو تدويخ ديماغوجي؟
7) لقد كان الدين واحدا’، وحين تفرق المسلمون، تفرقوا من أجل السياسة باسم الدين. فبداية تشعب الإسلام إلى ملل ونحل وفرق لن تنجو منهم واحدة جاء بعدما اختلفوا حول السياسة.



#محمد_باليزيد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وتستفيق أوربا!
- ظلامية النور في الجامعة المغربية
- صندوق المقاصة، أية حكامة، أية تنمية؟
- يا أمة ضحكت من جهلها الأمم
- المثلية:فرنسا، البلد الرابع عشر
- المجنونة
- الإباحية، لا شيعية ولا شيوعية
- للبابا تحياتي
- المهووس
- نموذج ليونتييف(ج:1) (Leontief)
- حكومة بن كيران بين ما تنويه وما تفعله
- يالطيف من خلط الأوراق
- تطرف وتطرف، وهو ووهم
- الفقر، الظاهرة والمؤشرات (2)
- الفقر، الظاهرة والمؤشرات(1)
- التبشير والعلم
- أزمة من؟ أزمة ماذا؟
- بحث عن رفاق فريق بحث في الاقتصاد
- مفهوم الشيوخ للاقتصاد(*)
- وجه آخر للسيادة


المزيد.....




- وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور ...
- بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
- ” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس ...
- قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل ...
- نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب ...
- اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو ...
- الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
- صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
- بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021 ...
- كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد باليزيد - ما العلمانية ولماذا الآن؟