أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - طارق المهدوي - حكايات الجوارح والمجاريح















المزيد.....



حكايات الجوارح والمجاريح


طارق المهدوي

الحوار المتمدن-العدد: 5125 - 2016 / 4 / 6 - 23:05
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    




قال تعالى: " ومالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيرا "
(الآية 75 من سورة النساء في القرآن الكريم)



 
 
 
الرفيق إسماعيل المهدَوي
 
(1)
 
أقام الفاطميون دولتهم الأولى في المغرب العربي وجعلوا من مدينة "المهدية" المسماة على اسمهم الأصلي عاصمة لهم، فلما أصاب الهزال دولة الخلافة العباسية تمدد الفاطميون على مجمل أراضي شمال أفريقيا، بما في ذلك مصر التي فتحها الخليفة المعز لدين الله الفاطمي عام 969 وشيد في ربوعها مدينة "القاهرة" كعاصمة جديدة للدولة الفاطمية، يتوسطها الجامع "الأزهر" المنسوب للسيدة فاطمة الزهراء ابنة النبي باعتبارها جدتهم المباشرة. وفي عام 1096 بدأت الحملات الصليبية ضد بلاد الشام التي كانت تحت الحكم السلجوقي، وإزاء ضخامة الجيوش الصليبية الغازية فقد استعان السلاجقة بميليشيات الأيوبيين والمماليك، التي قادت المقاومة الإسلامية ضد الغزاة في الشام بنجاح أجبر الخليفة العاضد لدين الله الفاطمي على تعيين أحدهم وزيراً له في "القاهرة" وهو صلاح الدين الأيوبي الذي ما لبث أن أطاح بالدولة الفاطمية في 1171 وأقام على أنقاضها الدولة الأيوبية، التي أخذت طابعاً عسكرياً صارماً كضرورة لمواجهة ما استجد من حملات صليبية متتالية، مما ترتب عليه تنامي النفوذ السياسي للمماليك باعتبارهم يشكلون طبقة العسكريين المحترفين، الأمر الذي مكنهم عام 1250 من إلغاء الدولة الأيوبية وإقامة دولة المماليك، لتستمر في حكم مصر حتى عام 1517 عندما أطاح بها الأتراك وألحقوا مصر بدولة الخلافة العثمانية، وهو الإلحاق الذي استمر إلى أن نجح الوالي الألباني محمد علي باشا عام 1805 في الاستقلال بحكم مصر له ومن بعده لأولاده وأحفاده، الذين استمروا يتعاقبون على العرش حتى عام 1952، حيث تولى المصريون الحكم بأنفسهم لأول مرة منذ عهد الفراعنة في أعقاب نجاح انقلاب الضباط الأحرار الذي أقام نظاماً جمهورياً عسكرياً تطور فيما بعد إلي نظام أمني شبه عسكري!!.
ولما كان الفاطميون عرباً أشرافاً من آل بيت النبي، الذين تتعلق بهم أفئدة المصريين لدرجة تكفل لهم استمرار الحب والاحترام الشعبي، حتى بعد خروجهم من الحكم، فقد أصبح مجرد وجودهم على قيد الحياة يشكل هاجساً مفزعاً لمن خلفوهم على عرش مصر، سواء كانوا أيوبيين أو مماليكاً أو عثمانيين أو ألباناً أو غيرهم من الحكام الأعاجم، إلى جانب الحرص التقليدي الموروث لكل حاكم مطلق – سواء كان أعجمياً أو عربياً أو مصرياً – على مطاردة فلول الحكام السابقين للقضاء عليهم وإبادتهم. لذلك فقد تعرض الذين بقوا من الفاطميين لأبشع صنوف التصفية الجسدية والمعنوية، التي يعرفها المؤرخون جيداً ويسكتون عنها لأسباب لا يتسع المجال لطرحها. إلا أن المصريين البسطاء قاموا باحتضان المتبقين من فلول الفاطميين، وساعدوهم على الفرار بعيداً عن أعين العسس والبصاصين، بما اقتضاه ذلك من إيجاد المعابر والملاذات الآمنة لهم خارج "القاهرة"، ومن تخليهم عن لقبهم المختار ليعودوا إلى اللقب الأصلي، المشتق من اسم مدينتهم الأصلية الواقعة في المغرب العربي، والتي كانوا قد وفدوا منها إلى مصر وهي مدينة "المهدية"، وهكذا تفرقوا بين مختلف المدن العربية والإسلامية، وهم يحملون لقب "المهداوي" أو "المهدَوي" بفتح الدال بدلاً من الفاطمي" لاعتبارات البقاء على قيد الحياة. ورغم حبهم جميعاً لمدينتهم "القاهرة" فقد كان أكثرهم حباً لها هو ذلك "المهدَوي" الذي غادرها مضطراً ليلوذ بشقيقتها المجاورة عروس البحر الأبيض المتوسط، مدينة "الإسكندرية"!!.
 
(2)
 
إذا كانت "القاهرة" عاصمة الدولة الفاطمية، فإن "الإسكندرية" كانت عاصمة البشرية جمعاء من حيث احتضانها لتجمع سكاني فريد، انصهر فيه المنحدرون من كل ينابيع العالم العرقية والثقافية، وفي هذه الأجواء حرصت الأجيال المتتالية من آل "المهدوي" المقيمون في "الإسكندرية" على تحصيل أرفع درجات العلم لضمان وضع اجتماعي يليق بخلفاء سابقين، مع النأي عن الاشتغال بالسياسة في أي موقع حاكم أو معارض لضمان البقاء على قيد الحياة، بما اقتضاه ذلك من الاستمرار في إخفاء حقيقة انحدارهم التاريخي المباشر من الأسرة الفاطمية بحيث لم يكن يتم تداول هذا الأمر سوى بين أقل القليل من حكماء العائلة ضمن بروتوكولات سرية شديدة التعقيد. وفي بدايات القرن العشرين شهدت "الإسكندرية" زواج مفتش الموانئ اللامع عبد الحليم حلمي علي المهدوي بالآنسة إحسان محمود صالح حفيدة البطل الشامي الشهيد سليمان الحلبي، الذي كان المحتلون الفرنسيون لمصر قد أعدموه بوحشية بالغة في قلب "القاهرة" عقاباً له على اغتياله للجنرال "كليبر" قائد قوات الاحتلال العسكري الفرنسي لمصر والشام عام 1800، وكانت أولى ثمار زواج "عبد الحليم" و"إحسان" مولوداً ذكراً جاء إلى الحياة في أكتوبر 1924، فأسمياه "إسماعيل" تيمناً بالجد الأكبر الموصوف في القرآن الكريم بأنه "كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيا"، لاسيما أن انجازات الخديوي إسماعيل على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية كانت لم تزل حاضرة في أذهان النخبة المصرية، رغم ما أسفر عنه التآمر البريطاني والفرنسي والعثماني من خلعه عام 1879 عن عرش مصر!!.
وقد تواكب ميلاد "إسماعيل المهدوي" زمنياً مع قيام المحكمة العسكرية العليا لمدينة "الإسكندرية" بإصدار أحكامها الشهيرة ضد الحزب الشيوعي المصري بحله وحظر عودته للعمل السياسي مرة أخرى تحت طائلة قانون العقوبات العسكري، وحبس وملاحقة قياداته وكوادره وأعضائه بل والمتعاطفين معه من غير الشيوعيين إلى جانب مصادرة مقاره وأملاكه وأمواله، وذلك باعتبار "الإسكندرية" هي المركز الرئيسي للحزب ولتجمع الشيوعيين المصريين آنذاك، مما ترتب عليه انتهاء الحلقة الأولى من الحركة الشيوعية المصرية وانتقال كوادرها الذين أفلتوا من سجن "الحضرة" للعمل السري في الوضعية التنظيمية المعروفة باسم "الخلايا النائمة"، وكان من الطبيعي أن تجر السرية خلفها العديد من الأجواء البوليسية التي أشاعها مكتب مكافحة الشيوعية في القلم السياسي التابع لجهاز الأمن المصري بالتعاون مع جهاز الأمن السياسي التابع لقوات الاحتلال البريطانية، فيما لم يكن مألوفاً لدى أهل "الإسكندرية" قبل ذلك. وخلال الحرب العالمية الثانية (1939 – 1944) تعرضت "الإسكندرية" لقصف متواصل من قبل القوات الجوية التابعة لمعسكر المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان). كما اقترب منها لدرجة لصيقة زحف بري لجيوش المحور تحت قيادة المارشال الألماني "أرفين روميل" ثعلب الصحراء، باعتبارها إحدى أهم نقاط ارتكاز القوات التابعة لمعسكر الحلفاء (بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي). ومع تصاعد حدة المعارك الجوية والبرية وازدياد مخاطرها قاد "عبد الحليم المهدوي" أفراد أسرته خارج "الإسكندرية" لتأمينهم بعيداً عن الخطر ووصل بهم إلى "القاهرة". حيث استأجر لهم منزلاً مجاوراً للجامع الأزهر في قلب المنطقة الفاطمية لعل عبق المكان الذي سبق أن شيده أجدادهم يوفر ملاذاً للأحفاد من شرور الحاضر والمستقبل. وتركهم عائداً إلى "الإسكندرية" لمواصلة مسئولياته الوظيفية التي كانت قد دفعت به إلى رأس قطاع الموانئ والفنائر، إلا أنه سرعان ما وقع شهيداً تحت أنقاض منزله الذي دكته القذائف العنيفة المتبادلة بين قوات الحلفاء وقوات المحور خلال معاركهم المتواصلة على أرض "الإسكندرية"!!.
 
(3)
 
كانت أجواء العمل السري والبوليسي التي استشرت في "الإسكندرية" عقب حل الحزب الشيوعي المصري قد أحاطت بطفولة "إسماعيل المهدوي"، ثم جاءت أجواء معارك الحرب العالمية الثانية التي اشتعلت بعد ذلك بين قوات التحالف وقوات المحور على أرض "الإسكندرية" لتحيط بصباه، ثم وجد نفسه وهو في مقتبل شبابه مسئولاً عن أمه وثلاثة إخوة أطفال كان أصغرهم لم يزل في طور الرضاعة، بعد أن استشهد أبوه تحت أنقاض منزل العائلة المطل على البحر الأبيض المتوسط في حي "كامب شيزار" السكندري العريق، وهو المنزل الذي دكته المعارك المتبادلة على أرض "الإسكندرية" بين معسكرين من الأجانب الغرباء. وكان القرار الأول لإسماعيل من واقع مسئولياته الجديدة هو إبقاء الأسرة في المدينة التي سبق أن اختارها الأب الشهيد كملاذ ومفر، لاسيما أن البقاء يضمن التواصل التعليمي المستقر له ولإخوانه، رغم صدامه المبكر مع بعض مفردات "القاهرة" التي اختلفت كثيراً عما كان قد اعتاده خلال صباه في "الإسكندرية"، وذلك عندما دخل إحدى دور السينما كعادته الأسبوعية السابقة باعتبارها أهم وسائل التفاعل الثقافي مع شعوب العالم الأخرى آنذاك، فانفتحت الشاشة على صورة الملك لينهض المتفرجون جميعاً واقفين يؤدون تحية متكاسلة ويرددون أغنية ركيكة في حب الملك، فما كان منه إلا أن التزم بالجلوس صامتاً في مقعده لينتهي الأمر بالقبض عليه ثم إحالته للقلم السياسي الذي احتجزه عدة أيام رهن التحري والتحقيق بمعرفة النيابة التي وجهت له تهمة "ازدراء الذات الملكية"، رغم قسمه لهؤلاء وأولئك بأنه يقف مؤدياً التحية للنشيد والسلام الوطنيين كما يقف احتراماً للمسئولين الحقيقيين في حضورهم وليس للأغنيات والصور السينمائية!!.
التقى "إسماعيل المهدوي" خلال فترة احتجازه شاباً قبطياً صعيدياً في مثل عمره كان يواجه نفس التهمة واسمه "أبوسيف يوسف"، وقد جمعهما الحلم الإنساني المشترك بالمزيد من الفهم وصولاً لحل المشكلات المحيطة على مجمل الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وهو الحلم الذي سرعان ما دفع بهما نحو الوقوف سوياً على أعتاب المسيرة العسيرة لإعادة إحياء الحركة الشيوعية المصرية، حيث قاما مع آخرين من رفاقهما في عام 1946 بتأسيس منظمة "طليعة العمال والفلاحين"، التي شكلت الضلع الأول لمثلث ضم فيما بعد الضلعين الآخرين وهما منظمة "حدتو" التي أسسها "هنري كورييل" عام 1947، ومنظمة "الراية" التي أسسها "فؤاد مرسي" عام 1950، إيذاناً ببدء الحلقة الثانية في تاريخ الشيوعيين المصريين، وهي الحلقة التي اضطرت لخوض العمل السياسي الميداني المباشر بالاعتماد على أسلوب التجربة والخطأ نظراً لغياب القدوة بانقطاع تواصلها مع الحلقة الأولى التي تلاشت خلاياها النائمة في "الإسكندرية" بمضي الزمن. ولما كانت الخرائط السياسية المحلية والإقليمية والعالمية عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية قد اتسمت بتشابك المستجدات على نحو من الغموض والتعقيد يفوق كثيراً أحلام هؤلاء الشيوعيين الشباب ورغبتهم المثالية في الإصلاح، فقد أوقعتهم تجاربهم الميدانية في العديد من الأخطاء التاريخية الفادحة، الأمر الذي ترتب عليه ظهور آفة الانشقاقات والتكتل في حلقات صغيرة يحارب بعضها بعضاً بدلاً من الالتفات إلى الأعداء والخصوم الحقيقيين للوطن والشعب، حتى أن بعض تلك الحلقات أوغلت في كيدها للحلقات الأخرى بالارتماء داخل أحضان هذا العدو أو ذاك الخصم للاستقواء به على رفاقها هنا أو هناك، رغم أن الدرس الأول في مدارس تثقيف الكادر الشيوعي في كل أنحاء العالم كان ومازال يتعلق بضرورة التمييز بين التناقض الرئيسي والصراعات الثانوية وخلافات الاحتكاك اليومي!!.
 
(4)
 
خرجت مصر من الحرب العالمية الثانية وهي لم تزل خاضعة لاحتلال بريطانيا التي كانت قد بدأت تتعرض لإزاحة سلمية تدريجية على يد الولايات المتحدة الأمريكية حليفتها السابقة في الحرب، ضمن تنافس ثانوي حرصت الحليفتان معاً على إخفائه لتعلنا خوضهما المشترك صراعاً تناقضياً رئيسياً شرساً ضد الاتحاد السوفييتي حليفهما السابق في الحرب، الذي اضطر من جانبه إلى إخفاء تنافس ثانوي ظهر لاحقاً بينه وبين الصين حليفته في المعسكر الشيوعي العالمي سابقاً، ليحشد قواه في مواجهة العدو الرئيسي الأمريكي البريطاني. أما العصابات الصهيونية فقد أجادت بمكرها المعهود اللعب على كل الحبال لتحقيق مكاسب تاريخية خرافية تجلت في إنشاء دولة "إسرائيل" فوق الأراضي الفلسطينية على الحدود الشرقية لمصر. وعلى عكس المكاسب الصهيونية اللئيمة فقد أخفقت الأنظمة العربية المنعزلة أصلاً عن شعوبها عندما اختارت لنفسها إطاراً رسمياً إقليمياً للتشاور والتنسيق الفوقي هو "الجامعة العربية"، مما أبقاها في عزلتها عن قواعدها الشعبية وعزلها في الوقت ذاته عن الحلفاء التاريخيين المتمثلين في الجوار الأعجمي المتاخم للعرب من فارسيين وأتراك وأحباش وأكراد، والذين وجدوا أنفسهم يواجهون حيل وألاعيب "إسرائيل" في غياب الأصحاب الأصليين لقضية فلسطين وهم جيرانهم العرب. ورغم أن نشأة "إسرائيل" عام 1948 قد تمت ضمن مخططات المعسكر الأمريكي – البريطاني – الفرنسي إلا أن المعسكر السوفييتي المضاد قد بادر بتأييدها في المحافل الدولية بمجرد نشأتها، وزاد الطين بلة بجره للشيوعيين العرب والمصريين خلفه في تأييدها، الأمر الذي أوقعهم في مأزق وطني مأساوي، وذلك في إطار ما اعتاده الرفيق "جوزيف ستالين" قائد الدولة الشيوعية الأولى في العالم من ممارسات ديكتاتورية ضد معارضيه ومخالفيه في الرأي بمن فيهم الشيوعيين، سواء داخل بلاده أو خارجها، بهدف إخضاعهم لرؤيته الشمولية المستبدة وإرغامهم على الطاعة المطلقة لتقديراته، حتى لو كانت تتعلق بمصالح الأوطان والشعوب الأخرى وتختلف عن تقديرات أصحابها الأصليين بمن فيهم الشيوعيين المحليين!!.
وفي الداخل المصري بدأ الشيوعيون يعانون من اختلاف التحليلات والتنبؤات المدونة في أمهات الكتب التقليدية للحركة الشيوعية العالمية بشأن نماذج التطور المنتقاة من بعض المجتمعات الأوروبية والآسيوية، واختلافها عن النموذج المصري، الذي تطورت أنماط وعلاقات الإنتاج فيه بما واكبها من معاملات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية وفقاً لقواعد خاصة بالاستبداد الفرعوني، حيث اختلطت مفردات العبودية والإقطاع مع بعض الملامح الشكلية للرأسمالية على مستوى الدولة، أما على مستوى المجتمع فقد اختلفت الأوزان والأدوار النسبية لمجمل مفردات الخريطة الطبقية في مصر عن غيرها من بلدان العالم، لاسيما بالنسبة للإنتلجنسيا المتمسكة بخلفياتها الثقافية القائمة على المفاهيم الدينية الغيبية، والبروليتاريا التي تحرص على الاحتفاظ بطابعها الثقافي المستمد من تراثها الفلاحي، والبيروقراطية الأقدم في التاريخ البشري بما خلقته من طبقة وسطى مؤثرة، وازداد المأزق الوطني للشيوعيين المصريين مأساوية تحت وطأة إلزامهم بتحليلات وتنبؤات الحركة الشيوعية العالمية في إطار المحاولات المستمرة لتعميمها على مختلف البلدان. وبلغ مأزق الشيوعيين المصريين ذروته المأساوية عام 1952 بوقوع ما لم يكن مألوفاً آنذاك في العالم، عندما تصدى الجيش المصري لحكم البلاد في أعقاب انقلاب ناجح قاده مجهولون يمتطون الدبابات ويحملون الرتب العسكرية ويسمون أنفسهم "الضباط الأحرار"، لتدخل الخرائط السياسية المحلية والإقليمية والعالمية مرحلة جديدة من تشابك التعقيدات الغامضة التي أربكت الجميع، وكغيره من الرفاق الشيوعيين في منظمات "طليعة العمال والفلاحين" و"حدتو" و"الراية" بانشقاقاتها العديدة وقع "إسماعيل المهدوي" في غياهب مأزق متعدد الأبعاد الوطنية والقومية والديمقراطية والاجتماعية، ولكنه اختار الاستمرار والمواجهة!!.
 
(5)
 
كان "إسماعيل المهدوي" قد حصل بتفوق ملحوظ على شهادة ليسانس الفلسفة من كلية الآداب بالجامعة المصرية، إلا أن تهمة ازدراء الذات الملكية التي تم توجيهها له عقب واقعة السينما السابق ذكرها قد حرمته من الاستمرار في وظيفة التدريس الأكاديمي، فاكتفى بوظيفة مدرس ثانوي مع احترافه للعمل السياسي في مختلف مجالاته لاسيما المتعلقة منها بالفكر والتثقيف والدعاية والإعلام، فيما أسفر عن إنتاجه لعشرات الكتب المؤلفة والمترجمة التي كان أبرزها "المبادئ الأساسية للفلسفة الماركسية" المترجم عن الفرنسي "جورج بوليتزير" ورواية "الإخوة الأعداء" المترجمة عن اليوناني "نيكوس كازانتزاكس". هذا وقد تطوع "إسماعيل" للدفاع عن التراب الوطني والقومي ضد العصابات الصهيونية عام 1948 ثم ضد الوجود العسكري البريطاني على ضفاف قناة السويس عام 1951 ثم ضد قوات العدوان الثلاثي التي حاولت غزو مصر عام 1956، حيث التقى في مدينة "بورسعيد" بأحد المتطوعين القاهريين من مجاهدي "الإخوان المسلمون" وكانت معه شقيقته الصغرى التي تدرس اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بالجامعة المصرية والمتطوعة عن منظمة "الراية" الشيوعية، وهي الآنسة زينات محمد أحمد الصباغ التي أصبحت زوجته ورفيقة مسيرته السياسية والمعيشية العسيرة بمجرد انتهاء العدوان الثلاثي، بانسحاب أطرافه الثلاثة (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل) من الأراضي المصرية عقب تلقيهم إنذاراً سوفييتياً بذلك تحت طائلة التدخل العسكري لقوات المعسكر الاشتراكي!!.
أدرك نظام الحكم العسكري الذي كان قد قام لتوه في "القاهرة" أن بقاءه أصبح مرهوناً بدعم المعسكر الاشتراكي بعد نجاح الإنذار السوفييتي في إجبار دول العدوان الثلاثي على سحب قواتها الغازية من مصر، فحاول الاحتماء بهذا المعسكر عبر الترويج لنفسه باعتباره نظاماً اشتراكياً، إلا أن هذه المحاولة اصطدمت بالشيوعيين المصريين الموزعين على عدة منظمات وحلقات، والذين كانوا رغم خلافاتهم حول التفاصيل المتعلقة بطبيعة المرحلة يتفقون على أن نظام الحكم ليس باشتراكي، حتى أن أكثرهم اقتراباً منه وهم رفاق منظمة "حدتو" كانوا يصفونه بنظام رأسمالية الدولة الوطنية، وقد اعتقد النظام آنذاك أن الصعوبات التي تعترض خططه للحصول على المزيد من دعم المعسكر الاشتراكي ترجع إلى موقف الشيوعيين المصريين السلبي تجاه هذه الخطط مما أثار غضبه نحوهم، فأخذ يحاصرهم ويضغط عليهم في شتى المجالات، حتى دفعهم الشعور بالخطر المشترك نحو المزيد من التقارب فيما بينهم إلى أن اتحدوا في 8 يناير 1958 تحت اسم "الحزب الشيوعي المصري"، كإجراء تنظيمي رأوه الأنسب للدفاع عن أنفسهم في مواجهة إمبراطورية الخوف التي أقامها نظام الحكم العسكري برئاسة جمال عبد الناصر، وتم اختيار قيادة ثلاثية للحزب تغيرت عدة مرات حتى كان آخر تشكيل لها يتكون من إسماعيل المهدوي وأبوسيف يوسف وشوقي مجاهد، كما يذكر المؤرخ الرسمي للشيوعيين المصريين رفعت السعيد في صفحتي 208، 209 من كتابه "تاريخ الحركة الشيوعية المصرية بين عامي 1957 و1965". هذا وقد اعتبر نظام الحكم أن إعلان الحزب الشيوعي المصري آنذاك عن استمرار وجوده يشكل تحدياً مباشراً لقراره السابق بإلغاء الحياة الحزبية نهائياً من الخريطة السياسية المصرية عبر حله لجميع الأحزاب القائمة وحظره التام لإعادة إحيائها أو لإنشاء غيرها بما في ذلك أحزاب الشيوعيين والإخوان المسلمين التي كان قد سبق حلها في العهد الملكي، فسارع نظام الحكم الناصري في يناير 1959 باعتقال عشرة آلاف شيوعي تحت اسم قضية الشيوعية الكبرى، وكان من بينهم "إسماعيل المهدوي" وزوجته "زينات الصباغ"، وشاء حظي أنا ابنهما "طارق" كاتب هذه السطور أن أرافقهما في محنة الاعتقال، حيث كنت لم أزل محمولاً في أحشاء أمي ثم ما لبثتُ أن أصبحتُ معلقاً على صدرها داخل أسوار المعتقلات التي لا مفر منها سوى بالموت!!.


 
(6)
 
خلال العام الذي انقضى بين إعلان الحزب الشيوعي المصري عن استمرار وجوده واعتقال أعضاءه، أدى إسماعيل المهدوي دوراً بارزاً في دفع الحزب نحو المزيد من الاهتمام بالقضايا الوطنية والقومية والديمقراطية بدرجة لا تقل عن الاهتمام التقليدي للشيوعيين بالقضايا الطبقية والاجتماعية، الأمر الذي انعكس على صدور بعض القرارات الحزبية الهامة خلال العام المذكور، مثل ذلك القرار الصادر في مارس 1958 بحل مكتب الخارج للحزب والذي كان معروفاً باسم "مجموعة روما" رغم اتخاذه من العاصمة الفرنسية "باريس" مقراً له، مع إقصاء جميع أعضاء المكتب بمن فيهم رئيسه "هنري كورييل" "بسبب تكوينهم اليهودي والأجنبي وانعزالهم عن الواقع المصري" حسب نص القرار الذي أورده رفعت السعيد في صفحتي 82 و83 من كتابه السابق ذكره. ولما كان "كورييل" حتى صدور القرار المشار إليه هو الرئيس الفعلي لجناح "حدتو" داخل الحزب ومن خلاله هو الرئيس الفعلي للحزب كله رغم ابتعاده عن الواجهة العلنية للصورة، فقد اعتبر بعض الرفاق من أعضاء "حدتو" قرار عزله انقلاباً وتراوحت ردود فعلهم بين الاكتفاء باعتبار إسماعيل المهدوي ورفاقه الممثلين للأجنحة الأخرى داخل الحزب من الكوابيس المزعجة التي يجب إزالتها واستئصالها، وبين السعي غير المدروس للاستعانة بنظام الحكم العسكري ضد رفاقهم الآخرين لينتهي الأمر باستخدام النظام لهم كأدوات داخل الحزب وخارجه، هذا الخارج الذي امتد جغرافياً في بعض الحالات ليعبر الحدود والقارات والمحيطات بتفاصيل لا يتسع المجال لطرحها!!.
تم اعتقال إسماعيل في سجن "الواحات" الواقع بجنوب الصحراء الغربية، بينما تم اعتقال زوجته زينات في سجن "القناطر" الواقع بوسط الدلتا، وكانت وجبة التغذية اليومية المخصصة للمعتقلين والمسماة "جراية الجوع" تقتصر على رغيف خبز وقطعة جبن وثلاث ورقات من نبات الجرجير مع عدة حشرات وديدان لكل شخص، وقد تحملها المعتقلون الشيوعيون على مضض حتى وضعتني أمي، وتنفيذاً لوصية أبى فقد أسمتني "طارق" تيمناً بالنجم الثاقب الوارد في القرآن الكريم، وبمجرد ولادتي أصيبت أمي بالشلل نتيجة لسوء التغذية فعجزت عن إرضاعي مما هددني بالموت قبل أن يراني أبي، وسرعان ما تسرب الخبر عبر         زوار المسجونات جنائياً لينتشر داخل البلاد وخارجها. ورغم تشتيت المعتقلين الشيوعيين في عشرات السجون العمومية والمؤقتة والمعسكرات والكهوف التابعة لمختلف الأجهزة الأمنية والسيادية والعسكرية               على امتداد الأراضي المصرية، فقد تخاطبوا معاً بواسطة أوراق              ابتلعها المسجونون جنائياً ليحملوها داخل أمعائهم وهم يجوبون سجون المحروسة طولاً وعرضاً، وقرر الشيوعيون الإضراب الجماعي عن            الطعام طلباً لمعاملة أفضل، لاسيما فيما يتعلق بالتغذية حتى لا أموت وأنا لم أزل طفلاً رضيعاً أو تموت أمي التي كان الشلل قد أعجزها عن إرضاعي. وقبل أن يتسع نطاق الإضراب ليشمل عشرات الألوف من معتقلي           الوفد والإخوان المسلمين والاتجاهات السياسية الأخرى، اضطر نظام الحكم العسكري للاستجابة إلى مطالب الشيوعيين المضربين          بتحسين معاملتهم لاسيما في مجال التغذية، مع النظر لثلاثتنا (أبي وأمي وأنا) باعتبارنا من الكوابيس المزعجة التي يجب إزالتها واستئصالها، لينضم نظام الحكم بذلك إلى صف الكارهين لأبي بشكل شخصي مع بعض الرفاق من أعضاء مجموعة روما للشيوعيين اليهود ذوي الأصول المصرية وبعض الرفاق من أعضاء جناح "حدتو" داخل الحزب. وهكذا أوقع إسماعيل المهدوي بنفسه دون قصد داخل مثلث كراهية شخصية لا تتوانى أضلاعه عن تضييق الخناق على من بداخلها كما لا تتوانى عن ضربه  تحت الحزام حتى الموت، علماً بأن امتدادات هذه الأضلاع ما زالت قائمة حتى الآن، ولم تغب يوماً عن مجريات الأحداث السياسية في مصر!!.
 
(7)
 
واجه الشيوعيون خلال فترة اعتقالهم الممتدة بين عامي 1959 – 1964 كل أنواع الممارسات الأمنية التقليدية والحديثة جنباً إلى جنب، ففي الوقت الذي تمسكت فيه أجهزة الأمن البوليسية بأساليبها القديمة التي تستهدف الجسد مباشرةً سواء بتقييده أو بتعذيبه أو بتصفيته، فإن أجهزة الأمن السياسية قد اتجهت في التعامل معهم إلى تطبيق الأساليب التي كانت قد وردت لتوها مع مبعوثي النظام العائدين بعد إتمام دراساتهم المتخصصة في العلوم الإستراتيجية بالأكاديميات التابعة لحلف شمال الأطلسي، علماً بأن تلك الأساليب الحديثة تدور حول مناورات "احتواء الخصم حتى يتم إخضاعه" برجرجته بين نارين في الوقت ذاته، حيث يتم استدراجه عبر الوسائل السلمية بواسطة إغرائه وتسييل غرائزه أو خداعه أو تثبيته عند أي نقطة وسط من القواسم المشتركة شبه المتفق عليها وما شابه، كما تتم السيطرة عليه عبر الوسائل القاسية بواسطة حرمانه وتجويع غرائزه أو إفساد خطواته في كل الاتجاهات أو تشتيته بفرض معارك جانبية متدنية عليه أو دفعه للحواف شديدة الخطورة وما شابه، وهكذا تعرض الشيوعيون المعتقلون لأعنف درجات التقييد والتعذيب والتصفية الجسمانية المباشرة، مع مختلف مناورات الاحتواء التي تمثلت في إبهارهم بقرارات التنمية وإعادة توزيع الثروة وتوسيع نطاق الخدمات العامة بدعوى أنها قرارات اشتراكية، وفي الضغط عليهم عبر حشد التأييد الصادر من زعماء الدول الشيوعية على امتداد العالم لشخص "جمال عبد الناصر" باعتباره الزعيم الثوري المناهض للصهيونية والإمبريالية، وفي إغرائهم بوعود سياسية حول ما سوف يؤدونه في المستقبل القريب من أدوار طليعية داخل "اتحاد اشتراكي" يجري تأسيسه على قدم وساق، ليقود الدولة والمجتمع نحو التحرر الوطني والتوحد القومي والتطور الاشتراكي، كما تعرضوا في نفس الوقت للمؤامرات التخريبية الداخلية بأيدي بعض رفاق "حدتو" الذين أبقى عليهم نظام الحكم داخل الحزب ليستخدمهم في تفكيكه!!.
وباستخدامه لكل تلك الأساليب معاً استطاع نظام الحكم أن يجبر الحزب الشيوعي المصري على الخضوع المهين الذي تجلى بحلول إبريل عام 1965 في قرار حل الحزب واستدراج أعضائه للانضمام كأسرى الحرب إلى عضوية الحزب الحاكم الذي كان قد غير اسمه لتوه ليصبح "الاتحاد الاشتراكي"، مع إلحاق "المتجاوبين" من الرفاق السابقين على رأس بعض أجهزة الدولة الصحفية والإعلامية والثقافية والنقابية لينعموا برغد العيش، مقابل قيامهم بالترويج للمشروع الناصري "الوطني الاشتراكي الوحدوي" في مختلف الأوساط النخبوية والجماهيرية وفقاً للإملاءات العليا. ورغم صدور قرار حل الحزب بالأغلبية فيما كان يمكن معه للأقلية حتى لو اقتصرت على واحد فقط أن تتصدى لقيادة المسيرة والحفاظ على استمرارها، عملاً بقاعدة تنظيمية بديهية مفادها أن الرفيق الذي وافق على قرار حل الحزب يصبح كالمستقيل وبالتالي لا يعتد به في احتساب نسبة التصويت، إلا أن الرفاق أعضاء الأقلية في القيادة قد خذلوا أنصارهم بخضوعهم لقرار الأغلبية تحت دعوى الالتزام بالمقتضيات الشكلية للانضباط الحزبي، رغم أن دوافعهم الحقيقية تراوحت بين الرغبة في الفرار من مواجهة الأحداث المحلية والإقليمية والعالمية التي عجزوا عن مواكبة مستجداتها الأكثر غموضاً والتباساً في التاريخ الحديث والمعاصر, والرغبة في الفرار من مواجهة فريق الأغلبية بالحزب والذي يعرف جيداً نقاط الضعف هنا وهناك، ومع ذلك فقد حرص النظام على معاقبة أعضاء تلك الأقلية لعدم إظهارهم "التجاوب" الكافي مع جهود الإخضاع، وكان من بينهم إسماعيل المهدوي الذي تم إلحاقه كصحفي في مجال النقد الأدبي والتذوق الفني بمؤسسة دار التحرير الصحفية الحكومية التي تصدر صحيفتي "الجمهورية" و"المساء"، لتبدأ مرحلة جديدة من ضربه تحت الحزام!!.
(8)
 
أقسم "إسماعيل المهدوي" على أنه خضع لقرار الأغلبية داخل قيادة الحزب الشيوعي المصري بحل حزبهم عام 1965 على أمل الإسهام في تهدئة الجبهة الداخلية، بما يكفل تأمينها بالدرجة التي تدعم الجهود العسكرية المبذولة من قبل قادة الدولة والجيش لدحر الغزاة الصهاينة وتحرير مجمل التراب الوطني والقومي من دنسهم كما أعلنوا، فلما تعرضت مصر في يونيو 1967 لهزيمة مخزية أضاعت خُمس الأراضي المصرية إلى جانب الجولان السورية وما تبقى من فلسطين، انكسر حلمه الوطني والقومي الذي كان قد سبق أن ضحى من أجله بحلمه الاجتماعي والديمقراطي فأدرك أن ثلاثة وأربعين عاماً من عمره قد ضاعت هباءً منثوراً. ومع انكسار الأحلام بدأت منظومة اليقين العقلي تهتز لاسيما بعد انتقاله إلى جبهة القتال على الحدود الشرقية بحكم عمله الصحفي حيث شاهد عن قرب وجوه شهداء الوطن من أبنائه العسكريين والمدنيين، الذين كانوا حتى وقت قريب يصدقون ما تنشره الصحف الرسمية من تهويشات التحرر الوطني وجعجعات التوحد القومي وأكاذيب التطور الاشتراكي، فشعر بمشاركته في المسئولية عن تضليلهم مما أصابه بصدمة انفعالية عنيفة، دفعته نحو اتهام كبار قادة الدولة علناً بتعمد إضاعة الوطن ونحو إدانة كل الأطراف التي شاركت في الحكم أو تواطأت معه أو اكتفت بالمراقبة السلبية، حتى المجني عليهم والمفعول بهم لم يسلموا من إدانته لعجزهم عن المقاومة، وبدأ يدعو إلى تنحي رئيس الجمهورية وكبار قادة الدولة عن مواقعهم وإلى عودة الجيش لثكناته العسكرية وترك العمل السياسي للمدنيين وفق أي نظام ديمقراطي يتراضون بشأنه. وللأسف توارت مفردات الحكمة الكامنة في أعماق دعوته خلف السحب العصبية الانفعالية الكثيفة التي أحاطت بتلك الدعوة!!.
أغضبت دعوة إسماعيل كبار القادة المدنيين والعسكريين للدولة وجماعات "التقييد" و"الاحتواء"، كما أغضبت بعض رفاق الأمس سواء كانوا من المنتفعين الذين استرخوا في مواقعهم الناعمة أو كانوا من الرافضين للاعتراف بمشاركتهم في المسئولية عما حدث، فاختصمه الجميع مجدداً واعتبروه مرة أخرى عدواً شخصياً لكل منهم وتكالبوا ضده ليتسع بذلك نطاق الضرب تحت الحزام، حيث أخذوا ينكلون به في عمله ورزقه ومصالحه وعلاقاته الاجتماعية بما تشمله من روابط أسرية وعائلية ويتحرشون به أينما ذهب، فسافر عام 1968 إلى "باريس" ليحصل على درجة الدكتوراه من جامعة "السوربون"، وليواصل دعواته إلى تجمعات المصريين المقيمين في "فرنسا" وغيرها من الدول الأوروبية وخصوصاً الشيوعيين منهم نحو مراجعة أنفسهم فيما تعرضوا له من خداع وتمويه يستوجبان النقد الذاتي، لكن جماعة "كورييل" التي كانت تترصد خطواته هناك بالتنسيق مع الآخرين وجهت له ضربة عنيفة تحت الحزام، لذلك فإن الطائرة التي كان يفترض أن تقله من إحدى المدن الأوروبية لمدينة أوروبية أخرى قادته في عام 1969 وهو مكبل بالأغلال الحديدية إلى "القاهرة"، حيث وجد نفسه بلا مأوى ولا عمل ولا صديق اللهم إلا الأمريكية المخادعة "مارجريت بالاس" التي كانت تعمل لحساب وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية تحت ساتر أنها مراسلة صحفية مقيمة بالقاهرة، وسرعان ما تقدمت ضده ببلاغ مكتوب إلى مباحث أمن الدولة وأكدته في أقوالها أمام نيابة أمن الدولة، حيث اتهمته في محاضر التحقيقات الرسمية بأنه يكتب مقالات تهاجم نظام الحكم المصري بدافع من خلفياته الشيوعية، فيما تحول لاحقاً إلى القضية رقم 315 لسنة 1970، والتي حفظها وكيل نيابة أمن الدولة "صهيب حافظ" بقراره إيداع "إسماعيل المهدوي" مستشفى المجانين بدعوى أنه يتفوه بعبارات غير مفهومة من نوعية "تغلغل عملاء المكارثية الأمريكية في أوساط الإنتلجنسيا المصرية عقب نجاح البورجوازية الكومبرادورية التابعة للإمبريالية العالمية في سحب البساط من تحت أقدام تحالف العسكرتارية والبيروقراطية الحاكم في مصر"، وقد يكون وكيل النيابة معذوراً في عدم فهمه، لأنه لم يستمع من قبل إلى مثل هذه العبارات رغم كونها تدخل في سياق المفردات والمصطلحات اليومية العادية لمعظم الشيوعيين المصريين والعرب لاسيما المثقفين منهم كإسماعيل المهدوي!!.
 
(9)
 
في إبريل 1970تم إيداع "إسماعيل المهدوي" بغرفة انفرادية داخل العنبر الخاص بالمذنبين في مستشفى المجانين، دون أن يحظى بمحاكمة كالتي يحصل عليها المذنبون ودون أن يحظى بعلاج كالذي يحصل عليه المرضى، فكان وضعه أشبه بالاعتقال داخل إحدى زنازين الحبس الانفرادي. وفي أواخر عام 1970 أصبح "أنور السادات" رئيساً للجمهورية وسرعان ما أنفرد بالحكم في منتصف عام 1971 عبر إطاحته بكبار قادة الدولة المورثين له عن عهد عبد الناصر، إلا أنه لم يلتفت إلى "إسماعيل" رغم تعيينه لبعض رفاق الأمس من قادة الشيوعيين كوزراء ونواب في مجلس الأمة مثل فؤاد مرسي وأبوسيف يوسف وغيرهما، مما أشار بوضوح لأن وضع "إسماعيل" سيستمر كما هو لفترة طويلة، الأمر الذي زاده انفعالاً فشرع يخوض معركة "بريدية" مكثفة ضد كل الذين تصورهم خصومه رغم أن بعضهم لم يكن كذلك. وتراوحت ردود الفعل على خطاباته البريدية الغاضبة بين الصمت العاجز عن مد يد العون خوفاً من العقاب وبين الشماتة والسخرية لاسيما من المنتمين لجماعات الضرب تحت الحزام، بعد أن كان أولئك الذين يفترض بقاؤهم حوله قد انفضوا عنه خوفاً من وضعه الجديد الغامض، تاركين إياي بمفردي في أحضان المجهول وأنا لم أتجاوز بعد العام العاشر من عمري، ورغم الصعوبة الشديدة في الحفاظ على حياتي حيث اضطررتُ للعمل في شتى المجالات المتواضعة والمتدنية سعياً خلف لقمة العيش جنباً إلى جنب الانتظام في الدراسة التي أنهيتُها بحصولي على بكالوريوس الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة القاهرة، إلا أنني بمجرد بلوغي سن الرشد القانوني بادرتُ بتوكيل عدد من كبار المحامين لاتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لفهم وضع أبى وتوصيفه قانونياً تمهيداً للتعامل معه بهدف تسويته على أي وجه قضائي أو رضائي ينتشله من محنته التي كانت قد تجاوزت عشرة أعوام!!.
في عام 1981 تم اغتيال السادات على أيدي بعض السلفيين الإسلاميين، ليخلفه في رئاسة الدولة نائبه حسني مبارك الذي بدأ عهده باستخدام لغة هادئة لخداع الاتجاهات السياسية غير الدينية بما في ذلك الشيوعيون، الذين كانوا قد عاودوا العمل السياسي والتنظيمي السري منذ عودة الحياة الحزبية العلنية عام 1975 ليشكلوا بتلك العودة الحلقة الثالثة من الحركة الشيوعية المصرية، والتي انقسمت كالعادة إلى ثلاث منظمات رئيسية هي "8 يناير" و"العمال" و"الانتصار" بما تفرع عنها من انشقاقات. وكانت إجراءاتي القانونية قد بدأت تسفر تباعاً عن ظهور بعض المعلومات الصحيحة خلال النصف الأول من ثمانينيات القرن العشرين بشأن والدي مما ساعدني على فهم التوصيف القانوني لوضعه، وبمعرفتي لاحقاً لمواقف الأطراف المختلفة ذات الصلة تجاهه اكتمل وضوح الصورة في ذهني، فشرعتُ في صياغة خريطة طريق تتضمن مبادرة متعددة الخطوات والمراحل تحظى بقبول الجميع، ورغم صعوبة المفاوضات الخاصة بصياغة المبادرة وانتزاع الموافقات عليها ثم تمريرها من خطوة لأخرى، إلا أنني مضيتُ في الأمر قدماً وأنا محاط بلجنة شبه قومية تضم بعض كبار المحامين والصحفيين والسياسيين في أوساط المعارضة الشيوعية والليبرالية والإسلامية وبعض مسئولي الصف الثالث داخل أوساط الحكم، وكانت بنود المبادرة تتلخص في خطوتين، الأولى هي تراجع المسئولين عن اشتراطهم عليه بتقديم التماس سياسي للإفراج عنه يتضمن استتابة واستنكاراً لكل ما سبق أن بدر منه في مسيرته السياسية، على أن أتقدم أنا من جانبي بالتماس قانوني للإفراج عنه يتضمن التنازل عن الحق في أية مطالبات مستقبلية بالقصاص أو بالتعويض المالي، ويلتزم هو من جانبه بعدم الاعتراض أو التشكيك في التماسي أو التراجع عنه. أما الخطوة الثانية فقد تمثلت في حفظ الاتهامات السياسية الموجهة ضده تمهيداً لنقله إلى أحد المستشفيات الخاصة لقضاء فترة النقاهة العلاجية اللازمة قبل الخروج، على أن تنشر الصحف الرسمية صباح اليوم التالي في صفحاتها الأولى خبر خروجه من مستشفى المجانين للنقاهة داخل المستشفى الخاص مصحوباً برسالة شكر موجهة مني إلى القيادة العليا وكبار المسئولين في الدولة والحكم!!.
 
(10)
 
نجحت مبادرتي وخرج "إسماعيل المهدوي" من محنته في سبتمبر 1987 وقد تجاوز عمره الستين عاماً ليقضي ما تبقى له من العمر بالشكل الذي يريحه في منزله الجديد مع زوجته الجديدة السيدة "راوية السباعي"، حيث كان يرغب في مواصلة دراساته الفلسفية الخاصة بنقد المنظومة التقليدية للفكر الماركسي، مع نقد تطبيقاتها الغاشمة داخل بعض أوساط الحركة الشيوعية المصرية المعاصرة، ولكن سرعان ما عاودت "الغربان" تحليقها في سمائه مجدداً قائلين إنهم ما كانوا ليدعموا جهودي لإخراجه أو حتى يتركوها تنجح ما لم تكن لديهم ثقة مسبقة في أن خروجه سيفيد خططهم ومشاريعهم السياسية، كاشفين عن رغبتهم في الاستثمار السياسي لمحنته التي كان قد خرج منها لتوه بدفعه نحو خوض معركة فكرية نيابة عنهم ضد أفكار التيار الديني المتنامي بشكل يزعجهم ويهدد مصالحهم. وبعد التشاور بيني وبينه قررنا رفض الاستجابة للرغبة المذكورة، نظراً لأن الخصومة الفكرية مع أي تيار سياسي لا تبرر اختصامه على أرضية تيارات سياسية أخرى في معارك بينهم حول قضايا ربما لا يكون لنا فيها ناقة أو بعير، وإزاء إلحاح أولئك "الغربان" فقد قاومناهم سوياً بشراسة اتخذت شكل مقالات وأبحاث منشورة في الداخل والخارج، باسمي وباسمه، ضد المناورات والألعاب الخطرة لغربان الحكم والشيوعيين والتيار الديني معاً، فما كان منهم إلا أن قرروا العودة إلى أساليب السيطرة المستمدة من فرع تفكيك الجماعات في العلوم السلوكية التي تدخل ضمن علم النفس الاجتماعي، فشرعوا في توجيه الضربة الأخيرة تحت حزامه والأولى تحت حزامي بإثارة الخلاف بيني وبين أبي، عساهم ينجحون في التفرقة بيننا تمهيداً للاحتواء المزدوج أي احتواء كل واحد فينا على حدة، اقتداءً بمقولة الشر الاستعمارية الشهيرة "فرق تسد"!!.
لم ينجح "الغربان" في الاحتواء المزدوج وإن كانوا قد نجحوا في التفرقة بيني وبينه، نظراً إلى عدم تكافؤ دفاعاتنا الغريزية البسيطة مع هجمات عشرات الأجهزة والمؤسسات الحاكمة والمعارضة، ذات الصلاحيات الديناصورية والأدوات المتنوعة والوعود البراقة والأكاذيب الموثقة زوراً باعتبار أن "الدفاتر دفاترهم". ولم ينجح "الغربان" في استخدامي أو استخدام "إسماعيل المهدوي" ضد أفكار التيار الديني وإن كانوا قد نجحوا في تحريضه ضدي، بإيهامه أن جهودي لإخراجه من محنته قد تمت بتكليف من نظام الحكم الذي حرص على إنهاء الأمر لصالحه، رغم أنه كان يمكن إخراجه بشكل أفضل يكفل له أن يتولى موقعاً لائقاً في إحدى المؤسسات الهامة كتعويض مناسب عما لاقاه خلال محنته. وعبثاً شرحتُ له أنني بدأتُ جهودي لإخراجه بمجرد بلوغي سن الرشد القانوني التي تسمح لي بذلك، وأنني بذلتُ أقصى ما بوسعي لأضمن له أفضل خروج ممكن بأقل خسائر ممكنة على ضوء موازين القوى القائمة بين مختلف الأطراف، وأنني كنت أراجعه لأحظى بموافقته المسبقة على كل خطوة أقوم بها أولاً بأول، وأنه لو كانت هناك نية لتوليته أي موقع لائق فما الذي يمنع ذلك عقب خروجه، وما الذي يمنعه هو شخصياً من إعادة ترتيب أوضاعه بنفسه لاسيما بعد أن أسفرت جهودي عن إخراجه من محنته دون تحميله بأية التزامات سياسية مستقبلية ودون الحجر القضائي عليه، رغم أن "الحجر" كان هو الشرط الوحيد المطلوب مسبقاً لصرف المعاشات والتأمينات اللازمة لطفل كان في بداية المحنة يبلغ العاشرة من عمره وكان يواجهها بلا دخل أو منزل أو عائلة. هذا وقد أسفرت تلك الضربة الأخيرة تحت حزام "إسماعيل المهدوي" عن إعادته لحالة الانفعال العصبي العنيف ففتح نيران أسلحته كلها ضدي بدعم مكثف من "غربان" الحكم والشيوعيين والتيار الديني معاً، والتزمتُ الصمت من جانبي رغم محاولات استدراجي نحو الدفاع عن نفسي تجاهه، وإن كان شعوري بظلم ذوي القربى قد دفعني لمغادرة البلاد إلى السودان في مأمورية عمل طويلة، كما انسحبت زوجته الجديدة أيضاً من حياته اعتراضاً على هجومه ضدي رغم مطالبتي إياها بالبقاء إلى جواره أثناء غيابي... وهكذا انفردت به "الغربان" لفترة قصيرة غامضة انتهت بوفاته الأكثر غموضاً في يونيو 1996، ليرحل "إسماعيل المهدوي" ويبقى الوطن دوماً من وراء القصد!!.
 
* * * * *



 
 
 
اللواء إبراهيم عزت
 
(1)
 
مع بداية عقد ثمانينيات القرن العشرين كنت قد التحقتُ بوظيفة محرر ومترجم في ثلاث مؤسسات إعلامية مختلفة تقع مقارها كلها بقلب منطقة القاهرة الخديوية المعروفة باسم "وسط البلد"، وكانت المؤسسات الثلاث معاً توفر لي دخلاً شهرياً إجمالياً يقارب الثلاثمائة جنيهاً، وهو ما يكفي بالكاد لتلبية احتياجاتي الأساسية بعد سداد القيمة الإيجارية لشقتي المتواضعة الكائنة في ضاحية "حلوان" والأقساط الشهرية لما تحتويه من أثاث ضروري وأجهزة كهربائية لازمة، وللحفاظ على استمرارية هذا الدخل كان لابد من مراعاة انتظام مواعيدي في المؤسسات الثلاث، فكنت أخرج من شقتي عند الساعة السادسة صباح كل يوم متجهاً إلى هيئة الاستعلامات ومنها إلى الجريدة اليومية ومنها إلى اتحاد الإذاعة والتليفزيون لأعود إلى شقتي بعد انتصاف الليل!!.
ولما كانت هناك متخللات زمنية تظهر أحياناً بين مواعيد العمل في المؤسسات الثلاث إلا أنها قصيرة بما لا يسمح لي بالعودة البينية إلى "حلوان" والمعاودة مرة أخرى إلى "وسط البلد"، فقد بدأتُ أبحث لنفسي عن مكان لائق ومنخفض التكاليف لاستخدامه كاستراحة ألتقط فيها بعض الأنفاس الترفيهية أثناء المتخللات الزمنية دون مغادرة منطقة "وسط البلد"، ووجدتُ ضالتي في النادي الاجتماعي التابع لجمعية الكتاب والفنانين المعروفة باسم "أتيليه القاهرة" وهو نادي خاص يقتصر دخوله على أعضائه، الذين يشترط أن يكون لهم سابق أعمال منشورة سواء في الكتب أو في المعارض الفنية لحصولهم على العضوية، لذلك فإنه بمجرد ظهور اسمي كأحد المشاركين في ترجمة كتاب صادر عن مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بجريدة الأهرام عام 1982، حتى حملتُ ثلاث نسخ منه واتجهتُ صوب الأتيليه لأطلب الحصول على العضوية بعد أن اعتبرتُ نفسي قد أصبحتُ كاتباً معتمداً بشهادة جريدة الأهرام الرسمية!!.
 
(2)
 
في الطريق إلى "أتيليه القاهرة" اجتازتني سيدة فاتنة ذات عطر فواح واتجهت بخطواتها المنتظمة صوب الصالون الرئيسي للأتيليه حيث أعلنت أن اسمها الدكتورة "لوتس عبد الكريم"، ثم طلبت الإذن بدخول جلالة الملكة "فريدة ذو الفقار" لمشاهدة أحد المعارض الفنية، ومع استدارتي للخلف وجدتُني وجهاً لوجه أمام سيدة أسطورية صافحتني وربتت على كتفي بوقار أرستقراطي لا يخلو من ابتسامة الأم الحانية، ولما كانت الفنانة "إنجي أفلاطون" هي الوحيدة الموجودة آنذاك من أعضاء مجلس إدارة الأتيليه ولما كان اللواء شرطة "إبراهيم عزت" هو الأكبر سناً بين الأعضاء الموجودين آنذاك، فقد نهضا معاً على الفور للترحيب بالضيفة الكبيرة ومصاحبتها خلال مشاهدتها اللوحات المعروضة!!.
بعد انتهاء جولة المشاهدة استجابت الملكة "فريدة" لدعوة الجد "عزت" والعمة "إنجي" كي تتناول معهما بعض مشروبات التحية في الصالون الرئيسي بينما تم استبدال الأسطوانات الموسيقية بغيرها، ليعلو صوت الأغاني المصرية القديمة والتي كانت تمتدحها طوال فترة جلوسها على العرش لاثنى عشر عاماً متواصلة، في ظل حفاوة ملكية ممزوجة بمحبة فنية من جميع الموجودين تجاهها. حبست الملكة "فريدة" دموعها داخل مقلتيها بصعوبة بادية حتى غادرت المكان بهدوء تلفه الفخامة دون أن تحرمني من ابتسامة حانية أخرى للوداع، وعندما نادتني العمة "إنجي" للجلوس بجوارها وجدتُني على نفس المقعد الذي كانت الملكة قد غادرته لتوها!!.
 
(3)
 
كانت العمة "إنجي" تعرفني جيداً منذ مولدي فقد سبق أن تزاملت هي وأمي في صفوف الحركة الشيوعية المصرية خلال خمسينيات القرن العشرين، وتم اعتقالهما سوياً بسجن "القناطر" حيث ولدتني أمي وبقيتُ معهما عدة أعوام، رسمتني خلالها العمة "إنجي" وأنا أصعد لأعلى أحد السلالم محاطاً بالأمهات الرفيقات المعتقلات في لوحتها الشهيرة المسماة "العنبر". أما الجد "عزت" الذي كان عمره يتجاوز السبعين عاماً آنذاك فقد أولاني اهتمامه بمجرد سماعه لاسم أبي "إسماعيل المهدوي" شارحاً أنه سبق تعامله معه منذ خمسينيات القرن العشرين عدة مرات على محبة حيناً وعلى مضض متبادل أحياناً، لاسيما خلال عمل الجد "عزت" كمأمور لبعض السجون التي كان أبي يزورها بشكل متكرر كسجين سياسي بسبب دوره القيادي في الحركة الشيوعية المصرية أثناء عهد الرئيس "عبد الناصر"، ومشيراً إلى نفسه باعتباره قد تعرض للاضطهاد المهني المتمثل في استمرار نقله بين عدة وظائف هامشية بمختلف قطاعات الشرطة مع رفض قبول تقاعده خلال عهد "عبد الناصر" بسبب علاقة مصاهرة كانت تربطه بالرئيس المقهور "محمد نجيب"، مما دفعه للتعاطف مع كل المضطهدين لأسباب سياسية سواء كانوا وفديين أو ملكيين أو إخوان مسلمين أو حتى شيوعيين كأبي!!.
أفهمتني العمة "إنجي" أن مشاركتي مع آخرين في ترجمة كتاب منشور واحد فقط لا تمنحني عضوية الأتيليه ككاتب وإنما كمتذوق، أما الجد "عزت" الذي كان يشكو من وضعه هو كعضو متذوق فيما يشبه العضوية الشرفية، فقد نصحني بتقديم طلب العضوية تحت صفة كاتب مع إرفاق النسخ الثلاث من الكتاب الذي شاركتُ في ترجمته، مؤكداً لي أن لجنة القيد سوف تؤجل البت في عضويتي لحين إحضاري أعمال أخرى منشورة مع منحي صفة المرشح للعضوية، والتي تتميز عن صفة المتذوق بأنها ستتحول لاحقاً إلى عضوية كاملة تحت صفة كاتب دون إلزامي بأية اشتراكات مالية خلال فترة الترشيح التي تسمح لي بدخول الأتيليه واستخدام ناديه الاجتماعي، عملتُ بنصيحته وحصلتُ على صفة المرشح للعضوية لعدة أعوام انتقلتُ بعدها إلى العضوية الكاملة ككاتب بمجرد أن وجدت بعض مؤلفاتي السياسية والأدبية طريقها للنشر، ولكنني فوجئتُ بأن أبواب الأتيليه لا تفتح إلا عند الساعة الخامسة مساءً مما يعني استمرار بحثي عن مكان نهاري لائق ومنخفض التكاليف في منطقة "وسط البلد"!!.
 
(4)
 
كان الجد "عزت" يسكن في عمارة مجاورة للأتيليه يوجد بطابقيها الأرضي والأول محل "فلفلة" المملوك لسيدة الأعمال المعروفة "أمينة زغلول" والذي اكتسب شهرة واسعة لما يقدمه للسائحين من طعام وشراب وشيشة وترفيه، وبمجرد وفاة زوجته التي كانت ابنة عم إحدى زوجات الرئيس "محمد نجيب" هاجر ابنه منفرداً إلى "كندا" بعد أن فشلت محاولات الجد "عزت" في إبقائه معه بالقاهرة كما فشلت محاولات الابن في اصطحابه معه إلى المهجر، فقد كان مؤمناً بأن الأحوج لوجوده بجوارها هي ابنته المعاقة التي يرعاها بنفسه طوال النهار وحتى موعد وصول الممرضة المحترفة لمجالستها مساءً والمبيت معها ليلاً، ليغادر هو متجهاً إلى الأتيليه حيث يلتقي أصدقاءه ويبقى في الوقت ذاته قريباً من ابنته تحسباً للطوارئ، وكان دائماً يلح في دعوة هؤلاء الأصدقاء لزيارته ومؤانسة وحدته خلال ساعات النهار، مغرياً إياهم بالإطلاع على الكتب النادرة الموجودة في مكتبته وبتناول أنواع الشاي الفاخر الذي يرسله ابنه من كندا مع إمكانية الفوز بوجبة غداء ساخنة من محل "فلفلة"، تشرف على إعدادها وتوصيلها العمة "أمينة" شخصياً من باب مراعاة الجيرة والذكريات التاريخية المشتركة!!.
وجدتُ نفسي أحد المستفيدين من دعوة الجد "عزت" لزيارته المنزلية في النهار، لاسيما أثناء أوقات فراغي التي تظهر أحياناً كمتخللات زمنية بين نهاية دوام عملي بهيئة الاستعلامات وبداية دوام عملي في الجريدة اليومية، ومع تكرار زياراتي أصبحتُ أقرب أصدقائه إليه كما أصبحتُ صديقاً لابنته ذات الاحتياجات الخاصة وللعمة "أمينة" ذات الملايين، حتى كان ذلك اليوم الشتوي الممطر والذي أصابته فيه نوبة أنفلونزا حادة، فأفرغ أمامي صندوقاً خشبياً صغيراً يحوي العشرات من أشرطة تسجيل الكاسيت التي كان قد سجل عليها مذكراته بصوته، راجياً مني التفرغ لعدة أشهر أقوم خلالها بتحويل الأشرطة إلى كتاب يتم نشره بعد وفاته، واصفاً إياه بأنه سوف يشكل إضافة هامة لذاكرة الأمة بتسليطه الأضواء على بعض خبايا الأنشطة السرية للجهات المعنية في الأوساط الثقافية، ونظراً لصعوبة تفرغي بسبب استمرار التزاماتي المالية المتمثلة في الأقساط الشهرية التي لم يكتمل سدادها بعد، فقد طلبتُ منه أن يحتفظ بالصندوق الخشبي الصغير حتى تسمح ظروفي بتأدية المهمة أو أن يبحث عن غيري لتأديتها لو كان متعجلاً، فأفادني بأنه يجدني أنا الشخص الأنسب بعد سنوات مضنية أمضاها باحثاً عمن يؤديها، موضحاً أنه سبق أن رفض طلب محامي شاب من أقربائه ليقوم بتلك المهمة ليس فقط من باب الشك في ضعف قدراته ولكن أيضاً من باب الشك في فساد نواياه!!.
 
(5)
 
عمل المحامي الفاسد في الوقت نفسه لحساب عدة أطراف لا يجمعها سوى كراهيتها لقيامي بمساعدة الجد "عزت" في نشر مذكراته، سواء داخل عائلته الحريصة على ستر بعض الخطايا الجنسية والمالية لبعض أفرادها، أو داخل الجهات المعنية الحريصة على ستر أساليبها في العمل السري، أو داخل الأوساط الثقافية لاسيما أولئك الذين أوقعهم التاريخ في منتصف المسافة بين الجهات المعنية والمثقفين المعارضين والمستقلين، لذلك فإنه بمجرد معرفة المحامي الفاسد لاختياري من قبل الجد "عزت" كي أساعده في نشر مذكراته حتى أشاع للقاصي والداني بأن أحد المشاغبين السياسيين قد شرع يكتب مذكرات أحد الضباط الذين سبق لهم العمل في وظائف شرطية ذات صلة بمكافحة المشاغبين السياسيين، وفي الوقت الذي لم تجد فيه تلك الإشاعة صدى لدى عائلة "عزت" لعدم قدرتها على منع الأمر بسبب قلة حيلتها في مواجهته، أو لدى الجهات المعنية لعدم رغبتها في التدخل إدراكاً منها لحقيقة أن الصندوق الخشبي الصغير لا يزال قابعاً أسفل فراش الجد "عزت"، فقد وجدت من يتلقفها ويتلظى بنارها في الأوساط الثقافية لاسيما الكاتب الصحفي "فتحي غانم" وكاتب صحفي آخر ظل حريصاً على التمويه لإخفاء دوره السابق واللاحق، وفي ظل هذا التمويه يمكن تسميته "عبد الفتاح الطويلة". حيث أصيب الثنائي "غانم" و"الطويلة" بالرعب خشية انتقام مفترض تجاههما كانا يعتقدان أنني سأذهب إليه حتماً بعد إطلاعي على مذكرات الجد "عزت" بما تحويه من تفاصيل أفعالهما مجتمعين أو منفردين بحق أبي "إسماعيل المهدوي"، خلال وجودهما في منتصف المسافة بين الجهات المعنية والمثقفين المعارضين والمستقلين، لذلك فقد قررا التدخل الفوري لمنع الأمر بأي شكل وأي ثمن!!.
كان العم "غانم" يعمل منذ عام 1946 مفتشاً للتحقيقات القانونية بمديرية التعليم في محافظة "بني سويف" بحيث شملت مسئولياته فيما شملته التصدي للمشاغبين السياسيين في أوساط المدرسين، وقد أظهر ولائه الخاص والمتميز لقادة الدولة الجديدة بمجرد قيامها عام 1952 مستعيناً بملفات المدرسين الموجودة في حوزته، وكوفئ عام 1956 باختياره وهو لم يزل في الثلاثين من عمره رئيساً لتحرير الجريدة الرسمية التي أصدرها مجلس قيادة الثورة آنذاك تحت اسم "جريدة الشعب"، وبدعم مباشر من السيد "علي صبري" نائب رئيس الجمهورية استمر تصعيد "غانم" لأعلى، حتى أصبح خلال الفترة بين عام 1966 وعام 1971 رئيساً لمجلس إدارة دار التحرير التي كانت الدولة الجديدة قد أنشأتها مع رئاسته في الوقت ذاته لتحرير جريدة الجمهورية الصادرة عن الدار لتتحدث باسم الدولة. أما العم "طويلة" فقد بدأ حياته موظفاً إدارياً بسيطاً في إحدى المدارس الثانوية بمحافظة "بني سويف"، والتحق بالحركة الشيوعية حيث تم اعتقاله عدة مرات مع الشيوعيين في الفترة الممتدة بين عام 1952 وعام 1964، إلا أنه سرعان ما أصبح بعد ذلك أحد أبرز رجال المال والأعمال واتسعت نشاطاته التجارية لتشمل مختلف المجالات بما في ذلك بيزنيس الصحافة والإعلام حيث كان قد أصبح كاتباً صحفياً وإعلامياً مرموقاً في عدة مؤسسات رسمية وشبه رسمية، غير عابئ بالاتهامات التي وجهها له بعض رجال الأعمال المتعثرين حول حصوله على دعم استثنائي من الجهات المعنية لتسهيل وتغطية أنشطته في بعض المجالات التجارية التي يكتنفها الغموض!!.


 
(6)
 
بعد قيام الدولة الجديدة عام 1952 وخلال وجودهما معاً بمحافظة "بني سويف" نجح العم "غانم" في إقناع العم "طويلة" بأن مصلحته تقتضي الالتحاق بالجهات المعنية والعمل معها، عبر استثمار علاقاته التنظيمية بالشيوعيين لصالحها لاسيما فيما يتعلق بتحويل مسار المميزين فيهم من داخل صفوف العمل السري الشيوعي إلى داخل صفوف العمل السري النظامي، بعد إقناع كل واحد منهم على حدا بتأييد الدولة الجديدة مستعيناً في ذلك بسيف المعز وذهبه. وبتوجيه مباشر من العم "غانم" أخذ العم "طويلة" يتحرك من خلية لأخرى ويتنقل من تنظيم لآخر لتسهيل عمليات التقاط واصطياد الرفاق الذين أرهقهم القهر والاضطهاد، بهدف تحويل مسارهم وإدخالهم "حظيرة الدولة"، حتى استطاعا معاً تحقيق  عدة نجاحات مشهودة لهما في مجال تحويل المسار. أما أبي "إسماعيل المهدوي" والذي كان قد تم فصله من عمله الأكاديمي بالجامعة المصرية على خلفية نشاطه الشيوعي وسابق اتهامه بازدراء الذات الملكية، فقد اضطر للعمل كمدرس فلسفة ومواد اجتماعية بالتعليم الثانوي. وبمجرد مجيء الدولة الجديدة عام 1952 تدخلت الجهات المعنية لنقله إلى إحدى مدارس "بني سويف" حيث وجد نفسه بين الثنائي "غانم" و"الطويلة" كقطعة اللحم بين شطري رغيف، ووقع الصدام الأول معه عندما رفض سعيهما لاستدراجه نحو "حظيرة" الدولة الجديدة مما ترتب عليه اعتقاله في سجن بني سويف العمومي، ليواجه كل أنواع الضغوط المعروفة مع استمرار سعيهما لإقناعه بالعدول عن رفضه خلال زيارات العم "طويلة" المتكررة له في السجن، تحت الإشراف المباشر للمأمور الذي لم يكن سوى "إبراهيم عزت"!!.
تعددت الصدامات وتنوعت بعد ذلك تاركة في الحلوق مرارات كثيرة، حتى وقع الصدام الأخير خلال تولي العم "غانم" لرئاسة مجلس إدارة دار التحرير ورئاسة تحرير جريدة الجمهورية في الفترة بين عام 1966 وعام 1971، حيث كان أبي "إسماعيل" قد تم تعيينه كصحفي بعد خروجه من معتقل "الواحات" الذي أمضى به خمسة أعوام، مع استمرار رفضه للاستدراج نحو "حظيرة الدولة" مؤثراً الحفاظ على استقلاليته بعد انتهاء الحلقة الثانية من الحركة الشيوعية بحل الحزب الشيوعي المصري لنفسه وتسريحه لأعضائه، مما تسبب في استمرار تعرض أبي "إسماعيل" للاضطهاد والمضايقات من قبل رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير العم "غانم" لدفعه نحو العدول عن رفضه، الأمر الذي دفعه للحصول على إجازة رسمية طويلة لاستكمال درجة الدكتوراه بموجب منحة أرسلتها له جامعة "السوربون" الفرنسية، ووافق العم "غانم" على الإجازة عام 1968 إلا أنه بمجرد سفر أبي "إسماعيل" إلى "باريس" حتى قام بإلغاء           الإجازة من جانب واحد دون إخطاره، ثم قام بفصله من العمل تأسيساً على عدم تنفيذه لقرار إلغاء الإجازة الذي لم يعلم به أصلاً، وذلك في إطار تجهيز مسرح العمليات للإيقاع بأبي "إسماعيل" في محنته التي         انتهت باختطافه من العاصمة الفرنسية وإعادته إلى مطار القاهرة في صندوق مغلق عام 1969، لتتسلمه الجهات المعنية تمهيداً لإيداعه داخل إحدى الغرف الانفرادية بمستشفى المجانين خلال الفترة بين عام 1970 وعام 1987، مع العلم بأن العم "طويلة" كان آنذاك في "باريس" يقوم بمهمة رسمية أما الجد "عزت" فكان يقضي أواخر أيام خدمته الشرطية بمطار القاهرة!!.
(7)
 
إزاء الرغبة العارمة للثنائي "غانم" و"الطويلة" في الإيقاع بيني وبين الجد "عزت" ليس فقط لمنعي من الإطلاع على تفاصيل مذكراته ولكن أيضاً لمنعه من الاستمرار في التعامل معي، فقد حاولا تحريض الجهات المعنية وعائلة "عزت" ضدنا دون جدوى فقررا خوض المعركة بنفسيهما مباشرة باستخدام أسلوبهما القديم لتقسيم العمل بين ما هو توجيهي يمارسه العم "غانم" وما هو ميداني يمارسه العم "طويلة"، الذي أصبح كثير التردد على أتيليه القاهرة حتى استطاع الانفراد بالجد "عزت" فاتفق معه على زيارته بمنزله في اليوم التالي، وبتكرار الزيارات تكررت محاولات العم "طويلة" للتفرقة بيننا مستخدماً كافة الفنون التقليدية والمستحدثة في هذا الصدد، كتحذير الجد "عزت" من اتصالات سرية مزعومة لي بالجهات المعنية يمكن أن تضره في أواخر أيامه، أو من احتمال قيامي بتوجيه الثأر الافتراضي نحوه انتقاماً لما سبق أن لاقاه أبي "إسماعيل" من تعذيب في بعض السجون التي كان هو مأموراً عليها، فحافظ الجد "عزت" على ابتسامته وهو يرد بقوله "إن شاء الله سيكون خيراً"، ولما ضاق العم "طويلة" بفشل محاولاته في إثارة مخاوف الرجل العجوز، انتقل إلى تهديده بأنه سوف يستخدم كل ما في وسعه لوقف تعامله معي حتى لو اقتضى الأمر دفع أحد أقربائه للحجر عليه وإيداعه مستشفى المجانين، فاصطحبه مضيفه إلى باب منزله وأمره بصرامة شرطية أن يخرج ولا يعود مجدداً، ثم أغلق خلفه الباب الخشبي بقوة أسفرت عن دوي اخترق أذناي وأنا في طريقي إليه قبل مشاهدتي للعم "طويلة" وهو يبتعد مسرعاً عن العمارة!!.
لم يستسلم العم "طويلة" ولكنه قام بتغيير اتجاه الدفة نحوي حيث اقترب مني وأخذ يمنحني الكثير من المغريات التي يصعب تصورها حتى في الأحلام الذهبية، مع تكراره لمناداتي باسم "تو" الذي طالما نوديتُ به خلال طفولتي للتدليل في إطار حرصه على التأثير النفسي بطمأنتي أنه كأحد الأعمام، وسرعان ما اتجه صوب هدفه محاولاً استثارة مشاعري السلبية ضد الجد "عزت" عبر إبلاغي تلميحاً ثم تصريحاً بأنه كان مسئولاً عما تعرض له أبي "إسماعيل" في المعتقلات التي كان يرأسها من تعذيب أثر سلباً على عقله وانعكس على حياته وحياتي بالسلب فيما بعد، وكان ردي عليه لا يتجاوز عبارة "اللي فات مات" أو عبارة "المسامح كريم" مع ابتسامة وداعة ورضا زادت من مخاوفه بشأن انتقام مفترض يراني سأذهب إليه حتماً، فغير الدفة مرة أخرى نحو أبي "إسماعيل" وبدأ يزوره بانتظام في غرفة احتجازه الانفرادي داخل مستشفى المجانين حاملاً إليه كل ما لذ وطاب من الممنوعات، ثم اتجه صوب هدفه ليبث في روعه أن معاملاتي مع اللواء "عزت" تأتي ضمن علاقاتي التآمرية بالجهات المعنية لتبرئة ذمتها من معاناته الشخصية. ووجدت الفكرة أصداء لها في دهاليز ذهن أبي "إسماعيل" المنحاز أصلاً للتفسيرات التآمرية، فشرع يطالبني بوقف معاملاتي مع الجد "عزت"، ولما رفضتُ طلبه بعد شرحي له بأنه قد تم خداعه وتضليله غضب مني وظل غاضباً حتى رحيله!!.


 
(8)
 
كان الثنائي "غانم" و"الطويلة" يؤمنان بالدولة الجديدة وبالدولة التالية عليها وبالدولة التي خلفتها، وكانا يسعيان لضم أبي "إسماعيل" إلى صفهما في أحضان الدول المتعاقبة ليفيد ويستفيد مثلهما، فلما رفض التجاوب معهما حاولا احتوائه عبر الاستعانة بالجهات المعنية التي كانت لم تزل تجري تجاربها الأولى لكيفية السيطرة على البشر، فاستخدمت تجاهه جرعة زائدة من العضلات لا طاقة لأحد بها حتى أفلت الأمر من أيدي الجميع وسقط أبي داخل أعماق بئر عطنة لا يشبهها شيء في التاريخ والجغرافيا، وقد طالني من سقوطه ما لا يقل عما طاله إن لم يكن يزيد، لذلك فقد كانت مشاعرهما مختلطة يتداخل فيها تأنيب الضمير مع الخشية من افتضاح أمرهما مع الفزع من انتقام مفترض أنني سأذهب إليه حتماً تجاههما، ولم يصدقاني في قولي بأن الوعي المر الذي أكسبتني إياه رحلتي الموجعة قد أطفأ داخلي غريزة الانتقام الشخصي لتحل محلها رغبتي في كشف مستور الخطايا على الملأ لعل مرتكبيها يتطهرون منها ولعل شاهديها يتبرأون منها، حيث اعتبر الثنائي "غانم" و"الطويلة" أن كشف مستورهما سيكون مقدمة لانتقامي منهما فألقيا بالورقة الأخيرة لعلها تمنع أو على الأقل تؤجل أية محاولة مستقبلية مني لكشف المستور اعتماداً على مذكرات الجد "عزت"!!.
قام العم "غانم" باستخدام التقارير الميدانية اليومية السابق رفعها إليه من العم "طويلة" حول الحكاية الحقيقية للشاب "طارق" واسم شهرته "تو" مع اللواء "عزت" لكتابة رواية أسماها "حكاية تو"، وسرعان ما نشرتها دار الهلال في ديسمبر 1987 ثم أصبحت بعد شهور قليلة فيلماً سينمائياً بنفس الاسم، ورغم ما اقتضته ضرورات الحبكة الدرامية من إضافة بعض التفاصيل الخيالية، إلا أن كاتب الحكاية المنشورة أبقى على العمود الفقري للحكاية الحقيقية دون تغيير مع إبقائه على الفكرة الرئيسية التي استبدت به وبكاتب التقارير الميدانية اليومية، وهي التحذير من الشاب "تو" الذي يدعى الرضا ويصطنع الوداعة حتى يتمكن من الانتقام لأبيه عبر عمليات ثأرية يصعب سلفاً معرفة مداها أو اتجاهاتها!!.
 
(9)
 
استخدمت الحكاية المنشورة لوصفي الاسم الذي طالما نوديتُ به خلال طفولتي وهو "تو" الذي أدى دوره في الفيلم السينمائي الفنان "محمود الجندي"، كما تناولت الحكاية المنشورة اللواء "عزت" تحت اسم اللواء "زهدي" الذي أدى دوره في الفيلم السينمائي الفنان "فريد شوقي"، وتم دمج شخصيتي العم "طويلة" راوي التقارير الميدانية والعم "غانم" راوي الحكاية المنشورة معاً في شخصية واحدة هي "الراوي" الذي أدى دوره في الفيلم الفنان "صلاح ذوالفقار"، كما تم دمج شخصيتي العمة "إنجي" والعمة "أمينة" معاً في شخصية واحدة هي "منيرة بيجو" التي أدت دورها في الفيلم الفنانة "شويكار"، مع استبدال الموقع الذي شهد البدايات الأولى للحكاية ليكون نادي "بريدج الإسكندرية" بدل نادي "أتيليه القاهرة"، ربما لأنني أنا وأبي "إسماعيل" كنا دائماً نفخر بانتمائنا الجغرافي إلى مدينة "الإسكندرية"!!.
ورغم الحضور الطاغي لأبي في الخلفيات المباشرة لكافة تفاصيل الحكاية المنشورة، فقد اكتفى الكاتب بوصفه عبر استخدامه لمعايير شكلية ومهنية وأسرية تشبهه كثيراً، كقوله بأنه: "كان رجلاً قصيراً ربعة له رأس ضخم... كان مدرساً للمواد الاجتماعية بالتعليم الثانوي... كان متزوجاً من مدرسة وأباً لثلاثة أولاد كلهم ذكور". مع وضع نقاط بدلاً من اسمه للتمويه، الأمر الذي رفضه فريق صناعة الفيلم السينمائي فحصلوا من الكاتب على الاسم الحقيقي للشخص المقصود أبي "إسماعيل عبد الحليم المهدوي"، ليستبدلوه من جانبهم باسم سينمائي يشبهه كثيراً هو "عبد الحميد المهدي" والذي أظهروه فقط في المشهد الختامي للفيلم!!.
 
(10)
 
خلال النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين توفى جميع الأبطال الحقيقيين للحكاية الأصلية تباعاً، وكان آخرهم هو الجد "عزت" الذي أوصى كتابةً بمنحي الصندوق الخشبي الصغير بما يحويه من أشرطة تسجيل الكاسيت مع ورقة موقعة منه بشهادة شاهدين من أصدقائه لتفويضي بنشر مذكراته الشخصية على النحو الذي أراه مناسباً، ولكن سرعان ما اختفى التفويض والوصية والصندوق بمحتوياته حيث تسلمتها الجهات المعنية من يد قريبه المحامي الفاسد الذي كوفئ لاحقاً بموقع صحفي بارز في صحيفة يومية معارضة، ليواصل مسيرة الثنائي "غانم" و"الطويلة"!!.
أما أنا فقد كان يكفيني لكشف بعض مستور الخطايا على الملأ تلك الحكايات الأصلية والحقيقية الوفيرة لبعض الجوارح والمجاريح في أدغالنا، المسماة من قبل الأكاديميين بالشأن المصري العام، وهي الحكايات التي سبق أن أسمعني إياها مباشرةً الجد اللواء "إبراهيم عزت" رحمة الله عليه وعليهم جميعاً بدون استثناء!!.
 
* * * * *
 


 
 
 
الشاعر صلاح عبد الصبور
 
(1)
 
في منتصف سبعينيات القرن العشرين حصلتُ على شهادة إتمام دراسة القسم الأدبي للثانوية العامة بمجموع درجات مرتفع جعلني ضمن العشرة الأوائل الذين تنهال عليهم عروض الجامعات العالمية. وكان من نصيبي أربع منح كاملة تسمح لي باستكمال دراستي في التخصص الذي يروق لي بإحدى الجامعات الأمريكية أو السوفيتية أو العراقية أو السعودية، على أن تتكفل حكومة الدولة التي سوف أختارها بكافة نفقات الدراسة والإقامة، وبتوفير بدائل وظيفية مرموقة لديها بمجرد إكمالي لدراستي الجامعية. إلا أنني كنت قد اتخذتُ أول قراراتي المصيرية بدراسة الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة تمهيداً لتأدية دوري الوطني بين صفوف الشعب المصري، فقمت بشراء الاستمارات اللازمة للالتحاق بالجامعة بعد استدانتي لقيمتها المالية من أصدقائي الذين جمعوها فيما بينهم، ثم جلستُ القرفصاء على الرصيف المجاور لمكتب التنسيق حتى انتهيت من تحريرها وتوقيعها، وبعد عدة محاولات فاشلة لاختراق الحشود الطلابية نجحتُ في الوصول أمام شباك المكتب حيث سلمتُ استماراتي لأحد الموظفين، والذي ما أن وقعت عيناه على مجموع درجاتي المرتفع حتى نصحني بإعادة مراجعة قراري لكيلا أندم لاحقاً بسبب إهداري لمستقبلي المهني في الجامعات المصرية التي وصفها بالتخلف والرداءة!!.
كانت "القاهرة" آنذاك تتميز عن بقية المدن المصرية بوسائل مواصلاتها العامة، كالأوتوبيس النهري الذي أوصلني من ميدان التحرير إلى كوبري الجامعة طفواً على سطح مياه النيل وكالتروللي الذي كان بطيء الحركة لدرجة ساعدتني على القفز داخله أثناء اجتيازه لمياه النيل عبر الكوبري متجهاً إلى أبواب جامعة القاهرة. ورغم أنه كان بمقدوري استخدام أوتوبيس النقل العام الأرضي العادي بتذكرة ركوب واحدة قيمتها خمسة مليمات للوصول إلى هدفي، إلا أنني آثرتُ دفع قيمة تذكرتين اثنتين لوسيلتي مواصلات حتى أحصل فيما بينهما على جرعة مكثفة من أحضان صديقي الدائم نهر النيل، الذي اعترفتُ في حضرته بكل مخاوفي وأحلامي الشخصية والمهنية والوطنية قبيل بداية يومي الدراسي الجامعي الأول. فوجئتُ بالغضب يعتري وجه صديقي حيث كانت أعماقه تفور لتدفع إلى السطح بأمواج هائجة تتلاطم بعنف مدوي مع المياه العفية الواردة بغزارة من الجنوب. عللتُ غضب النهر بحلول موسم الفيضان وشجعتُ نفسي بترديدي لعبارة "الله المستعان" عدة مرات خلال سيري نحو مبنى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وهناك كان كل شيء قد تم إعداده سلفاً لاستقبال المستجدين المائة الذين يتميزون بارتفاع درجاتهم الدراسية وطموحاتهم المهنية، إذ وقف بعض كبار رجال الدولة البارزين من أساتذتنا الجدد للترحيب بنا على درجات السلم الأمامي للكلية، أما على درجات السلم الجانبي البعيد فقد وقف رئيس اتحاد الطلاب يصرخ لتحذيرنا من المصير المؤسف الذي سنلقاه بسبب حصول الكسالى من أبناء المحاسيب على الوظائف المخصصة لنا مع أنهم يحملون مؤهلات أدنى مما نحمله، الأمر الذي سوف يدفعنا حتماً للقبول بما يتبقى من وظائف أدنى تقل كثيراً عن طموحاتنا. وسرعان ما اتجه المستجدون المائة نحو السلم البعيد للالتفاف حول الزعيم الطلابي تاركين خلفهم الأساتذة رغم كل ما بذلوه من جهد لجذب الانتباه!!.
 
(2)
 
لم يستسلم عميد الكلية الذي كان في الوقت ذاته أحد قيادات الحزب الحاكم ثم أصبح لاحقاً المسئول البرلماني الأول، واستمر في موقعه حتى تم اغتياله رمياً بالرصاص في عملية شديدة الغموض خلال عبوره شوارع وسط "القاهرة" تحت حماية موكب حراسته المدجج بأرقى أنواع التسليح، حيث حاول استعادة المبادرة بامتصاص صدمتنا المفاجئة ودعوتنا إلى لقاء فوري داخل المدرج الرئيسي للكلية، وبمجرد اعتلائه المنصة اعترف لنا بصحة المخاوف المتعلقة بمستقبلنا المهني كما جاء في تحذيرات رئيس اتحاد الطلاب، والذي أصبح لاحقاً دبلوماسياً مرموقاً بوزارة الخارجية واستمر في موقعه حتى تم إيفاده إلى إحدى بؤر التوتر العالمي مما أودى بحياته هناك. دافع العميد عن الميزات النسبية لأبناء المحاسيب بدعوى أن لديهم خبرات عملية مميزة بالوظائف التي يتقدمون لشغلها نظراً لسابق احتكاكهم اليومي بها بسبب مواقع أبائهم على رأس مؤسسات الدولة، وهو الدفاع الذي رفضه الزعيم الطلابي بدعوى أن استمرار واقع التوريث المهني يشكك في جدوى التعليم ويغلق الأبواب أمام الحراك الاجتماعي مما يخلق احتقاناً يهدد بالانفجار، ودارت مناقشات مستفيضة بين المنصة التي يشغلها أساتذة ينتمون لفئة المحاسيب وبين القاعة المكتظة بطلاب قلقين على مستقبلهم المهني، ولما أدرك العميد أن المناقشات تميل لصالح القاعة تفتق ذهنه عن مناورة مضادة بدعوته للطلاب الجدد إلى تقديم مقترحات محددة، كان يراهن على أن صغر السن وقلة التجارب مع المفاجأة سوف تعقد ألسنتنا مما يسهل عليه إغلاق الملف أو تعليقه تمهيداً للانتقال إلى جدول المحاضرات، فإذا بي أقف لأقترح منح الطلاب الاحتكاك اللازم لحصولهم على ما يفتقدونه من خبرات عملية عبر تدريبهم ميدانياً خلال أعوام الدراسة تحت إشراف الكلية داخل مؤسسات الدولة المختلفة ليتساووا بذلك مع أبناء المحاسيب، دون أن تفوتني الإشارة إلى نجاح كليات الطب في الأخذ بأسلوب التدريب العملي لطلابها داخل المستشفيات. صفق رئيس اتحاد الطلاب ومن خلفه القاعة ثم صفق العميد ومن خلفه المنصة ترحيباً بما اتفق الطرفان على اعتباره ميلاداً مبكراً لزعيم طلابي جديد!!.
بدأ التنفيذ الفوري لاقتراحي برفع جدول المحاضرات النظرية لتعديله بحيث يتم تخصيص يوم كامل من كل أسبوع يحصل فيه الطلاب على فرصة التدريب العملي داخل أروقة إحدى مؤسسات الدولة وفقاً لما يختاره كل طالب لنفسه. وكان اليوم الأول مفتوحاً لزيارة جميع المؤسسات التي شملت فيما شملته رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ومجلس الشعب ومجلس الدفاع الوطني ووزارة الخارجية ووزارة الإعلام وغيرها. لم يعجبني معظم موظفي تلك المؤسسات لكونهم يتسمون إما بالغموض والانغلاق والتجهم أو بالمراوغة والفهلوة والانتهازية باستثناء الهيئة العامة للاستعلامات بوزارة الإعلام والتي وقع عليها اختياري لتدريبي العملي الميداني، لاسيما وأن رئيسها الذي كان ينتمي إلى إحدى العائلات ذات الإسهامات الثقافية المميزة قد فتح مكتبه طوال اليوم للطلاب المتدربين لنتابع عن قرب تفاصيل الأنشطة التقليدية وغير التقليدية التي تتولاها الهيئة، وعلى رأسها إدارة العلاقات العامة الرسمية والمجتمعية مع التنسيق الرأسي والأفقي داخلياً وخارجياً، والاتصال المستديم والمباشر بكل المعنيين بكافة الشئون العامة والذين تمدهم الهيئة في زمن قياسي باحتياجاتهم من المعلومات والأفكار والبدائل المختلفة لحل المشكلات المستعصية عليهم، إلى جانب أنشطة الدبلوماسية الشعبية عبر مكاتب الهيئة التي كانت تنتشر في أربعة أركان الأرض لتغزل بمهارات استثنائية حبال الوصل الودي بين الشعب المصري وشعوب العالم الأخرى، بمن فيهم الهنود حيث كان يرأس المكتب الإعلامي المصري هناك آنذاك الشاعر "صلاح عبد الصبور"، وقد تصادف أنني التقيته عدة               مرات خلال تدريبي بديوان الهيئة بينما كان يقضي إجازاته السنوية             في "القاهرة". وفي إحدى المرات وجهتُ له السؤال الذي يؤرقني حول      موقع المثقف من السلطة وواجباته إذا التحق بها تجاه وطنه                وشعبه فاستوضح مني بذكاء عما إذا كانت إجابة السؤال إجبارية أم اختيارية، ولما أوضحتُ له أن السؤال إجباري بالنسبة لي بينما الإجابة اختيارية بالنسبة له وجد لنفسه مخرجاً دبلوماسياً ليتهرب من إجابة سؤالي!!.


 
 (3)
 
لأنني كنت أحفظ عن ظهر قلب أشعار "صلاح عبد الصبور" المنشورة في دواوينه ومسرحياته، فإن تهربه من إجابة سؤالي حول علاقة المثقف بالسلطة أثار في ذهني عدة أسئلة جديدة أخذت تتصاعد لتفور كالماء الهائج ثم تتلاطم فيما بينها ليل نهار كأمواج موسم الفيضان... هل موقعك داخل السلطة يا شاعر هو الذي وصفه ديوانك "تأملات في زمن جريح" بأنه يأتي عند آخر الممر بدون اسم ولا سيف واقفاً خلف مهرج البلاط والمؤرخ الرسمي والعراف بعد أن استأجرك السلطان بالقطعة مقابل إعارته إياك بعض أثوابه المذهبة... أم إنك ما زلت تحاول وأنت في موقعك داخل السلطة يا شاعر أن تحكي للسلطان حقيقة الذي كان مع إضافة بعض الألوان كما جاء في مسرحيتك "بعد أن يموت الملك"... ولعلك قد أصبحت يا شاعر مهزوماً مزهواً بهزيمتك حسب اعترافاتك في ديوانك "أحلام الفارس القديم"... وكيف التحقت بالسلطة يا شاعر في الزمن الذي وصفه ديوانك "أقول لكم" بأنه زمن الحق الضائع الذي لا يعرف فيه المقتول من قاتله ومتى قتله... وقالت عنه مسرحيتك "ليلى والمجنون" إنه زمن مفقود بين زمنين ينتظر القادم لا يصلح أن نكتب أو نتأمل أو نتغنى أو حتى نوجد فيه... هل استعبدوك ليرغموك بالقوة القهرية على العمل في صفوفهم كأسرى الحرب يا شاعر استناداً إلى مخاوفك المعلنة في مسرحيتك "مسافر ليل" بقولك "ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ في يده خنجر وأنا أعزل"... أم استدرجوك بإغراءات الحياة المباشرة يا شاعر استناداً إلى تلميحاتك المكشوفة بديوانك "الناس في بلادي" حول مدى فرحتك بالحياة لو قالت لك "الملك لك، الملك لك، الملك لك"!!.
اندفعتُ في كافة الاتجاهات بحثاً عن إجابات لأسئلتي المحيرة حتى أنني كشفتُ حيرتي لرئيس قسم العلوم السياسية المكلف بمتابعة تدريبي الميداني، والذي تم العثور لاحقاً على جثته مقتولاً بسم غامض داخل شقته الواقعة في ميدان الجيزة عقب انتهاء الأجهزة المعنية من الاستعانة به لتأدية بعض المهام بالغة السرية. أفادني رئيس القسم بأن الإجابات على الأسئلة ذات الطابع الشمولي كأسئلتي توجد فقط في دواخل منظومتي الفلسفة العقائدية الدينية والماركسية، مكلفاً إياي بعرض ما أتوصل إليه من نتائج على زملائي الطلاب في الجلسة التالية لقاعة الأبحاث الحرة. وسرعان ما وجدتُ ضالتي ضمن قاعدة "الوحدة والصراع" المشتقة من فرع التنظيم بالفلسفة الماركسية، والتي تشرح كيفية استمرار علاقة الانسجام الإيجابي بين حرية الفرد والتزامه بالمؤسسة التي ينتمي إليها حتى لو كانت تسودها أفكار مخالفة لأفكاره الخاصة، فهو يستطيع التعبير عن نفسه بحرية مطلقة عندما يتحدث بصفته الشخصية، أما إذا كان حديثه باسم المؤسسة أو بصفته أحد المنتمين إليها فإنه يلتزم بالقاسم المشترك لمجمل أعضاء المؤسسة أو بالقواسم المشتركة للمجتمع كله لو كانت مؤسسته ذات طابع وطني عام، دون أن يفقد حريته في التعبير عن نفسه عندما يعاود الحديث بصفته الشخصية. ورغم التشدد الفكري المصاحب لمرحلتي العمرية آنذاك فإنني لم أكره التحاق الشاعر "صلاح عبد الصبور" بإحدى مؤسسات السلطة، بل على العكس أحببت الهيئة العامة للاستعلامات مجدداً لقدرتها على احتوائه بين ضلوعها التي اكتشفتُ فيما بعد أنها ضمت غيره من المثقفين ذوى الأفكار المستقلة التي تتسم بالعمق والانفتاح والجرأة لتميزهم عن قطعان الموظفين الآخرين بأفكارهم النمطية، حتى أن حبي للهيئة ظل يلازمني إلى يومنا هذا مع أنها لم تبادلني حباً بحب إلا قليلاً!!.
 
(4)
 
شهد عام 1977 زيارة رئيس الجمهورية إلى "إسرائيل" ثم قيامه باستقبال رئيس الوزراء الإسرائيلي على أرض "مصر"، وشهد عام 1978 توقيع اتفاقيتي "كامب ديفيد" للسلام بين الدولتين، وتم تتويج المسيرة عام 1979 بإبرام معاهدة الصلح المصرية – الإسرائيلية والتي نصت على تبادل السفارات مع تطبيع العلاقات في كافة المجالات الرسمية والشعبية. وبينما أوفت السلطات المصرية بالتزاماتها الرسمية تجاه "إسرائيل" على مضض فإنه لم تكن هناك أية قوة تستطيع دفع المصريين نحو التطبيع مع أعدائهم التاريخيين في أي مجال شعبي، مما حذا بالسلطات الإسرائيلية لإرسال عدة تشكيلات متتالية من الكوادر البشرية عالية التدريب الاستخباراتي لاختراق مختلف قواعد الشعب المصري بهدف تحريكها في كل الاتجاهات التي تؤدي إلى القبول بتطبيع العلاقات على المستويات الشعبية، الأمر الذي أغضب الأحزاب والقوى السياسية المصرية بدون استثناء فتداعوا مع بداية عام 1980 لتشكيل لجنة مشتركة هي الأولى من نوعها في العصر الحديث تحت اسم "اللجنة القومية لمقاومة التطبيع"، والتي تطورت لاحقاً إلى فرعين أحدهما للدفاع عن الاقتصاد القومي والآخر للدفاع عن الثقافة القومية. كلف الاجتماع التأسيسي سياسياً مخضرماً برئاسة اللجنة مع بعض المخضرمين الآخرين الذين يمثلون مختلف ألوان الطيف السياسي كنواب له، أما أنا والذي كنت ممثلاً للطلاب فقد اختارني المجتمعون بإجماع أصواتهم في موقع أمين عام اللجنة القومية لمقاومة التطبيع. وسرعان ما شرعنا في وضع وتنفيذ الخطط المضادة لأنشطة التشكيلات البشرية الإسرائيلية حيث حققنا نجاحاً مشهوداً في إحباط الغالبية العظمى من عملياتهم الرامية لاختراق قواعد الشعب المصري، حتى وصلتني إفادة في بداية عام 1981 بأن معرض القاهرة الدولي للكتاب والمقرر افتتاح دورته التالية بعد أيام قلائل ليحج إليه المثقفون والمتذوقون والجمهور المصري من كل صوب، سوف يضم بين جنباته جناحاً إسرائيلياً، فأجريت اتصالات عاجلة برئيس اللجنة ونوابه ليكلفونني جميعهم بتدبير أمر "المقاومة" وفقاً لما أراه مناسباً بسبب ضيق الوقت المتبقي قبل موعد الافتتاح!!.
كان الشاعر "صلاح عبد الصبور" قد تولى رئاسة الهيئة العامة للكتاب في أعقاب عودته إلى ديوان الهيئة العامة للاستعلامات بعد انتهاء مهمته الدبلوماسية الشعبية في "الهند" بنجاح، رغم كراهية ذلك من قبل خصومه وبعض أبناء كاره ذوى النفوذ المؤثر داخل الأوساط الثقافية على خلفية أنه من الأجدر له رئاسة هيئة الاستعلامات لتخلو لهم هم رئاسة هيئة الكتاب، لاسيما وأن رئيس الاستعلامات كان قد استقال لتوه تحاشياً لضغوط رامية إلى توريط هيئته في أنشطة تخالف أهدافها الوطنية. وبمجرد تولي "عبد الصبور" لموقعه الجديد على رأس هيئة الكتاب أصبح بالتبعية رئيساً لمعرض القاهرة الدولي للكتاب والذي تقرر أن يضم بين جنباته للمرة الأولى جناحاً للإسرائيليين، أولئك الذين سبق أن وصفهم هو نفسه على صفحات ديوانه "الناس في بلادي" بأنهم التتار الذين أسقونا مرارة الانكسار متوعداً إياهم بالقتل انتقاماً للإخوان الذين استشهدوا بلا أكفان... فإذا بالشاعر يفاجئ الجميع ويضع توقيعاته اللازمة للترحيب بالجناح الإسرائيلي مستخدماً نفس قلمه الذي كتب به شعره الكاره لهم، دون أن يتعظ بالتجارب السابقة لبعض المسئولين الآخرين الذين تحاشوا السقوط في إحراج تاريخي أقل من ذلك بتركهم لمناصبهم الرسمية التي لا تقل أهمية عن منصبه، ربما رضوخاً منه لضغوط الجهات المعنية والتي كانت بدورها قد رضخت للضغط الخارجي رغم ما تقتضيه مسئولياتها من مقاومته، مدفوعاً في ذلك بنوازع النفس البشرية الأمارة بالسوء والتي شبهتها مسرحيته "الأميرة تنتظر" بالدودة الزاحفة بعيداً عن أغصان الشجر الميتة لتلتصق بالأغصان المولودة النابتة... أو لعله اعتبر نفسه قد خدع التاريخ بتسريبه الخبر لي بصفتي أمين عام اللجنة القومية لمقاومة التطبيع قبل أيام قلائل من حدوثه، مدفوعاً في ذلك بمكر الإنسان تجاه التاريخ كما جاء في ديوانه "مسافر ليل" بأن الإنسان يكتب التاريخ في أوراق ليأكلها ثم يعيد كتابته مرة أخرى في أوراق جديدة لكي يأكلها فيما بعد!!.
(5)
 
أتم كل فريق استعداداته الخاصة للخروج من الحدث المنتظر بأقل الخسائر إن لم يكن بأكثر المكاسب المتاحة، حيث أرسل الإسرائيليون أفضل ما لديهم من كتب ومطبوعات وملصقات دعائية وشرائط تسجيل كاسيت وأدوات مكتبية لتوزيعها مجاناً على زوار المعرض بواسطة تشكيلاتهم البشرية التي ضمت وحدتين اثنتين، الأولى لمهندسين وفنيين خبراء بفنون الإبهار التقني والمؤثرات السمعية والبصرية والأخرى لدبلوماسيين وموظفين محترفين في مجالات العلاقات العامة والخاصة وتوجيه الرأي العام. بينما أكملت الجهات المعنية من جانبها تركيب أجهزة المراقبة الصوتية والمرئية الخفية داخل الجناح الإسرائيلي وعلى امتداد كل الممرات المؤدية منه وإليه، كما وزعت كوادر الحراسات الخاصة والخدمات السرية في المواقع المنتقاة حول الجناح إلى جانب قوات التدخل السريع المختصة بفض التجمعات والتي وقف أفرادها على أهبة الاستعداد في دائرة أوسع محيطة بالجناح. أما خصوم "صلاح عبد الصبور" الأقوياء من أبناء كاره فقد اتصلوا بكل الصحف ووكالات الأنباء ووسائل الإعلام المحلية والإقليمية والعالمية، داعين إياهم للحضور وتسجيل حادثة سقوط الشاعر الوطني في هاوية الخيانة الوطنية بسبب حرصه على منصبه الرسمي. الأمر الذي حاول "عبد الصبور" تفويته على خصومه بوضع خطة للغياب من ميدان المعركة عبر ادعاء المرض الذي سيحول دون مشاركته في مراسم افتتاح المعرض بما تقتضيه من مصافحته للإسرائيليين. وأخيراً بالنسبة لي أنا فقد قمت بإبلاغ أعضاء اللجنة القومية لمقاومة التطبيع للحضور بصحبة أكبر عدد ممكن من الأصدقاء والجمهور لنعلن على الملأ موقفنا الشعبي الحاسم برفض الخطط الإسرائيلية لاختراق مؤسساتنا الثقافية، حتى لو كان موقف المعنيين بذلك يتسم بالرضوخ الذليل أو الهروب المهين!!.
التقطت الجهات المعنية كل الذين طالتهم أياديها الأخطبوطية من المعارضين فجر يوم افتتاح المعرض لتزج بهم في منازعات جانبية متعددة أسفرت عن تعطيلهم إلى ما بعد انتهاء مراسم الافتتاح، أما الذين أفلتوا من حملة الفجر فقد التقطهم كوادر الحراسات الخاصة والخدمات السرية قبل وصولهم إلى الأبواب الخارجية لأرض المعارض، حيث نقلوهم بواسطة سيارات الترحيلات إلى شتات الصحارى النائية بعيداً عن الحيز العمراني بعشرات الأميال مما حال دون عودتهم قبل انتهاء مراسم الافتتاح. بينما أوصلتني خطتي بصحبة أصدقائي الخمسة إلى قلب المعركة في الوقت المناسب، عبر اتخاذنا لوضع الثنائيات الغرامية الملتهبة كتمويه مع تحركنا وسط رحلة جامعية كساتر لاسيما وأننا كنا ثلاثة شباب وثلاث صبايا نرتدي أزياء "الخنافس". وبمجرد وصولنا كان علينا الاختيار الفوري بين إلغاء المهمة بسبب الغياب القسري لمعظم رموز المعارضة وأعضاء اللجنة أو قيامنا نحن الستة فقط بتنفيذها على أمل أن يدعمنا زوار المعرض بحسهم الوطني الغريزي، فكانت النتيجة لصالح التنفيذ. اتخذتُ موقعي على رأس المثلث المتحرك صوب الجناح الإسرائيلي حتى استوقفني فتى فاجر وفتاة رقيعة لإهدائي طاقم أقلام داخل علبة ذهبية فخمة، عليها شعار أشهر الشركات العالمية في إنتاج الأدوات المكتبية وبجواره نجمة داوود السداسية، فوجدتُني مدفوعاً بقوة خمسين ألف شهيد مصري لإلقاء الهدية في وجهيهما وأنا أصيح لتنبيه المحيطين إلى حقيقة تلك الهدايا الملوثة بدماء أهالينا الشهداء، مع الإشارة لوجود العلم الإسرائيلي متصدراً أعلى الجناح بصفاقة وكأنه يتبول فوق رؤوسنا!!.


 
(6)
 
حدث هرج ومرج عفوي تكفلنا نحن الستة بتنظيمه، حيث حملني الزميلان على أكتافهما لإنزال نجمة داوود إلى الأرض ووضع علمين متعانقين لمصر وفلسطين بدلاً منها، وأبقاني الزميلان فوق أكتافهما لأدعو الجمهور المحيط بنا إلى رفع صوته بالاحتجاج على احتلال الجناح الإسرائيلي لقطعة من أرض المعارض بجزيرة الزمالك في قلب "القاهرة"، بينما لم يزل احتلال الجيش الإسرائيلي لقطعة من أرض "مصر" الشرقية بجزيرة سيناء، وصرخت الزميلات الثلاث بأعلى ما لديهن من طبقات صوتية للاستغاثة بزوار المعرض الآخرين فهرول إلينا المئات من الجمهور البعيد وقد أغضبتهم مفاجأة وجود الإسرائيليين بينهم. داست الحشود المهرولة بأقدامها الغاضبة نجمة داوود وهداياها المجانية ثم سرعان ما أمسكوا بالعلم الإسرائيلي لتمزيقه إرباً قبل إشعال النيران فيه، بينما الحناجر تهتف باللهجة العامية المصرية لتردد شعارات تؤكد الإجماع الوطني على كراهية إسرائيل، حيث هتف الليبراليون قائلين "دم إخواننا للحرية موش لثقافة إسرائيلية"، بينما هتف القوميون بقولهم "دم إخواننا للتحرير موش لثقافة جولدا مائير"، أما الماركسيون فقالوا "دم إخواننا الفلاحين موش لثقافتك يا بيجين"، وتعمد الإسلاميون تقصير صلاتهم ليلحقوا بنا وهم يقولون "دم إخواننا بأمر الله موش لثقافة الهاجاناه"!!.
حددت الجهات المعنية هوياتنا نحن الستة على وجه السرعة واعتبرتني قائد المجموعة، ثم شرعت في إخلاء الموقع بفض التجمهر مع الحيلولة دون إصابة الإسرائيليين ومنعنا من التسرب وسط الجمهور العادي، فأغلقت الأبواب الداخلية والخارجية بعد توزيع صورنا الفوتوغرافية هنا وهناك لمنع مغادرتنا، ثم أرسلت عدة تشكيلات من كوادر القوات الخاصة مفتولي العضلات لاختراق ميدان المعركة، تكفل بعضهم بتأمين سلامة انسحاب الإسرائيليين، وقام الآخرون بشل حركتنا نحن الستة عبر الالتفاف الكامل واللصيق حول كل واحد فينا مع التصريح لهم باستخدام العصي المكهربة والسوائل المخدرة عند مقاومتنا لسياجاتهم البشرية، وكان نصيبي بمجرد اشتباكي معهم للفكاك من أسرهم الغليظ هو شحنة كهربائية مكثفة ما زالت بقاياها ترفض مغادرة عظامي حتى الآن. في نفس الوقت الذي انتشرت فيه جحافل قوات التدخل السريع المدربة لفض حشود المحتجين الغاضبين من الجمهور العادي بالهراوات الغليظة وخراطيم المياه وقنابل الغازات المسيلة للدموع والمثيرة للأعصاب، حتى نجحوا في إخلاء مسرح الأحداث من الجميع باستثنائنا نحن الستة فتم تكبيلنا تمهيداً لإيداعنا داخل سيارتي ترحيلات كانتا تنتظران خارج المبنى، لتحمل إحداهما أصدقائي الخمسة معاً في رحلة معروفة إلى الأماكن المخصصة لتأديب المشاغبين، أما السيارة الأخرى فقد تقرر أن تحملني بمفردي في رحلة غامضة إلى مكان مجهول ليس فقط بصفتي قائد المجموعة ولكن أيضاً لإقدامي على الاشتباك مع كوادر القوات الخاصة، لولا الظهور المفاجئ للشاعر "صلاح عبد الصبور" رئيس هيئة الكتاب ورئيس المعرض والذي أربك بظهوره كل الأطراف!!.
 
(7)
 
أصدر "صلاح عبد الصبور" تعليماته الفورية لمرؤوسيه من موظفي أمن الهيئة والمعرض ذوى البنيان الجسماني القوى بالتدخل المباشر في المعركة لمنع ترحيلنا خارج المبنى، فقاموا بوضع السلاسل الحديدية لإغلاق الأبواب بالأقفال بعد أن كان قد سبق إغلاقها بالمفاتيح بواسطة قائد المجموعة الميدانية للجهات المعنية ومساعديه، والذين أصبحوا في وضع المحتجَزين معنا بدلاً من وضعهم السابق كمحتجِزين لنا، الأمر الذي أسهم في تدعيم موقف "عبد الصبور" التفاوضي حيث أقنعهم بأن نبقى جميعاً داخل المبنى المغلق لحين قيامه بإجراء الاتصالات السياسية اللازمة لتسوية الأزمة على نحو يرضي كل الأطراف، بمن فيهم مجموعتنا حيث حرص الشاعر على فك قيودنا باعتبارنا شباب وطني استفزتهم رؤية العلم الإسرائيلي أمامهم وجهاً لوجه في "القاهرة"، وتعمد "عبد الصبور" إسماعنا دفاعه عن نفسه خلال حواراته الهاتفية مع كبار قادة الدولة، مشيراً إلى أن الجهات المعنية هي التي فرضت عليه استضافة الجناح الإسرائيلي في المعرض رغم رفضه لذلك مما اضطره للتوقيع القهري بالموافقة وانسحابه من مراسم الافتتاح بادعاء المرض. أدرك الشاعر أننا حبل نجاته الوحيد لتحسين صورته الشخصية التي تلوثت ولانتشاله خارج المأزق المهني والوطني الذي فاق كل توقعاته بعد أن أوقع نفسه فيه، فحرص على التودد إلينا وقدم لنا عصير الليمون بيديه وهو يربت على أكتافنا داعياً إيانا للاطمئنان بقرب نجاح مساعيه في ضمان عدم تعرضنا لأية عقوبات حالية أو مستقبلية بسبب أحداث المعرض، ومؤكداً إن ما كنت أنا قد لقيتُه في ذلك اليوم من ضرب بالعصي المكهربة يكفيني كعقوبة يصعب نسيانها حتى آخر العمر!!.
في تلك الأثناء كان المحتشدون خارج المبنى يزدادون عدداً حتى تجاوزوا العشرة آلاف متظاهر يطالبون بإطلاق سراح الطلاب المحتجزين في الداخل، من قبل الجهات المعنية كما أشار بعضهم ومن قبل الإسرائيليين كما ألمح البعض الآخر، أما خصوم الشاعر "صلاح عبد الصبور" فقد أطلقوا إشاعة مفادها إننا محتجزون بأوامره الشخصية في إطار تبعيته لإسرائيل وعمالته للجهات المعنية، وراحوا يكيلون له الاتهامات والإهانات والشتائم دفاعاً عن مجموعتنا رغم أننا نحن المجني عليهم المفترضون كانت لنا رؤية أخرى. لم تفت في عضدي مناورات "عبد الصبور" لاحتوائي أنا وأصدقائي الخمسة بهدف استخدامنا في تحسين صورته وانتشاله من مأزقه، كما لم تفت في عضدي إشاعات خصومه المتطلعين نحو إزاحته عن رئاسة هيئة الكتاب بهدف إخلاء الموقع لأنفسهم، حيث رأيته مثقفاً بائساً خالف ضميره الشعري وتاريخه الوطني بنفسه مرتين، أولاهما عندما وافق على أن يحتويه السلطان بين أعمدة حكمه، ولعله قد انطلى عليه الخداع رغم أنه هو نفسه صاحب مسرحية "الأميرة تنتظر" التي سخر فيها من الأحلام وقد خدعتنا وانخدعت فينا حتى أصبحنا نتشبث بحبال الحياة المبتوتة... أما المرة الثانية فعندما أحجم عن الانسحاب الواجب حفاظاً على بقايا ضميره بعيداً عن أعمدة الحكم التي اعتراها العفن، ربما بدافع الطمع في المزيد من الهبات السلطانية رغم أنه هو نفسه صاحب ديوان "مسافر ليل" الذي سخر فيه من النهاية المأساوية لأحد أتباع السلطان والذي طمع في قطعة أرض فوهبه السلطان الأرض بأكملها كي يرقد فيها!!.
 
(8)
 
مع الازدياد المتتالي لأعداد الحشود الجماهيرية الغاضبة المتدفقة من كل صوب لتحيط بالمبنى الرئيسي في معرض الكتاب، وإزاء نقل الأحداث عبر أثير إذاعات الدول العربية التي كانت آنذاك تسمى بمجموعة "الصمود والتصدي"، فقد اتسع نطاق الأزمة وارتفع سقفها بما يفوق قدرات أطرافها المباشرة، الأمر الذي استدعى تدخل القيادة السياسية لوضع خريطة طريق تكفل التسوية بأقل خسائر ممكنة، وهو ما تحقق بالفعل قبل نهاية اليوم. حيث صدرت عدة قرارات هامة أحدها فقط هو المعلن بإغلاق الجناح الإسرائيلي في معرض الكتاب نزولاً عند رغبة الجماهير المصرية مع عدم إشراك إسرائيل في أية مناسبة ثقافية مستقبلية، وهو القرار الذي لم يزل سارياً حتى اليوم رغم النجاح الإسرائيلي في اختراق معظم مؤسساتنا ومناسباتنا الأخرى، أما القرارات السرية الأخرى فقد تضمنت نقل أرض المعارض من وسط "القاهرة" إلى ضاحية مدينة نصر التي كانت آنذاك إحدى المناطق النائية، ومنع الجمهور العادي من زيارة المعرض خلال يوم الافتتاح بقصر الدخول فيه على الرسميين فقط، مع تسليم الجهات المعنية مهمة الإشراف على أمن المعرض من ألفها إلى يائها دون أدنى مشاركة لأمن هيئة الكتاب صاحبة المعرض. بينما تم اتخاذ وتنفيذ قرار إطلاق سراحنا لمجرد استخدامنا في تهدئة حشود الجماهير الغاضبة حتى يمكن تفرقتهم بعيداً عن أرض المعارض، ذلك أن عودتنا إلى منازلنا كانت مشروطة بمرورنا عبر المتظاهرين لطمأنتهم بسلامتنا، كما أن تلك السلامة لم تستمر سوى لبضعة شهور رغم وعود "صلاح عبد الصبور" حيث انفردت الجهات المعنية بي لاحقاً لاعتقالي بتهمة إنشاء تنظيم سياسي اسمه "اللجنة القومية لمقاومة التطبيع" دون الحصول على ترخيص بذلك، ثم اصطادت كل واحد من أصدقائي الخمسة على حدا لتوضيبه حسب ظروفه!!.
كان الشاعر "صلاح عبد الصبور" قد تحاشى قبل عدة أعوام إجابة سؤالي حول موقع المثقف من السلطة وواجباته إذا التحق بها تجاه وطنه وشعبه، لكيلا يعترف بفشله في الجمع بين متناقضين لا يجتمعان، حيث يعني استمرار كتابته للشعر عدم صلاحيته لقيادة إحدى مؤسسات دولة السبعينيات في حين يتطلب استمرار قيادته للمؤسسة ترويضه لمارد الشعر داخل نفسه ولكنه أراد السير على الحبلين معاًً، بإبقائه على ولعه بكلمات شعره التي وصفها في ديوانه "أقول لكم" بقوله "عاشت لتهدهدني، لأفر إليها من صخب الأيام المضني"... وإبقائه في الوقت ذاته على ولعه بالقوة الناجمة عن انتمائه للسلطة كما جاء في مسرحيته "مأساة الحلاج" التي كشفت نواياه وهو ينادي قائلاً "من لي بالسيف المبصر؟ من لي بالسيف المبصر؟"... وها هو يحاول مرة أخرى خلال أحداث معرض الكتاب أن يتحاشى الاعتراف بفشله الذي أوقعه بين فكي كماشة الأوساط الرسمية من ناحية والأوساط الثقافية من الناحية المقابلة، في ظل بورصة الاتهامات والإهانات والشتائم التي زايد عليه فيها المزايدون من الناحيتين بلا هوادة. حتى كان يوماً تالياً على أحداث المعرض بستة أشهر عندما تم استدعاؤه صباحاً لمقر الجهات المعنية، حيث اتهمته القيادة هناك بالانحياز للمثقفين المشاغبين مما تجلى في رعونة إدارته لأزمة المعرض الأمر الذي ألحق أضراراً بالغة بهيبة الجهات المعنية، وفي المساء كان يتوسط أحد مجالس المثقفين، الذين أجمعوا على اتهامه بخيانة الوطن والتبعية لإسرائيل والعمالة للجهات المعنية مما تجلى في سماحه باستخدام القوة المفرطة ضدنا وباعتقالنا نحن الستة على خلفية مقاومتنا للتطبيع مع إسرائيل. لم يتحمل قلب الشاعر تجريحه مرتين متتاليتين في ذات اليوم عقب جلده بقسوة معنوية شديدة هنا وهناك، فأخذ يردد بصوت مسموع ما سبق أن أوردته مسرحيته "الأميرة تنتظر" من قوله "يكفيني في اليوم الواحد جرح واحد" ثم أسلم روحه لبارئها، بعد أن كشفت أحداث معرض الكتاب بتداعياتها أن سؤالي حول موقع المثقف من السلطة وواجباته إذا التحق بها تجاه وطنه وشعبه، والذي كان "صلاح عبد الصبور" قد وجد لنفسه فيما سبق مخرجاً دبلوماسياً ليتهرب من إجابته، هو ليس بسؤال اختياري أو إجباري لكنه أحد الأسئلة الفاصلة بين حدود الحياة والموت!!.
 
* * * * *



 
 
 
الأكاديمي حامد ربيع
 
(1)
 
خلال النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين كانت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة تقبل عدداً محدوداً من الطلاب المتفوقين، لتوزعهم حسب رغباتهم منذ السنة الدراسية الأولى على أقسام الكلية الأربعة وهي الاقتصاد والإحصاء والإدارة العامة إلى جانب قسم العلوم السياسية المعروف باسم "مدرسة المشاغبين"، والذي يرأسه الأستاذ الدكتور حامد ربيع المتخصص في مجموعة مواد العلوم السلوكية الأكثر أهمية على الصعيد الدراسي، باعتبارها تجمع بين علم النفس الاجتماعي وعلم الاجتماع السياسي وفنون الاتصال والإعلام ومهارات التواصل الدبلوماسي الرسمي والشعبي وقواعد قياس الرأي العام الداخلي والخارجي، لاسيما وأن اختياراته لنماذجه التطبيقية كانت تأتي دائماً مواكبة لمستجدات الأحداث المحلية كانتفاضة يناير 1977 والأحداث الإقليمية كالتسوية السلمية المجحفة لصراع الشرق الأوسط والأحداث العالمية كحروب أفغانستان المتداخلة والمتتالية. وكان الدكتور ربيع حريصاً على تدريس العلوم السلوكية بنفسه لطلاب السنوات الدراسية الأربع في كليتنا المجانية بذات مستوى تدريسه لها في المعاهد الإستراتيجية المخصصة لتثقيف قادة الدولة سياسياً، وهي المعاهد التي تم انتدابه إليها نظراً لتميزه الأكاديمي دوناً عن زملائه أساتذة الكلية المتطلعين لذلك على مظنة أن تبعيتهم للجهات المعنية تمنحهم الأولوية في الانتداب، الأمر الذي أغضبهم وأثار حقدهم تجاهه فراحوا يكيدون له على كافة  المستويات بما فيها إشاعة كل ما يسيء إليه داخل الأوساط الطلابية، ولعل هجومهم الظالم ضده هو الذي دفعني لاختياره تحديداً كمشرف مباشر على دراستي خلال سنوات الكلية الأربع لمادتين اثنتين هما الأبحاث السياسية النظرية والتدريب السياسي الميداني، وبالإضافة إلى عدد محدود من الطالبات فقد انضم لي في اختياره ثلاثة طلاب آخرين هم الكابتن "أشرف" والرفيق "جمال" والأخ "محمود" مما عرضنا لسخرية خصومه من الأساتذة الحاقدين حتى أنهم أطلقوا علينا نحن الأربعة اسم "أولاد ربيع"!!.
كان الكابتن أشرف سباحاً متميزاً وكغيره من شباب النوادي فقد توزعت اهتماماته بين المسابقات الرياضية والحفلات الترفيهية والرحلات الشاطئية وما شابه، إلى أن دق قلبه لإحدى عضوات فريق الجمباز الجامعي فأولاها تركيزه ونشأت بينهما قصة حب عذري ناعم، تم تتويجه عقب تخرجنا بحفل زواج تقليدي على نغمات مشاهير الفنانين في كازينو "حديقة الميريلاند" تمهيداً لزفافهما بشقة الزوجية المختارة قرب منازل العائلتين المتجاورة بضاحية "مصر الجديدة". أما الرفيق جمال ابن ضاحية "حلوان" فقد كان شيوعياً تروتسكياً مشغولاً بالثورة الدائمة للبروليتاريا الأممية ضد الإمبريالية العالمية، غير عابئ بمعاناة الطبقة العاملة المصرية على مختلف المحاور الحياتية اللصيقة به، وقد نجح بصعوبة في أن يجتذب لأفكاره إحدى الطالبات الفوضويات اللواتي يدفعهن السخط إلى الانفصال الذهني عن الواقع المحيط بهن، وسرعان ما قاما بدعوتنا إلى "الحديقة اليابانية" حيث كان بعض أعضاء اتحاد الشباب التقدمي يرددون الأغاني الثورية احتفالاً بقران العروسين الذي عقداه لتوهما داخل المقر الفرعي للاتحاد في حلوان، تمهيداً لزفاف نضالي يبقى كل منهما بموجبه في غرفته الكائنة بمنزل عائلته الأصلي ليلتقيا كزوجين أربعة أيام في الأسبوع موزعة على المنزلين بغير            مبيت. وكان الأخ محمود قد بدأ حياته سلفياً فلما اكتشف أن التيار السلفي أصبح أداة لأجهزة الدولة انتقل إلى صفوف "الإخوان المسلمين"، ثم ما لبث أن تركهم بعد ذلك لينتمي إلى تنظيم "الجهاد" نظراً لاقتصار النشاط الإخواني على سياسة سحب البساط التدريجي من تحت أقدام الدولة بينما يشتبك الجهاديون مع كل أجهزة الدولة أولاً بأول دون هوادة، وعندما ضاق أبواه بنمط حياته المتشدد غادر منزل عائلته الفخم المطل على نهر النيل في حي "الزمالك" ليقيم مع بعض الطلاب الجهاديين بغرفة صغيرة تعلو سطح منزل متهالك في حي "زينهم"، وما أن استجابت إحدى الطالبات الريفيات لإلحاحه بارتداء الحجاب الشرعي، حتى كنا مدعوين في "حديقة مسجد السيدة نفيسة" للاحتفال بقرانهما على دقات الدفوف وأدعية المنشدين وسط صيحات التهليل والتكبير الصادرة عن المهنئين ذوي الجلباب الأبيض والمهنئات ذوات النقاب الأسود، تمهيداً لزفافهما في ذات غرفة السطح الصغيرة بعد إخلائها من شركاء السكن للعروسين!!.


 
(2)
 
كان انقلاب عسكري قد وقع عام 1978 في أفغانستان ليتولى حكم البلاد الشيوعيون الأفغان الذين أقاموا نظاماً موالياً للاتحاد السوفيتي وصديقاً للهند، مما أضر بالمخططات الأمريكية المعادية لموسكو وبالمخططات الباكستانية المعادية لنيودلهي، فتحالفت الدولتان المتضررتان معاً في جبهة مضادة سعت لإزاحة الحكم الشيوعي عن أفغانستان، عبر حرب عصابات استخدمت فيها الجبهة كل الفصائل الأفغانية التي يمكن تعبئتها ثم تسليحها وتوجيهها لدعم المعارضة الإسلامية المسلحة ضد الحكم بأي مقابل وتحت أية مبررات اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو عرقية أو دينية أو غيرها، فاستنجد الشيوعيون بجارهم الأكبر الاتحاد السوفيتي الذي سارع بمساندتهم عبر إرسال قواته البرية للانتشار على امتداد الأراضي الأفغانية الوعرة عام 1979، فوسعت الجبهة الأمريكية –الباكستانية المضادة عضويتها بأن جذبت إلى صفوفها بعض دول العالم الهامة كمصر والسعودية، مما أسفر عن ظهور تنظيم عربي مسلح جديد اسمه "القاعدة" متحالف مع حركة باكستانية مسلحة جديدة اسمها "طالبان"، ليقوما معاً بتوريد عشرات الألوف من المقاتلين العرب والباكستانيين وغيرهم للمشاركة في حرب إزاحة الشيوعيين عن حكم أفغانستان. وإزاء تصاعد الخسائر البشرية في صفوف القوات السوفيتية بينما كانت موسكو تشهد تململاً واضحاً من أعباء التزاماتها العقائدية تجاه رفاق العالم الثالث، فقد انسحب الجيش السوفيتي من أفغانستان عام 1989 تاركاً الشيوعيين الأفغان يخوضون معاركهم بمفردهم وإن كان الجوار الجغرافي المباشر للدولتين قد شكل في حد ذاته رادعاً مرعباً لأعضاء الجبهة العالمية المضادة!!.
بحلول عام 1992 انهار الاتحاد السوفيتي كما انهارت معه دول حلف وارسو وبقية دول المعسكر الشيوعي العالمي، فاستغلت الجبهة العالمية المضادة الفرصة واستأنفت حربها ضد الحكم الشيوعي لأفغانستان حتى أطاحت به في العام ذاته، وأقامت على أنقاضه حكومة "المجاهدين" التي سعت من جانبها إلى تحسين علاقاتها مع جيرانها المؤثرين كالهند وإيران، الأمر الذي اعتبرته باكستان والسعودية إضراراً بالمصالح الإقليمية لكليهما فشكلتا داخل الجبهة العالمية المضادة محور "إسلام أباد – الرياض" الذي دفع بأتباعه في تحالف "طالبان – القاعدة" لمواصلة القتال بهدف إسقاط حكومة "المجاهدين" المدعومة من محور "واشنطون – القاهرة" داخل الجبهة، في نفس الوقت الذي استمر فيه "الشيوعيون الأفغان" المخلوعون يقاتلون دفاعاً عن أنفسهم فوق ما تبقى لهم من أرض بدعم من محور "موسكو – نيودلهي" ضد حكومة المجاهدين وضد تحالف طالبان – القاعدة، الذي كسب تلك الجولة عام 1996 بسيطرته على العاصمة الأفغانية "كابول" عقب إطاحته بالمجاهدين ثم استمر في توسعه على حساب فلول الشيوعيين وفلول المجاهدين، حتى أنه استطاع بحلول عام 1999 الاستحواذ على ثلثي الأراضي الأفغانية تاركاً الثلث المتبقي موزعاً بين الخصمين الآخرين المتنازعين أيضاً فيما بينهما، ولم تتوقف صراعات الأخوة الأفغان الأعداء إلا عندما احتلت الولايات المتحدة الأمريكية بشكل مباشر معظم الأراضي الأفغانية بعد تدميرها كلياً بواسطة القصف الجوي والصاروخي العنيف، الذي تواصل على مدار الساعة طوال الشهرين الأخيرين لعام 2001 كرد فوري لما تعرضت له الأراضي الأمريكية في 11 سبتمبر من هجمات انتحارية موجعة، شنها تحالف طالبان – القاعدة الذي كان حتى وقت قريب عضواً بالجبهة العالمية المضادة تحت قيادة واشنطون!!.
 
(3)
 
تباينت المواقف المصرية تجاه صراعات "الأخوة الأعداء" المتداخلة والمتتالية في أفغانستان على امتداد ربع قرن بين عامي 1978 و2002، حيث اختارت أجهزة الدولة الرسمية وأعوانها من السلفيين أن تدعم "المجاهدين" الأفغان بينما ساندت التيارات الإسلامية المصرية الأخرى تحالف "طالبان – القاعدة" الأفغاني في حين كان الشيوعيون وغيرهم من فصائل اليسار المصري يؤيدون "الشيوعيين الأفغان"، وأفرز ذلك التباين عدة تقاطعات على كافة مستويات الحياة العامة لمختلف التجمعات المصرية بما في ذلك مجموعتنا الصغيرة من خريجي الدفعة الواحدة لقسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة ومجموعتنا الأصغر بين هؤلاء الخريجين المعروفة باسم "أولاد ربيع". وكان الخريجون قد اعتادوا سنوياً على لقاء احتفالي ودي، ينتهي بزيارة تجمعني مع الثلاثة الآخرين من أولاد ربيع إلى شقة "ميدان الجيزة" التي يقيم فيها الأستاذ الدكتور حامد ربيع لنحصل منه على بعض الحلويات والنصائح حول اهتماماتنا الفكرية والسياسية وأنشطتنا المهنية، لاسيما وقد تم تعيين أشرف بقطاع الاتصالات الخارجية في جهة سيادية بينما التحق جمال بصحيفة يسارية أسبوعية كمحرر للشئون الخارجية وعمل محمود مترجماً في دار نشر تتولى ترجمة كتابات الإسلاميين المصريين لتوزيعها على قراء الخارج، وذلك بالتزامن مع بداية شغلي أنا لوظيفتي في قطاع الإعلام الخارجي بالهيئة العامة للاستعلامات التابعة لوزارة الإعلام والتي اهتمت مبكراً بتدريبي مهنياً على إتقان كافة تخصصاتها قبل تكليفي بالمشاركة في البرامج السياسية لمحطة إذاعة القاهرة الموجهة إلى أفغانستان كعمل إضافي. ساعدني في مهمتي المذيعون الأفغان الذين يتحدثون اللغة العربية واللغات الأفغانية كالبشتونية والأوردية والطاجيكية وغيرها مما أسفر عن نجاح برنامجي اليومي "أهلاً وسهلاً"، الذي قام بالتوصيل الصوتي لأفغان الشتات الخارجي مع ذويهم داخل دولتهم في ظل انقطاع كل أنواع الاتصالات من وإلى أفغانستان بسبب حروبها المتداخلة والمتتالية!!.
جاءني الرفيق جمال والأخ محمود كل واحد منهما على حدا طالباً مني معاونته ليتعلم اللغات الأفغانية الرئيسية في إطار حرصه على دقة عمله، وإزاء تطابق احتياج الاثنين معاً لإبقاء الأمر طي الكتمان فقد تولى المذيعون الأفغان تلقين كل واحد منهما بالمبادئ اللغوية الأساسية في توقيت مغاير للآخر، وما أن انقطع الزميلان عن زيارة مقر المحطة الإذاعية عقب تلبية طلبهما بتعلم الحد الأدنى من المفردات الأساسية لمختلف اللغات المستخدمة في أفغانستان، حتى وصلني قرار وزاري بالإلحاق الفوري على المحطة للزميل الثالث السيد أشرف ندباً من جهة عمله السيادية والتي كانت قد سبق لها تعليمه مبادئ اللغات الأفغانية المختلفة، حيث أمضى ثلاثة أشهر مع المستمعين الأفغان باعتباره أحد معدي ومقدمي برنامج "أهلاً وسهلاً". وعقب اللقاء السنوي التالي لخريجي دفعتنا الدراسية توجهنا كعادتنا نحن الأربعة إلى شقة ميدان الجيزة وهناك تلقى مضيفنا حامد ربيع عدة أسئلة حول أوضاع أفغانستان، الأمر الذي اضطره للبوح بما لديه من معلومات تكشف المستور وتحليلات تفضح المحظور في العلاقات السياسية الدولية، مؤكداً أن مافيا التهريب والسوق السوداء العالمية والتي تشمل فيما تشمله احتكارات المخدرات والسلاح والبترول والتكنولوجيا والأدوية إلى جانب تجارة البشر وخلافه سيطرت منذ بداية الربع الأخير للقرن العشرين على الجهات السيادية في عدة بلدان هامة، ولما كانت تلك الجهات هي المعنية بصنع قرارات الحرب والسلام على امتداد العالم فقد وجد الكثيرون من الشباب ذوي الجنسيات المختلفة أنفسهم مستدرجين نحو أتون الحروب الأفغانية المتداخلة والمتتالية، لينتعش "البيزنس" التجاري للاحتكارات المذكورة محققاً الأرباح المالية الطائلة على جثث ملايين الضحايا الذين يتقاتلون بمظنة زائفة لكل منهم أنه في خندق الحق بينما هم جميعاً عالقون بالفخ المخادع وغارقون حتى أنوفهم في بطلانه، كان زملائي الثلاثة منشغلين بأكل الحلوى فلم يستوعبوا مغزى رسالة ربيع، وخلال الأسابيع القليلة التالية مضى كل واحد منهم على حدا في طريقه صوب أفغانستان لتأدية مهمته ذات الطابع السري!!.
(4)
 
سافر السيد أشرف إلى أفغانستان مستتراً تحت غطاء البرنامج الإذاعي "أهلاً وسهلاً" لينضم إلى فصيل "أحمد شاه مسعود" التابع للمجاهدين، بينما انضم الرفيق جمال إلى فصيل "عبد الرشيد دوستم" التابع للشيوعيين بعد سفره مستتراً خلف صفته الصحفية، أما الأخ محمود فقد انضم إلى فصيل "قلب الدين حكمتيار" التابع للتحالف الطالباني – القاعدي بمجرد وصوله تحت غطاء مشاركته في معرض الكتب الإسلامية، ودارت الحرب الأفغانية بهم وبفصائلهم لعدة أعوام من أعلى لأسفل وبالعكس كخلاط الأسمنت الذي لا يتوقف، حتى تلقى السيد أشرف عبر برنامجي الإذاعي رسالة مشفرة من جهة عمله السيادية الأصلية تستدعيه فيها للعودة إلى القاهرة، فرد من جانبه برسالة مشفرة عبر البرنامج الإذاعي نفسه طالباً منحه مهلة أسبوعين لإغلاق ملفاته المبعثرة على امتداد الأراضي الأفغانية الوعرة، بينما كان يدفعه الحنين رغماً عنه نحو السعي لرؤية زميليه الرفيق جمال والأخ محمود واللذان كان كل واحد منهما يحمل في قلبه الحنين للاطمئنان على زميليه الاثنين الآخرين، بعد أن أمضى ثلاثتهم سنوات الحرب الطويلة وهم يدعون الله يومياً ذات الدعاء بألا تدفعهم فصائلهم إلى أي قتال مباشر فيما بينهم. استعان السيد أشرف ببعض قصاصي الأثر الماهرين من متعددي الولاءات لترتيب الاجتماع الثلاثي في خندق قديم يقع بالمنطقة الحدودية المشتركة بين دولتي أفغانستان والصين على ضفاف حوض نهر "تاريم" عندما تلتقي نهايات سلاسل جبال الهندوكوش والبامير وكراكورم وتيانشان، ألقى أولاد ربيع بأسلحتهم على أرض الخندق واستمروا يحتضنون بعضهم بعضاً بتشبث عنيف لما يزيد على نصف الساعة وهم ينتحبون ويشهقون في خليط من الأصوات الضاحكة والباكية، وعندما جلسوا أرضاً لاستعادة ما تيسر من ذكرياتهم المشتركة وقع بصرهم بشكل عفوي متزامن على أسلحتهم المتجاورة، فوجدوها تحمل نفس العلامة الرمزية والأرقام الكودية التي تفيد بأن مصدرها جميعاً هو أحد المصانع الحربية التابعة لشركة تجارية يعرفونها جيداً، في تلك اللحظة فقط استوعب الثلاثة مغزى رسالة الدكتور ربيع التي كان قد باح بها إليهم أثناء لقائه الأخير معهم بحضوري في شقة ميدان الجيزة. قرر الثلاثة معاً الانسحاب الفوري من الخندق إلى أي مكان آمن يستطيعون فيه كشف حقيقة الخدعة التجارية الكبرى المسماة بحروب التحرير الأفغانية أمام المقاتلين المخدوعين من شباب العالم، دون انتباه لوجود شريحة طبية "تكنولوجية" سبق تركيبها داخل جسد كل واحد منهم بغير علمه في أعقاب إحدى الإصابات الاعتيادية كوسيلة قذرة للسيطرة، حيث كانت الشريحة تضمن متابعة الجسد الذي يستضيفها على مدار الساعة بمعرفة الفصيل المنتمي إليه ومن خلفه احتكارات التكنولوجيا المرتبطة بالمافيا العالمية، لذلك فقد دكت الصواريخ غير التقليدية خندقهم قبيل مغادرتهم إياه لتحوله إلى أكوام من الأتربة الممزوجة بالمواد الكيماوية مع دماء وبقايا أشلاء أولاد ربيع، الذين احتسبتهم فصائلهم المتصارعة شهداء بمجرد عودة قصاصي الأثر الماهرين بالشرائح الطبية "التكنولوجية" وعلى رأسها شريحة السيد أشرف، السابق زرعها داخل قدمه اليسرى عقب احتكاكها بقطعة زجاجية في أرضية حمام السباحة. ووجدتُني أقوم بواجب العزاء في زملائي الثلاثة أولاد ربيع متحركاً إلى "مصر الجديدة" ومنها إلى "حلوان" ثم إلى "الزمالك"، وأخيراً قادتني قدماي نحو "ميدان الجيزة" لأتلقى وحدي العزاء في الأستاذ الدكتور حامد ربيع بعد أن تم تقييد حادثة اغتياله بالسم ضد مجهول!!.
كانت الانفجارات الصاروخية الهائلة قد بترت القدم اليسرى للسيد أشرف وأحرقت باقي جسده ولكنها في الوقت الذي أبقت فيه القدم المبتورة أرضاً أطاحت بالجسد المحترق بعيداً، ليسقط في أعماق نبع مائي يمر أسفل الخندق حيث حمله النبع إلى مجرى نهر "تاريم" ثم دفعته مياه النهر المتدفق شرقاً صوب الأراضي الصينية المجاورة وساعده تكوينه العضلي كسباح على البقاء حياً. وصل جسده طافياً فوق سطح الماء إلى موقع تجلس أمامه ممرضة صينية شابة اسمها "ليزا" لتبكي غاضبة بعد نقلها من المستشفى المركزي بالعاصمة "بكين" إلى المستشفى الريفي لمدينة "يارقند" الصغيرة الواقعة على الحدود مع أفغانستان، والتي سوف تقل فيها حتماً فرصة الالتقاء بفتى أحلامها، كان أشرف محروق الجسد ومبتور القدم وفاقداً للوعي والذاكرة ولكن ليزا بخبراتها التمريضية أدركت أنه لم يزل على قيد الحياة فسارعت بنقله فوراً إلى مستشفى يارقند. أنساه فقدانه لذاكرته لغات الحديث بما فيها اللغة العربية حتى بدا كالأخرس فأطلقت ليزا عليه اسم "تونج" ظناً منها أنه صيني الجنسية، واستمرت لشهور عديدة تالية تتفانى في علاج حروقه وتدريبه على استخدام القدم الصناعية وواصلت تعليمه الكلام وكررت دون يأس استدعاء المتخصصين لمعاونته على استرجاع ذاكرته المفقودة، ورحبت بتلبية احتياجاته الغريزية كرجل لاسيما أنها أعجبت به لدرجة تطورت لاحقاً إلى حد تعلق كلاهما بالآخر كالعاشق والمعشوق. وفي إحدى الليالي أدار "تونج" بدون قصد مؤشر الموجة القصيرة لمذياع ليزا الصغير فالتقطت أذناه صوتاً مألوفاً بلغة معروفة، كان صوتي يودع المستمعين في الحلقة الأخيرة من برنامج "أهلاً وسهلاً" الذي تقرر وقف بثه نظراً لنقلي إلى مهمة إعلامية أخرى، مستعرضاً بلغتي العربية بعض ذكرياتي مع زملائي الثلاثة الراحلين أشرف وجمال ومحمود ومع أستاذنا الراحل حامد ربيع. أومضت الذاكرة العائدة ذهن السيد أشرف فاتجه فوراً إلى السفارة المصرية في بكين والتي أعادته للقاهرة حيث اكتشف أن جهة عمله السيادية قد أعلنت استشهاده بإحدى العمليات الوطنية خارج الحدود، مع تحميله هو المسئولية الشخصية عن وفاته لمخالفته خطوط السير المرسومة له سلفاً والتي لم تكن تتضمن الخندق الحدودي الواقع على ضفاف نهر "تاريم"، كما فوجئ بأن أحد زملاء عمله في ذات الجهة السيادية قد تزوج "أرملته" عقب إعلان استشهاده ثم استحوذ بالتدليس على أملاكها التي باعها فيما بعد واختفى تاركاً إياها معلقة بين مكاتب المحامين وأروقة المحاكم بصحبة ابنها من السيد أشرف. وضعته جهة عمله السيادية بين اختيارين هما أن يحصل على معاش تقاعد شهري بسبب بتر قدمه أو يلتحق بوظيفة مدنية فاختار بعد تشاور معي العمل بالإذاعة ليعيد إحياء برنامج "أهلاً وسهلاً"!!.
 
(5)
 
حاول أشرف السفر إلى بكين للعودة بصحبة ليزا حتى يتزوجها في مصر ولكنه وجد نفسه ممنوعاً من السفر بأمر الجهات المعنية على خلفية حيازته لمعلومات هامة، فوجه الدعوة إلى حبيبته الصينية لإتمام الزواج في القاهرة ولكن الجهات المعنية منعت دخولها الأراضي المصرية وقامت بإعادتها إلى بلادها على نفس الطائرة التي أقلتها بعد تهديدها بالإعدام في المرة القادمة عقاباً لها على التهمة المجهزة سلفاً وهي جلب المخدرات. ورغم عودة بث برنامج "أهلاً وسهلاً" من الإذاعة المصرية الموجهة ووضع اسم أشرف كرئيس طاقم إعداده وإخراجه، إلا أنه لم يكن مسموحاً له سوى بالجلوس خارج الاستوديوهات لتناول المشروبات دون اقتراب من فقرات البرنامج بأي شكل مع إلزامه بقبول هذا التهميش المهني حفاظاً على الراتب الشهري الذي تدفعه له الإذاعة. كتب أشرف تقريراً تفصيلياً مدعوماً بالمستندات حول الخدعة الكبرى لمافيا احتكارات التهريب والسوق السوداء العالمية في أفغانستان لتسليمه إلى كبار مسئولي الجهات المعنية، والذين كانوا يفتعلون الترحيب بحضوره مع إبداء بعض الدهشة الزائفة من خطورة المعلومات والإعجاب الزائف بأهمية التحليلات التي ينطوي عليها تقريره، ثم يسارعون فور مغادرته برفعه إلى الوكيل المحلي للمافيا العالمية الذي أصبح يشغل موقعاً بارزاً في قيادة الحزب الحاكم بعد تقاعده من عمله السابق على رأس إحدى الجهات المعنية، وهكذا استلم الوكيل المحلي العجوز عدة نسخ من ذات التقرير واضعاً إياها داخل خزانة مكتبه الوثير الواقع في وسط القاهرة على ضفاف نهر النيل متوقعاً بدهاء العجائز أن يكف أشرف عن محاولاته بمجرد يأسه من استجابة أحدهم لنداءاته، ولكنه رغم معاناته من آلام الإعاقة الجسمانية وأوجاع الحصار المهني والاجتماعي لم يتوقف عن السعي لكشف حقيقة الذي جرى في أفغانستان وأفقده قدمه اليسرى ووظيفته المرموقة وزوجته وابنه وصديقيه جمال ومحمود وأحلى سنوات عمره وحبيبته الصينية ليزا، مما دفع بالوكيل المحلي إلى إصدار الأوامر لأتباعه في مختلف أجهزة الدولة بالانتقال لمرحلة الهجوم غير المباشر على أشرف باستدراجه نحو الاشتباك مع العديد من الأطراف في عدة منازعات جانبية مفتعلة هنا وهناك لتشتيته واستنزافه، فأدرك أشرف أنه يشكو الجريمة لمرتكبيها وطلب مني مساعدته في ترتيب لقاء يجمعه مع بعض رؤساء تحرير الصحف المستقلة بنقابة الصحفيين. كان يحمل في يده حقيبة جلدية تحوي عدة نسخ من تقريره بمرفقاتها عندما دخل مصعد العمارة وهو يهم بالنزول متجهاً صوب نقابة الصحفيين فسقط المصعد بجثته إلى البئر بعد أن انتزع أحدهم الحقيبة من يده!!.
بمناسبة اليوبيل الفضي تلقينا جميعاً نحن زملاء الدفعة الدراسية الواحدة دعوة رسمية من رئيس جامعة القاهرة للاحتفال بمرور ربع قرن على تخرجنا من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، فلبينا الدعوة بأمل استئناف أواصر الود التي قطعها ما كنا قد تجرعناه على مدار تلك السنوات من مرارات الحياة، حيث تخلينا عن عادتنا السابقة باللقاء السنوي الحميم هرباً من الاعتراف بالفشل في معاركنا العامة والخاصة، حتى جاء هذا الاحتفال الرسمي المنعقد في القاعة الكبرى للجامعة والتي كانت تحيطها قوات الأمن المركزي من الخارج وقوائم الممنوعات والتحذيرات من الداخل. اعتلى المنصة خصوم الدكتور حامد ربيع من أساتذة الكلية الذين اشتهروا بحقدهم السابق عليه بعد انفرادهم بالساحة الأكاديمية للعلوم السياسية عقب اغتياله وجلس بجوارهم كبار مسئولي الجهات المعنية، في حين كان ضيف شرف الاحتفال الذي يتصدر المنصة هو الوكيل المحلي لمافيا التهريب والسوق السوداء العالمية، وقف عميد الكلية الجديد الذي لا نعرفه مشدوداً كالوتر ينادي أسمائنا حسب الترتيب الأبجدي لتسليمنا شهادات التخرج الأصلية الموقعة بواسطة رئيس الجامعة الجديد والذي هو بدوره غير معروف لدينا، مع فرصة لالتقاط بعض الصور التذكارية بصحبة ضيف الشرف الذي يعرف كل واحد فينا جيداً مدى فساده واستبداده وتبعيته المباشرة للمافيا العالمية، وعندما نودي على أسماء الراحلين من أولاد ربيع تباعاً صعد ثلاثة شباب في عمر الورد الندي ثم عادوا إلى ثلاث أمهات متجاورات مازلن يرتدين السواد، كان الشباب الثلاثة يشبه كل منهم أباه قبل ربع قرن مما أفرح قلبي الموجوع وجذبني على الرغم مني إلى مجلسهم للتسامر معهم باعتبارهم أولاد ربيع، ولكنهم باغتوني بالسؤال الذي طالما طاردني وهو: "هل نجد أصحاب الأيادي الملوثة بدم آبائنا أشرف وجمال ومحمود بين هؤلاء؟"، نظرتُ حولي فوجدتُ مجموعات من أطقم مندوبي الجهات المعنية الذين أعرفهم جيداً بسبب كثرة ملاحقاتهم لي على مدى ربع القرن المنصرم، كانوا يحومون حول الشباب الثلاثة كما يحوم المجرمون حول ضحاياهم، فداهمني الفزع خشية اقتلاع هذه الورود الندية الثلاث بذات الأيدي الآثمة للجهات المعنية التي سبق لها أن دفعت بآبائهم إلى حتفهم تحت نفس الرعاية الخبيثة للوكيل المحلي العجوز. تمسك قلبي بالفرحة التي أهداها لي الشباب الثلاثة فارتفع صوتي بإجابة سؤالهم وأنا أشير بإصبعي السبابة نحو منصة الاحتفال مردداً عدة مرات عبارة: "يكاد المريب يقول خذوني"!!.
 
* * * * *
 



 
 
 
المحارب الأممي كارلوس
 
(1)
 
 في أعقاب حرب 1967 تصاعدت عمليات الاغتيال التي تقوم بها أجهزة الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية لتوقع بالعديد من رموز الكفاح العربي ضد الوجود الصهيوني، كما اتسع النطاق الجغرافي لميادين الاغتيالات فوصل إلى دائرتي البحر المتوسط وأوروبا المجاورتان لميدان الصراع الرئيسي في الشرق الأوسط. وقد ألحقت تلك الاغتيالات أضراراً بالغة بمخططات ومشاريع الجهات العربية المعنية بالمواجهة المباشرة مع إسرائيل، سواء في دول الطوق التي تضم مصر وسوريا والأردن ولبنان، أو في الدول التي كانت ترفع الشعارات الراديكالية آنذاك وهي الجزائر وليبيا والعراق واليمن الجنوبي، أو في منظمة التحرير الفلسطينية التي شكلتها الأجنحة الوطنية والقومية والماركسية تحت رئاسة الجناح المحافظ المعروف باسم "فتح". فما كان من المتضررين إلا أن تحركوا جماعياً وفردياً لإيجاد طريقة كفيلة بردع الأجهزة الإسرائيلية، وتفتقت أذهانهم عن محاكاة أسلافهم سلاطين العرب في العصور الوسطى من حيث الاستعانة بمماليك متميزين جدد يقاتلون ضد كوادر إسرائيل الاستخباراتية دفاعاً وهجوماً على امتداد ساحات الاغتيال المتبادلة، وذلك بالوكالة عن المقاتلين العرب النظاميين الذين لا خبرة لهم بالقتال في تلك الساحات المستحدثة والمعقدة والمفتوحة من كل الاتجاهات في الوقت ذاته على كافة الاحتمالات!!.
 راح المندوبون الخارجيون للجهات المعنية العربية يلتقطون ويفرزون ويرشحون مماليكاً جدداً مختلفي الجنسيات لسلاطينهم المحدثين، الذين التمعت أعينهم أمام شاب فنزويللي مفرط الحماس اسمه "إيليتش راميريز سانشيز" يدرس في جامعة "باتريس لومومبا" السوفيتية المخصصة لاستضافة الماركسيين الوافدين من العالم الثالث، لاسيما وأنه كان قبل سفره إلى "موسكو" قد هجر الحياة المترفة لعائلته الثرية والتحق بمعسكرات التنظيمات الماركسية المسلحة في أحراش أمريكا اللاتينية، إيماناً منه بضرورة العنف المسلح ضد مثلث جرائم الظلم التي يرتكبها المستبدون والمستعمِرون والمستغِلون على امتداد الكرة الأرضية برعاية الأمريكيين وحلفائهم، وهو المثلث الذي تتمثل أضلاعه في قمع الحريات وقهر القوميات ونهب الكادحين. وعندما تعرض الفلسطينيون لمذابح "أيلول الأسود" في الأردن عام 1970 اختار الشاب منطقة الشرق الأوسط كميدان لاهتماماته باعتبارها النموذج العالمي الأوضح لمثلث جرائم الظلم التي يجب مقاومتها بالعنف المسلح، لذلك فقد كان الجناح الماركسي لمنظمة  التحرير الفلسطينية والذي تمثله الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هو الأقدر على تجنيده واستيعابه داخل صفوفه في الأعوام الأولى لسبعينيات القرن العشرين نظراً لتقارب ما يعلنه الطرفان من أفكار، إلا أن بقية الجهات المعنية العربية ظلت تتابعه عن قرب سواء بعلم قياداته التنظيمية المباشرة في الجبهة الشعبية أو من خلف ظهورهم، سعياً منها لاستخدامه ليس فقط على المستويات العالمية والإقليمية بل أيضاً على المستويات المحلية، دون أن ينتبه هؤلاء أو أولئك إلى أن مملوكهم المميز الجديد كان قد سبق تجنيده خلال إقامته في "موسكو" لصالح أجهزة استخبارات دول حلف وارسو!!.
 
(2)
 
 وفقاً لمقتضيات العمل السري فقد حصل الشاب على مجموعة من جوازات السفر والأوراق الرسمية التي منحته بعض الهويات بأسماء مختلفة كان أكثرها شهرة هو اسم "كارلوس". وفي إطار تقاطعات العمل السري فقد نفذ الشاب عدة عمليات عنف مسلح هنا وهناك ضد رموز ومصالح الأمريكيين وحلفائهم بمن فيهم الإسرائيليين، واستمر "كارلوس" ينفذ عملياته الموجعة مرة لصالح الجبهة الشعبية ومرات باسم الجبهة ولكن لصالح غيرها من الجهات المعنية العربية أو أجهزة استخبارات دول حلف وارسو، حتى منتصف عقد السبعينيات عندما قاد العملية الأشهر في حياته باختطافه لوزراء النفط العرب أثناء اجتماعهم في مقر منظمة "الأوبك" بمدينة "فيينا" النمساوية، واقتياده لهم كرهائن إلى مدينة "الجزائر" باعتبارها عاصمة إحدى الدول العربية التي كانت آنذاك ترفع الشعارات الراديكالية. وهناك اختلطت أوراق اللعب الملقاة على الطاولة من قبل مختلف الأطراف  مما أربكه لدرجة غيرت مجرى حياته، فقد فوجئ الشاب بأحد رموز دولة عربية ترفع الشعارات الراديكالية وهو يفاوضه كوكيل مباشر عن أحد مشايخ دولة عربية أخرى يصفها الراديكاليون بالرجعية والتبعية للإمبريالية الأمريكية، عارضاً عليه باسم موكله الإفراج عن جميع الرهائن دون مساس بأيهم وبلا أية مطالب سياسية مقابل فدية مالية كبيرة جداً!!.
 كانت الفدية المالية المعروضة تنقسم إلى جزأين أحدهما بقيمة عشرين مليون دولار يتسلمه "كارلوس" في يده قبل إطلاق سراح الرهائن، والآخر بقيمة خمسة ملايين من الدولارات يتم دفعه بمجرد إتمام الصفقة إلى الوكيل الراديكالي، والذي لم يفته أن يقتطع لنفسه مليون دولار أخرى من حصة "كارلوس" سيراً على نهج وسطاء الأزقة والحواري الذين يخصمون لأنفسهم عمولة صفقات السوق السوداء من البائع والمشتري معاً. وقد أطلقت واقعة الوساطة تلك نوازع الشاب الذاتية الشريرة من عقالها، حيث دفعته للانتقال من الراديكالية إلى نقيضتها البراجماتية فقرر منذ ذلك الحين إدارة عمليات العنف المسلح لحسابه الخاص، وهو القرار الذي زاد من سهولته قيام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بفصله بعد اتهامه بالانحراف في قيادة عملية (فيينا - الجزائر) نحو نهاية مخالفة لأهدافها الأصلية، والمتعلقة بإجبار الدول العربية النفطية على إعادة النظر في إمداداتها النفطية الرخيصة للأمريكيين وحلفائهم. فاحتفظ "كارلوس" بمبلغ الفدية لنفسه معلناً عن تأسيس "منظمة النضال العربي المسلح" والتي استمرت تعمل تحت رئاسته ضد رموز ومصالح الأمريكيين وحلفائهم ولكن حسب المعايير البراجماتية، بما تعنيه من ضرورة حصوله المسبق على المقابل المتمثل في المال أو السلاح أو الحماية أو بعض جوازات السفر وأوراق الهوية. ومع بداية تسعينيات القرن العشرين انهارت دول حلف وارسو بما كانت توفره له من أغطية استخباراتية قوية، في نفس الوقت الذي شهد تراجع أهميته النسبية لدى الجهات المعنية العربية بظهور نجوم جدد للعنف المسلح ضد رموز ومصالح الأمريكيين وحلفائهم مثل السعودي "أسامة بن لادن" قائد تنظيم القاعدة الإسلامية، وهكذا وجد "كارلوس" نفسه عارياً إلا من حقيبة يد تحوي أموالاً وفيرة وجواز سفر دبلوماسي باسم "عبدالله بركات" صادر عن دولة عربية غادرت الخريطة الجغرافية لتوها بعد أن كانت ترفع الشعارات الراديكالية وجرى العرف قبل اندماجها مع جارتها على تسميتها باليمن الجنوبي!!.
 
(3)
 
 كان أبي وأمي وأعمامي وأخوالي جميعاً قد طالهم الأذى على خلفية سابق التحاقهم أثناء العهد الملكي بمختلف الأحزاب والجماعات المعارضة كالوفد والماركسيين والإخوان المسلمين. ورغم إلغاء كافة مكونات الخريطة السياسية للعهد الملكي "البائد" بمجرد إقامة الجمهورية عام 1952 مما دفع معظم أعضاء عائلتي لاعتزال العمل السياسي تباعاً، فقد استمر الأذى يلاحق العائلة كلها خلال العهود الجمهورية المتتالية بتعطيل مصالحهم وسلب حقوقهم وتهديد حياتهم دون أدنى مراعاة لشيخوخة البعض واعتلال صحتهم أو لقيام بعضهم الآخر برفع الراية البيضاء، وهو ما لا يمكن فهمه إلا باعتباره يخفي قراراً خبيثاً بإذلال عائلتي، الأمر الذي دفعني إلى رد فعل تمثل في انخراطي المبكر داخل صفوف الحركة الماركسية منذ أواسط السبعينيات ولمدة عشرة أعوام تالية تفاعلتُ خلالها مع الخريطة السياسية المصرية الجديدة بكافة مكوناتها الحاكمة والمعارضة العلنية والسرية، وفي أواسط الثمانينيات انسحبتُ من العمل السياسي المنظم مكتفياً بالدعوة النظرية إلى الإصلاح بعد يقيني بأن احتراف السياسة في مصر هو بمثابة انتحار غير مبرر، فالنخب والجمهور على السواء يشكون من تدهور الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية والوطنية والقومية لكنهم في الوقت ذاته يمتنعون عن إصلاحها بل ويدفعونها نحو المزيد من التدهور. هذا وقد ظل "كارلوس" يمثل لغزاً كبيراً بالنسبة لي خلال تلك الأعوام العشرة من احترافي للعمل السياسي المنظم، فتعدد انتماءاته وتقاطع ارتباطاته على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية كان مفيداً لمستخدميه من حيث أنه يوفر لهم عند الضرورة فرصة التنصل من المسئولية عن عملياته التي توقع ضحايا مدنيين، ليتم في النهاية الاستناد إلى شعاراته المعلنة لإلصاق العنف المسلح بالماركسيين العرب بمن فيهم المصريين رغم نهجهم السلمي الداعي للمعارضة السياسية المدنية!!.
 في بداية ثمانينيات القرن العشرين اقترب الرئيس أنور السادات من وضع اللمسات التنفيذية الأخيرة لاتفاقيات التطبيع السابق له توقيعها مع إسرائيل التي كانت قواتها المحتلة قد أوشكت على الانسحاب المشروط من سيناء، فنصحته الجهات المعنية بالسيطرة الحديدية على كل معارضي التطبيع لحين إتمام الانسحاب الإسرائيلي منعاً لاحتمالات الإحراج السياسي، مما دفعه إلى اعتقال عدة آلاف من قادة وكوادر الخريطة السياسية المصرية بكافة مكوناتها في سبتمبر 1981 ضمن حملة موسعة ومنوعة شملتني فيمن شملتهم باعتباري أمين عام اللجنة القومية لمقاومة التطبيع مع إسرائيل، وهي اللجنة التي كانت قد نجحت لتوها في تنظيم احتجاجات جماهيرية واسعة أسفرت عن طرد الجناح الإسرائيلي من معرض القاهرة الدولي للكتاب، الأمر الذي أحرج الجهات المعنية المستضيفة للجناح المطرود تنفيذاً لاتفاقيات التطبيع. ونظراً لتكرار إفلاتي من محاولات تنفيذ أمر الاعتقال فقد أدرجتني الجهات المعنية في قائمة "العناصر الخطرة" وهو ما عوقبتُ عليه فيما بعد بإيداعي أحد السجون المخصصة لأخطر المجرمين، حيث كان قد سبقني إلى هناك رجل خاضع لأقصى درجات التعتيم و الحصار اللصيق على مدار الساعة بواسطة حراس خارجيين يمنعون أي اتصال به، حتى أنهم كانوا لا يسمحون بخروجه من زنزانته لقضاء حاجته إلا عقب إدخال رأسه في كيس أسود مع إغلاق بقية الزنازين على شاغليها بإحكام شديد، وسرعان ما تم تنبيهي إلى أن هؤلاء الحراس الخارجيين ليسوا سوى كتيبة إعدام توشك على قتل هذا الرجل المجهول، لاسيما وأنه من الناحية الورقية المستندية غير موجود أصلاً في السجن فهو مودع بمعرفة الجهات المعنية دون أي تسجيل رسمي لدخوله أو أي تدوين دفتري لما يخصه من بيانات!!.
 
(4)
 
 وافقتني إدارة السجن على طلب السماح بمشاهدة كأس العالم في كرة القدم لعام 1982 بعد حصولي على توقيعات السجناء والحراس بذلك، فتم وضع جهاز التلفاز الضخم في البهو الأرضي ليخرج الجميع من زنازينهم ويجلسون أمامه أثناء المباريات باستثناء الرجل المجهول، والذي تصادف خروجه لقضاء حاجته ذات مرة بينما الفريق الأرجنتيني يلعب إحدى مبارياته، فاصطحبه واحد فقط من أعضاء كتيبة الإعدام على غير العادة وأوصله إلى باب دورة المياه دون أن يدخل معه كالمعتاد لتعلقه بمتابعة اللاعب الشاب "مارادونا" الذي سحر القلوب والعقول لدرجة كان يصعب معها إعادة السجناء إلى زنازينهم حسب التعليمات. تسللتُ خلفه إلى دورة المياه حيث رفعتُ عن رأسه الكيس الأسود ثم جلستُ القرفصاء بجواره داخل الكابينة، ليخبرني بأنه مصري الأم وفلسطيني الأب وبأنه ينتمي إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وهو الانتماء الذي جعله المسئول التنظيمي عن "كارلوس" خلال فترة عضويته في الجبهة، وبأن هذه المسئولية وفرت له معلومات ترغب الجهات المعنية في محوها عبر محو حائزيها من الوجود. وفي ذات الليلة ادعيتُ المرض ليتم ترحيلي إلى العيادة الملحقة بالسجن وهناك أبلغتُ الممرض النوبتجي باسمه "سعيد النجار" ورقم زنزانته باعتباري هو، فقام الممرض بتسجيل بياناته على إحدى صفحات الدفتر الرسمي ومنحني بعض المسكنات تمهيداً لزيارة الطبيب المختص صباح اليوم التالي، وهي الزيارة التي حصل عليها بالفعل "النجار" الحقيقي حيث قرر الطبيب نقله إلى المستشفى العمومي نظراً لتدهور حالته الصحية وسط ذهول أعضاء كتيبة الإعدام وقياداتهم، في نفس الوقت الذي سربتُ فيه أخباره إلى صحف المعارضة لتنشرها على صدر صفحاتها الأولى، مما أدى إلى إطلاق سراحه لأنه ببساطة لم يرتكب أية مخالفة ضد قوانين الدولة المصرية التي كانت حكومتها لم تزل حتى ذلك الحين تتشدق باحتضانها للفلسطينيين "الأشقاء". ودعني "سعيد النجار" قائلاً بلهجة أهل الشام :"الله كريم يا أبو زياد" بعد أن كان قد أطلعني على تلك المعلومات الخاصة بالشاب "كارلوس" والتي تضع حائزها في مرمى النيران المعادية والصديقة!!.
 كانت الجهات المعنية قد دعمت الأجنحة الداعية للعنف في الحركة الإسلامية المصرية بمجرد تولي أنور السادات رئاسة الدولة عام 1970 لاستخدامها في ضرب السياسيين المدنيين الساعين لتقليص النفوذ الديناصوري لتلك الجهات، وباكتمال عقد زمني واحد انقلبت هذه الأجنحة على الدولة واغتالت السادات في أكتوبر 1981 انتقاماً من قيامه قبل شهر باعتقال مشايخها ضمن عدة آلاف آخرين من معارضي إسرائيل، عملاً بنصيحة الجهات المعنية ليتحاشى الإحراج المحتمل مع إسرائيل بهدف تفويت فرص تلكؤها في الانسحاب المشروط من سيناء. وأدركت القيادة الجديدة للدولة صعوبة تصفية الأجنحة الداعية للعنف في الحركة  الإسلامية ما لم تتفرغ تماماً لمواجهتها، الأمر الذي يتطلب التهدئة مع السياسيين المدنيين عبر استيعابهم بمرونة داخل صفوف الدولة كما يتطلب كسب ود الجماهير عبر الإطاحة المدوية ببعض رموز الفساد الكريهة والرفض الاستعراضي لبعض التدخلات الأمريكية البغيضة، إلى جانب ضرورة تطوير الجهات المعنية لأساليبها بالتحول من أسلوب تقييد النخب وتصفيتها إلى أسلوب تشتيت النخب والسيطرة عليها. وكان نصيبي من التهدئة هو إطلاق سراحي عقب إتمام الانسحاب الإسرائيلي المشروط من سيناء مع حفظ الاتهام الموجه ضدي بإنشائي لتنظيم سري اسمه "اللجنة القومية لمقاومة التطبيع مع إسرائيل"، كما كان نصيبي من الاستيعاب المرن هو التحاقي بعمل مهني يروق لي في مجال الدبلوماسية الشعبية الذي تتولاه الهيئة العامة للاستعلامات بوزارة الإعلام دون التوقف عن نشر كتاباتي الأدبية والثقافية والسياسية. ورغم أن هذه الكتابات قد أغضبت الجهات المعنية التي لم تتوقف عن ملاحقتي بسببها حتى اليوم، إلا أن ذلك لم يمنعني من تحقيق عدة إنجازات احترافية في عملي ساعدتني على الترقي المهني والذي رشحني لتولي بعض المهام الرسمية الخارجية الصعبة في مواقع التوتر المختلفة، والتي كان نجاحي فيها يدفعني قدماً نحو الأمام حتى تم تكليفي في بداية تسعينيات القرن العشرين بالمهمة الأصعب في الموقع الأصعب!!.
 
(5)
 
قبل نهاية عام 1992 وصلتُ إلى "الخرطوم" في مهمة دبلوماسية شعبية طويلة الأجل تشمل فيما تشمله السعي لاكتشاف كل المعلومات الصحيحة عما يجري داخل كافة الدوائر، بعد أن أسفرت المعلومات المغلوطة سابقاً عن تدهور العلاقات المصرية - السودانية إلى درجة وقوع اشتباكات حدودية مسلحة للمرة الأولى بين البلدين. وعلى غير عادة المصريين أقمتُ في فندق "هيلتون" الذي كان قد سبقني إليه السعودي "أسامة بن لادن" قائد تنظيم القاعدة واختاره سكناً له مع زوجته الرابعة السودانية الجنسية، وبعد أشهر قليلة من وصولي للخرطوم وصل إليها ضيف ذو ملامح أوروبية يحمل جواز سفر دبلوماسي صادر عن اليمن الجنوبي باسم "عبدالله بركات"، مكلفاً من مستضيفيه بالحرص على إخفاء كل المعلومات الصحيحة التي تخصه عن كافة الدوائر ليتسنى له قضاء بقية حياته في السودان بهدوء، وعلى غير عادة اليمنيين أقام أيضاً في فندق "هيلتون". وإلى جانب أروقة الفندق وملحقاته فقد جمعتني وإياه أندية الأقليات ذوي البشرة البيضاء بما وفرته لكلينا من أصدقاء مشتركين وألعاب متنوعة وسهرات ممتدة، لذلك كان طبيعياً اصطدام مسعاي لاكتشاف الحقائق بحرصه على إخفائها لاسيما وقد أفادني أصدقائي الدبلوماسيين اليمنيين بعدم وجود اسمه لديهم وبزوال جوازات السفر الدبلوماسية لليمن الجنوبي عقب اندماجها في دولة اليمن الموحدة. ثم زادت شهيتي لكشف مستور هذا الضيف الغامض مع محاولة متطوعين دوليين موجهين لتضليلي بسيناريو جيد الحبكة والإخراج حول كونه تاجر سلاح إيراني الأصل يشغل موقعاً قيادياً في حزب الله اللبناني، الذي أوفده إلى "الخرطوم" لبحث الاحتياجات العسكرية لبعض الجماعات الإسلامية المجاهدة على امتداد العالم، ذلك أن انفتاح سلوكياته الاجتماعية وفق النموذج الأوروبي ينفي أي احتمال لارتباطه بحزب الله على أي وجه كما أن بقايا قديمة لحفريات ماركسية كانت تطل أحياناً من أعماقه بلا استئذان!!.
 ومع انتصاف عام 1993 انتقلتُ إلى منزلي الصغير الكائن في قلب "الخرطوم"، ثم سرعان ما انتقل "عبدالله بركات" إلى منزل كبير مجاور لي بصحبة زوجتيه الشرعية "لينا" الفلسطينية والعرفية "زينب" السودانية واللتان جمعتهما علاقة حسن جوار مع سكرتيرتي الخاصة الإثيوبية "عايدة". كان يقيم معه في منزله بعض مساعديه الذين قدم لي أحدهم ذات مرة باعتباره حماه ولكنه ما لبث أن أفلت لسانه ليحدثني بلهجة أهل الشام قائلاً : "الله كريم يا أبو زياد"، كاشفاً عن كونه رفيق سجني القاهري السابق "سعيد النجار" وقد أجرى عدة عمليات تغيير ملامح متقنة ليلتحق بزوج ابنته ومرءوسه المفصول من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وهكذا فإن كل الخيوط التي يصعب ذكر تفاصيلها حالياً قادتني تدريجياً إلى معرفة هوية "عبدالله بركات" الحقيقية فهو ليس سوى "إيليتش راميريز سانشيز" الشهير باسم "كارلوس"، حتى مع تكرار فشلي في الحصول على أية إجابة شافية من أي مصدر رسمي لتأكيد أو نفي هويته. ولأنه كان قد صنع لنفسه مركزاً مرموقاً على قمة المجتمع المدني الخرطومي والذي تقتضي مهمتي الدبلوماسية استمرار وجودي فيه فقد استمرت تعاملاتي مع "كارلوس"، رغم صعوبة ذلك على نفسي نظراً لعدم علمي بما إذا كان الغموض الرسمي تجاه هويته ناجماً عن جهل أو عن قصد وفي الحالة الثانية هل المقصود هو التمويه لتحاشي انسحابي خوفاً منه لو أدركتُ حقيقته أم هو الخداع للزج بي داخل إحدى دوائر الدم والنار، لاسيما وأن طلب نقلي إلى أي موقع آخر قد تم رفضه بحسم آنذاك. كان "كارلوس" يعلم جيداً أن مستضيفيه السودانيين حصلوا مقابل استضافتهم له على ملايين الدولارات من إحدى دول الطوق العربية ذات الشعارات الراديكالية، والتي سلمته لهم بعد أن ضاقت بشكاواه المتواصلة منذ إيوائها له عقب انهيار دول حلف وارسو، في صفقة شبيهة بعمليات التخلص من النفايات السامة عبر دفنها في البلدان الفقيرة، إلى جانب حصول البنوك السودانية المفلسة التي يملكها مستضيفوه على ثروته الشخصية البالغة بدورها ملايين الدولارات، وكان شعوره بأنه يجري تغسيله وتكفينه من قبل شبكة مستخدميه السابقين تمهيداً لدفنه كالنفايات في حفرة متناهية الصغر يؤلمه لدرجة تدفعه حيناً لتعمد ممارسة لحظات الحياة الآنية بصخب شديد حتى يثبت لحفاري القبور أنه ما زال على قيد الحياة، وتدفعه أحياناً أخرى إلى الانزواء في أبعد الأركان المظلمة حيث يمكنه الجلوس على الأرض والبكاء كطفل يتيم محروم من فرحة العيد!!.
 
(6)
 
 بسقوط منظومة حلف وارسو خرجت أجهزة دول أوروبا الشرقية من شبكة مستخدمي "كارلوس"، بينما استمرت الجهات المعنية العربية تتابعه عن قرب ليس بهدف استخدامه مجدداً في عمليات العنف المسلح التي أصبحت أعبائها أكبر من عوائدها بحلول عصر العولمة من جهة والقبول بإسرائيل في الأوساط العربية كأمر واقع من الجهة الأخرى، إلى جانب ظهور تنظيم القاعدة الإسلامية كمتعهد جديد لعمليات العنف المسلح ضد رموز ومصالح الأمريكيين وحلفائهم، بل كانت الجهات المعنية العربية تحاول من خلال متابعة "كارلوس" اللصيقة أن تمحو المعلومات الخاصة بسوابق استخدامه حتى لا تورطها في كشوف حساب تفوق طاقتها مع الأمريكيين وحلفائهم سادة عصر العولمة، وهي المحاولة التي أصبحت صعبة المنال باتساع نطاق حائزي المعلومات المطلوب محوها ليشملني ويشمل طاقم مساعديه متعددي الجنسيات بقيادة حماه الفلسطيني "سعيد النجار"، بالإضافة إلى مستضيفيه السودانيين الذين كان همهم الأول هو كيفية تحقيق أقصى أرباح ممكنة من هذا الصيد الثمين الواقع في شباكهم، لذلك فقد أفشلوا سعيه للرحيل إلى إحدى دول غرب أفريقيا بحجز أمواله المودعة لديهم تحت ادعاء إنه لا توجد سيولة في بنوكهم. وإزاء خوف عدة أطراف عالمية وإقليمية ومحلية مما يمكن أن يؤدي إليه تعاملي الشخصي المباشر معه فقد شرع الخائفون في تنفيذ خطة مزدوجة لإبعادي عنه حتى يبيعه مستضيفوه السودانيون عبر مزاد سري. فازت الحكومة الفرنسية بالمزاد بعد أن كانت عدة سيارات مصفحة قد داهمتني في إحدى ضواحي "الخرطوم" لتهشم عمودي الفقري. ومن جهته حاول "كارلوس" الذوبان داخل المجتمع المحيط به عبر حصوله على الجنسية السودانية بتحويله لزواجه العرفي من "زينب" إلى زواج شرعي، فأفهمه مستضيفوه أنه لن يكون مؤهلاً شرعاً لتعدد الزوجات أو للزواج من أي مسلمة كزينب إلا إذا أصبح هو نفسه مسلماً حقيقياً الأمر الذي يستلزم إجرائه لعملية "ختان" جراحية على الطريقة الإسلامية، وهكذا استدرجوه في سبتمبر عام 1994 إلى أحد جناحين اثنين يتكون منهما قسم الأجانب الذي لا تنقطع عنه الكهرباء داخل مستشفى"ابن خلدون" الأشهر بالخرطوم، بينما كنت أنا محتجزاً في الجناح الآخر الملاصق لإنقاذ عمودي الفقري. وبدعوى التمهيد لعملية "الختان" تم حقنه بمخدر شديد المفعول داخل غرفة العمليات بعيداً عن زوجتيه وطاقم مساعديه، لتتولى مجموعة "ممرضين" ذوي بدلات سوداء قيادة فراشه المتحرك خروجاً من غرفة العمليات صوب الطائرة العمودية الفرنسية التي كانت تنظره في حديقة المستشفى، بينما كانت مجموعة "ممرضين" ذوي بدلات بيضاء يقودون فراشي المتحرك صوب الاتجاه المعاكس دخولاً إلى غرفة العمليات لترميم ما يمكن ترميمه من عمودي الفقري بعد قيامهم بتخديري. التقى الفراشان المتحركان في الممر فامتدت الأيادي لمصافحة سرعان ما تحولت إلى تشبث، وأفلت لسانه تحت تأثير المخدر بسؤال حول "هذا الذي يفعلونه فينا ولا نفهمه" قبل أن تنجح المجموعتان في الدفع بكل فراش نحو الاتجاه المعاكس للآخر!!.
 تسلمت الحكومة الفرنسية المتهم المغدور به "كارلوس" حيث أحالته لمحاكمة عاجلة على ما هو ثابت لديها من اتهامات منسوبة إليه بشأن بعض عمليات العنف المسلح ضد رموزها ومصالحها، بينما التزم المتهم بنصيحة محامييه الذين كانت الجهات المعنية العربية قد استأجرتهم للدفاع عنه بشكل يكفل عدم توريطها معه، فامتنع عن الإشارة إلى أية عمليات أخرى خارج قائمة الاتهام حتى لا تزيد مدة محكوميته، وهكذا أراح واستراح بعقوبة السجن المؤبد التي أمضى ثلثيها حتى الآن داخل أحد السجون الباريسية المخصصة لأخطر المجرمين، منتظراً بجزعه الطفولي أن يخرج ليعيش ما تبقى من حياته هادئاً مع أسرته في بلده الأصلي "فنزويللا"، رغم مخاوف الجهات المعنية من احتمال مفاجأته للجميع بمرحلة عمليات عنف مسلح جديدة عنوانها "أمير الانتقام" ذلك الانتقام الافتراضي الذي توهمته تلك الجهات مدعية أنه في حال حدوثه سوف يهددني، مما أعطاها مبرراً زائفاً لمنعي من السفر إلى الخارج وتحديد إقامتي تحت الرقابة اللصيقة لأردأ أنواع الجنس البشري على امتداد التاريخ و الجغرافيا بحجة حمايتي المزعومة منه، ولكنني موقن بأن "كارلوس" الذي تجاوز الستين عاماً من عمره غاضب فقط من أولئك الذين استخدموه في عصر توازن القوى ضمن مخططاتهم ومشاريعهم ثم غدروا به في عصر العولمة، حيث أداروا له ظهورهم تاركين إياه لهؤلاء الذين أقاموا عليه المزادات وكأنه مملوك يباع ويشترى في سوق النخاسة، حتى انتهى أمره بين الأيدي الغليظة لمشترين يعاقبونه على ما سبق أن فعله ضدهم لصالح البائعين، وأنا لست من مشترييه أو بائعيه أو مستخدميه بل مجرد عابر سبيل في حياته جعلتني المعلومات الصحيحة عنه مشفقاً عليه مما أصابه من غدر، كما أنه مجرد عابر سبيل في حياتي جعلته المعلومات الصحيحة عني متعاطفاً معي تجاه ما كان قد أوشك أن يصيبني من غدر أوقعتني سهامه لاحقاً في شباكه، ورغم أن ضرورات "الانضباط" ومقتضيات أفكاري السلمية حالتا دون الصداقة الحقيقية بيننا إلا أن كلينا قد حصل على مكافأة نهاية خدمة متقاربة، حيث تم سجنه في "باريس" وتحديد إقامتي في "القاهرة"، فهل سوف تنتهي مدتي عقوبتينا قبل انتهاء الأجل، وفي هذه الحالة هل ستنتهي عقوبة أحدنا قبل الآخر أم أن نهاية العقوبتين سوف تتواكبان معاً في فصل جديد ضمن "هذا الذي يفعلونه فينا ولا نفهمه"!!.
 
* * * * *


 
 
 
المقاول الحاج نديم
 
(1)
 
لطالما كان الشعور بزهو الانتصار يملأني خلال مشاركاتي السابقة المتنوعة في مختلف الجهود النخبوية المبذولة لمكافحة الفساد المطلق، لاسيما إسهاماتي في كشف مستوره أمام الضمائر الوطنية للرأي العام والضمائر المهنية لذوي الاختصاص، عبر قيامي بوضع ما هو متاح من معلومات مجردة بشأن الفساد في معادلات نظرية لتحليلها والتعليق عليها بالمنتديات الثقافية ووسائل النشر والإعلام، حتى كانت معركتي الميدانية الأولى ضد فساد محدد على أرض الواقع الملموس، لأكتشف تدريجياً أن الحقيقة الوحيدة في معادلاتي هي الفساد ذاته الذي أصبح قادراً ليس فقط على التهام المفردات الافتراضية الأخرى للمعادلات كالضمائر الوطنية والمهنية وما شابه، بل أيضاً على التهام مكافحي الفساد أنفسهم مثلي أنا شخصياً لأخرج من تلك المعركة بخزي الهزيمة. ويصعب الجزم في الوقت الراهن بأن معرفتي المسبقة بهذه النهاية كانت ستمنعني في حينه من خوض المعركة الميدانية ضد الفساد أم أن خوضها كان حتمياً ضمن ضرورات التسلسل المعرفي، باعتبار الهزيمة هي العلاج الوحيد الشافي من أمراض اليقين الزائف بمستقبل مشرق لمجتمع مثالي، حيث نبهتني هزيمتي المخزية إلى حقيقة الواقع المجتمعي المؤلم، والذي أصبح خاضعاً لقيادة منظومة جماعات الفساد، بعد نجاح الطفيلية خلال العقود الأخيرة عبر كافة أساليبها الناعمة والخشنة في فرض معادلة جديدة مفادها أن البقاء للأفسد، بما يعنيه ذلك من محاصرة مكافحي الفساد المحتمين بالشرعية والقانون داخل خانة أعداء المجتمع، مع الدفع في الوقت ذاته بالمفسدين والفاسدين لاعتلاء منصات الآباء الروحيين وقادة المجتمع دون أن يفوتهم من آن لآخر إخراج ألسنتهم الكريهة للمنطق والتاريخ والجغرافيا!!.
 
(2)
 
كنت قد اكتشفتُ في منتصف تسعينيات القرن العشرين أن الحاج "نديم" المقاول الذي اشتريت منه شقتي السكنية قد خدعني، حيث باع لي عشرين متراً مربعاً في الهواء قيمتها عشرين ألف جنيه آنذاك ضمن المساحة المتفق عليها، واهماً إياي بأنها حصتي في المنافع المشتركة الخارجية والتي تشمل جراجات واسعة وأرصفة عريضة تطل على شوارع عمومية معبدة، وذلك بخلاف عشرة أمتار أخرى مخصومة من المساحة الإجمالية بالتراضي كما هو شائع لكونها حصتي في المنافع المشتركة الداخلية والتي تشمل الممرات والمناور والسلالم والمداخل. إلا أن المقاول سرعان ما قام بإعادة بيع المساحات الافتراضية المخصصة للمنافع المشتركة الخارجية كمحلات تجارية لآخرين بالمخالفة الواضحة لشروط الترخيص العقاري الصادر له من رئاسة الحي، مع استصداره من رئاسة الحي ذاتها لتراخيص تشغيل تلك المحلات المخالفة مما شجع أصحابها لاحقاً على التمادي في توسعاتهم الرأسية والأفقية حتى ابتلعوا كل الجراجات والأرصفة كما احتلوا كافة الشوارع بمختلف أنواع الإشغالات الثابتة والمتحركة. ولما كان المشروع العقاري يضم خمسمائة شقة سكنية وقع مالكوها الجدد في نفس الخدعة مثلي فإن المقاول يكون قد استولى بخداعنا على عشرة ملايين جنيه، علماً بأنه يملك في نطاق نفس الحي عشرة مشاريع عقارية أخرى بأسماء متنوعة لعدة شركات يجيد محاموه تأسيسها وحلها ودمجها وتفكيكها وفق الاعتبارات المتعلقة بمهارات المراوغة الضريبية، أي أننا بصدد مائة مليون جنيه عوائد المخالفات العقارية فقط داخل الحدود الإدارية لحي واحد ضمن عدة أحياء تشكل خريطة محليات العاصمة، التي يصول فيها المقاول ويجول على هواه باعتباره عضو مجلس إدارة اتحاد مقاولي التشييد والبناء والاستثمار العقاري، الذي يحظى برعاية أحمد عز وهشام طلعت مصطفى وغيرهما من المقاولين المسيطرين على الحزب الحاكم وبالتالي على مجمل مؤسسات الدولة!!.
 
(3)
 
بدأ رد الفعل من جانبي بدعوة المالكين الجدد لمناقشة كيفية مواجهة الخديعة التي تعرضنا لها جميعاً، وانتهى الاجتماع بمنحي تفويضاً مكتوباً لاتخاذ كافة الإجراءات اللازمة من أجل تصحيح أوضاع المشروع العقاري بإزالة المخالفات واستعادة المنافع المشتركة المستولى عليها، وهو التفويض الذي دفعني نحو خوض المعركة الميدانية بتقديم بلاغي الرسمي الأول الموثق بالصور والمستندات إلى رئاسة الحي. ونظراً لصحة التوقيعات العديدة المدونة في التفويض وأهميتها بالإضافة إلى وظيفتي المهنية المرموقة وجواز سفري الدبلوماسي الذي كنت أحمله آنذاك، فإن رئاسة الحي بعد تشاورها مع المقاول اختارتني رئيساً لاتحاد ملاك المشروع بهدف احتوائي والسيطرة على احتجاجي عبر توريطي تدريجياً في مصالح وقرارات تجعلني شريكاً للمخالفين مما يلزمني الصمت إلى الأبد، وهو الهدف الذي سرعان ما اتضح لي فالتزمتُ بأقصى درجات الحيطة والحذر، الأمر الذي كشف للمخالفين صعوبة تحقيق هدفهم فشرعت رئاسة الحي تتحرش بي حتى استقلتُ من رئاستي لاتحاد ملاك المشروع، وعاودتُ رفع بلاغاتي الرسمية الموثقة بالصور والمستندات حول المخالفات العقارية إلى مختلف المستويات التنفيذية الأعلى، لأكتشف لاحقاً أنها كلها قد جرى إرسالها تباعاً إلى رئاسة الحي حيث انضمت لملف بلاغاتي المكتظ والموضوع داخل أحد أدراج الأرشيف، بعد تذييلها بتأشيرة تكرارية تفيد بأنه ستتم إزالة المخالفات وتصحيح الأوضاع بمجرد الحصول على موافقات الجهات الأمنية المعنية حسب الإجراءات المتبعة، وهو ما لم يحدث حتى الآن رغم مرور خمسة عشر عاماً كاملة على بلاغي رقم واحد!!.
 
(4)
 
أجبرني فشل محاولاتي مع المستويات الإدارية والتنفيذية المختلفة على طرق أبواب القضاء باعتباره نظرياً الملجأ الأخير لفرض الشرعية والقانون، رغم ما كان قد تناهى لأسماعي حول أن بعض رجال القضاء الواقف والجالس أصبحوا يهتمون بأشياء عديدة ليس من بينها إقرار العدل وحول أن معظم معاوني رجال القضاء أصبحوا يعاونون مختلف إمبراطوريات الفساد على حساب إقرار العدل، فضاع الكثير من عمري وجهدي ومالي خلال تلك المرحلة من محاولاتي لإزالة المخالفات وتصحيح أوضاع المشروع العقاري، وكان الضياع تارة في سراديب المحامين الذين بدأوا معي ثم انتقلوا إلى الصف الآخر سواء بالانسحاب المفاجئ أو بإفساد القضايا أو بالتصالح فيها دون علمي، وتارة في دهاليز انقطاع التواصل مع الخبراء الهندسيين سواء بعدم استلامهم لتكليفات المعاينة الميدانية أو بعدم ورود تقاريرهم المتضمنة نتائج ما أجروه من معاينات رغم وجودهم بالمبنى المجاور، وتارات في مغارات اختفاء المستندات الهامة من داخل ملفات القضايا إن لم يكن اختفاء الملفات برمتها، لتكون النتيجة هي صدور العديد من القرارات القضائية المتتالية بحفظ بلاغاتي لأسباب تتراوح بين "عدم الاختصاص الجغرافي أو عدم الاختصاص النوعي" وبين "عدم وضوح صفة الشاكي أو صفة المشكو في حقهم" وبين "شيوع التهمة" وبين "التقادم الزمني للمخالفات" ... وما شابه. إلا أن إصراري على تكرار المحاولة عقب كل قرار بالحفظ مع حرصي على سد الذرائع أسفر مؤخراً عن استصداري لقرار قضائي واضح بتحميل رئاسة الحي مسئولية تفشي المخالفات داخل المشروع العقاري وتكليفها بتصحيح الأوضاع حسب الأصل الهندسي الموجود في ترخيص البناء، الأمر الذي دفع المحافظ لإصدار قرارين تنفيذيين متتاليين بمحتوى القرار القضائي الأخير، وتسلمت رئاسة الحي القرارات القضائية والتنفيذية لإدراجها باحترام شديد في نفس ملف بلاغاتي المكتظ بعد تذييلها بالتأشيرة ذاتها حول انتظار ما لا يأتي من موافقات الجهات الأمنية المعنية لفتح جراج وتسوية رصيف وتعبيد شارع!!.
 
(5)
 
طالت المدة التي أمضيتها كادحاً في الأروقة الإدارية والتنفيذية والقضائية سعياً لتطبيق القانون والشرعية حتى قاربت الخمسة عشر عاماً، وهي مدة سمحت للمخالفين بتغيير ملامح الخريطة الميدانية الخاصة بالمشروع العقاري لفرض أمر واقع جديد يتحدى الجميع، حيث تنازل بعض أصحاب المحلات المخالفة تحت رعاية المقاول ورئاسة الحي عن أجزاء من المساحات التي كانوا قد سبق أن استولوا عليها لبناء زاوية رغم الفتوى الشرعية الأزهرية بتحريم إقامة المساجد على الأراضي المخصصة للمنافع، ثم قاموا بتسليم الزاوية الجديدة المخالفة لإحدى الجماعات السلفية ذات الوجود الجماهيري لتديرها على هواها المتطرف مقابل التزامها بتعبئة المصلين ضد محاولاتي لإزالة المخالفات باعتبارها سوف تشمل فيما تشمله إزالة الزاوية ذاتها، وسرعان ما نشرت الجماعة السلفية ميكروفونات الزاوية على امتداد المشروع العقاري كله بما في ذلك أسفل شباك غرفة نومي لتأكيد نفوذها. أما باقي أصحاب المحلات المخالفة فقد قاموا تحت رعاية المقاول ورئاسة الحي بتأجير محلاتهم من الباطن لبعض ذوي السوابق الإجرامية حسب قانون الإيجارات الجديد بقيمة إيجارية تقل كثيراً عن مثيلاتها في السوق، ليجعلوا من تلك المحلات سواتراً لممارسة أنشطتهم الإجرامية، والتي التزمت رئاسة الحي من جانبها بغض الطرف عنها مقابل استخدامهم لكل ما في جعبتهم من أسلحة وفنون إجرامية ضد محاولاتي لإزالة المخالفات باعتبارها سوف تشمل فيما تشمله إزالة المحلات التي يستأجرونها كسواتر لأنشطتهم الإجرامية. وأخيراً قام أصحاب المحلات بالتنسيق مع الجماعة السلفية التي تدير الزاوية وتحت رعاية المقاول ورئاسة الحي بتولية أنصارهم رئاسة اتحادات ملاك المشروع بما أعقب ذلك من الاستعانة بصبيانهم الناضورجية كطواقم حرس وبوابين، ليشكلوا بموجب وظائفهم قاعدة المعلومات الميدانية للجهات الأمنية المعنية. وهكذا نجح تكتل المخالفين في إغلاق دائرتهم بإحكام على محاولاتي لتطبيق القانون والشرعية، أما القرارات القضائية والتنفيذية التي أرفعُها أنا عالياً في وجوههم فقد جعلوا منها مثاراً لسخريتهم!!.
 
(6)
 
رغم أن العدد الإجمالي لشقق المشروع العقاري هو خمسمائة شقة يسكنها حوالي ألفين وخمسمائة شخص، فإنهم قد غابوا بشكل مشين عن المعركة الميدانية لتصحيح أوضاع المشروع مكتفين بالتفويض المكتوب الذي كانوا قد حرروه لي منذ خمسة عشر عاماً، حيث تراوحت مواقفهم الفعلية بين الرحيل الدائم والمؤقت خارج المشروع وبين الصمت يأساً من إزالة المخالفات أو طمعاً في رضا المخالفين أو خوفاً من بطشهم، لاسيما وقد أخذ تكتلهم يتسع على مرأى ومسمع الجميع ليضم مختلف شرائح المجتمع ابتداءً بكبار المسئولين الذين يدعوهم المقاول من آن لآخر إلى جلسات سمر في المشروع، وانتهاءً بصغار صبية الشوارع العاملين كناضورجية على المداخل والممرات، مروراً برئاسة الحي والجماعة السلفية وأصحاب المحلات المخالفة، إلى جانب الجناح العسكري لتكتل المخالفين والذي يضم ذوي السوابق الإجرامية من مستأجري المحلات ودراويش الزاوية مع طواقم الحرس والبوابين وهو الجناح المكلف باستخدام كافة الأسلحة والفنون الإجرامية لتحقيق أهداف التكتل التي بدأت دفاعية لصد محاولات إزالة المخالفات من جانبي، ثم تطورت لتصبح هجومية لإجباري على الصمت القهري أو الرحيل هرباً من منوعات الأذى المادي والمعنوي، ثم وصلت إلى أقصاها باستهداف حياتي ذاتها مستفيدين من الغياب الميداني للجهات الأمنية المعنية. أما بالنسبة لجبهتي أنا الافتراضية فقد اقتصرت على شخصي منفرداً بعد غياب جيراني أصحاب المصلحة في معركتي الميدانية لتصحيح الأوضاع مع غياب الجهات الأمنية صاحبة المصلحة في معركتي الميدانية لتطبيق القانون والشرعية، وقد أربكني غياب "رفاق السلاح" المفترضين حتى أنني اضطررتُ للتنازل عن محضر الشرطة الذي كنت قد حررتُه في أعقاب تحطيم سيارتي بعد تعرضي خلال عودتي إلى شقتي قادماً من قسم الشرطة لإطلاق عدة كلاب متوحشة، كما أنني تراجعتُ في اليوم التالي عن الإبلاغ بانطلاق عدة رصاصات خلال خروجي من شقتي متجهاً إلى عملي، ذلك أن جيراني قد سارعوا بإغلاق نوافذهم تحاشياً لشهادة حق على حادثي الكلاب والرصاص بعد أن كان قسم الشرطة قد رفض طلبي بتكثيف الوجود الأمني الميداني ولو مؤقتاً!!.


 
(7)
 
اتصل بي الحاج "نديم" المقاول لينصحني بالرحيل عن المشروع فوراً ونهائياً حرصاً على حياتي التي أصبحت مستهدفة من قبل الجنائيين والمتطرفين معاً في الوقت ذاته، ولما سألتُه مستنكراً إلى أين الرحيل وقد نجحت الطفيلية في تطبيق شعار البقاء للأفسد على امتداد الواقع المجتمعي كله، أجابني بأنه يضمن لي إقامة هادئة في أي مكان آخر طالما أنني قد استوعبتُ الدرس جيداً وتعلمتُ ألا أحاول مرة أخرى مكافحة الفساد!!.
 
* * * * *



 
 
 
الرئيس عمر سليمان
 
(1)
 
تتشكل منظومة رجال الرئيس من أولئك الذين يحيطون به على شكل ست دوائر سياسية متتالية ومتداخلة في الوقت ذاته، وحسب القواعد البروتوكولية فإن الدائرة الأولى تضم كبار قادة مؤسسة الرئاسة من نواب الرئيس ومستشاريه ومساعديه ورؤساء الديوان الجمهوري والمجالس القومية المتخصصة إلى جانب رؤساء السلطات التنفيذية والقضائية والتشريعية بمجلسيها والأمناء العامين للحزب الحاكم، وتضم الدائرة الثانية وزراء المجموعة السيادية كالدفاع والخارجية والإعلام والعدل والداخلية والحكم المحلي إلى جانب رؤساء المخابرات العامة والأمناء العامين للمجلس الأعلى للقوات المسلحة ولمجلس الدفاع الوطني، أما الدائرة الثالثة فتضم وزراء المجموعتين الاقتصادية والخدمية والمحافظين ونظرائهم على نفس الدرجة الوظيفية كرئيس الأركان والنائب العام وشيخ الأزهر والمفتي إلى جانب رؤساء الهيئات السيادية كالأمن القومي والخدمة السرية والرقابة الإدارية والاستعلامات والمحاسبات والتعبئة وما شابه، بينما تضم الدائرة الرابعة رؤساء مباحث أمن الدولة والأمن العام والأموال العامة ومديري أمن العاصمة إلى جانب أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومجلس الدفاع الوطني مع رؤساء محاكم النقض، في حين تضم الدائرة الخامسة رؤساء الهيئات الاقتصادية والخدمية العامة والجامعات والبنوك الرسمية إلى جانب رؤساء وحدات الحكم المحلي ورؤساء اللجان البرلمانية وأعضاء القيادة العليا للحزب الحاكم مع وكلاء المخابرات العامة والسفراء ورؤساء محاكم الاستئناف، وأخيراً فإن الدائرة السادسة تضم لواءات الجيش والشرطة والأمن والأجهزة الرقابية وعمداء الكليات الجامعية الرسمية إلى جانب وكلاء أول الوزارات ونواب البرلمان والقيادات الوسطى للحزب الحاكم مع رؤساء الاتحادات والنقابات والأندية والروابط والجمعيات الأهلية ورؤساء المحاكم الابتدائية. أما رجال الأعمال فهم ينتشرون في الدوائر الست ليتحدد مدى اقترابهم من رئيس الجمهورية حسب نوعية أنشطتهم الاقتصادية ونطاق استثماراتهم وحجم رؤوس أموالهم، هذا إلى جانب أسرة الرئيس وأفراد عائلته وأنسبائه وأصدقائه والذين يقتربون منه تبعاً لمدى حظوتهم الشخصية عنده!!.
وإذا كانت الدوائر الست المذكورة قد أحاطت بحسني مبارك طوال ستة وثلاثين عاماً متواصلة بدأت منذ توليه موقع نائب الرئيس عام 1975، واستمرت حتى أرغمته الاحتجاجات الجماهيرية عام 2011 على التخلي عن رئاسة الجمهورية التي كان قد سبق له أن تولاها عام 1981، فإن منظومة رجال الرئيس مبارك تكون قد ضمت حوالي مائة ألف عضو، مع استبعاد الذين انشقوا عنها أو عارضوها قبل تخلي مبارك الاضطراري عن منصبه بشكل يسمح بمحو أسمائهم من سجلات عضويتها، سواء كانوا من الأقدمين الذين سبق أن عاقبتهم المنظومة على انشقاقهم أو كانوا من المنشقين الجدد الذين نجحوا في الإيقاع بالمنظومة كلها تحت طائلة الاحتجاجات الجماهيرية المذكورة. إلا أن العضوية الكثيفة لمنظومة رجال الرئيس على مدى أعوامها الستة والثلاثين كانت قد خلقت عدة ضرورات سياسية منفصلة عن الدولة، سواء لضمان متابعة المرشحين بهدف اختبار صلاحياتهم قبل استيعابهم في صفوف العضوية، أو لضمان حسن إدارة شؤون الأعضاء بهدف تحقيق الانسجام بينهم رغم اختلاف مصالحهم، أو لضمان احتواء المتقاعدين منهم بهدف الحفاظ على ولائهم واستمرار صمتهم، أو لضمان الإشراف المباشر على الشبكة السرية لأعضاء المنظومة من منتحلي الصفات المختلفة لاختراق الأوساط المؤثرة على الرأي العام والنخب المجتمعية ذات الطابع الاستقلالي أو المعارض، ولاختراق عصابات الجريمة المنظمة بهدف استخدامها عند الضرورة لصالح المنظومة. واقتضت تلك الضرورات قيام بعض أبرز أعضاء منظومة رجال الرئيس من ذوي التدريب المتميز بتشكيل تنظيم سياسي سري لقيادة عمل المنظومة اليومي، حيث تعاقب على إدارته عدد قليل جداً من أقرب رجال مبارك إليه والذين كانوا يدينون له بالولاء الشخصي المطلق، حتى تولاه مع بداية تسعينيات القرن العشرين السيد عمر سليمان الموصوف من قبل خصومه بأنه الراعي الرسمي للمصالح السياسية الأمريكية والإسرائيلية في مصر، والذي كان رئيساً للمخابرات العامة وأميناً عاماً لمجلس الدفاع الوطني قبل توليه موقع نائب رئيس الجمهورية عام 2011، وبالتالي فقد كان بموجب مواقعه المذكورة مشرفاً على كافة الجهات المعنية بالأمن السياسي الداخلي والخارجي في مصر منذ وقت مبكر. وهو ما أستغله عمر سليمان بمهارة فائقة وتدرج هادئ في إدارة التنظيم السياسي السري لصالح نفسه ومن خلاله نجح في إعادة ترتيب الأوراق داخل منظومة رجال الرئيس كلها بما يدعم نفوذه الفعلي الواقعي على مجمل أروقة الدولة المصرية المعاصرة، بالشكل الذي لم يترك لحسني مبارك في أعوامه الأخيرة سوى الرئاسة الشرفية فقط والتي لم تسلم بدورها من سعي سليمان الحثيث لانتزاعها بمجرد حلول الفرصة، وهى ما ظن أنها واتته في بداية الاحتجاجات الجماهيرية الغاضبة يوم 25 يناير 2011 فحاول مستعيناً بأصدقائه الأمريكيين أن يناور على كافة الأطراف ولكن مناوراته التي أسقطت دولة مبارك كلها بعد ثمانية عشر يوماً فقط قد أسقطته هو أيضاً غير مأسوف عليه من أي طرف مصري، لاسيما وقد تخلى عنه أصدقاؤه الأمريكيون عقب تخليهم عن حسني مبارك ذاته بأيام قليلة، وذلك في إطار ما يتباهون بإعلانه دوماً عن سياساتهم الخارجية من أنهم ليس لهم أصدقاء دائمين ولكن لهم مصالح دائمة!!.
 
(2)
 
عقب تولي حسني مبارك مواقع نائب رئيس الجمهورية وأمين عام مجلس الدفاع الوطني والمشرف على المخابرات العامة وعلى كافة الجهات الأخرى المعنية بالأمن السياسي في مصر مع انتصاف سبعينيات القرن العشرين، كان التحاقي بجامعة القاهرة للدراسة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية التي أخرجت الكثيرين من زعماء الحركة الوطنية الديمقراطية المصرية المعاصرة بأجنحتها الليبرالية والماركسية والقومية والإسلامية، كما أخرجت في الوقت ذاته الكثيرين من أعضاء التنظيم السياسي السري ومنظومة رجال الرئيس. وبينما كان أساتذتنا المنتمين للحركة الوطنية الديمقراطية يناضلون لإقناع البعض منا بالسير في دوائرهم عبر استخدام الوسائل المعروفة للتجنيد السياسي، كان أساتذتنا المنتمين للتنظيم والمنظومة يناورون لإيقاع البعض منا داخل دوائرهم عبر استخدام الوسائل الالتفافية الماكرة. ورغم وضوح ميولي الفكرية الماركسية للقاصي والداني آنذاك فقد ساعدني الفريق الأول من أساتذتي على المتابعة الميدانية لكافة مكونات الحركة الوطنية الديمقراطية المعاصرة والمشاركة الحية في أنشطتها السياسية التي لا تتعارض مع ميولي الأصلية، الأمر الذي أكسبني انتشاراً أفقياً لكنه في الوقت ذاته أصابني بانحسار رأسي، حيث أغضب "الرفاق" الذين وجهوا لي لاحقاً اتهامات تتراوح بين "التحرر الليبرالي" و"التعصب القومي" و"الرجعية الإسلامية"، بعد أن أعماهم ضيق الأفق العقائدي عن حقيقة أن الماركسي الوطني يمكن أن يكون مزيجاً واحداً بنسب مختلفة من كل ذلك معاً، وللأسف فقد أعماني حسن الظن العقائدي آنذاك عن حقيقة أن تلك الاتهامات عندما تصدر من الشيوعيين المصريين فإنها تمهد لإهدار الدم واستباحة المال والشرف والعرض على الطريقة التقليدية للمافيا الدولية. أما الفريق الثاني من أساتذتي فقد استمر على الجانب المقابل يكرر معي مناوراته المدعومة بقدرات الدولة وإمكانياتها رغم فشله عدة مرات دون أن يفقد الأمل، حتى نجحت مساعيه وأنا على أعتاب التخرج في مرتين متتاليتين ليتم استدراجي خطوة تلو أخرى نحو الوقوع داخل إحدى شباك العناكب السامة، ومنذ ذلك الحين تطاردني أسئلة بلا أجوبة عما إذا كان من العدل مؤاخذة نفسي على الوقوع الاضطراري داخل تلك الشبكة، وعما إذا كان بمقدوري تحاشي الوقوع في حينه أم إن ذلك كان يتطلب ما يفوق الطاقات العادية للبشر الطبيعيين!!.
بدأت المرة الأولى مع قيام الكلية التي يتولى عمادتها أحد رجال الرئيس بإعلان رسوبي في انتخابات اتحاد الطلاب رغم يقيني من حصولي على أغلبية الأصوات، وخلال احتجاجي وسط زملائي جاءني أحد أساتذتي المنتمين للتنظيم السياسي السري ولمنظومة رجال الرئيس حيث شغل فيما بعد موقعاً هاماً بالقيادة العليا للحزب الحاكم كما تولى إحدى الوزارات الخدمية، وأعرب عن تضامنه معي محاولاً تهدئتي بتعويضي عن هذه النتيجة المؤسفة من خلال منحي فرصة بديلة لتأدية الدور المأمول في خدمة الطلاب وذلك باختياري محل عضو كان قد توفى لتوه في مجلس آباء الكلية، والذي انعقد بعد ذلك عدة مرات بقاعة الاجتماعات الجامعية الكبرى في أجواء من الفخامة لمناقشة جداول أعمال وهمية لا علاقة لها باحتياجات الطلاب ومشاكلهم الحقيقية، ومع تواصل تلك الاجتماعات كان رئيس مجلس الآباء قد نجح في "اقتناص صداقتي" لأكتشف لاحقاً أنه أحد الأعضاء الأذكياء ذوي التدريب المتميز في التنظيم والمنظومة باعتباره وكيل المخابرات العامة لشئون المعلومات ورئيس جمعية أهلية هامة يتعلق نشاطها بالشأن السياسي. أما المرة الثانية فقد بدأت عندما قامت المدينة الجامعية التي يتولى إدارتها أحد رجال الرئيس بطردي خارج غرفتي السكنية الطلابية مع إلقاء أغراضي على قارعة الطريق أثناء انعقاد اختبارات نهاية العام الدراسي بحجة وصول إفادة من الجهات المعنية حول ميولي الفكرية الماركسية، وخلال احتجاجي وسط زملائي جاءني واحد آخر من أساتذتي المنتمين للتنظيم والمنظومة حيث شغل فيما بعد رئاسة لجنة برلمانية هامة كما تولى إحدى الوزارات الاقتصادية، وأعرب عن تضامنه معي محاولاً تهدئتي بإجراء بعض الاتصالات الهاتفية التي سرعان ما أسفرت عن إعادتي لغرفتي السكنية. الأمر الذي دفعني إلى معاودة الاستعانة به مجدداً عندما تكرر السيناريو ذاته لاحقاً بطردي من عملي في الهيئة العامة للاستعلامات التابعة لوزارة الإعلام مع إلقاء أغراضي على قارعة الطريق استناداً إلى نفس الحجة حول اعتراض الجهات المعنية على ميولي الماركسية، فاصطحبني لاجتماع فوري مع رئيس الهيئة الذي كان بدوره أحد الأعضاء الأذكياء ذوي التدريب المتميز في التنظيم والمنظومة، ليعتذر لي بتودد واضح مؤكداً أن قرار طردي من العمل قد صدر أثناء سفره في مهمة رسمية خارجية ومتوعداً بعقاب المسئول الذي أخطأ بإصداره، ثم أعادني إلى موقع وظيفي أكثر أهمية مما كنت أشغله قبل الطرد لينجح بذلك في "اقتناص صداقتي". ورغم استمرار مواقفي ضد مفردات الأداء السلبي التي سادت أروقة التنظيم السياسي السري ومنظومة رجال الرئيس مبارك بل ومجمل مؤسسات الدولة على أصعدة الفساد والاستبداد والتبعية، والتي لم أتوقف عن إعلانها ضمن كتاباتي السياسية والثقافية المنشورة في مختلف الصحف والمجلات المصرية والعربية والعالمية، إلا أن هذين العضوين الذكيين ذوي التدريب المتميز في التنظيم والمنظومة واللذان كانا قد نجحا بمهارة فائقة في "اقتناص صداقتي" حافظا على تلك الصداقة وقاما بدفعها في خطوات متتالية ومتدرجة ومنسقة، لأجدني بعد ذلك وجهاً لوجه أمام السيد عمر سليمان!!.


 
(3)
 
إن عملية "اقتناص صداقة" الشخص المستهدف تعني قيام الجهات المعنية بدفعه نحو حواف شديدة الخطورة، مما يجبره على الاستعانة بتلك الجهات ذاتها وهو في حالة استعداد لأن تحتويه باعتبارها المحتكر الحصري لخيوط العون في تلك العملية، والتي تعتبر إحدى عمليات مدرسة السيطرة على الخصوم المنقولة عن أجهزة الأمن السياسي لدول حلف الأطلسي في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية، وهي المدرسة التي تستخدم أيضاً العديد من العمليات الأخرى مثل عملية إنهاك وتشتيت الشخص المستهدف بعرقلة خطواته في كافة الاتجاهات والمجالات، لاستنزاف جهده بشكل دائم وإهدار وقته في المحاولات المتكررة لإعادة بناء خطواته والتي يتم تعطيلها مجدداً، الأمر الذي يشغله عن الاهتمام بالشئون السياسية العامة، ومثل عملية استدراج الشخص المستهدف للاشتباك في عدة معارك جانبية زائفة وذات مستوى متدني مع دعم خصومه ليتغلبون عليه، الأمر الذي يحطم روحه المعنوية ويتلف حالته النفسية فيحد من اهتماماته بالشئون السياسية العامة، ومثل عملية تجويع الشخص المستهدف اجتماعياً وعاطفياً وجنسياً بتفكيك أسرته وإفشال علاقاته الخاصة لمنعه من تكوين أسرة طبيعية جديدة، الأمر الذي يوفر لنساء الجهات المعنية جيدات التدريب الفرصة لاختراق حصونه والتمركز بداخلها من أجل تنفيذ تعليمات تلك الجهات ضده، ومثل عملية دفع الشخص المستهدف في وقت مبكر جداً من حياته إلى الانحراف بإثارة وتسييل غرائزه مهما كان نوعها ثم إغراقه فيها لدرجات من العمق تبعده مسبقاً عن الاهتمام بالشئون السياسية العامة قبل وصوله إلى أعتابها، وهي عملية تلجأ إليها الجهات المعنية بهدف نزع الأشواك المحتملة للأبناء المتضررين مما سبق أن ارتكبته تلك الجهات ضد آبائهم فيما مضى، وحسب المدرسة الأمنية للسيطرة على الخصوم فإنه يمكن استخدام كل العمليات المذكورة معاً وفي نفس التوقيت ضد الشخص المستهدف ذاته، تحت سواتر تضليلية تمارسها الجهات المعنية لإبعاد أنصاره الطبيعيين عنه سواء بالدس والوقيعة أو بإشاعة أن الشخص المستهدف تابع لتلك الجهات حتى تنفرد به وتحاصره وتضمن السيطرة عليه، بحيث لا يجد أمامه سوى الاستسلام والخضوع المهين للجهات المعنية أو البقاء قابعاً ومقيداً داخل دائرة الحصار إلى نهاية عمره إن لم تفلت إحدى عمليات السيطرة تحت تأثير زيادة الجرعة وتتسبب في مقتله!!.
رغم أن مدرسة السيطرة على الخصوم قد اعتلت قمة هرم عمليات الأمن السياسي المصري للتخلص من خصوم الدولة ومنظومة رجال الرئيس والتنظيم السري خلال عهد مبارك، إلا أنها لم تنفرد به فقد شاركتها اثنتان من المدارس الأمنية الأخرى، حيث تلتها في الأهمية مدرسة الأساليب النظيفة لتصفية الخصوم أو تقييدهم المنقولة عن أجهزة الأمن السياسي لدول حلف وارسو في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية، وهي المدرسة التي تستخدم أنواعاً مختلفة من العمليات، مثل عملية الإزالة النظيفة للشخص المستهدف باغتياله على أيدي كوادر الجهات المعنية من محترفي القتل بالأسلحة والأدوات والعضلات، مع إخراج وفاته وكأنها ترجع إلى حادث انتحار أو تصادم مروري أو تسرب غازي أو سقوط مصعد أو طلق ناري طائش أو خطأ طبي غير مقصود أو حريق مجهول الأسباب أو تعاطي جرعة مخدر زائدة، أو قتل جنائي على خلفية نزاعات شخصية أو على خلفية السرقة بالإكراه، أو إخفاء جثة الشخص المستهدف بعد اغتياله مع إخراج الأمر وكأنه غياب غامض جاري فحصه ومتابعته بمعرفة الجهات المعنية ذاتها نظراً لأن البحث عن المفقودين يدخل ضمن نطاق اختصاصاتها، أو ما شابه من حالات الإزالة النظيفة التي لم تزل صورها حية في الذاكرة المصرية المعاصرة، ومثل عملية التقييد النظيف للشخص المستهدف سواء بسجنه أو بمنعه من السفر على خلفية قضايا ملفقة ذات طابع جنائي أو أسري أو إداري، إلى جانب التضييق والتعتيم عليه بتشويه سمعته وصورته الذهنية داخل دوائره الحيوية الطبيعية لإجباره على تحديد إقامته في منزله. أما المركز الثالث من حيث الترتيب على قمة هرم عمليات الأمن السياسي المصري للتخلص من الخصوم فقد شغلته مدرسة الإشهار والترويع الموروثة عن أجهزة الأمن التاريخية التقليدية في مصر والشرق الأوسط، وهي المدرسة التي تستخدم العمليات المباشرة ضد الشخص المستهدف سواء لإزالته أو لاعتقاله أو لمنعه من السفر أو لتحديد إقامته على الخلفية الصريحة والمعلنة لأفكاره وآرائه وأنشطته السياسية، بهدف ترويع الآخرين والحد من تأييدهم المحتمل له عملاً بقاعدة رأس الذئب الطائر. وقد كان نصيبي أنا وافراً للغاية من عمليات المدارس الثلاث للأمن السياسي المصري منذ مولدي في نهاية خمسينيات القرن العشرين داخل أحد المعتقلات السياسية لعهد جمال عبد الناصر، حيث كان أبي وأمي قيد الاعتقال بتهمة قيادة الحزب الشيوعي المصري والسعي من خلاله لقلب نظام الحكم، إلا أن تلك العمليات قد اتسمت بمذاق اللجج القميء منذ تولي حسني مبارك لمناصبه قبل ستة وثلاثين عاماً وازدادت مرارة هذا المذاق بتوليه رئاسة الجمهورية منذ ثلاثين عاماً ثم تضاعفت عدة مرات مع إشراف           عمر سليمان على الأجهزة والجهات المعنية قبل عشرين عاماً. ففي         الأيام الأولى لرئاسة مبارك تم اعتقالي وتقديمي إلى نيابة ومحكمة أمن الدولة في قضية سياسية حدثت وقائعها خلال عهد أنور السادات، حيث واجهتني الجهات المعنية باتهامين هما إنشاء وقيادة تنظيم سري يسعى للإضرار بمصالح دولة صديقة اسمه"اللجنة القومية لمقاومة التطبيع مع إسرائيل" مع إنشاء وقيادة تنظيم سري يسعى لقلب نظام الحكم اسمه "حزب 8 يناير الشيوعي المصري". ثم ما لبثت إدارة التجنيد بعد شهور قليلة أن أنهت خدمتي الوطنية الإلزامية قبل بدايتها على عكس          رغبتي في تأديتها لاسيما وقد سبق لي التطوع لقوات الدفاع الشعبي خلال حرب أكتوبر1973، وذلك لتلقيها تحذيرات من الجهات المعنية        حول خطورة ميولي الفكرية الماركسية . وهي نفس التحذيرات التي تلقاها بعد شهور قليلة أخرى المدعي العام الاشتراكي ليصدر قراره بالاعتراض على ترشيحي لعضوية مجلس إدارة شعبة العلوم السياسية بنقابة التجاريين عقب إعلان نجاحي في الانتخابات، وكان ذلك          هو الاعتراض السياسي الوحيد الذي شهده التاريخ المصري بالنسبة للنقابات المهنية رغم وجود بعض الحالات الشبيهة في النقابات العمالية. وبمجيء عمر سليمان أخذت عمليات الأمن السياسي تتصاعد وتتشابك حتى أوصلتني إلى أوضاع كابوسية مرعبة وشديدة التعقيد لاسيما                 وقد غابت عني الأسباب الحقيقية لهذا اللجج القميء في الخصومة السياسية ضدي!!.
(4)
 
قال بعض أصدقائي إن سبب اللجج في الخصومة السياسية ضدي يرجع إلى كراهيتي من قبل رجال الأعمال المنحرفين ومشايخ الجماعات السلفية المتاجرين بالدين، نظراً للميول الفكرية الماركسية التي غلبت على فترة شبابي الأولى. وأضاف البعض الآخر أن السبب في ذلك اللجج يرجع إلى كراهيتي من قبل قيادات الجهات المعنية بالأمن السياسي كموقف وقائي استباقي، خوفاً من انتقامي المحتمل تجاههم للثأر من الأذى الوحشي الذي سبق أن ألحقوه بأبي وأمي فأصابتني معهما أضراره العديدة. بينما رأى أصدقاء آخرون أن سبب اللجج يرجع إلى كراهيتي من قبل رعاة المصالح الأمريكية والإسرائيلية في مصر، والذين يشغلون مواقع هامة داخل التنظيم السياسي السري ومنظومة رجال الرئيس ومؤسسات الدولة الأخرى بما فيها الجهات المعنية بالأمن السياسي، بعد اطلاعهم على التحريات المرفقة مع ملف اتهاماتي في قضية أمن الدولة المشار إليها، بما تضمنته من معلومات حول مسئوليتي عن كتيب التثقيف السياسي الذي كان حزب 8 يناير الشيوعي المصري قد أصدره في بداية عام 1981 تحت عنوان "حرب التحرير الشعبية هي طريق الشعب المصري للتحرر الوطني"، والذي جاء فيه أن الأولوية السياسية في مصر آنذاك كانت لم تزل منعقدة لضرورة استكمال مهام التحرر الوطني بتشكيل الجبهة الوطنية الديمقراطية المتحدة والموسعة، لقيادة مصر نحو خوض الكفاح الشعبي المسلح ضد بقايا الاحتلال الإسرائيلي في سيناء وضد تنامي النفوذ الاستعماري الأمريكي على كافة أصعدة الدولة والمجتمع. وبما تضمنته أيضاً من معلومات حول قيادتي للاحتجاج الجماهيري الأهم ضد مشاركة الجناح الإسرائيلي بمعرض القاهرة الدولي للكتاب في بداية عام 1981 بصفتي أمين عام اللجنة القومية لمقاومة التطبيع مع إسرائيل، وهو الاحتجاج الذي أسفر عن تحطيم الجناح الإسرائيلي واستصدار القرار الرسمي بإغلاقه نهائياً تمهيداً لمنع إسرائيل من المشاركة في أية مناسبة ثقافية تالية على الأراضي المصرية، حتى لا تتكرر الاحتجاجات الوطنية فتنتقل عدواها إلى القضايا الديمقراطية والاجتماعية الملتهبة. أما الأكثر حكمة بين أصدقائي والذين وافقوا الآخرين على أن الأسباب الثلاثة المذكورة معاً تؤدي إلى الخصومة السياسية ضدي، فقد أبدوا تحفظاً وجيهاً تجاه إمكانية إنتاجها لذلك اللجج القميء الذي رأوه نابعاً من كراهية ذاتية ممزوجة بالحقد والغل الشخصيين، داعين إياي للنبش الجاد في ذاكرتي بحثاً عما يمكن أن يقودني لمعرفة سبب اللجج الذي يوشك أن يودي بحياتي وداعين لي أن تساعدني معرفتي المأمولة في تسويته أو تهدئته حفاظاً على حياتي!!.
كان لجارنا المسئول الكبير خلال عهد الرئيس جمال عبد الناصر ابناً محدود الذكاء يكبرني بأربعة أعوام ويذهب معي إلى نفس المدرسة النموذجية المتميزة والتي قبلتني في صفوفها عقب اختبارات ذكاء شاقة، بعد أن كانت قد قبلته تحت ضغط نفوذ أبيه الذي أسهم أيضاً في انتقاله إلى الصفوف الدراسية الأعلى بدون نجاح حقيقي نظراً للخشية من بطش الأب، ثم انتقل إلى مدرستنا أحد معلمي اللغة العربية والدين الإسلامي من الأزهريين الريفيين ذوي اللحى فاستخدمني كأداة لمعاقبة جاري محدود الذكاء، باستدعائي من فصلي إلى فصله لقراءة ما يعجز هو عنه رغم أنني أصغره بأربعة أعوام دراسية مع إرغامي على صفعه بقوة ونعته بالغباء وسط ضحكات أقرانه وسخريتهم منه. واستمر الأب بنفوذه يدفع ابنه إلى ما لا يستحقه من تقدم دراسي بما في ذلك عبوره لحاجز الثانوية العامة حيث انعقدت له لجنة اختبار خاصة داخل أحد المستشفيات بعد ادعائه المرض، ثم ألحقه أبوه بكلية شبه عسكرية لا تشترط حداً أدنى لمجموع الدرجات، وبمجرد تخرجه في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين دفعه أبوه إلى وظيفة هامة داخل إحدى الجهات المعنية بالأمن السياسي، لاسيما مع استمرار تولي الأب لموقع سيادي بارز خلال عهد الرئيس أنور السادات. ومما زاد الطين بلة بيني وبين الابن محدود الذكاء أنه ربما بدافع كراهيته لي ورغبته في الانتقام مني كان أثناء دراسته شبه الجامعية قد تعلق من جانب واحد بصديقتي ابنة الجيران الصغيرة ذات الضفائر والتي تهوى التمثيل والغناء وتعشق الموسيقى والرقص، وعندما طلبها للزواج بعد تخرجه والتحاقه بالعمل رفضته بحسم لأنها تحبني وتراني آدمياً من قلب وعقل يحويان المشاعر والأفكار التي تدفعني نحو الاهتمام بمختلف النواحي الإنسانية، بينما تراه هو مجرد كائن خشبي يتباهى برتبته الأمنية دون أن يمارس أية اهتمامات سوى تنفيذ أوامر رؤسائه وإصدار الأوامر لمرؤوسيه، وكما يحدث في أفلام الشر السينمائية فقد قام الأب بإجبار أسرة الفتاة على تزويجها لابنه فانتحرت قبل أن يلمسها. الأمر الذي أسفر عن إصابة الابن بصدمة عصبية حادة كان من الطبيعي أن تؤدي إلى إنهاء خدمته في الجهة المعنية التي يعمل بها لولا استمرار نفوذ الأب، الذي ظل يرعاه ويدفعه للصعود نحو أعلى الرتب وأهم الوظائف التي تتطلب أقصى درجات الذكاء، حتى بعد أن وسوست له محدودية ذكائه بالاقتراب من إحدى الجماعات السلفية المتاجرة بالدين على مظنة أنها ستوفر له الغطاء العقائدي لكراهيتي. ورغم كوني المجني عليه في كافة معاملاتي السابقة مع هذا المسئول الأمني محدود الذكاء إلا أنه كان ومازال وسيظل لا يرى أمامه سوى الانتقام مني حاملاً في صدره حقداً أسوداً مستعصياً على العلاج، ومستميتاً بغلٍ شخصيٍ شديد في دفع جهة عمله ومن خلالها الجهات المعنية الأخرى مع دفع جماعته السلفية إلى استمرار اللجج في الخصومة السياسية ضدي، دون أدنى إمكانية لتهدئة مشاعره العدائية نحوي حتى لو توسط في ذلك كبار الوسطاء!!.
(5)
 
كان الرئيس جمال عبد الناصر قد أصدر قراراً عام 1960 باقتطاع المواد الدراسية ذات الطابع الإستراتيجي من بعض الكليات المدنية والعسكرية لإنشاء كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، حتى تمد الدولة بالمتخصصين الذين يلبون احتياجاتها لملئ المواقع الوظيفية الشاغرة داخل مؤسسات الدائرة السيادية، التي كان عبد الناصر قد أنشأها قبل أعوام قليلة لتتوسط المسافة بين الدائرتين المدنية والعسكرية في إطار إعادة تنظيم وهيكلة قطاعات الدولة بما يتواءم مع النظام الجمهوري الجديد، وهو الأمر الذي استدعى نقل تبعية نشاطين سياسيين هامين من الدائرة العسكرية إلى الدائرة السيادية الجديدة، وبالتالي إنشاء مؤسستين جديدتين للنهوض بهذين النشاطين وهما جهاز المخابرات العامة الذي تم إلحاقه برئاسة الجمهورية والهيئة العامة للاستعلامات التي تم إلحاقها بوزارة الإعلام، وقد استوعبتا معاً إلى جانب وزارة الخارجية العدد الأكبر من خريجي قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد. ولما كان المنخرطون في الأنشطة السياسية المعارضة أو المستقلة من خريجي قسم العلوم السياسية أمثالي يرفضون الالتحاق بالمخابرات العامة نأياً بأنفسهم عن الشبهات في نفس الوقت الذي تغلق فيه وزارة الخارجية أبوابها أمامهم نأياً بنفسها عن المشاغبات، فإنه لم يكن أمامي بعد تخرجي سوى الالتحاق بالعمل في الهيئة العامة للاستعلامات، والتي يبدو واضحاً من اسمها أن طبيعة نشاطها الرئيسي تقتضي السعي على مدار الساعة لتحصيل كل المعلومات المرتبطة بكافة المجالات دون استثناء، مع فحصها وتدقيقها واستمرار متابعتها لإبلاغها أولاً بأول إلى المعني بها مباشرةً من متخذي القرار حتى لو كان رئيس الجمهورية ذاته، دون تفرقة بين معلومات أوردها قطاع الإعلام الخارجي من قلب أحد القصور الملكية في أي عاصمة أجنبية وأخرى أوردها قطاع الإعلام الداخلي من قلب أحد الأسواق العشوائية في أي قرية نائية. ونظراً لأن أهمية السرعة في إبلاغ المعلومات للشخص أو الجهة المعنية بها لا تقل عن أهمية تحصيلها وفحصها وتدقيقها، فقد كان مسموحاً لرئيس هيئة الاستعلامات بالاتصال الهاتفي المباشر في أي وقت مع رئيس الجمهورية بل وزيارته أيضاً لو أن ما لديه من معلومات يستدعي ذلك، وهو نفس ما كان مسموحاً به لقيادات الهيئة مع وزير الإعلام إلى جانب نظام مفتوح على مدار الساعة للاتصالات الهاتفية المباشرة والزيارات المتبادلة السريعة بين رئيس وقادة وكوادر وأعضاء الاستعلامات، سواء كانوا خارج البلاد أو داخلها في المركز أو الأطراف لضمان سرعة إبلاغ المعلومات التي تم تحصيلها بعد فحصها وتدقيقها إلى المسئولين المعنيين بها لدعم اتخاذ القرار السليم في الوقت المناسب!!.
عند التحاقي بالهيئة العامة للاستعلامات في بداية ثمانينيات القرن العشرين كان عملي الرئيسي هو فحص وتدقيق المعلومات المتعلقة بالشئون السياسية الخارجية المؤثرة على المصالح المصرية سلباً أو إيجاباً، سواء كانت تلك المعلومات واردة عبر وسائل الإعلام والصحافة العربية والأجنبية أو كانت ناتجة عن المقابلات الشخصية الحية مع المصادر العربية والأجنبية المطلعة على الشئون المذكورة، وهي المقابلات التي تجري بمعرفة مندوبي الاستعلامات ومبعوثيها في الداخل والخارج إلى جانب تلك التي أجريها أنا بمعرفتي، لذلك فقد ساعدتني أعمالي المهنية الإضافية كثيراً على متابعة عملي الأصلي في الهيئة وتجويده حيث كنت أراسل من "القاهرة" بعض الصحف والمجلات العربية والأجنبية، دون أن تتوقف مساهماتي الفكرية والنظرية في الشأن السياسي المحلي عبر مواصلتي لكتابة ونشر الأبحاث والدراسات ومقالات الرأي والنصوص الثقافية والأدبية. وكان من بين تلك المساهمات بحثاً موسعاً عنوانه "أزمة الحركة الشيوعية المصرية المعاصرة" نشرته لي مجلة "اليقظة العربية" في شهر مارس عام 1989، متضمناً عدة مقترحات لعلاج تلك الأزمة من بينها دعوة الأحزاب الشيوعية العربية ذات التجارب الشبيهة إلى التدخل الودي لمراجعة أخطاء وانحرافات الشيوعيين المصريين وتوجيه النصائح لهم حولها، في إطار التبادل الواجب للخبرات والمشاورات بين الأشقاء لاسيما وأن أزمة الحركة الشيوعية المصرية تضر بأوضاع مجمل الشيوعيين العرب داخل بلدانهم. ولما كانت الحركة الشيوعية السودانية قد نشأت أصلاً ضمن صفوف الحركة الشيوعية المصرية منذ ظهورها في بدايات القرن العشرين واستمرت كذلك حتى انفصال الدولتين مع انتصاف القرن ذاته، فقد كان من الطبيعي أن يتفاعل الرفاق السودانيون مع دعوتي ويلبون ندائي بإيفاد بعض كوادرهم المحنكين إلى "القاهرة" لمناقشتي فيما احتواه بحثي المنشور من مقترحات تمهيداً لاجتماعهم مع الرفاق المصريين الذين يتهمهم البحث بالمسئولية عن الأزمة، إلا أنه خلال جلستي معهم والتي انعقدت في الأيام الأخيرة لشهر يونيو عام 1989 أذاع "راديو مونت كارلو" خبراً عاجلاً يفيد بنجاح عدد من ضباط الجيش السوداني في تولي حكم البلاد بعد إطاحتهم بالحكم المدني الديمقراطي لتحالف حزبي الأمة والاتحادي، فأبلغني جلسائي الذين كانوا يعرفون جيداً هوية الضباط الانقلابيين بأنهم يميلون إلى الجبهة الإسلامية السودانية المعادية للدولة المصرية، وهي المعلومات التي أكدها لي في حينه الزملاء المراسلون من "الخرطوم" للصحف والمجلات العربية والأجنبية التي كنت أنا أراسلها آنذاك من "القاهرة"، وبعد الفحص والتدقيق السريعين قمت            بالتوجه الفوري إلى منزل رئيس الهيئة العامة للاستعلامات بحي "الدقي" نظراً لوقوع الانقلاب في يوم الجمعة وذلك لإبلاغه بما عندي من معلومات أراها ذات أهمية قصوى ولا تحتمل التأجيل، وافقني رئيس الاستعلامات على تقديري للموقف ثم أجرى اتصالاً هاتفياً مع الرئيس حسني مبارك في حضوري حيث أبلغه بمعلوماتي عن الانقلاب السوداني!!.


 
(6)
 
تلقى الرئيس مبارك معلوماتي حول ميل الضباط الانقلابيين السودانيين للجبهة الإسلامية المعادية للدولة المصرية في نفس الوقت الذي كان يتلقى فيه عدة تقارير عاجلة من الجهات المعنية بالشأن السوداني تفيده بأن هؤلاء الانقلابيين هم من أصدقاء الدولة المصرية بالسودان، دون أن يفوتها التشكيك ليس فقط في صحة معلوماتي ولكن أيضاً في سلامة نواياي بدعوى أنني لم أتخلص بعد من ميولي الفكرية الماركسية التي دفعتني لتبني وجهة نظر الحزب الشيوعي السوداني. وأخذ مبارك بالمعلومات المطمأنة التي وردته في تقارير الجهات المعنية فقام بزيارة شخصية عاجلة إلى "الخرطوم" حيث أعلن من هناك اعتراف الدولة المصرية بالانقلابيين ودعمها لحكمهم الجديد، ولكنه سرعان ما اكتشف وقوعه ضحية للتضليل المعلوماتي. ذلك أن الجبهة الإسلامية التي تولت حكم السودان لتوها كانت تدرك أن "الخرطوم" لا تصلح كعاصمة لدولة الخلافة المستهدفة، مما ألقى على الجبهة مسئولية "أسلمة" إحدى العواصم العربية الكبرى كالقاهرة لتستطيع من خلالها إنشاء وقيادة دولة الخلافة، الأمر الذي دفعها لدعم كافة الحركات الإسلامية المعارضة للدولة المصرية لاسيما تلك التي تستخدم الوسائل الأكثر عنفاً كاغتيال المسئولين والمفكرين والسياسيين وتفجير أماكن التجمعات العسكرية والشرطية والمدنية، واستفادت الجبهة في دعمها للحركات الإسلامية المصرية المعارضة بتعدد جوانب التداخل المجتمعي بين شعبي وادي النيل وباتساع الحدود المشتركة لتسمح بتهريب الأفراد والأموال والأسلحة في الاتجاهين، وضمن هذا الإطار تصاعدت تحرشات الجبهة الإسلامية بالمصالح المصرية على كافة الأصعدة المحلية والثنائية والإقليمية والعالمية حتى وقعت مناوشات حدودية بين الجيشين وصلت إلى حد الاشتباكات المسلحة المباشرة التي أسفرت عن سقوط ضحايا من الجانبين. وإزاء تلك التطورات أمهل الرئيس مبارك الجهات المصرية المعنية عاماً كاملاً لتصحيح خطيئتها المعلوماتية السابقة بأي شكل من الأشكال وصولاً إلى تهدئة الأوضاع بين الطرفين، ثم مد المهلة عاماً ثانياً دون جدوى حيث كانت الدوافع العقائدية لحكومة الجبهة الإسلامية السودانية أقوى من الأساليب البيروقراطية التقليدية التي اعتادت الجهات المصرية المعنية استخدامها مع السودانيين. فلما ضاق صدر مبارك بالأمر كله أصدر عدة قرارات لإعادة تنظيم تلك الجهات، عقاباً لها ليس فقط على خطيئتها المعلوماتية السابقة حول حقيقة انقلاب يونيو 1989 المعادي للدولة المصرية في السودان، ولكن أيضاً بسبب تكذيبها للمعلومات الصحيحة بهذا الشأن والتي كانت قد توافرت عندي وتم نقلها من حوزتي إلى حوزته في الوقت المناسب!!.
شملت قرارات الرئيس حسني مبارك فيما شملته نقل رئيس جهاز المخابرات العامة وأبرز نوابه ومساعديه المتخصصين في الشأن السوداني إلى مواقع أخرى خارج الجهاز، وتعيين السيد عمر سليمان رئيساً جديداً لجهاز المخابرات العامة نقلاً من جهة أخرى، مع منحه صلاحيات مطلقة لاستعادة السيطرة على الملف السوداني، سواء بأن يخصم ما يريده من الاختصاصات الممنوحة للوزارات والأجهزة والهيئات المختلفة، أو بأن يعيد تشكيل كافة القطاعات والإدارات والمكاتب المهتمة بمتابعة ذات الملف داخل المخابرات وخارجها، أو بالإشراف المباشر على توجيه وتشغيل الوحدات المصرية الميدانية العاملة في السودان حتى لو لم تكن تابعة له إدارياً. وباعتباري صاحب المعلومات الصحيحة التي تم تكذيبها في حينه فقد شملت قرارات مبارك تعييني مستشاراً إعلامياً للسفارة المصرية بالسودان بعد أن أصبحت كغيرها من الوحدات الميدانية تقع تحت إشراف عمر سليمان، الذي كان أول قرار اتخذه بموجب صلاحياته المطلقة الجديدة هو الاعتراض على تعييني في السودان بحجة ميولي الفكرية الماركسية، وهو القرار الذي أوقف مبارك تنفيذه مما أدخلني في تحدي شخصي غير متكافئ مع سليمان. ذلك أن سلفي بالموقع ذاته في الوحدة الميدانية نفسها كان قد غادر "الخرطوم" قبل حلول الموعد المحدد لاستلامي العمل بشهرين اثنين في رحلة علاج اضطرارية نظراً لسابق إصابته خلال بعثته بالعديد من الأمراض المتوطنة الخطيرة التي كادت تفتك به، ولم يعجبني خلو موقع المستشار الإعلامي المصري بالسودان في ظل الاحتياج الملح للسيطرة الفورية على فوضى المعلومات المتبادلة بين الطرفين، والتي أدت آنذاك لتصاعد التحرشات الصبيانية من قبل حكومة الجبهة الإسلامية ضد المصالح المصرية إلى حد تعريضها للأضرار والأخطار والتهديدات، فما كان مني سوى السفر قبل موعدي الرسمي بشهرين على نفقتي الخاصة لاستلام العمل الميداني إنقاذاً للموقف، وهو التصرف الذي حظي بإعجاب القيادات العليا لوزارتي الخارجية والإعلام وديوان رئاسة الجمهورية، وفي اليوم الأول لوصولي نما إلى علمي أن أجهزة الأمن السودانية تخطط لاقتحام استراحة الري المصري التي تحوي القصر التاريخي الأكثر فخامة في "الخرطوم" والواقعة على ضفاف نهر النيل إلى جوار القصر الجمهوري السوداني بهدف الاستيلاء عليها، فسارعتُ من جانبي باستضافة قيادات وزارة الري السودانية لقضاء أسبوع ترفيهي داخل الاستراحة بصحبة عائلاتهم ليقيموا في الأجنحة الفندقية العديدة التي يزخر بها القصر على مشارف ملاعب الاستراحة، حتى يتسنى إجراء المسابقات الثقافية والفنية والرياضية فيما بينهم هم وأفراد عائلاتهم تمهيداً لتسليم الفائزين تذاكر السفر المقدمة مني ذهاباً وعودة بين "الخرطوم" و"الإسكندرية"، الأمر الذي أحبط المخططات الشريرة للأمن السوداني وحظي بإعجاب القيادات العليا لوزارة الري المصرية. لذلك فقد كان من الطبيعي أن يرفض كبار المسئولين المصريين قرار عمر سليمان بالاعتراض على تعييني في السودان، لينحاز إليهم الرئيس مبارك ويوجه بوقف تنفيذ القرار لاسيما وقد صدر بعد سفري الفعلي واستلامي للعمل الميداني عام 1992 كمستشار إعلامي بالسفارة المصرية في السودان!!.
 
(7)
 
تعاملت الجهات المصرية المعنية بالأمن السياسي مع وقف تنفيذ قرار الاعتراض على تعييني في السودان باعتباره خسارة لإحدى المعارك في الحرب التي تشنها ضدي من جانب واحد، فراحت تبحث عن ضحية لتحميله مسئولية تلك الخسارة ومعاقبته على ذلك، لتنشر الصحف بعد أسابيع خبر الوفاة الغامضة لرئيس قطاع الأمن بالهيئة العامة للاستعلامات رغم سلامة منطقه وقوة دفاعه عن تصرفه حسب المعايير الأمنية، إذ أنه لم يتأخر في إرسال طلب الحصول على عدم ممانعة الجهات المعنية بشأن موقعي الوظيفي الجديد وإنما أنا الذي قمت بما هو غير مسبوق وبالتالي غير متوقع، بتقديم موعد سفري شهرين كاملين على نفقتي الخاصة وذلك بمعرفة وترحيب القيادات العليا لوزارتي الخارجية والإعلام وديوان رئاسة الجمهورية والذين سلموني بأنفسهم جواز السفر الدبلوماسي اللازم لبعثتي، وهو ما عاقبهم عليه السيد عمر سليمان فيما بعد حيث أزاحهم عن مواقعهم تباعاً. أما رئيس الاستعلامات فقد دفعته وفاة مساعده للشئون الأمنية إلى استدعائي لإبلاغي بحتمية كسب ود عمر سليمان وأتباعه ومبعوثيه في "القاهرة" و"الخرطوم" وكل عواصم العالم بكافة السبل حفاظاً على حياتي، وكلفني رسمياً بإرسال تقارير الصحافة والإعلام والثقافة والرأي العام والعلاقات العامة والدبلوماسية الشعبية عبر القنوات التي تنتهي إلى رئاسة هيئة الاستعلامات، أما تقارير المعلومات والمقابلات الحية ذات الصلة بالشئون السيادية فقد كلفني بإرسالها عبر القنوات التي تنتهي إلى رئاسة المخابرات العامة، دون أن يفوته تحذيري من أي محاولة لاستصدار قرار بنقلي إلى دولة أخرى أو بعودتي لمصر قبل نهاية مدة بعثتي حتى لا أخسر كبار المسئولين المصريين الذين سبق لهم التصدي لقرار عمر سليمان بالاعتراض على تعييني في السودان. فاعتبرتُ الأمر من جانبي تحدياً شخصياً ومهنياً حيث أن نجاح بعثتي بالسودان يفيد المصالح الوطنية المصرية العليا ويؤكد في الوقت نفسه أن معارضتي لسوء أداء بعض كبار المسئولين المصريين لا تحول دون تلبيتي الفورية لنداء الوطن على الوجه الأكمل، ورغم أن بعثتي كانت تتضمن عدة أفرع مهنية إلا أن أكثرها أهمية في ظل ارتفاع حدة التوتر بين الدولتين آنذاك كان الفرع المتمثل في فحص وتدقيق المعلومات، سواء المستجد منها والذي أقوم بتحصيله أولاً بأول أو المتداول منها والسابق تحصيله فيما مضى بمعرفتي أو بواسطة غيري من الزملاء أعضاء الوحدات الأخرى في البعثة الدبلوماسية، عملاً بحقيقة أن توفير المعلومات الصحيحة في الوقت المناسب يزيد من فرص اتخاذ القرارات السليمة لتهدئة التوتر، ولما كان هذا الفرع المهني يتطلب التحامي المباشر مع المصادر البشرية المعبرة عن مختلف مفردات خرائط الدولة والمجتمع في السودان، فقد دفعني حرصي على نجاح بعثتي مبكراً إلى الخطوط الأمامية الملتهبة لتبادل النيران بين كافة الأطراف المحلية والإقليمية والعالمية. وتعددت المهام التي تنتهي بتقارير دورية وخاصة واستثنائية ذات درجات سرية متفاوتة ليتم إرسالها مني يومياً إلى "القاهرة" عبر القنوات المتفق عليها، وهي المراسلات التي ساعدت كثيراً في حماية المصالح الوطنية العليا كما ساعدت أيضاً على رفع الأسهم السياسية لكبار المسئولين ممن كانوا يتلقونها وفي مقدمتهم السيد عمر سليمان، الذي لم يتوقف عن جني ثمار جهودي المعلوماتية منذ إبلاغي للرئيس مبارك بحقيقة انقلاب الجبهة الإسلامية السودانية وهو الإبلاغ الذي سبق أن دفع بسليمان لموقع رئيس المخابرات العامة المصرية!!.
رغم طابع السرية الذي لم يزل يلقي بظلاله على الغالبية العظمى من ملفات المهام المعلوماتية العديدة التي قمت بها خلال بعثتي في السودان والممتدة لحوالي خمسة أعوام، فإن اثنين من هذه الملفات قد تم كشف بعض أسرارهما بشكل تنقصه الدقة في كافة الوسائل الإعلامية ابتداءً من لحظة إنجازي لهما وحتى يومنا هذا بما في ذلك الوثائق التي نشرها مؤخراً موقع "ويكيليكس" على الإنترنت، ألا وهما ملف مهمة "كارلوس" وملف مهمة "أديس أبابا" واللذان كان من نتائجهما غير المقصودة الدفع بالسيد عمر سليمان إلى موقع نائب رئيس الجمهورية مرتين في عام 1996 ثم في عام 2011. فبعد أشهر قليلة من وصولي للعاصمة السودانية وصلها "إيليتش راميريز سانشيز" الشهير باسم "كارلوس" مطروداً من إحدى دول الطوق العربية ذات الشعارات الراديكالية وهو ينتحل صفة دبلوماسي يمني اسمه "عبد الله بركات"، ونزل "كارلوس" في فندق هيلتون الخرطوم الذي كان بالمصادفة محل إقامتي لتجمعني وإياه أروقة الفندق وملحقاته التجارية والترفيهية إلى جانب أندية الأقليات المجاورة والتي وفرت لكلينا الألعاب المتنوعة والسهرات الممتدة وبالتالي الأصدقاء المشتركين، وعقب انتقالنا إلى منزلين متجاورين في قلب "الخرطوم" نشأت صداقة حميمة بين زوجته الفلسطينية وسكرتيرتي الأثيوبية المتقاربتين سناً، لاسيما مع الوجود المشترك لبقايا قديمة خفية داخل أعماقنا نحن الأربعة لحفريات ماركسية لم تكف عن الإطلال برؤوسها من آن لآخر دون استئذان. وبمجرد إبلاغي للقاهرة بالخيوط التي قادتني إلى معرفة الهوية الحقيقية لصديقي الجديد تم توجيهي نحو استمرار متابعته اللصيقة لمعرفة ما إذا كان ينوي شراً تجاه مصر أم لا، مع عدم منحي أي إفادة رسمية بتأكيد أو نفي هويته. إلا أن هذه المتابعة قد جلبت لي الكثير من المتاعب والمخاطر حيث أصبحتُ بسببها مستهدفاً لدى أربع مجموعات مختلفة في الوقت ذاته، وهم يمثلون أنصاره الذين يخشون عليه مني بالنظر إلى وظيفتي الرسمية داخل البعثة الدبلوماسية المصرية، وأعدائه الذين يخشون من حمايتي له بالنظر إلى الجذور الماركسية المشتركة لكلينا، وأجهزة الأمن السياسي السودانية بالنظر إلى رغبتها في التستر على وجوده بأراضيها لحين استفادتها منه بأي شكل، وبعض مبعوثي الجهات المصرية المعنية الأخرى بالنظر إلى أطماعهم في الحصول على الترقيات الوظيفية والمكافآت المالية المخصصة لمن يرشد عنه. ومع انتصاف عام 1994 نجحت إحدى تلك المجموعات الأربع أو ربما كلها معاً في شن هجوماً قاتلاً ضدي باستخدام سيارات مصفحة داهمت سيارتي الصغيرة خلال قيادتي لها وأسقطتها وأنا بداخلها عبر حافة حجرية شديدة الانحدار لتستقر في أعماق نهر النيل، وذلك عقب مغادرتي لحفلة ترفيهية كانت قد جمعتني وإياه بالنادي الدبلوماسي في "الخرطوم". ورغم أن الحادث أسفر عن كسور مضاعفة تعجيزية بعمودي الفقري إلا أنني أكملتُ مهمتي مع "كارلوس"، لاسيما وأنه كان متمسكاً بصداقتي إلى أقصى حد ورافضاً في الوقت ذاته السماح بالاقتراب من حياته الشخصية لغيري من المصريين حتى لو كان السيد عمر سليمان نفسه!!.
 
(8)
 
اقتضت الأمانة الأخلاقية والسياسية إلى جانب الواجب المهني بما استلزمه من فحص وتدقيق معلوماتي أن تنتهي مهمتي قبل نهاية عام 1994 بإغلاق ملف متابعة "كارلوس" من جانبي، بعد إبلاغ "القاهرة" بالحقائق التي كشفت لي أنه لا ينوي شراً بمصر وبالتالي فإن وجوده في السودان لا يشكل خطراً على المصالح المصرية، وباعتباري أمثل مصر فقط سعياً لتحقيق مصالحها ودرء المخاطر عنها فإن خصوماته التاريخية مع بعض الدول الأجنبية لا تدخل ضمن نطاق اختصاصاتي الوظيفية أو اهتماماتي الوطنية، رغم حرص السيد عمر سليمان على مجاملة قادة تلك الدول الأجنبية، عبر عدة محاولات متتالية فاشلة لدفعي نحو مخالفة ضميري بالادعاء الكاذب ضد "كارلوس" بأن وجوده في السودان يأتي ضمن خطط إلحاق الأذى بالمصريين التي تتبناها الجبهة الإسلامية وأجهزة الأمن السياسي السودانية، أولئك الذين كانوا بدورهم قد أيقنوا مثلي أن ضيفهم "كارلوس" يرفض التجاوب مع مخططاتهم العملياتية المخالفة لميوله الفكرية بما فيها خطط إلحاق الأذى بالمصريين، فقاموا ببيعه سراً إلى الحكومة الفرنسية مقابل بضعة ملايين من الدولارات وعدة مكاسب أخرى غير معلنة. إلا أنه بمجرد الإعلان عن إيداعه أحد السجون الباريسية عقب اعتقاله في سبتمبر عام 1994، حتى سارع عمر سليمان بإذاعة أحد شرائط الفيديو السابق إرسالها مني إليه بعد تصويره بمعرفتي خلال حفلة ترفيهية كانت قد جمعتني معه بالنادي القبطي في "الخرطوم" ليمنح بذلك الرئيس حسني مبارك فرصة للتباهي بأن أجهزته تعلم كل شيء في كافة الأماكن، مما أعطاه جرعة استثنائية من المصداقية لدى قادة بعض الدول الأجنبية الذين كانوا يستشعرون الحرج أمام شعوبهم بسبب استشراء الفساد والاستبداد داخل أروقة الدولة المصرية، وقد رد مبارك هذا الجميل لسليمان بالتجديد له في موقع رئيس المخابرات العامة المصرية لمدة عام آخر بعد بلوغه سن التقاعد الذي وافق 1995، ولكنهما التزما الصمت سوياً حيال المداخلات الإعلامية الهجومية لرئيس المخابرات السودانية آنذاك والتي سخر فيها من التباهي المصري محاولاً نزع المصداقية الناجمة عنه بالتشكيك في الكفاءة المهنية، حيث ادعى أنني شخصياً لم أكن على علم بهوية "كارلوس" الحقيقية رغم صداقتي الحميمة معه وبالتبعية فإن مبارك وسليمان لم يكونا يعلمان أي شيء عنه، وإلا لماذا سكت المصريون عن وجوده لمدة قاربت العامين في السودان قبل أن تسلمه حكومتها إلى فرنسا حسب سؤاله الاستنكاري، ولم تستطع الجهات المصرية المعنية مواجهة المسئول السوداني المخادع حيث كان الرد الحصري في حوزتي أنا الممنوع من الكلام، وهو أن المصريين لا يتعرضون بسوء سوى للذين ينوون شراً بهم أو يشكلون خطراً على مصالحهم وحقوقهم وسيادتهم الوطنية و"كارلوس" لم يكن من هؤلاء أو أولئك!!.
تدفع السياسات العقائدية بالدول التي تتبناها نحو الميول التوسعية تحت مبررات الفتح أو التبشير أو الثورة الأممية الدائمة أو العولمة أو غيرها، لذلك فإن الدول ذات الدوافع السياسية العقائدية تستخدم العديد من الأدوات المباشرة وغير المباشرة لتحريض الشعوب المجاورة على تغيير أنظمتها لتولية حكومات تتبنى سياسات عقائدية شبيهة بها، لاسيما لو كانت هناك اعتبارات مشتركة كتلك القائمة بين مصر والسودان، لذلك فقد نشأ في "الخرطوم" مكتب فني سري لدعم الحركات الإسلامية أسماه معارضوه "عصابة الأربعين حرامي" لضمه عدد أربعين عضواً يمثلون أبرز التنظيمات الإسلامية الجهادية العنيفة التي تستخدم الاغتيالات والتفجيرات كوسائل للوصول إلى حكم بلدانها وللانتقام مما يسمونها دول الكفر والاستكبار، وكان الأربعون عضواً يجتمعون سنوياً ومن ضمنهم الأعضاء المصريين تحت إشراف كبار مسئولي الجبهة الإسلامية وأجهزة الأمن السياسي السودانية داخل مقر هيئة الصداقة الشعبية العالمية المجاور للقصر الجمهوري على ضفاف نهر النيل في "الخرطوم" ليتبادلوا فيما بينهم المعلومات والخبرات والاحتياجات وتوزيع الأدوار بشأن العمليات المستقبلية لاسيما لو كانت ذات طابع إقليمي أو عالمي عابر للحدود. ولأن مصادري كانت هناك فقد تمت موافاتي بالتوصيات الختامية لاجتماع مكتب الأربعين في عام 1994 والتي تضمنت توصية تحوي عدة سيناريوهات لاغتيال الرئيس المصري حسني مبارك، ومن بينها سيناريو الهجوم المسلح على سيارته عقب مغادرتها أرض المطار الدولي للعاصمة الأثيوبية "أديس أبابا" خلال زيارته المرتقبة في العام التالي ليرأس اجتماعات مؤتمر القمة الدوري لمنظمة الوحدة الإفريقية، وحسب نص التوصية فإن الاغتيال ستنفذه مجموعات انتحارية تابعة لبعض التنظيمات الإسلامية الجهادية المصرية بدعم وتغطية كاملين من عناصر الأمن السياسي السوداني المتغلغلة في أروقة الدولة الأثيوبية، وبدافع من التزاماتي الوطنية وواجباتي الوظيفية تم رفع الأمر مني بشكل فوري عبر القنوات التي تنتهي مباشرةً إلى حوزة السيد عمر سليمان والذي كان يفترض أن يقوم من جانبه بإبلاغ الرئيس مبارك مع اتخاذ الاحتياطات الأمنية الواجبة، بما قد تستلزمه من إلغاء زيارة مبارك وتكليف أحد كبار المسئولين المصريين بحضور الاجتماعات بدلاً عنه أو على الأقل تغيير موقع هبوط طائرته وخط سيره الأرضي كما جاء في مقترحاتي المرفقة بتقرير المعلومات، إلا أن عمر سليمان أبقى على برنامج الزيارة كما كان معلناً من قبل مع قيامه في الوقت ذاته ببعض الأفعال الاستعراضية المكشوفة، مثل استبداله سيارة المراسم الأثيوبية بأخرى مصفحة جلبها خصيصاً من "القاهرة" ليركبها بجوار الرئيس على غير مقتضى البروتوكول حتى يكون جسده هو خط الدفاع الأخير عنه كما قال له. ونجا مبارك من محاولة الاغتيال التي تابعها العالم كله ليكافئ سليمان على أفعاله الاستعراضية بقرار تعيينه نائباً لرئيس الجمهورية عام 1996، وهو القرار الذي سرعان ما اضطر مبارك لتجميده دون إلغاء حيث استمر التجديد لسليمان في موقع رئيس المخابرات العامة المصرية لمدة خمس عشرة سنة أخرى إضافية قبل أن يعاود الرئيس مبارك تعيينه مجدداً في عام 2011 نائباً لرئيس الجمهورية!!.
 
(9)
 
بعد عودتي النهائية إلى "القاهرة" استقبلني قادة الجهات ذات الصلة المباشرة بالشأن السوداني كوزارات الخارجية والإعلام والري وديوان رئاسة الجمهورية، للإعراب عن استحسانهم لما سبق لي تحقيقه خلال بعثتي إلى السودان من نجاح في المهام المعلوماتية العديدة التي تم تكليفي بها وكانت لا تقل خطورة عن مهمتي "كارلوس" و"أديس أبابا" الأكثر شهرة. وفي خضم هذا الترحيب والاستحسان ألمحت إجاباتي العابرة على بعض الأسئلة العرضية لاحتمال قيامي فيما بعد بكتابة ونشر حكاياتي، ليس فقط المتعلقة بالشأن السوداني ولكن أيضاً حول تجاربي العديدة مع شئون عربية ودولية أخرى كانت قد أقحمتني فيها ظروفي المهنية والسياسية بأشكال مختلفة، إلى جانب حكاياتي الموجعة التي سبق أن وقعت داخل الأراضي المصرية. ورغم تأكيدي على الالتزام المهني والأخلاقي والوطني بكتمان المعلومات ذات الطابع السري أو الشخصي، إلا أن مجرد التلميح باحتمال كتابة حكاياتي ونشرها قد تسبب في إحالة ملفي إلى الوحدة الأكثر خطورة ودموية داخل الجهات المعنية بالأمن السياسي في مصر وهي المعروفة باسم "وحدة تصفية الشهود" والتي سارعت بالتحرك على أربعة محاور مترابطة، كان أولها هو منعي من السفر خارج البلاد إلا بموافقة الجهات المعنية ذاتها، مع حرماني من السفر المهني عند حلول دوري في قوائم المستشارين الإعلاميين بالخارج، أما ثانيها فكان وقف علاج عمودي الفقري المصاب بكسور مضاعفة وتعليق حاجتي الملحة إلى هذا العلاج كورقة ضغط لإخضاعي داخل بيت الطاعة الأمني، رغم أن إصابة عمودي الفقري كانت قد وقعت لمنعي من مواصلة مهمة "كارلوس" التي كلفتني بها تلك الجهات في ظل عجز كوادرها عن تنفيذها، بينما كان المحور الثالث هو تضليل المتعاطفين معي في أوساط الدولة والمجتمع لحرماني من دعمهم، وأخيراً فقد تمثل المحور الرابع في الاستخدام المكثف والمتوازي لكافة شرور السيطرة والتقييد والإزالة سواء النظيفة أو الصريحة ضدي، مما استدعى وضع خريطة البدائل الخططية الأمنية التي تحوي جميع العمليات القابلة للتنفيذ على أرض الواقع، لتتلقى كل أجزاء جسدي ونفسي ومحيطي الحيوي الطبيعي عشرات الضربات الموجعة طوال خمسة عشر عاماً متواصلة. ونظراً لانهيار مقاومتي عدة مرات تحت وطأة تلك الضربات باعتباري إنسان عادي ضعيف في مواجهة الجهات المعنية، فقد زاد يقيني بأن بقائي حياً ومرفوع الرأس حتى اليوم لم ينجم إلا عن حماية إلهية كانت حيناً مباشرة وأحياناً غير مباشرة من خلال الأيادي الطيبة لبعض كبار المسئولين في أوساط الدولة والمجتمع، بما في ذلك الأوساط المحيطة بالسيد عمر سليمان نفسه والذي كان بصفته الإشرافية على جميع الجهات المعنية بالأمن السياسي في مصر يشرف أيضاً على "وحدة تصفية الشهود". ولكن محدودية علمي بتفاصيل وقائع الحماية تعجزني عن المكاشفة ليقع على أصحاب تلك الأيادي الطيبة وحدهم مسئولية عدم الكتمان لاسيما وقد تجاوز الأمر نطاق المعلومات إلى نطاق شهادة الحق الواجبة!!.
 أصابني الارتباك الشديد ليس فقط بسبب سوء استقبالي المناقض لتوقعاتي بالحصول على معاملة تعوضني عن معاناة الأعوام الخمسة من الأشغال الدبلوماسية الشاقة بالسودان، ولكن أيضاً لفشلي في التنبؤ بمستقبلي الشخصي والمهني والسياسي مع استمرار تعرضي لسلسلة متصاعدة من العمليات الضاربة التي يتعذر التعايش معها أو التصدي لها أو الهروب منها، وقد أسفر ذهول صدمة سوء الاستقبال إلى جانب معاناة أوجاع تلك العمليات عن شل ردود أفعالي وإلزامي الصمت العاجز لبضعة أعوام، قبل اقتناعي بضرورة التحرك الدفاعي والذي تمثل في لملمة أشلائي المبعثرة واتخاذ أقصى درجات الحيطة مع الحذر من الغرباء، ومعاودة كتابة ونشر مقالاتي وأبحاثي الكاشفة لوقائع الفساد والاستبداد والتبعية التي تشهدها أروقة التنظيم السياسي السري ومنظومة رجال الرئيس والدولة المصرية المعاصرة برمتها، تمهيداً لكتابة حكاياتي ونشرها بشكل متدرج ومحسوب. دون أن تتوقف الجبهة المضادة قط عن إطلاقها لمختلف أنواع المقذوفات النارية تجاهي بشكل تصاعدي بدأ بالنيران الخفيفة المتمثلة في السعي لاستدراجي نحو أحد أفخاخ الفساد، الأمر الذي اقتضى دفعي لشغل عضوية مجالس إدارات بعض الجمعيات الأهلية الهامة ذات الصلة بالشأن السياسي والتي تتخذها الجهات المعنية كسواتر لعملها الجماهيري، مع تكرار محاولات توريطي لتولي أمانات صناديق تلك الجمعيات رغم وجود غيري من المتخصصين في الشئون المالية والمحاسبية. كما اقتضى الأمر ذاته منحي عرضاً لإشراكي بنسبة خمسة في المائة من أرباح باخرة سياحية ترفيهية مقابل مشاركتي بالمجهود الخاص بمتابعة الإجراءات الإدارية اللازمة لاستخراج تراخيص تشغيل الباخرة، والتي كانت تابعة لشركة مدعومة مباشرةً من السيد عمر سليمان وأزواج بناته وهم قادرون على استخراج التراخيص المطلوبة بالاتصالات الهاتفية دون حاجة إلى مجهوداتي المزعومة، لذلك فقد كان رد فعلي السريع هو الاعتذار عن قبول عرض المشاركة في الباخرة مع الفرار خارج الجمعيات الأهلية المذكورة. ثم جاء دور النيران المتوسطة المتمثلة في عمليات التضييق المهني والتي شملت فيما شملته إلغاء مشاركاتي البرامجية الثابتة في الإذاعات المصرية الموجهة للخارج، وتحويلي من كادر تنظيمي داخل القوة الأساسية لهيئة الاستعلامات إلى صفة إشرافية استشارية، وهي الصفة التي حاولتُ استثمارها باختياري لبعض زملائي ضمن مجموعة عمل استشارية تحمل اسم "مجموعة التوجيه السياسي"، لتقوم برصد الأزمات المحلية والإقليمية والعالمية المؤثرة سلباً على مصر سواء كانت قائمة أو محتملة لتحليلها والتعليق عليها والتوجيه بعدة مقترحات بديلة لكيفية التعامل الأمثل معها، وصولاً إلى درء الأخطار وحماية المصالح العليا للوطن بصرف النظر عن رموز الفساد والاستبداد والتبعية الذين كانوا يفتعلون تلك الأزمات لينتفعوا من ورائها، والذين أزعجتهم للغاية تقارير المجموعة فكان أن تم استدعائي رسمياً إلى إحدى الجهات المعنية لتكليفي بحل المجموعة وتسريح أعضائها، الأمر الذي حدث بالفعل في ظل تراخي وزير الإعلام ورئيس الاستعلامات اللذان كانا قد تسلما المنصبين لتوهما، لاسيما وقد كان الوزير الجديد أحد أعضاء السكرتارية الخاصة لزوجة الرئيس مبارك بينما كان رئيس الهيئة الجديد أحد أزواج بنات عمر سليمان، ورغم حداثة السن وضآلة الخبرات والمجيء من المجهول فقد سيطر الرجلان على الإعلام المصري ونجحا في إلحاقه كتابع مطيع للجهات المعنية بالأمن السياسي بعد أن كان نداً لها تحت قيادة الجيل الأسبق من رجال مبارك!!.
(10)
 
لكل شخص مجال حيوي طبيعي يضم أعضاء الأسرة والعائلة والأنسباء والأصدقاء والجيران وزملاء العمل، إلى جانب منتسبي نفس النادي والنقابة والجمعية الأهلية وما شابه، مع الرفاق ذوي الأفكار والاهتمامات الشبيهة أو المتقاربة والأفراد الآخرين ذوي المعاملات المنتظمة في مجالات المصالح والخدمات المشتركة أو المتبادلة. ويتعايش الشخص بالتفاعل التبادلي مع مجاله الحيوي الطبيعي على امتداد حياته رغم اضطراره من آن لآخر إلى القيام بالإحلال والتجديد لبعض أطراف هذا المجال، وبتسوية أو تهدئة النزاعات التي يمكن أن تظهر هنا أو هناك داخل إحدى دوائر المجال سواء بين بعض أطرافه والبعض الآخر أو بين بعضهم والشخص نفسه صاحب المجال. وفي إطار النيران الكثيفة للجهات المعنية ضدي تم افتعال عشرات النزاعات معي في الوقت ذاته من قبل الغالبية العظمى لأطراف مجالي الحيوي الطبيعي دون أدنى إمكانية للتسوية أو حتى للتهدئة، حيث استمر مشعلوا النيران في إمدادها بالحطب والبنزين مع الاستعانة بالعناصر البشرية اللازمة لتوسيع نطاق النيران وإذكاء حموتها كالبلطجية وفتيات السيطرة، الذين تم الدفع بهم داخل مجالي الحيوي الطبيعي ليكونوا الأصابع الخفية لممارسة ألاعيب الجهات المعنية في الإنهاك والتشتيت والاستنزاف وإتلاف الحالة النفسية، إلى جانب الدس والوقيعة بيني وبين المناصرين المحتملين لي وإيهامهم بتبعيتي لتلك الجهات حتى يتوقفوا عن مناصرتي بدعوى عدم جواز التدخل في شئونها الداخلية، وصولاً إلى إحكام الحصار وإكمال السيطرة، وذلك طوال الخمسة عشر عاماً الماضية وفقاً لتفاصيل مرعبة فيما يخص كل واحدة من العمليات التي أصابتني على حدا بحيث يمكن اعتبار أي واحدة منها واقعة جنائية مستوفاة الأركان تستوجب العقاب القانوني المشدد لمرتكبيها والمحرضين عليها، إلا أن أشدها وطأة على نفسي كانت العمليات التي أسفرت عن إغراء بعض أقرب المقربين لمغادرة مجالي رغم احتياجي لهم فيما تبقى من عمري وتلك التي أسفرت عن تضليل بعض رجال العدالة للامتناع عن إنصافي رغم لجوئي إليهم مستغيثاً من جرائم ثابتة. دون أن تتوقف الجهات المعنية عن إطلاق النيران شديدة الكثافة تجاهي والتي تمثلت في ثلاث محاولات متتالية للإزالة النظيفة بعد عودتي إلى " القاهرة"، كانت الأولى بوضع جرعة ضخمة من مخدر الهيروين في كوب العصير الذي قدمته لي مديرة منزلي المزيفة، أما الثانية فكانت بفرم سيارتي وأنا في داخلها من قبل سيارات نقل ثقيل انتظرتني أثناء توجهي إلى مقر عملي لتلبية استدعاء مهني عاجل في يوم الإجازة الأسبوعية، بينما كانت الثالثة بفتح غاز البوتاجاز خلال نومي على يد أحد أقرب أقربائي قبل أن يغادر المنزل تاركاً إياي نائماً. ورغم أن بعض الأنظمة القانونية في بلدان العالم المختلفة تطلق سراح المحكوم عليه بالإعدام لو نجا من الموت بعد ثلاث محاولات فاشلة، باعتبار أن نجاته إشارة إلهية لأهمية الإبقاء على حياته، إلا أنني عقب نجاتي من المحاولات الثلاث المذكورة للإزالة النظيفة مازلت أشعر وكأنني في انتظار المحاولة الرابعة!!.
أحالت الجهات المعنية الوكيل الذي يتولى "متابعتي" إلى التقاعد بمجرد بلوغه الستين عاماً من عمره دون التجديد له أسوة بزملائه نظراً لفشله في إزالتي أو تقييدي أو حتى إخضاعي الكامل للسيطرة، لاسيما وقد أشاع زملاؤه أنه كانت تراوده أحياناً ذكرى إنقاذي لحياته خلال مشاركتي في صفوف قوات الدفاع الشعبي عندما أسقط الإسرائيليون طائرته بجوار مدينة "السويس" أثناء حرب أكتوبر1973. وعقب تقاعده انتقلت ملفاتي إلى جاري السابق الذي طالما أجبرني المعلمون على صفعه بسبب محدودية ذكائه في المدرسة الابتدائية التي جمعتني وإياه منذ حوالي خمسة عقود زمنية، والذي انتحرت زوجته قبل أن يلمسها لأنه كان قد استخدم جبروت عائلته لاختطافها عنوة مني كإجراء انتقامي منذ حوالي ثلاثة عقود زمنية، وذلك بعد أن أصبح محدود الذكاء هذا يشغل داخل الجهات المعنية موقعاً بارزاً يتطلب أقصى درجات الذكاء. وفور استلامه لمهمة "متابعتي" قام الوكيل الجديد باستدعائي إلى مكتبه ليستعرض أمامي صلاحياته المطلقة المستمدة من التفويض الذي منحته إياه في مواجهتي جهة عمله ذات النفوذ الديناصوري، ثم أصدر لي أوامر مباشرة بالتوقف عما أسماه "هواية" كتابة ونشر المقالات والأبحاث والحكايات المزعجة لكبار المسئولين، تحت التهديد الصريح بأنني في حالة عدم تنفيذي لأوامره ستكون نهايتي مرتدياً قميص الأكتاف داخل أحد مستشفيات المجانين لأقضي به ما تبقى من عمري، متباهياً بأن ذلك هو نفس الذي سبق أن فعله أبوه بأبي مع فارق هام يتلخص في أن أحداً لن يسأل عني حينئذ بالنظر إلى نجاح عمليات إقصاء المحيطين بي لإبقائي وحيداً بدون أي نصير بشري. وبعد عدة أشهر من التفكير المضطرب وإزاء معرفتي المسبقة بإحجام قادة الدولة والمجتمع عن مواجهة الجهات المعنية لأجلي خوفاً على مناصبهم، فقد كان قراري بالتوجه إلى خط الدفاع الأخير وهو ديوان رئاسة الجمهورية والذي سبق لمسئوليه أن طالبوني باللجوء إليهم عند الضرورة، واتصلتُ هاتفياً لتحديد الموعد المناسب إلا أن رئيس الديوان رد شخصياً على اتصالي ليسألني عما يؤرقني، فقلت له إنها مشكلة من النوع الذي لا يصلح الحديث بشأنه عبر الهواتف فنصحني بكتابتها وتسليمها لمكتب السكرتارية فقلت له مرة أخرى إنها من النوع الذي يجب تسليمه يداً بيد مني وبشكل مباشر سواء إليه أو إلى المستشار السياسي بحيث تصل مكاتبتي فيما بعد ليد رئيس الجمهورية شخصياً، فحدد لي موعداً بعد أسبوع داخل مكتبه بديوان رئاسة الجمهورية في قصر عابدين. وقبل الموعد المحدد بساعات قليلة كان السيد عمر سليمان الذي تشكوه مكاتبتي قد حلف اليمين كنائب رئيس الجمهورية ليتولى بعد ذلك رئاسة الجمهورية بالتفويض، وبالتالي فقد أصبح رئيس الديوان والمستشار السياسي تابعين له بعد أن كانا في موقع الندية، وذلك عقب التداعيات العديدة المتسارعة لاحتجاجات 25 يناير الجماهيرية الغاضبة، الأمر الذي حال دون ذهابي إلى موعدي، لاسيما وأنني كنت حينئذ أتوجه إلى ميدان التحرير كلما سمحت الحالة الصحية لعمودي الفقري المكسور كي أشارك المحتجين مطالبهم بالحرية والعدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد واستكمال مهام التحرر الوطني والقومي، حتى حل اليوم الحادي عشر من فبراير عام 2011 واضطر حسني مبارك للتخلي عن رئاسة الجمهورية بما أدى إليه ذلك من سقوط دولته واختفاء تنظيمه السياسي السري وانهيار منظومة رجاله الذين تم إيداعهم داخل السجون وهو بصحبتهم، مع استثناء البعض منهم وعلى رأسهم عمر سليمان الذي كان قد حقق حلمه برئاسة جمهورية مصر العربية لمدة يوم واحد فقط، إلا أن سليمان الذي أصبح منذ سقوط الدولة المباركية أحد أشباح الماضي البغيض الموصوفين بالفلول قد فاجأنا ليس فقط برفضه مغادرة المشهد الحاضر ولكن أيضاً بتأكيده أنه سيعود في المستقبل، بعد أن سبق له النجاح على صعيد توريث زمرات من صبيانه الذين مازالوا ينتشرون كالأفاعي السامة داخل كل مؤسسات الدولة والمجتمع ليمارسوا نفس الأدوار المرعبة في التخلص من الخصوم بالإزالة والتقييد والسيطرة، اللهم اكفنا جميعاً ما لا نطيقه من شرورهم!!.
 
  طارق المهدَوي


 
 
 
فهرس الحكايات
 
1) الرفيق إسماعيل المهدوي
 
5
2) اللواء إبراهيم عزت
 
31
3) الشاعر صلاح عبد الصبور
 
47
4) الأكاديمي حامد ربيع
 
67
5) المحارب الأممي كارلوس
 
83
6) المقاول الحاج نديم
 
99
7) الرئيس عمر سليمان
 
109
 



التعريف بالكاتب

 
 

 
 
 
 
 
 
 
 
 


·                          صاحب الحكايات المستشار الإعلامي طارق المهدوي.
·      عمل في السابق كدبلوماسي بعدة سفارات مصرية في الخارج، وكصحفي مسئول عن بعض المطبوعات المتنوعة.
·                          صدرت له عدة دراسات سياسية ونصوص أدبية أهمها:-
 - الإخوان المسلمون على مذبح المناورة، دار آزال، بيروت، 1986.
 - أوراق مهملة في المسألة المصرية، دار آزال، بيروت، 1987.
 - مصر بين الاستبداد الفرعوني والعولمة الأمريكية، دار الثقافة الجـديـدة، القاهرة، 2000.
 - انهيار الدولة المعاصرة في مصر، دار العالم الثالث، القاهرة، 2006.
 - اللون الأسود، مجموعة قصصية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهـرة، 1991.
 - بعض الذي عملوا، مجموعة قصصية، الهيئة المصرية العامـة للكتــاب، القاهرة، 2008.
 - أوراق من دفتر الأوجاع، رواية، سلسلة روايات الهلال، فبـراير 2009، دار الهلال، القاهرة.
 



#طارق_المهدوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رفعت السعيد...جه يكحلها عماها
- أوراق من دفتر الأوجاع
- المدينة بين زلزالين
- عشرات السنتيمترات
- دعاء جدتي ضد الظالمين
- معلهش إحنا بنتبهدل
- عالجوهم أو اعزلوهم
- أشعار نازفة وشعارات ناسفة
- فوبيا العداء للجنس في الأذهان الفاشية
- صديقي المحارب الأممي كارلوس
- أخلاقنا وأخلاقهم
- استدراج الملحدين في أكمنة الدولة المصرية
- الغياب المتبادل بين الفن والجماهير (4) التذوق
- الغياب المتبادل بين الفن والجماهير (3) الوعي
- الغياب المتبادل بين الفن والجماهير (2) التطبيق
- الغياب المتبادل بين الفن والجماهير (1) الإبداع
- من سجلات الفاشية العسكرية في زمن العولمة
- من سجلات الفاشية العسكرية في زمن المكارثية
- يا نجاتي...فرقع البلالين
- ليس فقط لأنهم كاذبون محترفون


المزيد.....




- -خطوة مهمة-.. بايدن يشيد باتفاق كوب29
- الأمن الأردني يعلن مقتل مطلق النار في منطقة الرابية بعمان
- ارتفاع ضحايا الغارات الإسرائيلية على لبنان وإطلاق مسيّرة بات ...
- إغلاق الطرق المؤدية للسفارة الإسرائيلية بعمّان بعد إطلاق نار ...
- قمة المناخ -كوب29-.. اتفاق بـ 300 مليار دولار وسط انتقادات
- دوي طلقات قرب سفارة إسرائيل في عمان.. والأمن الأردني يطوق مح ...
- كوب 29.. التوصل إلى اتفاق بقيمة 300 مليار دولار لمواجهة تداع ...
- -كوب 29-.. تخصيص 300 مليار دولار سنويا للدول الفقيرة لمواجهة ...
- مدفيديف: لم نخطط لزيادة طويلة الأجل في الإنفاق العسكري في ظل ...
- القوات الروسية تشن هجوما على بلدة رازدولنوي في جمهورية دونيت ...


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - طارق المهدوي - حكايات الجوارح والمجاريح