"النهار"
الجمعة 24 كانون الثاني 2003
تحقيق نبيل ابي صعب
ليس أمام الحزب الشيوعي اللبناني سوى الانشقاق على ما تبين بوضوح مقدمات مؤتمره التاسع في الاسابيع القليلة المقبلة.
فالنقاش الحزبي الداخلي وصل الى طريق مسدود بعد نحو تسعة اشهر من عمل "لجنة الحوار" التي تشكلت مع بداية العام الماضي، والتي اكدت بما لا يقبل الشك لـ"اجنحة" الحزب انتهاء فترة طويلة من المساكنة وما رافقها من تنازع على ميراث الأمانة العامة منذ التسعينات، مع ما تمثل من رؤية الحزب لموقعه السياسي ونهج ادارته الداخلية، التي شغرت بانكفاء الأمين العام السابق جورج حاوي عن منصبه في محاولة وصفت بأنها تعبر عن توق لقيادة حركة سياسية قد تعوض ما ضاقت به تركيبة ما بعد الطائف أمام الشيوعيين، بما لا يتناسب ونضالهم السياسي والنقابي والعسكري، وحجم تمثيلهم الشعبي.
ويعيد مطلعون على حال الحزب، من خارجه، اسباب الطلاق المحتوم الى جملة عوامل، اكثرها مباشرة الآن تجاذب الاقطاب السياسيين في البلد أجنحة الحزب لالحاقها وتطويعها في افرازات الماكينة السياسية التي التهمت روحية الحياة السياسية بعد الحرب. وهو ما يحيله الشيوعيون انفسهم، ولكن من زوايا اخرى متناقضة في ما بينهم، الى أزمة تفرد وسلطوية اقصائية من جانب القيادة، برأي المعارضة، والى ازمة ثقة ورفض العمل المؤسسي، بحسب قيادة الحزب او "المركز"، وهو اسمها المتداول.
هذا الشقاق في الرؤية التنظيمية تفاعل مع اصطفاف سياسي ايضاً توزع الشيوعيون بين ضفتيه، ان لم نقل ضفافه، وهو الذي برز بحدة بعد الانتخابات النيابية العام 2000 وتنابذ اقطاب الحزب خلالها في دوائر الجنوب والشمال وجبل لبنان الانتخابية، وتعدد ترشيحاتهم بل تضاربها، وتشتت اصوات الشيوعيين ومناصريهم، تلك التي يفخرون بأنها قاربت 13 في المئة من كتلة الناخبين اللبنانيين آنذاك، مع فارق جوهري انها موزعة على لبنان كله انسجاماً مع طبيعة جمهور اليسار واتساعه وتنوعه.
وليس بعيداً من السياسة ايضاً وجد الشيوعيون قيادييهم ورموزهم في مواقع ومعارك متضاربة، فشكلت "قوى الاصلاح والديموقراطية" نواة "المنبر الديموقراطي" وما حمله الأخير، ولا يزال، من خطاب "سيادوي" مناصر للحريات العامة والديموقراطية في وجه "نظام أمني" بأذرعه اللبنانية والسورية، على قاعدة تقاطع في المواقف اتخذ شكل تحالف مرحلي مع النائب وليد جنبلاط وتقارب مع "لقاء قرنة شهوان" ومجموعة من الشخصيات السياسية اليسارية والقوى الأخرى، بينما اختارت القيادة أطراً سياسية أخرى واتجهت بدورها الى المشاركة في تأسيس "التجمع الوطني للانقاذ والتغيير" مع النائب نجاح واكيم معتمدة معارضة من "داخل" النظام السياسي، تتركز تحديداً ضد رئيس الحكومة رفيق الحريري، وإن لم تتخلّ عن رفع شعار تصحيح العلاقات اللبنانية السورية، الذي يعد أحد مرتكزات خطاب الحزب. وبذلك نشبت بين اطراف الحزب على خلفية الصراع الداخلي، موجة تصنيفات واتهامات متبادلة بجر الحزب الى مواقع لا تناسب ما يفترض به تمثيله ان لجهة ما تسميه القيادة "المواقع الطائفية والقوى التقليدية التي تفقد الحزب استقلاليته وعلمانيته"، او لجهة "الانخراط في حروب أهل السلطة وما يرتبه من شل كفاحية الحزب والارتهان لقوى الأمر الواقع الدائرة في فلك الوصاية السورية على لبنان" بحسب المعارضة.
وتحدد المعارضة الحزبية في "قوى الاصلاح والديموقراطية" خلافها السياسي مع "المركز" من ضمن رؤيتها العامة للدور المفترض في الحزب التصدي له، والذي لن يتم بدون اصلاح داخلي يكون على نقيض الصيغة المركزية الفردية المتوارثة عن المدرسة السوفياتية الماضية. وهذا الدور هو اعادة العمل على بناء مشروع الدولة المفقود حالياً بانهيار المؤسسات الدستورية وفقدان السيادة، والوصاية الجاثمة على البلد، ومن خلال التركيز على الاصلاح السياسي وفي مقدمه وضع قانون انتخاب اكثر عدالة، واستقلالية القضاء، الى اولوية القضايا الاقتصادية والاجتماعية الناتجة من السياسة المالية القائمة والفساد والهدر والمحاصصة. وترى المعارضة ان القيادة الحزبية تتلطى خلف شعارات مماثلة رغم مساهمتها في تدمير الحركة النقابية والانخراط في صراع اهل السلطة على غرار المشاركة في تظاهرة الاتحاد العمالي العام الأخيرة. "فكيف يمكن ادعاء مناهضة الطائفية والدخول في صراعات السلطة الطائفية؟".
كذلك الأمر في مسألة الحريات حيث تتهم المعارضة القيادة الحزبية بالاكتفاء برفع الشعارات فيما تتوانى عن الخوض الفعلي لمعارك الحريات وتحديد القوى التي تهدد الديموقراطية، هذا في الوقت الذي "لا تمت ممارسة القيادة الى الديموقراطية بصلة داخل الحزب وفي مواقفها الاقصائية حيال التعدد والتنوع فيه". وتقرأ المعارضة الدور القومي للحزب ايضاً من خلال الواقع اللبناني الذي لا يعطي مثالاً صحياً للوحدة العربية من خلال العلاقات اللبنانية - السورية غير المتكافئة اذ ان هذه الوحدة لا تقوم الا بأنظمة عربية ديموقراطية وحقيقية التمثيل تنتج بدورها وحدة تعبر عن ارادات شعوبها.
هذه العناوين السياسية تحتاج بحسب "الاصلاح والديموقراطية" الى حزب جديد قائم على نقيض مدرسة "المركزية الديموقراطية" التي اعتمدتها الاحزاب الشيوعية المرتكزة الى "الماركسية - اللينينية"، بحيث يعاد الاعتبار للفرد الحزبي وللتعدد والتنوع ولوظيفة القطاعات والعلاقة بين الشيوعيين أفقياً وعمودياً، بحيث لا يختصر "المركز" كل هذه الوظائف تحت نظام شمولي اسمه نظام الطاعة المركزية. وبعد رفض القيادة هذه المنطلقات، بحسب "الاصلاح والديموقراطية"، في "لجنة الحوار" الأخيرة وافقت المعارضة على تأجيل البت بها الى المؤتمر التاسع المقبل "شرط تأمين الآليات التي تحفظ للشيوعيين حسن التمثيل"، وان لا يكون المؤتمر المذكور على شاكلة المؤتمرات السابقة "المطبوخة" سلفاً. من هنا مطلب المعارضة بتشكيل لجنة تحضيرية ذات صلاحيات تقريرية تشرف على الاعداد للمؤتمر وانجازه على ان تكون متوازنة في تركيبتها بحيث تضمن تمثيل الجميع.
قيادة الحزب من جانبها تعيد فشل "لجنة الحوار" الى تعمد المعارضة قلب الطاولة والتنصل من اتفاقات تم التوصل اليها في جلسات سابقة، متهمة المعارضة بالسعي الى "عقد اتفاقات مسبقة وصفقات حزبية".
ويقول نائب الأمين العام للحزب سعد الله مزرعاني ان "المركز" "رفض ما يحكى عن تسويات، مما دفع المعارضة الى اطلاق حملة تشهير واتهامات بحق القيادة منها ما يتعلق بمسألة الديموقراطية داخل الحزب الى سواها من الاتهامات ذات الطابع السياسي كالالتحاق بالسلطة والسوريين، الى ما عداها". ويضع مزرعاني هذا التصرف في خانة الخروج على المؤسسة الحزبية وعدم الالتزام بآلياتها نظراً الى عدم تكافؤ القوى لمصلحة القيادة. ويعدد امثلة لذلك، منها مقاطعة "منطقيات" حزبية لـ"المركز" وتجاهل وجوده لأكثر من عام متواصل "رغم ان القيادة عادت عن بعض قرارات فصل اتخذتها بحق عدد من الشيوعيين".
ويضيف مزرعاني ان من اختار الخروج على المؤسسة يمكنه ممارسة اقتناعاته اينما يشاء، "فنحن على يقين من قدرتهم على تأسيس أحزاب اخرى يمارسون فيها اقتناعاتهم التنظيمية والسياسية بدلاً من أن يتعبونا ويتعبوا أنفسهم". واعتبر ان المؤتمر المقبل سيكون معركة حاسمة في هذا الاطار مبدياً ارتياحه الى ان المقاطعة المعلنة للمؤتمر لن تؤثر في انجازه بما يكفل استمرار الحزب "في بناء حزب سياسي من نوع جديدة تبعاً لما فرضته المتغيرات الدولية والعربية والمحلية خلال العقد الماضي".
ويضع مزرعاني ضمن اولويات شروط هذه المهمة قيام الحزب علي مرتكزات مؤسسية، "وان يحافظ الحزب على استقلاليته وديموقراطيته". الا ان هذه الابعاد الثلاثة، يتابع مزرعاني، هي عملية تدريجية لا يمكن التحول في اتجاهها دفعة واحدة. وفي اشارة الى المعركة الداخلية يرى انه اضافة الى العراقيل القائمة على صعيد الاستقطابات السياسية اللبنانية الطائفية وسواها، ثمة صعوبات ترتبها العلاقات الحزبية القائمة، الى مسألة مدى وجود الكفايات الحزبية او غيابها في المناصب القيادية، وهذه مسألة سيساهم المؤتمر العام المقبل في انجاز جزء مهم منها.
ولم تتضح ماهية التسويات التي اتهمت المعارضة باللجوء اليها علماً ان احدى المنظمات الحزبية اربكت الامين العام للحزب عندما طالبته في اجتماع حزبي بمواجهة اركان المعارضة بهذه الاتهامات على مسامعهم، فيما تنصل قيادي آخر في الاجتماع نفسه من وجهة نظر الامين العام.
وفي سياق تصاعد المواقف بين الطرفين شكلت اجراءات ما يطلق عليه في الحزب اسم "المؤتمرات الوسطية"، الآيلة الى الاكتمال في فترة قريبة، محطة مفصلية اخرى تظهر مفاعيلها حالياً على صعيد الشرخ الحزبي المتنامي بحدة. فهي نتيجة قرار اتخذته القيادة في ضوء بوادر فشل "لجنة الحوار"، واعتبرته عملاً تقتضيه قوانين الحزب، وهو كذلك، الا ان المعارضة ترى في توقيت هذه المؤتمرات وعدم توفير الاجواء المؤاتية لنزهتها تعمداً لضرب اي امكان يتيح للشيوعيين استكمال الحوار في ما بينهم. وتوضح ان الانتخابات القاعدية لا بد ان تزيد من حدة الفرز الحزبي على مستوى القواعد، ولا بد ان تأتي معارك "كسر عظم"، وهذا ما يحدث الآن اذ ان فئة كبيرة من الشيوعيين قاطعت هذه المؤتمرات خصوصاً بعد حملة "تجديد" البطاقات الحزبية، الامر الذي اثار الكثير من الشكوك في صحة لوائح الشطب.
وبعد كل "مؤتمر وسطي" يجري على مستوى المنطقيات تعقد المعارضة "جمعيات عمومية" في "المنطقية" المعنية في مسعى لحشد الصفوف والتأثير في ما تبقى من توازنات قد تأخذ في الاعتبار الثقل التمثيلي على ارض الواقع، خصوصاً ان النزف الذي اصاب الحزب الشيوعي خلال الاعوام الماضية كان سببه فقدان الامل بدينامية الحزب داخلياً وفي السياسة العامة في البلد، وتالياً فان اعداد الشيوعيين "السابقين" او غير المتابعين للنشاط الحزبي تفوق بأضعاف الحزبيين الملتزمين.
وهكذا ترى "قوى الاصلاح والديموقراطية" في قرار "المركز" عقد المؤتمرات الوسطية في هذا الظرف بالذات وجهاً من وجوه النهج الاقصائي الممارس ضد المعارضة والذي يعني بالضرورة ضرب وحدة الحزب من خلال ضرب القوى الحية فيه، والتي عوملت بفوقية واستبداد الى ان اضطرت الى العمل خارج الحزب. وهو ما حصل مع اعداد كبيرة من الطلاب بعد تجربة لم تستمر في "اتحاد الشباب الديموقراطي"، المنظمة الشبابية للشيوعيين، وعدد من الكفايات النقابية، "التي لم تستطع تحمل العقلية المستبدة المكبلة لعمل الشيوعيين في مواقع نشاطهم العامة".
وصل الحزب الشيوعي الى هذه المرحلة بسبب "الخروج على المؤسسة والالتحاق بمواقع طائفية بحسب مزرعاني، بينما ترى "الاصلاح والديموقراطية" ان ما يحصل في الحزب هو جزء من نجاح مخطط السلطة لضرب الحركة الشعبية في لبنان، وهو نتيجة لارتضاء القيادة زج الحزب في مصاف قوى الامر الواقع، وهي قوى السلطة والوصاية "طمعاً بجوائز ترضية رخيصة تحت ستار طهرانية علمانية، فيما لا يمكن فرز البلد حالياً بين من هو علماني ومن هو طائفي، بل من جهة الفرز السياسي الحاصل فيه على اساس الخيارات السياسية، خصوصاً ان قوى وأحزاباً سياسية علمانية اخرى هي جزء من قوى الامر الواقع".
هل من بدائل؟
الى جانب هذا الانقسام العمودي في الحزب الشيوعي ثمة مراكز قوى تتحرك بدأب لكن بحذر، وهي اكثر براغماتية مقارنة بحدّي المعركة الواضحين. فـ"ابو انيس"، او القيادي التاريخي جورج حاوي، تحكم مناصريه داخل الحزب ابعاد خاصة قد تبدو لطرفي المعركة دون ما تتطلبه المرحلة من حسم ووضوح. وبحسب متابعين فان حاوي محكوم اولاً بتاريخيته، وهو الذي ردد في اكثر من مناسبة انه لم يترك الامانة العامة ليقود تياراً في الحزب، ومن جهة اخرى تحكمه حركته السياسية "المتنية" حالياً والتي لا بد ان تفقد بعض وزنها في حال سحب الحزب "الرسمي" الغطاء عنه. لكن يبدو ان خيار حاوي الآن هو لعب دور رجل التسويات، فهو يتقاطع في الرؤية السياسية والتنظيمية مع المعارضة ويقاسمها افكار وجهة الحزب المستقبلية، واعتماد النسبية فيه، وتشريع التنوع والتعددية، الا انه يسعى لتجنيب الحزب الانشقاق.
واستطاع "تيار" جورج حاوي، "الوسط"، ان يحصد في "المؤتمرات الوسطية" بعض المواقع خارج المتن ايضاً، بعدما رفض خيار المقاطعة وفي الوقت نفسه يشارك "الوسط" في الجمعيات العمومية التي تعقدها المعارضة رداً على "المؤتمرات الوسطية"، املاً بأن يكون صاحب "تسوية نهائية" تحفظ له "حصة الأسد". وبذلك فان تيار "الوسط" يعترف بشرعية القيادة لكن من موقع معارض، فيما المعارضة ترى في "المركز" قيادة "قانونية غير شرعية" تعبر عن حالة انقلابية على التسوية، التي توصل اليها الشيوعيون في المؤتمر الثامن بما يحفظ تنوعهم، وخصوصاً بعد النهج الذي ادارت القيادة به الحزب.
اما الامين العام الحالي فاروق دحروج فيُنظر اليه كصاحب كتلة حزبية تتركز في معظم "محافظته" البقاع، وعُوّل عليه الى وقت ليس ببعيد، في ان يتخلى عن امساك العصا من وسطها، انطلاقاً من صلاحياته اولاً، وامكان تجيير الاصوات التي "يمون" عليها ثانياً. الا ان دحروج اختار "المركز"، الذي سبب له قرار المعارضة بالمقاطعة ارباكاً نتيجة غياب الخصم المفترض، فاتجه بدوره الى ارساء توازن داخلي. وهكذا تتسرب صيغ عن خيارات قيادية سيعتمدها "المركز" بعد التخلص من المعارضة، منها تشكيل "امانة عامة" قبل بها دحروج باعتبار انها تحفظ له دور "المنسق" فيها، ومن حوله صقور "المركز" حسين حمدان وخالد حدادة وسعدالله مزرعاني، مما يعني لو صحت هذه التسريبات ان القيادة ارست تسويتها المرحلية، ربما، بين اقطابها.
اثبتت التجربة في الاعوام الاخيرة نمواً نسبياً للمعارضة الشيوعية يقابله تقلص في جسم الحزب "الرسمي" تبينه بوضوح ارقام المشاركين في المؤتمرات الجارية مقارنة بسابقاتها، ولكنها المرة الاولى التي يصل فيها الشيوعيون الى مشارف الحسم، فهل تنجح المعارضة في رص صفوف الشيوعيين ضد ما تسمّيه "العقل الاقصائي" الذي يراهن بدوره على فشلها باعتبار "انها لو استطاعت تأسيس حزب آخر لكانت فعلت ذلك منذ زمن بعيد"، وخصوصاً بعدما اصيب به "المنبر الديموقراطي" الذي لم يحافظ على زخمه مع عودة الهرم السياسي في البلد الى الوقوف على رأسه، بينما لا يزال "التجمع الوطني للانقاذ والتغيير" الذي ساهمت القيادة الشيوعية في صنعه، على غموضه حيال قضايا منها "انخراطه في تجاذبات السلطة".
تحقيق نبيل ابي صعب