|
الملحدون الجدد والدارونية الاجتماعية الحلقة الثانية
قصي الصافي
الحوار المتمدن-العدد: 5121 - 2016 / 4 / 2 - 11:20
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الملحدون الجدد والدارونية الاجتماعية الحلقة الثانية
كما أشرت في الحلقة الاولى أن المقال لا يستهدف الالحاد وهو معتقد تكفله الحرية الشخصية، بل هو محاولة نقدية للكشف عن خطورة الاجندة السياسية لحركة الملحدين الجدد والتي وصفها نعوم تشومسكي بقوله ( مواقف هذه الحركةتجعلني أخجل من كوني ملحداً ).
الدارونية الاجتماعية: أحدثت الثورة الصناعية تحولات كبيرة في المجتمع البريطاني، فقد أثرى أصحاب المصانع و الاقطاعات الزراعية ثراء فاحشاً ، بينما بقيت أغلبية الشعب تعاني من فقر مدقع، رغم ساعات العمل الطويلة التي لم يعف منها الاطفال في سن التاسعة، وقد واجه المفكرون الليبراليون آنذاك سؤالاّ أخلاقياً لا يمكن تجاهله، فانقسموا الى فريقين، يدعو الاول إلى مد يد العون للفقراء عبر برامج دعم حكومية ومشاريع خيرية، بينما يرى الفريق الثاني أن التنافس الحر والصراع من أجل البقاء من قوانين الطبيعة ولا يمكن مخالفتها. من أشهر فلاسفة الفريق الثاني هربرت سبنسر الذي أعلن عن نظرية تفسر اتساع الهوة الطبقية بوجود فوارق بيولوجية، فالاغنياء الناجحون بأعمالهم حسب زعمه يمتلكون مواهب وقدرات عقلية بالولادة لا يتمتع بها الفقراء.وقد ذهب فرانسيس غالتون ( ابن عم دارون) أبعد من ذلك داعياً إلى عدم مساعدة الفقراء لئلا يتناسلون فتولد أجيال بلا مواهب، أجيال لا تعرف طريق النجاح، وقد أطلق المؤرخون على أفكار فرانسيس (التطهير الجيني). لم يجد سبنسر و غالتون أية أسانيد علمية تدعم أفكارهما حتى أصدر دارون كتابه أصل الأنواع عام 1859 م، ورغم ان دارون أكد ان الصراع من أجل البقاء هو الطريق لتطور الحيوان أو الانسان كفصيلة وليس كافراد داخل الفصيلة الواحدة، إلا أنهما أصرا على توافق أفكارهما مع نظرية دارون، وقد إبتكرا العبارة الشهيرة (البقاء للأصلح) والتي أقنع دارون بإضافتها لكتابه بعد سنوات من إصداره. أطلق على نظرية سبنسر / غالتون (الدارونية الاجتماعية) ، و التي وظفت لتبرير انعدام العدالة الاجتماعية، وتبرير العبودية في اميركا، ثم لشرعنة التوسع الامبريالي ( فالشعوب غير الاوربية لم يكتمل تطورها البيولوجي بعد!). لم يشف الفكر الاوربى من حمى الداروينية الاجتماعية إلا بعد المجازر التي ارتكبها هتلر ضد الشعوب والجماعات وتصنيفها ضمن الاعراق والانساب المتدنية مقارنة بالعرق الآري.
تعود اليوم الداروينية الاجتماعية بحلّة رثة على يد الملحدين الجدد، باقحامهم البيولوجيا في علم الاجتماع والسياسة واصرارهم على انها الوحيدة القادرة على تفسير الظواهر الاجتماعية والسياسية وفق مبدأ التطور الدارويني.
نظرية الجين الأناني: أصدر ريتشارد دوكنز كتابه ( الجين الأناني) عام 1976 م ليصبح انجيل حركة الملحدين الجدد بعد تأسيسها عام 2000 م. خلاصة نظريّة دوكنز ان الجينات الأنانية هي الابقى، لأن جينات الايثار تميل بطبيعتها إلى التضحية والتلاشي، وبالتالي فالجينات الانانية الحاملة للصفات السيئة تستمر باستنساخ نفسها وترسيخ وجودها عبر التناسل جيلاً بعد جيل. أما الثقافة الاجتماعية ومن ضمنها الدين فيحملها ما يشبه الجين ويطلق عليه الميم ، فما هو الميم؟، حين يلقن الطفل خرافة دينية مثلاً تتحول بطريقة ما الى ما يشبه الجين لا تميزه الجينات الاصلية، فيعمل ضمن منظومة الجينات كجين مندس يستنسخ نفسه ليكون مركب ميمات (ميمبلكس)، ينتقل هذا المركب وهو أشبه بالفيروس عبر الاجيال ويعزز رسوخه بالتناسل. سأترك النقد البيولوجي لنظرية دوكنز للمختصين من زملاءه العلماء وقد رفضها معظمهم ، وأشهرهم العالم الدارويني ديفد سلون الذي كتب في احدى مقالاته: بقدر ما تشغلني الفبركة العلمية لنظرية دوكنز تشغلني اكثر الاجندة التي تقف وراءها حركة الملحدين الجدد.
تنامي القلق وانعدام الامن يشكل مناخاً مثالياً لانتعاش الحركات اليمينية المتطرفة، وقد منح الارهاب الاسلاموي لليمين الاوروبي هدايا ثمينة بسلسلة عملياته الارهابية، ولم تكن حركة الملحدين الجدد استثناء، فقد أصبح الارهاب الاسلاموي بطاقتها الرابحة لتأجيج الكراهية ضد العرب والمسلمين، تحت فرضية أن الميمبلكس المندس في النظام الجيني للفرد العربي أو المسلم هو ما يتحكم بنزوعه المزعوم لممارسة الارهاب. قد لا يتسع المقال لاعطاء صورة كاملة عن اجندة الحركة، وان المقتطفات التي سأوردها قد لا تكفي لتهدئة اولئك الذين يشاركوننا الغضب من أدلجة الدين، إلا انهم اتخذوا الالحاد كأيديولوجيا بديلة لا كرؤية فلسفية حكيمة العرب والجين الانتحاري: يصر الفرسان الاربعة في حركة الملحدين الجدد على تناول الارهاب كظاهرة معزولة عن أبعادها التاريخية والاجتماعية وتنامي الشعور بانعدام العدالة الاقتصادية والسياسية كحاضنة فكرية لتلك الظاهرة ، وتزعم الحركة ان ما تبحثه الفلسفة وعلم الاجتماع والثيولوجيا في ثيمة الارهاب قد أوصلنا الى طريق مسدود ولا جواب إلا في البيولوجيا بنهجها الدارويني وفق نظرية الجين الاناني. الملفت للنظر ان الجين الاناني قد صدر عام 1976 م، ومرت الثمانينات وقد كانت فيها القاعدة وطالبان يسلخون جلود الجنود الروس ويقطعون رؤوس الافغان ويرجمون النساء، برعاية وتمويل ادارة ريغان، ولم تشغل تلك الظاهرة آنذاك فرسان الحركة، إنما عادوا إلى كتاب دوكنز لتفسير ظاهرة الارهاب بعد تفجيرات نيويورك المشؤومة. و أضاف دوكنز لكتابه في طبعاته الاخيرة كل ما يتعلق بالارهاب من تحليلات بيولوجية و التي سأتعرض لبعضها بما تسمح به سعة المقال.
يقارن دوكنز في مقاله " فيروسات العقل" بين العرب والنمل الانتحاري قائلاً " مثلما يضحي النمل الانتحاري بتأثير الجرثومة الجينية فيه، فان الشاب العربي يلقن بان أقرب طريق الى الجنة هو الموت في حرب مقدسة، وان كان قادته لا يصدقون ذلك أنفسهم بل يستغلونه، فهذا لا يقلل من القوة الهمجية لفيروس الانتحار في منظومته الجينية" وتأكيداً على أن ذلك يشمل جميع العرب وليس الارهابيين منهم فقط، يستطرد قائلاً " بالطبع سيرفض البعض فكرة الانتحار أو حتى يدينها لأنهم يخشون تناقص أعداد المؤمنين لو انتحرت أعداد كبيرة . اي ان ادانتنا للارهاب لا تنطلق من أرضية قيمية أو انسانية بل للحفاظ على فصيلتنا، ويجب الاشارة الى اننا نفعل ذلك دون وعي منا بل تحت تأثير وتحكم فيروس الجين الانتحاري فينا. أما سام هاريس المولع بأثارة الجدل في تصريحاته فلا تلزمه التورية ويعلنها صراحة ( آن الاوان أن نعترف باننا لا نحارب الارهاب الاسلامي فحسب بل نحارب الاسلام ) وفي الوقت الذي يشيد فيه بالفاشيين الجدد قائلاً (هم وحدهم للأسف قد أدركوا خطر المسلمين) يتهم اليساريين والليبراليين بالفاشية : ( اولئك الذين يتعاملون مع الاسلام بحساسية هم الفاشيون).
في كتابه ( الجين الانتحاري ) يشرح لنا دوكنز عن الطير الصغير الذي يخرج عن السرب ويطلق أصواتاً تجذب انتباه الطير المفترس له و للسرب، فيهرع أبواه لاطعامه واسكاته، ويفسر ذلك بأن الطبر الصغير يعرض حياته والسرب للخطر وكأنه يقول إما ان تطعموني أو سنموت جميعاً، هذا ما يفعله الجين الأناني فيه، وهو الجين ذاته الذي يتحكم بسلوك خاطفي الطائرات، فأما ان نحقق أهدافهم أو يفجروا أنفسهم بالركاب.
اذا كانت تلك الاسقاطات البيولوجية التي تزيح علم الاجتماع والاقتصاد والسياسة خارج دائرة الفكر تروق للعنصريين من اليمين الأوروبي، فكيف تنطلي على أعداد كبيرة من العرب ومنهم مثقفون ؟ أهو جلد ذات ماسوشي، أم ردود فعل إنفعالية غاضبة على الارهاب الاسلاموي؟ الرأسمالية المتوحشة: يشرح دوكنز في نفس الكتاب أن الحيوانات في مستعمرة أو قطيع، يعمل نظامها الجيني على إضعاف قدرتها الجنسية، إذا ما تكاثر عددها خشية شحة الغذاء، أي إنها تمتلك قدرة آلية على تحديد النسل، ثم باستعارة مالثوسيه يعتقد أن الفقر يعود فقط الى عدم تحديد النسل ( مع أن اوروبا تعاني من النسبة المتدنية للولادات وليس العكس )، ويضيف "بالطبع الناس يرفضون رؤية الاطفال يموتون جوعاً، لذا فهم يؤيدون دولة الرفاه التي توفر برامج دعم غذائي وطبي وتعليمي للفقراء، ولكن يجب أن نفهم أن دولة الرفاه مخالفة لقوانين الطبيعة ولذا فهي غير مستقرة ". لا أشعر بحاجتي الى تعليق هنا إنكار العنصرية والرجل الابيض هو الضحية؟؟: وصفت الكاتبة سكيفو هاتشنسون حركة الملحدين الجدد في كتابها ( معركة القيم ) " الملحدون الجدد يسعون إلى الابقاء أو إعادة توليد الواقع الراهن من تفوق الرجل الابيض والعنصرية وانعدام العدالة الاجتماعية . .. وهم يهاجمون من يختلف معهم بانعزاليه متعجرفة" يكرر رموز الحركة انكارهم للعنصرية واضطهاد الملونين والاقليات، وينسبون معاناتهم الى ايمانهم بالخرافات الدينية لا للتمييز وهيمنة الرجل الابيض وانعدام العدالة الاقتصادية والاجتماعية، بل ان رونالد ليندسي قد ذهب أبعد من ذلك في مؤتمر المرأة العلمانية عام 2013 م شاكياً ومدافعاً عن الرجل الابيض ( لقد تآمرت الماركسية والحركات النسويه باظهار الرجل الابيض من الطبقة الوسطى كشيطان علماني)، تجب الاشارة هنا الى ان اليمين يطلق تسمية الطبقة الوسطى على الرأسماليين الكبار من باب التسويق الشعبي.
كان الكاتب الاسترالي ورلمان و الذي انشق عن حركة الملحدين الجدد محقاً بوصفه الحركة بالاصولية الالحادية، فالحركات الاصولية عادة ما تنقب في مقابر الماضي عما يمكن احياءه، الاصوليه الاسلامية قد عثرت على ضالتها في السلفية وشيخها ابن تيمية، بينما تلقف الملحدون الجدد سبنسر وداروبنيته الاجتماعية.
#قصي_الصافي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
للالحاد مدينته الفاضلة -الحلقة الاولى
-
الديمقراطية وسلطة المال عبر التأريخ - الحلقة الأخيرة
-
الديمقراطية وسلطة المال عبر التأريخ - الحلقة الخامسة
-
الديمقراطية وسلطة المال عبر التأريخ / الحلقة الرابعة
-
الديمقراطية وسلطة المال عبر التأريخ - الحلقة الثالثة
-
الديمقراطية وسلطة المال عبر التأريخ - الحلقة الثانية
-
الديمقراطية وسلطة المال عبر التأريخ
-
الانترنيت في القرن السابع عشر
-
دور البيرة في تطور حضارات سومر
-
عن الطائفية وأزمة العراق وتنبؤات توفلر
-
الحب من منظور فلسفي
-
العقلاني واللاعقلاني بين الخطاب العربي والأوروبي
-
النزعة السايكوباثية للقانون الجعفري
-
حق المرأة بالتصويت... الصراع المرير
-
الثورة التي أدهشت العالم -الحلقة الثانية
-
الثورة التي أدهشت العالم-الحلقة الأولى
-
المثقف النخبوي بين إختراع الطباعة والإنترنت
-
الإنتفاضات العربية ونظرية المؤامرة
-
الإنتفاضات العربية ونرجسية المثقف
-
المقدس بين الدين والعلمانية
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|