وأنا اقرأ البوساء لهيغو ، استوقفتني تلك العبارة التي أطلقها ذلك الجندي الفرنسي في معركة واترلو ، والذي استوقفني أكثر هي جملة هيغو التي يقول فيها (كانت واترلو المصراع الذي دار عليه القرن التاسع عشر ) كانت واترلو نهاية الأحلام الإمبراطورية وبداية لعصر جديد ، نهاية الديكتاتورية، والمقدمة التي بشرت بظهور عبقرية ماركس ، والبداية التي مهدت لعصر لن ينتهي إلا بقيام الكومونة وانطلاق الثورات العمالية في أعوام 48 و71 من القرن التاسع عشر , و لن ينتهي إلا بانطلاقة ماركس وظهور الأسس التي تنتظم عليها الحركة العمالية في العالم قاطبة وانتقالها من الوعي بالذات إلى الوعي للذات ، من العجز والترجي إلى استكشاف الإمكانية وامتلاك القدرة على التغيير ، تلك كانت واترلو وتلك نتائجها ، فلم تكن واترلو معركة عادية بقدر ما كانت نهاية مرحلة تاريخية ومقدمة لمرحلة أخرى من التطور ، تشكل الحد الفاصل بين ما سبق و ماسياتي بعدها ,من توزيع جديد لمراكز القوى ، والقضاء على بقايا الإقطاعية في أوربا، وبداية تفسخ العلاقات البرجوازية وانعكاسها على الواقع بطهور قدرة الطبقة العاملة وقدرتها في مواجهة البرجوازية التي لن تجد لها حل غير اللجوء إلى القوة العسكرية ، والديكتاتوريات التي تحافظ على مصالحها ومحاولتها تاطير الإنسان ، والقضاء على فاعليته من خلال نظم وبنى لتهميش الحركة الثورية الصاعدة ، و حرفها عن هدفها ، وهي محاولة قديمة وتتجدد حيث مارستها جميع النظم سواء أقطاعية أم برجوازية ، لكنها تأخذ في المرحلة البرجوازية شكلا أكثر خبث ودناءة ، بل تكون البرجوازية أكثر قدرة على التخفي والتستر لأنها كالها يدرا مهما قطعت رؤوسها تنبت لها رؤوس جديدة تستطيع أن تمتد وتتخفى , فهي تستطيع إن تستغل البنى المتهالكة كي توجد المشروعية لوجودها ، هذه البنى التي حطمتها البرجوازية إذ بان صعودها واعتبرتها حينها متخلفة عن الواقع ، لكنها لم تخجل من الرجوع إليها بل تحاول و أن تقيمها وتبرر بروزها من جديد ،فالبرجوازي في شبابه هو المتهتك الذي يرتكب جميع الموبقات والآثام وعند كبره الإنسان المتدين الطيب الذي حج إلى بيت الله , هذا الإله نفسه الذي أنكره عند صياح الديك آلاف المرات والمرات ، فإبراز تدينها ماهو إلا ذر الرماد في العيون كي تبرز نفسها سيدة التقوى من جهة وتشارك بؤساء القوم في محنتهم التي هي مسؤولة عنها أساسا ، من هنا نستطيع الانطلاق كي نحلل الظاهرة العشائرية ، فالعشيرة أو رابطة الدم هي علاقات اجتماعية تسود خلال فترة سبقت البرجوازية وحطمتها البرجوازية أو أسلوب الإنتاج الرأسمالي في سيره ، وأحالها إلى هشيم تذروه الرياح ، لكنها تعود الآن لتطرح نفسها بقوة على الساحة من خلال تنظيمات وأشكال يراد منها إظهار العشيرة أو القبيلة بمظهر أسطوري أو إضفاء طابع ميتافيزيقي عليها ، حتى أن البعض لا يحتمل توجيه أي انتقاد إلى البنية العشائرية بل يفتخر بهذا البناء على اعتباره بناء ميتافيزيقي وهو يشبه اله أجداد اليهود الذي يطحنهم طحنا في حالة معصيته ، وكان سر الأسرار وراءه يحميه بل يديمه وهو يغمض عينيه عن الأسباب الموضوعية وراء استمرار هذا البناء في الوجود بل يتناسى البعض إن هذا البناء وفي ظروف شبه ديمقراطية (اقصد السبعينات ) قد تلاشى وما عاد له من وجود إلا أحاديث الذكريات والقصص التي تحكى للأطفال ، وهنا نلمس أول رؤوس الخيط المخفية وأول أسس المعادلة التي تشير بوضوح إلى اندثار العشيرة في وضع شبه ديمقراطي وتحطم العلاقات الأبوية التي تقوم عليها العشيرة لكنها تعود للبروز من جديد عندما تشتد الديكتاتورية وتجد مناخها الملائم مع صعود الشوفينية ,وهنا نكتشف أيضا سر الهالة الميتافيزيقية التي تحيط العشيرة فهي تضمحل مع بروز الديمقراطية وتشتد ويقوى عودها مع الديكتاتورية فهنا مكمن السر الذي يضخمها ويرفع صوتها عالية ، وتعمي الإبصار ببريقها الذي سيتلاشى بمجرد إن نزيح النقاب عن سرها المكنون و هذا السر الذي تخفيه بروابطها التي تمتد كأذرع الإخطبوط في كل الاتجاهات فهي علاقات دموية ، وعلاقات ميتافيزيقية يسهم الدين بجانب كبير فيها وفي زواياها المعتمة تكمن الديكتاتورية وجوهرها الشوفينية .
فيا للعجب فالسادة البرجوازيين سيجرح حيائهم أن يكتشفوا داخلهم يكمن الشوفيني القابع قي بغداد باعتباره هو من أعطاهم فسحة الأمل التي تمثلها العشيرة بل أكثر من ذلك إذا اكتشفوا أنهم يجلسون معه على بساط واحد ويأكلون من نفس الصحن .
لنعد إلى العشيرة ونلقي نظرة عليها من الداخل , فهي تقوم على رابطة الدم والملكية المشتركة وتجد تعبيرها الأيديولوجي في الدين ، إما رابطة الدم فان أساسها الأول هو الملكية المشتركة وسأضرب مثل بسيط وهو إن لي صديق عشائري وأبوه شيخ عموم يمتلك من الأراضي أكثر من ألف دونم وهي تعود لإخوانه وابنا عمه وخوفا من تشر ذم الأرض فان الذي يتحكم بها هو كبير العائلة وفي الغالب يكون هو الشيخ ، والشيخ لا يكون أيا كان بل يجب إن يكون ذو عصبية قوية تدعمه وفي مثال صديقي فان أباه صاحب عصبية كبيرة لذا يكون هو الشيخ .
هذا المثل البسيط يوضح أسس العشيرة وهي العصبية والملكية والايدولوجيا هي الدين الذي يحفظ الحقوق وما إلى ذلك .
لنرجع قليلا إلى ابن خلدون ونظريته عن الملك وكيف يقوم فهو يوضح وبدون أدنى ريب كيف أن الملك يحتاج إلى العصبية، فهو يعتبر التطور نتيجة حتمية للصراع بين البداوة والحضارة وتكون الملك وظهوره ينتج عن تفوق القبيلة الأقوى وتمسكها بالعصبية مما يؤدي إلى تفردها بالملك ويدوم بقاء ملكها مادامت القبيلة قريبة عهد بالبداوة وتستند على عصبيتها وهو يحدد أربعة أجيال لدوام حكم القبيلة الواحدة وبعدها يبدأ الملك بالزوال نتيجة لتحلل الروابط العصبية .
أن أساس العصبية عند ابن خلدون هي أسلوب المعاش الذي تسلكه القبيلة وبعبارة اصح هي طريقة العيش وهو اقرب إلى القول انه أسلوب الإنتاج .
قاذن أسلوب الإنتاج هو الذي أدى إلى ظهور العصبية القبلية وهو الذي أدى إلى انحلالها في ما بعد ويظهر ذلك واضح في تاريخ أوربا وفي تاريخ العراق المعاصر إذ بان السبعينات عندما بدأت هذه الروابط بالانحلال والاختفاء من الحياة العراقية . وبدأت تحل محلها العلاقات البرجوازية في المجتمع العراقي .
ومعلوم أن البرجوازية هي على النقيض تماما من العشائرية لأنها عائق يقف في وجهها ويحد من عملية صعودها فكان الاهتمام الأول ينصب على إزالة العشائرية ، ومطاردتها في كل مكان وتهشيمها وكانت هذه العملية تتساوق مع التعددية المشوهة للواقع السياسي الذي كان حينه ، فهناك الجبهة الوطنية وأتلاف الأحزاب فيها وهناك شبه ديمقراطية تسود الحياة السياسية ، ولكن مع أول بروز للانفراد في الحكم بدأت البرجوازية مع ازدياد تعفن الحاكم تدريجيا
بصبغ الدولة بالصبغة القبلية وبدأت العشائرية بالتنفس من جديد فكانت الديكتاتورية هي نفحة الأوكسجين التي منحة الحياة إلى العشائرية فأصبح الانتماء إلى قبيلة الجبور في مرحلة ما هو المفتاح السحري الذي يفتح أبواب الكنوز إمام حامله , وهذه النفحة استفادت منها العشائرية إلى أقصى حد من جهة ومنحت الحاكم امتياز وقوة ما كان يحلم بها في مواجهة المعارضة السياسية التي تستخدم أسلوب حديث في مواجهته , فهو أي الحاكم وبالاعتماد على التحالفات القبلية وعملية التلاعب بالامتيازات التي يمنحها للقبيلة الفلانية في يوم ويمنحها للقبيلة العلانية في يوم آخر ومن خلال هذا استطاع الاستفادة القصوى من العشائرية في أطالة عمره في الحكم حتى بلغ عتيا .
فالعشائرية التي تعتمد على روابط الدم ( العنصرية) وهي روابط في جوهرها تتساوق مع البناء الديكتاتوري كونها تنفي الآخر وهي صنو للشوفينية خصوصا إذا أخذنا في نظر الاعتبار الامتداد للعشائرية العراقية مع بقية القبائل قي المنطقة وخصوصا في السعودية و سوريا ، والأردن والكويت ، وهذا هو قولنا إن البرجوازي العشائري هو صنو للديكتاتور وان اختلف عنه في الظاهر فهما الاثنان يلتقيان في هذه الروابط التي تبرز كلما دار الحديث على نقد العشائرية .
أن البرجوازية بخبثها تستطيع أن تتخذ من عمامة السيد غطاء لها كما تتخذ من العشائرية راية على الرغم من تناقضها الموضوعي مع العشائرية وما ذلك إلا لمحاولتها حرف الأبصار عن جوهرها الذي يقوم أولا وآخرا على الاستغلال والانتهازية وكل ماهو منحط في التاريخ البشري , فهي التي رفعة راية القومية مع ركام هائل من التنظيرات عن القومية العربية وحتمية انتصارها حتى أنها استغرقت أكثر من مئة عام من عمر المنطقة في تنظيرات أفرغت القومية من محتواها وجعلتها أضحوكة يتندر عليها الأطفال في بقاع العالم العربي فما رثاثة الجامعة العربية الاتعبير أسمى عن مدى الانحطاط الذي وصل إليه الفكر القومي وهاهي البرجوازية تعود لتعزف نشازاتها على وترا لعشائرية في العراق.فمنهم من ينظر عن الحرب الأهلية القادمة إذا ما استقال صدام نتيجة الظروف أو الضغوط الأمريكية وبعض الإطراف التي تدعي معارضتها تتحدث باسم عشائري بحت .
أن نهاية العشائرية هي أمر محتوم فالتطور الذي كنس الديكتاتورية هو نفسه سيكنس العشائرية والمسالة هي َضرورة حتمية حتى وان تم ضخ دماء جديدة في شرايين العشائرية فهي لن تفعل سوى إن تطيل من عمر احتضارها .