عدنان اللبان
الحوار المتمدن-العدد: 5115 - 2016 / 3 / 27 - 14:39
المحور:
سيرة ذاتية
سمعت داعش منها قبل ان توجد " داعش " التي احتلت ثلث اراضي العراق بثلاثين عاما , داعش عند النجفيين تعني الرقم احد عشر وثناعش اثنى عشر . كنا في كوردستان انصارا في احدى قواعد الحزب الشيوعي تدعى " كافية " , وهو وادي فيه الكثير من الاشجار غير المثمرة ينحدر عند التقاء سفحين لجبلين لم يكونا شاهقين . للمرة الثانية بعد اكثر من شهر تؤنب النصيرة زينب صاحب المتجر البسيط كاكه حمه الوحيد في القرية الصغيرة اسفل الوادي بعد ان عاد من المدينة ولم يأت لها بعلبة ال " كباجينو " , ويقول انه لا يعرفها حتى بعد ان كتبتها له على ورقة , ويؤكد لها انها غير معروفة عند الباعة الذين يأتي بحاجياته منهم في الناحية , ووعدها ان يوصي عليها مع المهربين القادمين من تركيا وبعضهم طريقه على القرية . اخبرتها انه صادق , انا لم اعرفها قبل الآن رغم اني سافرت الى الخارج سابقا. التفتت الي بنصف وجهها , رفعت حاجبها وبنصف ابتسامة : انت هم متخلف . بعد اسبوعين جاءت ال" كبجينو " , وكانت فعلا لذيذة , وكلما دعتني الى كبرتهم " غرفتهم " لتناولها , كنت اشيد بها وبخبرة الرفيقة زينب في تحضيرها . وكلما طلبت منها ان تعلمني طريقة تحضيرها كانت تتهرب , وزوجها يضحك ويجيب : هذا سر المهنة حتى الي ما علمتني . وعند ذهابنا الى سوريا بعد هجوم الانفال , عرفت انها قهوة مخلوطة مع الحليب تذوّب في ماء ساخن فقط , وهو ما حفزني لاسترجاع خبرتها الكبيرة في الطبخ .
كان الاهتمام بوجبات الطعام من الامور اليومية المهمة , والويل لمن يرتكب خطأ في تحضيرها . كانت تغذيتنا بسيطة واغلبها تعتمد على الحبوب , والرفاق الذين لا يجيدون الطبخ يستعينون دائما بالرفيقات . زينب ليست بالطباخة الماهرة, ولكن من اين لك الجرأة لتقول لها ما تعرفين تطبخين , الطبخ وتصغير العمر وجهان لعملة نسائية واحدة من اليابان الى كاليفورنيا . حصلنا ذلك اليوم على وجبة كبيرة من اللحم وصادف ايضا وصول مفرزة كبيرة الى مقرنا . جميع من في المقر ابدى استعداده لمساعدة زينب , سواء بجلب الحطب وتقطيع اللحم , او غسل الصحون وتهيئة الشاي .
زينب خريجة كلية الآداب فرع اللغة العربية , أرسلت بدراسة حزبية الى موسكو , وتعرفت على زوجها الذي كان معها في الدورة . زوجها عامل ولا يحمل شهادة دراسية , مما سهل في زواجهما لإيمانهما بنبل القيم الشيوعية التي تؤكد على ان ( الانسان اثمن رأس مال ) قبل وضعه الاقتصادي وتدرجه الدراسي . زينب تعتقد ان تجاوزها لهذا الفارق سيمكنها من تحقيق الافضلية في مناسيب الكفاءة التكوينية للرفيق , وبعد فترة قصيرة طغت عليها الرغبة في اعطاء الملاحظات لزوجها الذي اخذ يعاني من شعورها بمعرفة كل شئ .
لكثرة عدد الانصار بعد مجئ المفرزة الضيف , طلبت زينب من زوجها ان يسأل الاداري بولا : بان يعطيها القدر الكبير بدل القدرين , لأنها فكرت ان تطبخ مقلوبة للرفاق الضيوف . و" المقلوبة " اكلة احتفالية يوضع اللحم وباقي الخضروات اسفل القدر وفوقها الرز , وجميعها مطبوخة , وتترك على نار هادئة لكي يتشرب الرز بأبخرة المواد التي تحته , وتقلب في صحن كبير " صينية " فيكون الرز في الاسفل وباقي المواد فوقه . زوجها اخبر بولا بالمقترح . اجابه بولا : اخاف تتعب ؟ لأنه يعرف بان المقلوبة ليست سهلة وتأخذ الكثير من الجهد . والحقيقة ان بولا كان مرتاحا للفكرة وذلك للاحتفاء بالضيوف , إلا انه ذهب اليها ليتأكد وسألها : اخاف تتعبين ؟ اجابته : كلشي لعيون الرفاق يهون, على الاقل يأكلون اكلة طيبة . سارع بولا لإرسال نصيرين الى القرية في اسفل الوادي لجلب كل ما ارادته من خضراوات , وعاد يسألني بعد ان طلب مني ان آتي بالقدر الكبير : انت تكَدر تساعدهه ؟ اجبته : آني مالي علاقة . اضاف : انت الوحيد اللي طبختها . اجبته : صحيح , طبختها مرّة وحدة والعدد ما يتجاوز عشرة , اما مقلوبة لستين نفر ما اعرف شلون راح تطلع .
جئنا بالقدر الكبير انا والنصير ابو خالد من خربة كنا نستعملها كمخزن بعد ان رممت وتم تسقيفها لخزن مواد الاعاشة والأدوات الزائدة . ابو خالد خياط ماهر من بغداد الجديدة واصله من عقرة , لم يتعلم العربية جيدا رغم مرور اكثر من عشرين عاما في بغداد , ونسى ايضا الكثير من الكوردية . فرغه الحزب لخياطة البدلات للرفاق والأنصار . كان يمتلك عنزا رباه منذ نعومة اضلافه يعيش معه في غرفته وسماه " كَد كَد " , واخذ العنز يتبعه مثل الكلب الى اي مكان يذهب اليه , وقد خاط له بجامة بأربعة قوائم تغلق عند الظهر بسحاب يبدأ من منبت الذيل الى الرقبة , وأكثر الانصار الذين رأوه حسدوه على شياكته . سألني ابو خالد عندما وضعنا القدر في المطبخ لماذا اكره هذا القدر ؟ مثلما اخبرته قبل قليل . "كَد كَد " بعرر في المطبخ , هوبي الجالس يساعد في تقشير البصل رفع يده وصاح على "كَد كَد " الذي جفل وقفز خارج المطبخ , وأراد ان يحرك زينب : يا رفيق ابو خالد اكو واحد يجيب صخل للمطبخ ؟! شلون راح تطلع المقلوبة وريحة البعرور ترست المطبخ ؟ شاطت زينب ووصفته بالمتخلف , وأضافت بسخرية " وجماله يكَول أني بغدادي" , شتعلمت من بغداد ؟ ابو خالد اخذ مكنسة من اغصان الاشجار كانت مرمية في زاوية من المطبخ , فعاط هوبي مرة اخرى : وجماله بالمكناسة ويطير التراب ؟ مقلوبة مال بعرور وتراب , يقبلها ضميرك وأنت عامل ؟ زينب هجمت عليه وأخذت منه المكنسة وأجبرته على ان يلتقط البعرور بيده واحدة واحدة .
سألني بعد ان جلسنا خارج المطبخ عن سبب كرهي للقدر الكبير . فأجبته : عندما كنا صغارا كنا نتوسل الكبار على ان نشاركهم في درخ الهريسة , والدرخ يعني خشبة اشبه بمجداف البلم تدوّر في الهريسة باستمرار لغرض ان تمتزج المواد بشكل جيد ولكي لا تتيبس ارضية القدر وتتحول الى ( حكاكه ) . كانوا يقولون لنا ان الذي يشارك في الدرخ يكسب الثواب وينجح في المدرسة , وفي الصف السادس كان معي ابن جارنا وكان قصيراً , فوضع صحيفة بجانب القدر صعد عليها لكي يستطيع ان يمسك المدراخة , صاحت عليه امه وجاءت تركض , استعجل في التدوير قبل ان تصل وتمنعه , فسقط في القدر قبل ان تصل . صرخت الام بقوة وفقدت وعيها , وتجمهر الجميع , اخرجوا الطفل وقد فارق الحياة . المهم نحن كنا فعلا ننجح في الامتحان . وفي السنة الاخرى في المتوسطة كنت خائفا من المشاركة في الدرخ , ولم انجح في نهاية العام . كنت في امتحان اللغة الانكَليزية , ووعدني زميلي الذي يجلس خلفي بأنه سيعطيني اجوبة الاسئلة بعد ان نقلها من الكتاب قبل يوم الامتحان , كانت الاسئلة خمسة والجواب على اربعة , وكنت اعرف منها ثلاثة ولا احتاج الى الغش , الا ان صديقي ضربني عدة مرات بقدمه من تحت الرحلة التي اجلس عليها , ادرت وجهي بعكس اتجاه المدرس ومددت يدي اليه لاستلمها , وإذا بالمدرس فوقنا , طردنا من الصف واضطررنا لإعادة الامتحان في الدور الثاني . وشمت بنا الاصدقاء لأننا لم نشارك في عمل الهريسة وقد صادف الطبك قبل الامتحان بيوميين . وأردت ان ازيد متعة ابو خالد فزدت عليه : عندما تخرجت اصبحت مدرسا في ذات المتوسطة التي درست فيها , اصبحت زميلا لمدرس الانكَليزية , وكنا نلعب ورق في نادي المعلمين وجئنا على حادثة كيف مسكني اغش رغم اني كنت مسيطرا وأدرت وجهي عنه عندما استلمت ورقة الغش . فأجبته بأنه كان على خطأ , وأخبرته باني عندما ادرت راسي اعتقدت بأنه لن يراني , اي مثل النعامة عندما تدفن رأسها عندما يقترب الخطر . ضحك ابو خالد واعتقدت ان ضحكته بسبب غبائي . الا انه فاجئني وسألني بلهفة : فهمني منوا الغلب باللعب انت لو المعلم مالك ؟ تعذرني ابو خالد نسيت . كركر ابو خالد وهز يده : تتذكر كل السوالف , وما تتذكر منو الغلب ؟!
" كَد كَد " اكتسب بعض العادات الآدمية نتيجة اختلاطه الدائم بنا , وعندما تأتي حيوانات الرعاة وبالذات العنزات ينظرن اليه باندهاش وهو يتبختر ببجامته , لم يعرهن اي اهتمام , ولكننا نعرف انه " يتبغدد "عليهن . وعندما نكون في الغرفة التي يسكنها مع ابو خالد ويرانا جالسين , يجلس عند قاعدة ماكنة الخياطة بجانب قدمي ابو خالد . كان يقف قربنا , ويبدو قلقا , امره ابو خالد بالجلوس الا انه ادار رأسه باهتمام الى المطبخ . زينب عادت بالرز المغسول لتضعه في القدر , " كَد كَد " عاد متوجسا من خلفها ودخل المطبخ , هوبي الذي يجلس بجانبنا رفع نظره , وبصوت واطئ لكن بحزم : لك سويها مروتك . وسواها " كَد كَد " . زينب اكملت وضع الرز و" كَد كَد " اكمل بعررته . وقف هوبي وصاح ب" كَد كَد " لك اكو واحد دازك علينه اليوم ؟ التفتت زينب ورأت البعرور , اختطفت الجفجير وقبل ان تكمل استدارتها اليه قفز " كَد كَد " وفي لحظة تجاوزنا بعشرة ياردات , كان اسرع من كنغر , ووقف متحفزا ينتظر هل سينجح ابو خالد في ايقاف زينب عن مطاردته ؟
ابو خالد : عيب يارفيقة , عقلج وعقل هالحيوان ؟
زينب : العن ابوه يابو الرباه .
ابو خالد : هسه آني انظف المطبخ .
عادت زينب الى المطبخ وهي تدمدم , اطبقت غطاء القدر بعصبية , هفّتت النار وأبقت على الجمر فقط وخرجت .
ابو خالد اعتقد ان زينب نتيجة عصبيتها هفتّت النار تحت القدر , هز يده : الله ما راح يخلصني منها لا آني ولا " كَد كَد " اذا بقى الرز حب . سارع في تغذية الجمر بالحطب , ووجت النار مرة اخرى .
ضرب الجوع بطون الانصار , وتجاوزت ساعة الغداء قليلا , واخذوا يدورون بالقرب من المطبخ . اخبرت هوبي ان الغداء سيتأخر على الاقل نصف ساعة لكي توضع المواد الاخرى اسفل القدر وفوقها الرز المطبوخ . ويبدو اني كنت على خطأ , وسرعان ما قدمت الرفيقة زينب ونادت على اربعة رفاق نشطين لكي يرفعوا القدر بمحتوياته . رفعت غطاء القدر , انزاح البخار امامها , بهتت ,وتحولت ابتسامتها الفخورة الى نظرة مشدوهة , وبحركة آلية قلبت فوقه الصينية التي هي اوسع قليلا من الغطاء , لكي يقلبوا المقلوبة في الصينية . ولكن القدر لم يفرغ كل محتوياته وبقى ثقيلا , وسمع صوت اشبه بالحصى وهي تنقر في الصينية , رفع القدر ووجد ان محتوياته اسفل الرز تحولت الى قطعة سوداء ( حكاكه محروكَه ) والرز لا يزال حبوبا . ادركت ان زينب لم تطبخ الرز عندما وضعته فوق المواد الاخرى , وأكملها ابو خالد بإشعال النار , فلا الرز نضج , ولا باقي المواد تمازجت نكهتها في حرارة واطئة عندما ابقت على الجمر فقط . اخبرت هوبي بالخطأ . هوبي لم يبتسم , ولكن وجهه ضج بالفرح , وقرر ان يحتفل , فسارع في فرش البطانية التي نجلس عليها , ارتكز على رأسه ورفع جسمه في الهواء وانقلب عليها ( دقلة ) . استغرب بولا الذي اتى بالخبز من المخزن ولم يعرف بما حصل وسأله : هاي شدتسوي ؟! رفيق اتغده والتفت الي : اشو كَاعد ما راح تاكل ؟ ومد يده ليأخذ حصتنا من الخبز . زينب فقدت اعصابها , تركت المطبخ والجفجير في يدها تركض وراء "كَد كَد " والسباب على ابو خالد .
#عدنان_اللبان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟