|
حياتي كلها فداك يا أمّي ..
محمد البورقادي
الحوار المتمدن-العدد: 5110 - 2016 / 3 / 21 - 18:35
المحور:
الادب والفن
أمي ..كنت هناك جنينا في بطنك ..كنت في قرار أمين ..كنت أتغدى على عصارة مركزة من لب طعامك .. كنت في أحشائك نطفة لا ترى ..فصرت علقة ..فمضغة ..فغدوت خلقا جديدا ..كنت فيك غضا طريا ..كنت أتقلب في جدران بطنك ..كنت أرفسك رفسا وأنت تتألمين ..كنت أطرح فضلي في دمك ..كنت أشقيك إن اشتهيت طعما فيصيبك الوحم ..كان حجمي يزداد يوما بعد يوم فتضيق نفسك لحمله وتتأوهين من شدة الثقل ..مكتث تسعا من الشهور أمتص من رحيقك المختوم ..كنت أحيا من دمك ..كنت تتقطعين من شدة الألم في الشهور الأخيرة حين دبت فيَ الروح ..كنت تتمخضين دما حين خرجت أول مرة إلى الدنيا .. تلقفتني يداك على هون ولم تلفضني لحظة ..كنت في عينيك لم أغب طرفة عين..وفي قلبك لم أهجره يوما.. كنت أرضع من لبنك الصافي قبل أن تنشأ أسناني ..كنت أصرخ في كل حين إن لم أجدك جنبي ..كنت أناديك إن شعرت بوحشة الغربة ..وكنت تأتيني مسرعة مخافة من صدى البكاء ..كان قلبك يكلم ونفسك تألم إن لم تسترضني أسبابك..كنت تتوسلين الله أن يخف بكائي وأن تهدأ نفسي .. كنت دوما معي ..كنت ملاذي ..كنت أنسي ..كنت حبيبتي وأنا في أمس الحاجة إليك ..كنت ترعاني وأنا أكبر بين عينيك ..كانت عينيك تبرقان حين أضحك ..وكانت تسكب العبرات حين أمرض ..كان قلبك يخطف إن سمعت باعتداء أحدهم علي ..كان دعائك لي يحفظني من كل مكروه.. كنت أشقيك بلعبي ..كنت أكسر كل شيء ..أعكر ثيابي وتنظفين ..أتلفظ بأقدح النعوت وتغفرين ..أضربك على وجهك وتصفحين ..أثفل عليك وتمسحين ..كنت أسب الناس وتعتذرين لهم ..كنت أشتهي الحلوى وتشترين ..كنت أتكلم ببطء أتلكأ وتصغين ..كنت تنحني إلي عندما كنت أتكلم معك ..كنت تلاعبيني إن شعرت بالضجر ..وتقبليني إن أحسست بالوجع .. لم تسأمي يوما من طلباتي وكانت طلباتي أوامر لك لا تتهاوني في تنفيذها ..كنت تبذلين فوق الوسع لأكون سعيدا ..لأدرس جيدا ..كنت أنام وتسهرين ..وألهو وتعملين ..وأسعد وتشقين ..كنت تضحين بكل ما تملكين لأكون أنا ..لم تكن أنت بل كنت أنا ..كنت أنا لوحدي وأنت ورائي ..أنا أمامًا وأنت وراء ًا .. كنت حضنا رحيما ..ويدا سخاء ..وقلبا كريما ..كنت وجها بشوشا ..كنت راعيا أمينا ..كنت حارسا قويا ..كنت صديقة وفية ..كنت أأخذ من وقتك كله ومن جهدك ومن شبابك ومن صحتك ومن حياتك ..كانت حياتك لي ولم تكن لك ..وهبتني الحياة منذ الصبا فصرت بحياتك أحيا .. كنت تكسيني أفخر الثياب ..وتطعميني وتسقيني من الشهي النقي ..كنت تطببيني في مرضي ..وتحنُّ علي حين ينهرني الكل ..كنت أنَجِّس ملابسي وتغيرين بلا قرف ولا ملل ..كنت أتقيأ وتجففين ..كنت تحممين بدني وتزيلين وسخي ..كنت تسألين علي إن غبت عنك ..وتتفقدين أخلاقي من ما يسوؤها ..كنت تفتقدين ضوضائي..ووسخي..وتكسيري لكل شيء..ولعني ..وغضبي ..وطبعي المزاجي العصبي ..كنت تلطفين بي ..وتخلصيني من قبضة أبي الصارم ..وتخاصمي أخي إن بادر في الشجار معي.. لَحَضَتْني عين رحمتك وأنا صغير أترعرع في حماك ..كنت أنمو يوما تلو الآخر وتمر الأيام وتمر الشهور وتمر السنون ..وأنا أنعم في وطنك الغالي وفي جنتك الرابية ..وأقطف من تمار حنانك ما أُلين به قسوة الحياة..ومن جود محبتك ما أكسر به مشقات الألم ..كنت لا أحس بما تفعلين من أجلي ولا أأبه لما تحرمين نفسك منه لكسب ودِّي .. كان عودي يشتد كل يوم ..وبدني يقوى ..وصوتي يعلو..ومتطلباتي تزداد..كنت مذللا كثيرا ..كنت جامحا متهورا دائما أخلق المتاعب ..فذلك سَلْوَاي ..كنت تواسين من تورطت معهم في الشجار ..وتتوسلي لمن ظلمت أن يسامحني ..كنت مؤدبة وكنت وقحا ..كنت مسالمة وكنت جسورا ماكرا.. كنت تضربيني لسوء فعلي ..فتندمي وتبكي بعد ذلك ..كنت ترتجين هدوئي ..وتكافئيني على صمتي ..وتجازيني على إنجاز تماريني ..كنت تهتزين فرحا حين أنجح في المدرسة ..وتتعالى زفراتك إن رسبت .. ومذ بلغت سن المراهقة تغير طبعي ..وأغرتني صحتي وقوتي ..وزاد وقت فراغي ..واستغنيت بحولي وقتي عن حولك وقوتك..فلم أعد في حاجتها كما كنت في السابق ..فقد عدت أقضي حاجاتي لوحدي ..أطعم نفسي بنفسي ..أطوي فراشي ..أحلق ذقني ..أكنس بيتي ...عملي يكفيني ..نقوذي تسد أغراضي ..بيتي يُؤويني ..زوجتي تؤنسني ..أولادي يُسلُّوني ..أصحابي يمازحوني ..غدوت صلبا قاسيا ..نكرت الجميل وجحدت المعروف ..نسيت أياما مضت كنت فقيرا فأغناني كرمك ..وضعيفا فقوتني صحتك ..وذليلا فأخذت من عزك ..ووسخا فنقتني طهارتك .. نسيت بل تناسيت كيف صرت رجلا ..غفلت بل تغافلت كيف أمسيت شيئا بعدما كنت لا شيء..تجاهلت كرم أمي وحنانها ..أغضت الطرف عن أيام ضعفي وذلي واحتياجي وبكائي وسفاهتي .. لا يهمني الآن سوى مركزي الإجتماعي ..ثقافتي ..كبريائي ..عظمتي ..زوجتي ..أبنائي ..مالي ..عملي ..أما من كان لا يغنيه بالأمس شيء عني فقد بِعته الآن بأبخس الأثمان..ورضيت له الهوان ..وأبدلت مكانه أصنام أعبدها .. لم أعد بحاجة إليه ..تركته للزمان وحيدا يقاسي ..ولضنك العيش يكابد ..ولألم المرض يعاني ..تخليت عنه حين كبر وشاب وقل نظره ..وتثاقلت خطاه ..وضعف سمعه وكثرت شكواه ..فلم يعد له غير الموت البطيء بديلا ..ولا عن الصبر على سوء المآل تحويلا .. فالله الله فيك ياأمي فداك نفسي وروحي وبدني ..لن أسامح وجهي إن قل ماء حيائه منك ..ولن أغفر لشيء شدّني عنك ..لن تحلوَ الدنيا بدونك ولن يطيب عيشي إلا برضاك ..ولن أعكف إلا على خدمتك ولن أستنكف عن طاعتك ولن أستكبر عن أمرك ..أنت وصيّة ربي.. وأنت سبب وجودي في هذه الدنيا ..سأضل وفيّا لك ما دمت حيا ..ولن أنسى جميلك ما حييت ..ولن أحابي سعادتي على سعادتك ولن يُشغلني شيء عنك ..أنت في قلبي يا حبيبتي.. أنت ضوء ًا يُنير دربي ..وعرشا أفتخر به وتاجا فوق رأسي ...فداك فداك يا أمي .. كلا لن أبارح جوارك إن احدودب ظهرك ..ولن أسلمك للقدر إن وَهن العظم منك واشتعل رأسك العزيزُ شيبا..وقل سمعك وظعف بصرك ونفذت حيلتك ..وغاب عنك رشدك.. واأسفاه على مافرطت في جنبك ..واحزناه على نقص في رعايتك ..واكرباه على ألم تكبّدت مرارته بسببي.. وددت لو عادت بيَ الأيام لأقدرك حق قدرك ..فوالله لو قضيت عمري في خدمتك ماوفيتك حسابك ولو مُدَّ لي في عمري مدًا وأوتيت من كل شيء سبباً وأتتني الدنيا وهي راغمة ..أماه لو كان السجود لغير الإله مباحا لسجدت لك إجلالا وتكريما ..واأسفاه على وقت مضى لم أجبر فيه بخاطرك ..وعلى عمر انقضىى لم أحسن فيه إليك ولو عُشْرَ ما أحسنت إلي.. فيارباه ألهمني لبِرِّ أمي طول عمري فإن ببرّها الدنيا تطيب ..وارحمها كما ربتني صغيرا ..ولا تخزها يوم تبعث عبادك وأدخلها برحمتك في عبادك الصالحين ..في جنات النعيم ..
#محمد_البورقادي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نصائح للشباب : أقبل قبل المغادرة وتيقّظ قبل الفوات..!
-
نصائح للشباب :الدخر ليوم الميعاد
-
التعلق بغير الله خُذلان ..
-
شقاوة الحب..
-
داعش : شروط الإنتاج..
-
التموقع الإقتصادي العربي في عالم العولمة..
-
الفساد في مواجهة التنمية..
-
تأملات في البادية..
-
ماذا استفاد المجتمع من سياسة الخوصصة ؟!
-
الإنسان في الفكر المادي..
-
محاكمة العقل للفكر التطوري الدارويني..
-
حال الناس بين الغفلة واليقظة..
-
جَحِيمُ الخادماتِ في السعودية..
-
رهانات التنمية وإكراهات البيئة ..
-
رهانات التنمية وإكراهات البيئة .
-
لقد مات من فَرْطِ الإستهلاك ..
-
الرأسمالية والإغتراب ..
-
نظرة في خلفيات صناعة الإرهاب..
-
وسائل الإتصال وسلطة التأويل ..
-
الإرادة العليا وجدل العقل و المنطق ..
المزيد.....
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
-
صحفي إيرلندي: الصواريخ تحدثت بالفعل ولكن باللغة الروسية
-
إرجاء محاكمة ترامب في تهم صمت الممثلة الإباحية إلى أجل غير م
...
-
مصر.. حبس فنانة سابقة شهرين وتغريمها ألف جنيه
-
خريطة التمثيل السياسي تترقب نتائج التعداد السكاني.. هل ترتفع
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|