كي لا نقول بعد سنوات
فلسطين والعراق وسورية والسعودية و...
في الفترة الفاصلة بين حربي العراق في ايران والكويت , أعلن صدام حسين , بانه يملك سلاحاً قادراً على حرق نصف "اسرائيل " .
هذا التصريح الأحمق , الذي لم نسمع مثيلاً له من قبل الزعامات الأسرائيلية المتعاقبة , منذ امتلكت اسرائيل سلاحها الذري في أواخر الخمسينات من القرن الماضي الى اليوم . دفع الساسة الأمريكان الى اعادة تقييم فائدة تسليم اسلحة دمار شامل الى زعيم مهووس بعظمته , جامحاً باتجاه توسيع دائرة نفوذه باستمرار على حساب كائن من كان . فلقد كان مرسوماً لهذا السلاح , ان يحرق خصوم المصالح الأمريكية في المنطقة , لا أن يحرق نصف امتدادها في المنطقة العربية ( اسرائيل ) .
لقد حصلت تطورات كثيرة بعد ذلك التصريح , منها غزو الكويت وذهاب امريكا بجيوشها الى منطقتنا العربية , واخراج العراق من الكويت , ( مع احتمال ان تكون امريكا هي المشجعة الرئيسية لنظام صدام لدخوله الكويت ) , وصدور قرارات مجلس الأمن الكثيرة بشأن العراق , والتي انتهت في يومنا هذا الى وضع العراق تحت الوصاية الدولية , وتهيئته لغزو امريكي أكيد , طالما ان صدام حسين على رأس السياسة العراقية .
ان الألحاح الأمريكي الذي نراه اليوم , من اجل تجريد العراق من اسلحته , ليس الحاحاً صادراً عن رئيس امريكي مهووس بالحرب , او معقد , او مريض نفسياً , كما يحلو لبعض الساسة العرب ان يصفوا واقع الحال القائم حالياً ( مع احتمال ان تكون تلك هي مواصفات الرئيس الأمريكي ) . بل انه اصرار ناجم عن خلل قائم بين طرفي مساواة حسابية أمريكية .
ما هي اطراف هذه المعادلة الحسابية ؟
الطرف الأول هو محتويات فواتير البيع التي ما زالت موجودة في خزائن وزارة الدفاع الامريكية , والتي تحدد ما تم تسليمه للنظام العراقي من مواد محظورة , والتي تدخل في تصنيع الأسلحة المحظورة , سواء من الترسانة الأمريكية او من الشركات الأوروبية .
والطرف الثاني من المعادلة وهو ما استعمله النظام العراقي من هذه الأسلحة ضد شعبه في الشمال والجنوب , وضد جيرانه الايرانيين بالأضافة الى ما دمره الخبراء الدوليون ما بين 1991 و 1997
الفرق بين طرفي المعادلة تلك حسب الدراسة الأمريكية هي 30000 قذيفة كيميائية وجرثومية , مازالت مجهولة المصير.
العراق تقدم الى الأمم المتحدة ( الولايات المتحدة ) بتقرير عن ترسانته من الأسلحته , هذا التقرير احتكرته الولايات المتحدة واعطت نسخ معدلة عنه الى الدول اعضاء مجلس الأمن , غَّيبت منه ما لا تريد ان يعرفه الآخرين عن القذارات التي مارستها مع النظام الأستبدادي في العراق ضد شعبه والشعوب المجاورة , وكما ان النظام العراقي له مصلحة في ذلك ايضاً , لذلك لم يبادر العراق الى تسليم الدول المحتجة على عدم استلامها لنسخة عن التقرير , نسخة عنه , بمن فيهم الدولة " الشقيقة " الوحيدة في مجلس الأمن , وهكذا حافظ اللاعبان على نفسيهما في ساحة اللعب , مستبعدين الآخرين كي لا يكشفوا مضمون علاقتهم السابقة المشبوهة ضد شعوب المنطقة . في هذا التقرير على ما يبدو يقدم العراقيين كشفاً بالأسلحة المحظورة التي استخدموها ضد شعبهم وجيرانهم , وما دمره الخبراء الدوليون , ليقولوا ان المحصلة صفراً .و هذا ما أغاظ الأمريكيين و ما دعاهم للقول , بان العراق ما زال يمتلك تلك الأسلحة , وان تقريره لا يظهر الحقائق , وان الحرب قادمة وبغض النظر عن تقرير الخبراء الدوليين . هذا الأصرار الأمريكي دفع صدام حسين لأن يضع مجموعة من الصواريخ الفارغة الحشوة امام المفتشين الدوليين لكي يكتشفوها , وبذلك يعتقد صدام , بانه يملأ الفجوة في تقريره , او يجد النسبة المئوية الضائعة التي يبحث عنها الأمريكان . ومع ذلك فقد عاد الأمريكيون مجدداً لتكذيب العراق , واتهام مسئوليه بالخداع .
امام هذه المعطيات لا بد للأمريكيين من ان يتكهنوا بمكان وجود هذه الأسلحة المفقودة حسب اعتقادهم , وأحد هذه الأمكنة المحتملة بنظرهم , هي سورية التي يتوقعون ان يكون صدام قد هرب اسلحته اليها كما فعل اثناء حرب الخليج الثانية عندما هرّب مقاتلاته الى ايران , وان كان هناك موانع من ان تتحدث الولايات المتحدة عن هذا الأحتمال الغير مؤكد , علناً , فان مهمة جس النبض , توكل دائماً الى وجهها القبيح في المنطقة , شارون . ومن هنا فانه لايجوز لنا ان نعتبر تصريحات شارون بهذا الخصوص , بأنها تحريضاً اسرائيلياً على سورية , بل يجب ان نفهمه بانه تفكيراً امريكياً منطوق شارونياً . وهذا يرتب علينا ان نعمل بالطرق الصحيحة لحماية استقلالنا الوطني ضد غزو قادم الى المنطقة وليس العراق فقط .
ان اصرار الولايات المتحدة على :
1 – ازالة اي احتمال خطر يتهدد جزئها الآسيوي " اسرائيل " حتى ولو بعد مائة عام .
2 – احكام قبضتها على مصادر الطاقة في العالم , لتتحكم بدرجة نمو حلفائها او حتى شلهم , وتأمين طاقة رخيصة لأسواقها الداخلية . وتثبيت موقعها كزعيم أوحد لهذا العالم , تبنيه بطريقتها التي تخدم مصالحها فقط , حتى دون حلفائها التاريخيين .
3 – اعادة صياغة الأوضاع السياسية والجغرافية في منطقتنا العربية وتنصيب قرضايات عرب على شاكلة احمد الجلبي ومن لفه في سدة الحكم , وتلميعهم على انهم جالبي الديمقراطية الى العالم العربي , وتكليفهم بمهمة الحيلولة دون وجود معارضين للهيمنة الأمريكية في المستقبل , كي لا تتكرر التجربة السعودية في ايلول 2001 , او التجربة الفلسطينية في 1966 او الناصرية في 1952 .
بالأضافة الى مايظهره لنا الرئيس الأمريكي من استخفاف بالرأي العام العالمي والمحلي , حيث ان المظاهرات الكبيرة التي حصلت في الولايات المتحدة في 18 يناير , لا تعني له اكثر من انها ميزة من ميزات الديمقراطية الأمريكية , وليست رفض لسياسة مجرمة متوحشة بحق الشعوب المستضعفة .
هذا الأصرار الأمريكي المتضافر مع :
1 - خلو السياسة العراقية من اي معنى سياسي فاعل على الساحة العربية او العالمية ناهيك عن الساحة الداخلية , وتحولها الى سياسة عنتريات جوفاء .
2 - عجز السياسة العراقية عن حشد حلفاء دوليين او حتى عرب , تتقاسم المصالح المشتركة معهم ويساعدوا على الحد من الأستهتار الأمريكي بحق الشعب العراقي بالحياة .
3 – العجز العربي الشامل , الذي لم يشهد التاريخ مثيلاً له حتى في عام 1948 , وتسليم الحكام العرب دون استثناء أمورهم لمشيئة الولايات المتحدة وقدرها .
4 - بالأضافة الى نرجسية العقل الصدّامي , في فهم تعبير شعوب الأرض عن رفضها للحرب على الشعب العراقي , ( هذا التعبير الذي يتضمن ايضاً , رفضها للأستبداد والقهر الذي يمارسه النظام الحاكم بحقه ) , على انه تضامن مع سياساته .
5 – النزعة النيرونية ( من نيرون ) عند حكام العراق , وما ظهر منها اثناء استعمالهم للأسلحة الكيميائية ضد شعبهم من ناحية , وحرق آبار النفط في الكويت من الناحية الأخرى , وتلويث البيئة والحاق الضرر حتى بالأجيال التي لم تولد بعد .
كل هذا يؤكد ان الحرب المدمرة قادمة , وخسارة الأنسان و الأوطان قادمة , خاصة عندما نسمع التقدير الأمريكي لكلفة الحرب على العراق بانها ستساوي المخزون النفطي فيه .
ان التفكير الأمريكي المنطوق بواسطة شارون , باحتمال ان يكون العراق قد هرب اسلحة التدمير الشامل الى دول عربية , سيكون المبرر السياسي لعبور القوات الأمريكية اي حدود عربية بعد اجتياحها للعراق لاستكمال مخطط سيطرتهم . من هنا فاننا نرى بان الأستقلال الوطني للبلدان العربية حتى بشكله الهش القائم حالياً , اصبح مهدداً تهديداً جدياً , ونخص بالتحديد سوريا .
ان السياسات التي مورست في سورية منذ اربعين عاماً وحتى يومنا هذا , لم تكن عاجزة فقط عن استكمال مهام الأستقلال الوطني والتطوير الأجتماعي والنهوض العلمي والصناعي . انها السياسة الشقيق التوأم للسياسة العراقية , في بناء الأمجاد الزائفة , والأنتصارات الوهمية , من انتصارات تشرين الى انتصارات ام المعارك . سياسة استبدادية , تخفي كل انواع الفساد الأداري والمالي والأخلاقي تحتها . سياسة مدمرة , أدت الى الغاء مفهوم الوطن , وفككت كل انواع العلاقات الأنسانية داخل الأسرة والمجتمع , وحلت مكانها علاقات الزيف والمداهنة والمديح الكاذب والغدر والغش . .وعلى الرغم من كل الدعوات الصادقة التي صدرت من كل القطاعات الأجتماعية والسياسية , لأنهاء حالة التسلط , واجراء المصالحة الوطنية , واعادة وضع البلاد على سكة التطور الطبيعي من جديد . الا ان رجال السلطة ما زالوا يدفنوا رؤوسهم في الرمل , فلا يريدوا ان يسمعوا تلك الدعوات , ولا ان يروا الأخطار القادمة وان آليات عملهم التي تصر على الحفاظ على وضع الشعب خارج اطار المشاركة والفعل في الحياة العامة , أصبح من الخطر الحفاظ على العمل فيها , لأن الأخطار القادمة تستوجب تصدي الجميع لها باعتبارهم مواطنين أحراراً وليسوا عبيداً يوضعوا في فوهة المدفع .
لقد بدأنا منذ خمس وخمسون عاماً نعلن عن تضامننا مع الشعب الفلسطيني ومع حقه في العودة الى أرضه ووطنه , ومنذ اثني عشر عاماً بدأنا نضيف الشعب العراقي الى بيانات التضامن والدعم التي نصدرها , ولكي لا نضيف بعد سنوات او شهور الشعب السوري أو السعودي أو... الى جانب من نتضامن معهم الآن من شعوب عربية , فلقد اصبح واجباً ملحاً على شرفاء الوطن , وبغض النظر عن مواقعهم في الموالاة او المعارضة , السياسي و المهني , العلماني و المتدين , رجلاً و أمرأة , ان يتداعوا لعقد مؤتمر وطني جامع الجميع , وليكن مؤتمراً للمصالحة الوطنية والتباحث في انجع الأساليب لحماية الوطن , وليتم تجاهل اولئك الجهلة الذين ما زالو يفضلون مصالحهم الذاتية على مصالح الوطن والأمة , تمهيداً لعزلهم عن الثأثير في الحياة العامة .
ان مهمة صعبة كهذه المهمة , ولكنها الملحة والضرورية , تنتظر رجالاً أشداء ليقوموا بها , رجالاً كسروا بارادتهم الوطنية وحبهم لشعبهم وايمانهم به , جبالاً من القهر والظلم والألم , من امثال المناضل الوطني الكبير رياض الترك , فهل نحملك اعباءً شديدة اضافية يا " أبن العم " ان علقنا أمالنا عليك في قيادتنا الى هذا الهدف ؟.
فريد حداد - كندا