أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كارل كاوتسكى - يسوع الإنجيل ويسوع التاريخ - كارل كاوتسكى















المزيد.....



يسوع الإنجيل ويسوع التاريخ - كارل كاوتسكى


كارل كاوتسكى

الحوار المتمدن-العدد: 5168 - 2016 / 5 / 20 - 08:43
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


ترجمة : سعيد العليمى
من كتاب اسس المسيحية - كارل كاوتسكى - القسم الأول
شخصية يسوع
الفصل الأول
المصادر الوثنية
أيا ما كان موقفنا تجاه المسيحية، فيجب أن نعترف بها بوصفها واحدة من أكثر الظواهر العملاقة فى التاريخ البشرى كما هو معروف لدينا. لانستطيع أن ننظر بدون إعجاب شديد للكنيسة المسيحية، التى استمرت حوالى عشرين قرنا، والتى نعتبر أنها ما زالت مليئة بالقوة، أقوى فى عديد من البلدان حتى من الدولة. يصبح من ثم، كل شيء، يمكن أن يسهم فى فهم هذه الظاهرة المهيبة اهتماما حاضرا هاما للغاية ذو مغزى عملى عظيم، هذا هو موقفنا إزاء دراسة أصل هذا التنظيم، الذى سوف يعود بنا آلاف الأعوام فى التاريخ.
تقودنا القوة الحالية للمسيحية لأن ننظر لدراسة بداياتها باهتمام أعظم مدى أكثر من أى بحث تاريخى آخر، ولو أنها تعود بنا فقط قرنين ، ولكنها تجعل أيضاً بحث هذه البدايات أكثر صعوبة مما إذا كانت خلافا لذلك.
لقد أصبحت الكنيسة المسيحية تنظيما للهيمنة، سواء فى صالح رجالاتها أو رجالات تنظيم آخر، الدولة، حيث نجحت الأخيرة فى السيطرة على الكنيسة. إن من سيقاتل هذه القوى يجب أن يقاتل الكنيسة أيضا. النضال من أجل الكنيسة، مثله فى ذلك مثل النضال ضد الكنيسة، قد أصبح من ثم قضية حزبية، الذى ترتبط به المصالح الاقتصادية الأشد أهمية. بالطبع، من المحتمل للغاية أن يُعتِّم هذا الوضع وحده على المتابعة الموضوعية لدراسة تاريخية عن الكنيسة، وقد دعا الطبقات الحاكمة لفترة طويلة لمنع أى بحث عن بدايات المسيحية على الإطلاق، لإضفاء طابعا إلهيا على الكنيسة التى تقف فوق وما وراء النقد البشرى.
نجح " التنوير" البورجوازى فى القرن الثامن عشر أخيرا فى التخلص من تلك الهالة الإلهية مرة والى الأبد. فلم يكن البحث العلمى عن أصل المسيحية ممكنا حتى آنذاك. ومن الغريب أن نقول، أن العلم غير الإكليركى قد ابتعد عن هذا الحقل حتى فى القرن التاسع عشر، وبدا أنه ينظر اليه باعتباره مازال ينتمى لمجال اللاهوت على وجه الحصر، وهكذا ليس موضع اهتمام العلم على الإطلاق. إن عـددا عـظيما من المـؤلفات التاريخية، التـى كـتـبـها أكثر المؤرخين البورجوازيين أهمية فى القرن التاسع عشر، تعالج الفترة الإمبراطورية الرومانية بخطو متهيب واضح لأكثر ظواهر هذه الحقبة أهمية، أى، نشوء المسيحية. وهكذا قدم مومسن، فى المجلد الخامس من كتابه التاريخ الرومانى، دراسة مفصلة عن تاريخ اليهود فى ظل القياصرة، ولم يكن بمقدوره تجنب ذكر المسيحية عرضا فى هذا القسم، ولكن تظهر المسيحية فى مؤلفه كحقيقة ناجزة، المعرفة بوجودها مفترض مسبقا. إجمالا، يمكن القول بأن اللاهوتيين وخصومهم فقط، الدعاة أحرار الفكر هم من أظهروا حتى الآن اهتماما ببدايات المسيحية.
لم يكن بالضرورة جبنا هو ما أعاق المؤرخين البورجوازيين، إلى الحد الذى كانوا ينتجون فيه التاريخ وحده وليس أيضاً أدبا جداليا من أن ينشغلوا بأصل المسيحية. لقد كان سببا كافيا لعدم التوجه لهذه المسألة الضآلة التعسة للمصادر التى ينبغى أن نستخرج منها معرفتنا بهذا الموضوع.
إن المسيحية وفقا لوجهة النظر التقليدية هى من خلق رجل واحد هو يسوع المسيح، ووجهة النظر هذه لم تنمحى تماما بأية حال. من المحقق، على الأقل، فى الدوائر "المستنيرة"، "المثقفة" أن يسوع لايعتبر بعد إلهاً، ولكنه مازال يعد شخصية استثنائية. فهو من انطلق ليؤسس ديانة جديدة ونجح فى سعيه إلى درجة مرموقة واضحة فى عمومها لحد بعيد. لم يتبنَ وجهة النظر هذه اللاهوتيون المستنيرون فقط، ولكن أيضاً المفكرون الأحرار الجذريون، يميز الأخيرون أنفسهم عن اللاهوتيين فقط بواسطة النقد الذى يوجهونه لشخصية يسوع، حيث يحاولون أن يطرحوا منها إلى أقصى مدى ممكن كل ماهو نبيل.
على أية حال، حتى قبل نهاية القرن الثامن عشر، فإن المؤرخ الإنجليزى جيبون، فى كتابه تاريخ تدهور وسقوط الإمبراطورية الرومانية (الذى كتب من 1774 حتى 1788) أشار بسخرية ناعمة للحقيقة المذهلة بأنه لا أحد من معاصرى يسوع قد روى أى شيء عنه، بالرغم من حقيقة وجود مزاعم بأنه اجترح مثل تلك الأفعال العجيبة.
"ولكن كيف نعذر عدم الانتباه المهمل للعالم الوثنى والفلسفى تجاه هذه الأدلة التى قدمتها يد كلى القدرة، ليس لعقلهم، بل لأحاسيسهم؟ فى خلال عهد المسيح، ورسله، وتلاميذهم الأول، كان المذهب الذى بشروا به قد صادقت عليه آيات لاتحصى. مشى المفلوج، رأى الأعمى، وشُفى المرضى، وقام الموتى، وطُرد الشياطين، وأُوقفت قوانين الطبيعة مرارا لصالح الكنيسة. ولكن حكماء اليونان وروما التفتوا عن المشهد المهول، مواصلين الاهتمامات العادية بالحياة والدراسة، وظهروا كأنهم غير واعين بأى تغيير فى الحكومة الأخلاقية أو الفيزيائية للعالم ".
طبقا للتقليد المسيحى، فإن الأرض كلها، أو على الأقل كل فلسطين، قد غمرها الظلام لثلاث ساعات بعد موت يسوع. وقد جرى هذا أثناء حياة بلينى الأكبر، الذى كرس فصلا خاصا فى كتابه التاريخ الطبيعى عن موضوع الكسوفات، ولكنه لايقول شيئا عن هذا الكسوف ( جيبون، الفصل 15 تدهور وسقوط، لندن، 1895. المجلد 2 ص ص 69-70).
ولكن حتى إذا تغاضينا عن المعجزات، فمن الصعب أن نفهم أن شخصية مثل يسوع الأناجيل، الذى أثار وفقا للرواية، مثل هذا الاضطراب فى عقول البشر، يمكن أن يواصل تحريضه ويموت فى النهاية باعتباره شهيد قضية بدون أن يكرس له معاصروه من الوثنيين والعبرانيين ولو كلمة واحدة.
يُذكر يسوع أول ما يُذكر من قبل مؤلف غير مسيحى فى كتاب الآثار اليهوديةJewish Antiquities (الذى كتبه) يوسيفوس فلاڤ-;---;-----;-------;----يوس. الفصل الثالث، من الكتاب الثامن عشر، الذى يتناول الوالى بنطس البيلاطى، وهو يقول، من بين أشياء أخرى:
"حوالى هذا الوقت عاش يسوع، رجل حكيم، إذا كان يمكن أن يسمى رجلا، لأنه حقق معجزات وكان معلما للرجال، الذين قبلوا حقيقته بسرور، ووجد كثيرا من الأتباع بين اليهود والهيلينيين. هذا الرجل كان المسيح. بالرغم من أن البيلاطى قد صلبه آنئذ وفقا لإتهام أكثر الرجال امتيازا من شعبنا، فإن هؤلاء الذين أحبوه بداية بقوا مخلصين له مع ذلك. لأنه ظهر لهم فى اليوم الثالث مرة أخرى، نهض لحياة جديدة، كما تنبأ أنبياء الرب بهذا وبآلاف
الأشياء المعجزة الأخرى عنه. منه أخـذ المسيحيون اسمهم؛ ولم تتوقف طائفتهم(φ-;---;-----;-------;----ΰ-;---;-----;-------;----λ-;---;-----;-------;----ο-;---;-----;-------;----υ-;---;-----;-------;----) منذئذ".
يتحدث يوسيفوس مرة أخرى عن المسيح فى الكتاب الثانى عشر، الفصل التاسع، 1، قائلا بأن رئيس الكهنة أنانوس، فى ظل حكم الوالى "ألبينوس (فى عهد نيرون) قد نجح فى تقديم " يعقوب أخ يسوع، المسمى بالمسيح (λ-;---;-----;-------;----ξ-;---;-----;-------;----γ-;---;-----;-------;----ο-;---;-----;-------;----μ-;---;-----;-------;----ξ-;---;-----;-------;----ν-;---;-----;-------;----ο-;---;-----;-------;----υ-;---;-----;-------;---- χ-;---;-----;-------;----ρ-;---;-----;-------;----ι-;---;-----;-------;----σ-;---;-----;-------;----τ-;---;-----;-------;----ο-;---;-----;-------;----ΰ-;---;-----;-------;----) للمحاكمة، مع عدد آخر أشير إليهم باعتبارهم منتهكى الناموس، ورجموا ".
لطالما قدر المسيحيون الأدلة، لأنها كلمة لم تصدر عن مسيحى، وإنما من يهودى وفريسى، ولد فى عام 37 ب.م، وعاش فى أورشليم، ومن المحتمل أن كانت لديه من ثم معلومات موثوقة للغاية تتعلق بيسوع. أضف إلى ذلك، فإن شهادته هى الأكثر أهمية، مادام، لكونه يهوديا، ليس لديه سبب لتلوين الحقائق لصالح المسيحيين.
ولكن هذا التمجيد المغالى فيه ليسوع من اليهودى الورع تحديدا جعل هذا المقطع فى مؤلفه يبدو مشكوكا فيه حتى بالنسبة للدارسين الأوائل. لقد نوقشت مدى الثقة فيه قبلا فى القرن السادس عشر، ومن المؤكد الآن أنه تزييف لم يكتبه يوسيفوس على الإطلاق .
لقد أضيف فى مجرى القرن الثالث من قبل ناسخ مسيحى، يبدو من الواضح أنه قد صدم لأن يوسيفوس لم يقدم أية معلومات تتعلق بشخص يسوع، بينما يورد أشد الثرثرات طفولية من فلسطين. لقد شعر المسيحى الورع عن صواب بأن عدم ذكره كان يساوي إنكار وجود، أو على الأقل أهمية، مخلصه، وأصبح فضح إدراجه لهذا النص من الناحية العملية دليلا ضد يسوع.
ولكن المقطع الذى يتعلق بيعقوب هو أيضاً ذو طبيعة مشكوك فيها للغاية. إنه من الصحيح أن أوريجن، الذى عاش من 185 حتى 254 ب.م، يذكر، فى تعليقه على متى Mattew، مقطعا عند يوسيفوس يتعلق بيعقوب. وهو يلاحظ فى هذا الصدد أنه من الغريب أن يوسيفوس مع ذلك لم يؤمن بيسوع باعتباره المسيح. وهو يقتبس مرة أخرى هذا التصريح الخاص بيوسيفوس فى جداله ضد سلسوس، ويشير مرة أخرى إلى شكية يوسيفوس. إن كلمات أوريجن هذه هى واحدة من الأدلة التى تظهر أن كتاب يوسيفوس فى شكله الأصلى لم يكن فيه المقطع الذى يتعلق بيسوع الذى يعترف فيه بالأخير باعتباره المسيح، المخلص. يبدو الآن أن المقطع الذى يتعلق بيعقوب، الذى وجده أوريجن عند يوسيفوس، هو أيضاً إدراج مسيحى، لأن هذا المقطع كما اقتبسه أوريجن مختلف تماما عن ذلك الذى تضمنته نصوص يوسيفوس التى وصلت إلينا. يعرض اقتباس أوريجن تدمير أورشليم كعقاب على إعدام يسوع. هذا الإدراج لم يمر إلى نصوص يوسيفوس الأخرى ومن ثم لم يحفظ. ولكن المقطع الذى وصل فى نصوصنا ليوسيفوس، من ناحية أخرى، لم يقتبس من قبل أوريجن، بينما يذكر المرات الثلاث الأخرى فى مناسبات متنوعة. وهذا بالرغم من حقيقة أنه قد اقتبس بعناية كل الأدلة عند يوسيفوس التى كانت تحبذ على الأرجح الإيمان المسيحى. إنـه مـن ثم من المعقول أن نفترض أن مقطع يوسيفوس الذى وصل إلينا هو تزوير أيضا، وأنه قد أدرج من قبل أحد المسيحيين الورعين، من أجل مجد الرب الأعظم، بعد زمن أوريجن، ولكن قبل زمن إيوسيبوس، الذى يقتبسه.
ليس فقط ذكر يسوع ويعقوب عند يوسيفوس ولكن أيضاً يوحنا المعمدان (الآثار، 18، الفصل الخامس، 2) هو موضع شك باعتباره إدراجا .
نحن من ثم نجد إدراجا مسيحيا لدى يوسيفوس عند كل خطوة، من البدايات الأولى للقرن الثانى. كان صمته فيما يتعلق بالشخصيات الرئيسية للأناجيل مصدما للغاية ببساطة، وكان لابد أن يتغير.
ولكن حتى لو أن التصريح المتعلق بيعقوب حقيقيا، فسوف يبين على الأكثر أنه كان هناك يسوع ما يدعى المسيح، أى، المخلص. وليس من المحتمل أن يثبت أكــثر من هــذا. ولكن حتى إذا أقررنا بأن المقطع حقيقى، فلن يكون أقوى من خيط عنكبوت وسوف يجد اللاهوت النقدى من الصعوبة بمكان أن يوقف عليه شكلا إنسانيا. لقد كانت هناك وفرة من المُسحاء الكذبة فى زمن يوسيفوس، تعود حتى القرن الثانى، حتى أنه ليس لدينا أكثر من ذكر موجز عنهم. كان هناك يهوذا من الجليل، ثيوداسى، مصرى بغير اسم، سامرى، وبار كوخبى. وربما كان بالفعل هناك يسوعا بينهم. كان اسم يسوع مألوفا للغاية بين اليهود - يوشع، يوسع، المخلص" .
يفيدنا المقطع الثاني عند يوسيفوس على الأكثر أنه من بين المحرضين الذين كانوا يشتغلون فى فلسطين باعتبارهم مخلصين، ومرسومين من الرب، كان هناك واحد يسمى يسوع. لايخبرنا المقطع بأى شيء يتعلق بحياته وعمله مطلقا.
يذكر يسوع عند كاتب غير مسيحى فى حوليات Annals المؤرخ الرومانى، تاسيت، التى ألفت حوالى العام 100 ب.م. فى الكتاب الخامس عشر، وصف حريق روما فى ظل نيرون، ونقرأ فى الفصل 44 مايلي:
"من أجل أن ينفي الــرواية (التـى وضعت اللوم بشأن هـذا الحريق عـلى نيرون) فـقـد أتهم أشخاصا كان يسميهم الشعب مسيحيين، والذين كرهوا بسبب أعمالهم الرديئة، بهذا الذنب، ومورست أشد العقوبات إيلاما عليهم. ومن أخذوا عنه اسمهم، المسيح، كان قد أُعدم فى حكم طيباريوس من قبل الوالى بيلاطس البنطى، ولكن بالرغم من أن هذه الخرافة كانت قد قمعت للحظة هكذا، فقد ثارت مرة أخرى ليس فى اليهودية فحسب، الموطن الأصلى لهذا البلاء (Mali) ، ولكن حتى فى روما نفسها، فى أى مدينة كل إعتداء وكل عار (atrocia aut pudenda) يجد ملاذا وانتشاراً واسعا. فى البداية قبض على قلة الذين اعترفوا، وبعد ذلك بناء على اتهامهم، قبض على عدد كبير من الآخرين، الذين لم يكونوا، على أية حال، قد اتهموا بجريمة الإحراق عمدا وإنما بجريمة كراهية الإنسانية. لقد جعل إعدامهم تسلية عامة، فغطوا بجلود الوحوش المفترسة ثم مُزقوا بعدئذ من الكلاب أو صلبوا، أو أعدوا للمحرقة، ثم بعدئذ حرقوا بمجرد أن هبط الليل، لإضاءة المدينة. قدم نيرون حدائقه من أجل هذا المشهد، بل أعد حتى ألعاب السيرك التى اختلط فيها مع الشعب فى زى سائق مركبة، أو اعتلى مركبة سباق. وبالرغم من أن هؤلاء الرجال كانوا مجرمين يستحقون أشد عقوبة، فقد وجد هناك بعض التعاطف معهم، لأنه بدا أنه قد ضحى بهم لا من أجل الصالح العام، وإنما بسبب قسوة رجل فرد".
ليست هذه الشهادة بالتأكيد تزويرا صنعه المسيحيون فى صالح المسيحيين. "مما لاريب فيه، فقد طعن في صدقها. لأن ديوكاسيوس لايعرف شيئا عن اضطهاد المسيحيين فى ظل نيرون. على أية حال، فإن ديوكاسيوس قد عاش فى القرن التالى على تاسيت. أما سويتينيوس، الذى كتب ليس بعد فترة طويلة من تاسيت، فيروى فى سيرته الذاتية عن إضطهاد للمسيحيين، "الناس الذين اعتنقوا خرافة جديدة شريرة" (الفصل السادس عشر).
ولكن عن يسوع، لايقول لنا سويتينيوس شيئا على الإطلاق، وتاسيت لاينبئ حتى بإسمه. المسيح، الكلمة الإغريقية "المرسوم"، ليست أكثر من الترجمة اليونانية للكلمة العبرية " المخلص. " فيما يتعلق بنشاطات المسيح "ومضمون تعاليمه ليس لدى تاسيت شيء يقوله.
وهذا هو كل ما تخبرنا به المصادر غير المسيحية فى القرن الأول من عصرنا عن يسوع.
*****
الفصل الثانى
المصادر المسيحية
ولكن ألا تفيض المصادر المسيحية على نحو أكثر غزارة؟ أليس لدينا فى الأناجيل أكثر الروايات دقة عن تعاليم وتأثير يسوع؟
مما لاشك فيه أنها دقيقة. ولكن جدارتها بالتصديق أمر مختلف تماما. إن مثال التزوير عند يوسيفوس قد جعلنا بالفعل ملمين بسمة مميزة للكتابة المسيحية الأولى للتاريخ، أى، لامبالاتها الكاملة بالحقيقة. لم يكن الكتاب معنيون بالحقيقة، وإنما بتحقيق غايتهم، ولم يكونوا مرهفين على الإطلاق فى اختيار وسائلهم.
حتى نكون عادلين تماما، يجب أن نعترف أنهم لم يكونوا مختلفين فى هذا الصدد عن زمانهم. لم يكن الأدب الدينى اليهودى أفضل بأى حال، والحركات الصوفية " الوثنية " السابقة والتالية على بداية العصر المسيحى كانت موصومة بذات الانتهاك. إن سذاجة العوام، والرغبة فى خلق تأثير، وكذلك عدم الثقة فى قدراتهم الخاصة، والحاجة إلى التعلق بسلطات مافوق إنسانية، افتقار الحس بالواقع، وهى خصائص سوف نفحص أسبابها لاحقا، كانت حينئذ تفسد كامل جسد الأدب خاصة حيثما تمايز عن الخطوط التقليدية. سوف نجد أدلة كثيرة على هذا فى الأدبين المسيحى واليهودى. ولكن الحقيقة هى أن الفلاسفة الصوفيين أيضاً كانوا مائلين فى هذا الاتجاه - مما لاريب فيه انهم كانوا مرتبطين بوثوق بالمسيحية - كما ظهر على سبيل المثال، من جانب الفيثاغورثيين الجدد، وهى طائفة نشأت فى القرن السابق على ميلاد المسيح. مذهبهم، خليط من الأفلاطونية والرواقية، غنى بالإيمان بالرؤى، جائع للمعجزات، إدعى أنه تعاليم الفيلسوف القديم فيثاغورث، الذى عاش فى القرن السادس قبل الميلاد، والذى عرف عنه كان ضئيلا للغاية. وهكذا أصبح من الأسهل نسبة أى شيء احتاج إلى نفوذ اسم عظيم إليه.
"لقد رغب الفيثاغورثيون الجدد فى أن يُعدوا تلامذة حقيقيين للفيلسوف الساموسى القديم: حتى يجعلوا من الممكن عرض تعاليمهم باعتبارها فيثاغورثية حقيقية، فقد قاموا بتلك التشويهات الأدبية التى لاحصر لها والتى نسبت كل شيء بلا تردد بغض النظر عن جدته، أو لأى حد يمكن أن يكون معروفا جيدا أصله الأفلاطونى أو الأرسطى، إلى فيثاغورث أو أرخيتاس" .
والحالة بصدد الأدب المسيحى الأولى مشابهة تماما، فقد كان من ثم فى وضع من التشويش تطلب العمل المثابر لبعض العقول الأكثر ذكاء فى القرن الماضى لترتيبه، بدون تحقيق أية نتائج ملحوظة.
دعنا نشير إلى حالة واحدة وكيف كان التشوش الناتج عن خلط أكثر المفاهيم تنوعا فيما يخص أصل الكتابات المسيحية الأولية عظيما. إن الحالة المعنية هى رؤيا القديس يوحنا، وهى جوزة يصعب كسرها بصفة خاصة. وعند بفليدرر ما يقال حول هذا الموضوع فى كتابه المسيحية الأولية، كتاباتها وتعاليمها فيما يلى:
"كان كتاب دانيال هو الأبكر فى هذه "النبوءات، وقد وضع نموذجا للسلاسل كلها. حين جرى البحث عن مفتاح لتفسير رؤى دانيال فى أحداث الحرب اليهودية فى زمن أنطيوخوس إبيفانس، فقد افترض بشكل صحيح أن النبوءة اليوحانية (نسبة إلى يوحنا) كان ينبغى أن تفسر استنادا لظروف زمانها. وفقا لذلك، حين فُسِرَ العدد الصوفى 666 فى الإصحاح الثالث، الآية 18، غالبا بشكل متزامن من قبل عدة باحثين (بنارى، وهيتزيج، ورويس ) استنادا للقيمة العددية للحروف العبرية، باعتباره يعنى الإمبراطور نيرون، فقد استخلصت النتيجة من مقارنة الإصحاحين الثالث عشر والسابع عشر بأن النبوءة قد ظهرت فور موت نيرون عام 68. ظلت هذه لفترة طويلة وجهة النظر السائدة، خاصة فى مدرسة توبينجن الأسبق، التى استندت على الافتراض المسبق، والتى مازالت تتمسك به بحزم، ورأت أن تأليف الكتاب من قبل الرسول يوحنا، افترض أن المفتاح لكامل الكتاب كان يجب أن يوجد فى واقع الصراع الحزبى بين اليهوذيين Judaisers وأتباع بولس – وهو تفسير لم يكن ممكنا الخوض فيه بالتفصيل بدون اعتباطية عظيمة (واضحة بصفة خاصة عند فولكمار). أُعطى تلميذ ڤ-;---;-----;-------;----يتسكر، دانيل ڤ-;---;-----;-------;----ولتر، دافعا جديدا نحو بحث كامل للمشكلة عام 1882، الذى صاغ الفرضية استنادا إلى أن هناك مراجعة متكررة وتوسيع أولى للوثيقة من قبل مؤلفين متعددين بين 66 و 170 (مثبتا فيما بعد، عام 140 باعتباره الحد الأدنى). خضع منهج النقد الموثق المطبق هنا لأكثر التغييرات تنوعا فى الخمسة عشر عاما التالية. افترض ڤ-;---;-----;-------;----يشر وثيقة يهودية بوصفها الأساس، الذى اشتغل عليه محرر مسيحى ؛ وافترض ساباتير وشون، من ناحية أخرى وجود وثيقة مسيحية أصلية أدرجت داخلها مواد يهودية ؛ وميز ويلاند مصدرين يهوديين، يعود تاريخهما إلى زمنى نيرون وتيتوس، ومحررا مسيحيا من عهد تراجان، كما ميز سبيتا وثيقة أولية مسيحية من عام 60 ب.م، ومصدرين يهوديين من عام 63 ق.م. وعام 40 ب.م ؛ ومنقح مسيحى من عهد تراجان، وشميدت، ثلاث مصادر يهودية ومنقحين مسيحيين ؛ أما ڤ-;---;-----;-------;----ولتر (فى مؤلف ثان عام 1893)، فنبوءة أصلية مــن عام 62، وأربـــع تنقيحات فـى ظـل تيتوس، دوميتيان، تراجان، وهادريان. وقد كانت نتيجة هذه الفرضيات المتعارضة معا والمعقدة لهذا الحد أو ذاك، أخيرا، أن " (من لا صلة له بالموضوع ) تلقى انطباعاً بأن لا شيء مؤكد ولا شيء مستحيل فى حقل نقد العهد الجديد، (يوليشر، مدخل، "ص، 287)" . ولكن بفليدرر يعتقد مع ذلك بأن "الأ بحاث المثابرة للقرنين الماضيين" قد أثمرت "نتيجة محددة"، مع ذلك يجرؤ بالكاد على التصريح بذلك فى كلمات وافرة، بل يقوله فى شكل ما "يبدو" له هكذا. ويمكن القول بأن النتائج المطمئنة المعقولة بالنسبة للأدب المسيحى الأولى قد جرى الحصول عليها غالبا وبدون استثناء بطريقة سلبية، أي عبر التحقق مما كان مزيفا بالتأكيد. من المؤكد أن قلة ضئيلة فقط من الكتابات المسيحية الأولية كتبت حقا من قبل المؤلفين الذين نسبت إليهم، أما بالنسبة للقسم الأعظم فقد ظهرت بشكل متأخر كثيرا عن التواريخ التى شاع أنها لها، وأن نصها الأصلى قد شُوه بفظاعة فى حالات كثيرة بواسطة التنقيحات التالية والإضافات. وأخيرا، فمن المؤكد أنه لم يكتب أى من الأناجيل أو الأعمال المسيحية الأولية الأخرى من قبل أي معاصر ليسوع. يعتبر الإنجيل المسمى باسم القديس مرقس الآن أقدم الأناجيل، وهو لم يكتب بالتأكيد قبل تدمير أورشليم، وهو ما يعرضه المؤلف باعتبار أنه قد جرى التنبؤ به من قبل يسوع، بمعنى آخر، فهو التدمير الذى يتعين أن يكون قد أنجز بالفعل حين كُتب الإنجيل. من ثم، فمن المحتمل أن يكون هذا الإنجيل قد كتب ليس أقل من نصف قرن بعد الزمن الذى نسب إليه باعتباره زمن موت يسوع. إن ما يتضمنه هو من ثم نتاج لتطور خرافة خلال نصف قرن. بعد مرقس يأتى لوقا، وبعدئذ المسمى متى، وأخيرا يوحنا، فى منتصف القرن الثانى، وعلى الأقل قرن بعد ميلاد المسيح. كلما تقدمنا أبعد فى الزمان، كلما أصبحت هذه الأناجيل عجائبية. مما لاريب فيه، فإن المعجزات تجرى أيضاً عند القديس مرقس، ولكنها بريئة تماما بالمقارنة مع التالية لها. وهكذا، ففى حالة القيامة من بين الأموات، استدعى مرقس يسوع إلى جانب ابنة يايروس، التى أشرفت على الموت. الكل يعتقد أنها ماتت، ولكن يسوع يقول: "لم تمت الصبية ولكنها نائمة" ويضع يده عليها، فتنهض (مرقس الإصحاح الخامس ).
عند لوقا، لدينا إضافة إلى ذلك إعادة الحياة إلى فتى نايين. لقد مات لفترة طويلة تكفي لأن يكون فى طريقة إلى المقبرة حين يقابله يسوع، جعله الأخير يقوم من نعشه (لوقا الإصحاح السابع ).
بالنسبة للقديس يوحنا، فإن هذه الموضوعات ليست قوية بما فيه الكفاية. يسجل فى إصحاحه الحادى عشر "قيامة لعازر، الذى صار أربعة أيام فى القبر"، "وقد أنتن". وهكذا فإن يوحنا يضرب الرقم القياسى.
"ولكن الإنجيليون كانوا رجالا غاية فى الجهل، أفكارهم حول موضوعات كثيرة تتعلق بما كتبوه خاطئة تماما. وهكذا جعل لوقا يوسف يرحل مع مريم من الناصرة إلى بيت لحم بمناسبة إحصاء رومانى إمبراطورى للسكان مستهدفاً القول بأن يسوع قد ولد فى بيت لحم. ولكن لم يجر إحصاء كهذا فى ظل أغسطس. أضف إلى ذلك، أن اليهودية لم تصبح ولاية رومانية حتى بعد التاريخ المنسوب إلى ميلاد المسيح. أُجرى إحصاء للسكان فى العام السابع ب.م، بالفعل ولكن القائمين على الإحصاء ذهبوا إلى مستوطنات السكان. لم يكن ضروريا على الإطلاق أن يذهبوا إلى بيت لحم .
سوف تكون لدينا فرصة العودة لهذه النقطة. أضف إلى ذلك، فإن إجراءات المحكمة عند محاكمة يسوع أمام بنطس البيلاطى لاتتفق لامع القانون الرومانى أو اليهودى. حتى فى حالات معينة، حيث لايسرد الإنجيليون فيها معجزات، يعرضون غالبا مواقف غير حقيقية ومستحيلة.
وهكذا تخمر التلفيق فى "إنجيل" عانى أكثر من عدة تغيرات على أيدى "المحررين" التاليين والنساخين من أجل تثقيف المؤمنين.
تنتهى أفضل نصوص مرقس على سبيل المثال، بالإصحاح السادس عشر، الآية 8، عند النقطة التى تبحث فيها النساء عن يسوع الميت فى القبر، ولكنهن يجدن بدلا منه شابا لابسا حُلة طويلة بيضاء، حيث هربن من القبر، و "كن خائفات".
لاتنتهى طبعاتنا التقليدية عند هذه النقطة، ولكن ماتلى ذلك كتـب فى وقــت أكثر تأخرا. مع ذلك، لم يكن من الممكن للمؤلف أن ينتهى بالآية الثامنة الموصوفة آنفا. لقد إفترض رينان سلفا بأن ما تلى ذلك قد اصطنع لصالح القضية الخيّرة، لأنه تضمن مادة تعارضت مع التفسير التالى.
من ناحية أخرى، فإن بفليدرر وآخرون انتهوا، بعد بحث شامل، إلى الاستنتاج بأن " إنجيل لوقا لم يحتو أصلا على شيء عن الأصل ما فوق الطبيعى ليسوع، وإنما "ظهرت الرواية فيما بعد، وأُدرجت فى النص بإضافة الآيات 34 ومايليها فى الإصحاح الأول، وللكلمات "على ما كان يظن " فى الإصحاح الثالث، 23 " .
على ضوء ماسبق، فليس من المدهش أن يبدأ كثير من الباحثين فى صدر القرن التاسع عشر بالفعل، في النظر للأناجيل باعتبارها غير ذات فائدة تماما بوصفها مصادر لسيرة يسوع، وقد ذهب برونوباور إلى حد الإنكار المطلق للحقيقة التاريخية ليسوع. وكان من الطبيعى ألا يكون اللاهوتيين مع ذلك قادرين على أن يتخلوا عن الأناجيل، وحتى الأكثر ليبرالية منهم قد بذل كل جهد ممكن للاحتفاظ بسلطتها. ماذا سوف يبقى من المسيحية إذا جرى التخلى عن شخصية المسيح؟ ولكن من أجل إنقاذ الأخير فهم مضطرون للجوء لأكثر التحريفات والتركيبات سذاجة.
وهكذا فإن هارناك، فى محاضراته عن أساسيات المسيحية (1900) أعلن أن دافيد فردريك شتراوس ربما اعتقد أنه كان يوقع بمصداقية الأناجيل وكأنها قبعة مطهية، ولكن العمل التاريخى والنقدى لجيلين قد نجح مع ذلك مرة أخرى فى تأسيس هذه الحقيقة إلى مدى بعيد. ولا شك، أن الأناجيل ليست أعمالا تاريخية، "وهى لم تكتب من أجل أن تقدم حقائق كما حدثت، ولكن قصد بها أن تكون وثائق مُثقفة." مع ذلك فهى ليست بلا فائدة كمصادر تاريخية، خاصة وأن غرضها لم يكن غرضا مفروضا من الخارج، ولكنها تتوافق مع نية يسوع بعدة طرق" (ص 14).
ولكن ماذا يمكن أن نعرف عن نوايا يسوع، إذا نحينا جانبا ماتقوله "الأناجيل لنا! إن تعليل هارناك بأجمعه دعما لجدارة الأناجيل بالتصديق بوصفها مصادر لحياة يسوع يبرهن فحسب على كيف أنه من المستحيل تقديم أى دليل واضح فى هذا الاتجاه. يضطر هارناك نفسه لاحقا فى مقالته، للاعتراف بأن كل شيء ورد خبره فى الأناجيل فيما يتعلق بالثلاثين عاما الأولى من حياة يسوع هو غير تاريخى، وكذلك الأحداث اللاحقة التى يمكن أن يتم البرهان على أنها مستحيلة أو مصطنعة. ولكنه يود مع ذلك أن يحفظ الباقى باعتباره حقيقة تاريخية. "وهو يعتقد أننا مازلنا نحتفظ ب " صورة حية لتعاليم يسوع، للقضاء على حياته، وللانطباع الذى تركه عند "تلامذته " (صفحة 20). ولكن كيف يعرف هارناك أن تعاليم يسوع قد صورت بأمانة تامة فى الأناجيل؟ "اللاهوتيون شاكون لمدى أبعد حين يتناولون موضوع إعادة إنتاج مواعظ أخرى فى تلك الأيام. وهكذا نجد زميل هارناك، بفليدرر، يخبرنا فى كتابه، المسيحية الأولية:
" أن تجادل حول تاريخية هذه الأحاديث أو "تلك فى أعمال الرسل هو عبث بالفعل. يحتاج المرء فقط إلى أن يضع في اعتباره كل الشروط التى يتعين إنجازها حتى يتأمن (وجود) تسجيل لفظى دقيق، أو حتى صحيحا بصفه عامة، لمثل هذا الحديث. لقد كان يتعين أن يُدون فورا من قبل أحد الحاضرين (بالفعل، حتى يؤمن تسجيلا دقيقا فقد كان يتطلب ان يدون بالاختزال) وهذه الملاحظات المتعلقة بالأحاديث المختلفة كانت فى حاجة إلى أن تحفظ من قبل المستمعين، الذين كانوا فى أغلبهم يهودا أو وثنيين والذين كانوا إما معادين أو محايدين تجاه ما قيل، لأكثر من نصف قرن، وأخيرا جمعت من قبل المؤرخ من أكثر المواضع اختلافا! إن من انجلت له كل هذه الاستحالات سوف يدرك مرة والى الأبد كيف أن عليه أن ينظر لكل هذه الأحاديث التى ترد، فى الواقع، فى أعمال الرسل، مثلها تماما مثلما عند كل المؤرخين العلمانيين للعصور القديمة، بوصفها مجرد إنشاءات حرة، يجعل فيها المؤلف أبطاله يتحدثون كما يظن أنهم ربما تحدثوا فى ظروف اللحظة" .
سليم تماما ! ولكن لم لا ينبغى أن ينطبق كل هذا التعليل أيضاً على الأحاديث التى تخص "يسوع، التى تقع أبعد (من حيث الزمان) ماوراء مؤلفى الأناجيل أكثر من إنطباقه على الأحاديث فـى أعـمال الـرسل؟ لـم لا ينبغى أن تـكون أحاديث يـسـوع فـى الأنـاجيل شيئا سـوى أحاديث رغب مؤلفو هذه التسجيلات أن يكون يسوع قد ألقاها؟ وفى الحقيقة، فإن الأحاديث كما وصلت إلينا تحتوى على تناقضات عديدة، تعبيرات متمردة فـى بعـض الأوقات وخانعة فى أوقات أخرى، ويمكن تفسير ذلك فقط بحقيقة أن اتجاهات مختلفة كانت قائمة بين المسيحيين، وقد كيَّف كل منها حديث المسيح، فى تراثه، لحاجاته الخاصة. سوف أعطى مثلا آخر للطريقة المتهورة التى شرع فيها الإنجيليون فى هذه الأمور. قارن موعظة الجبل كما رواها لوقا مع التسجيل المتأخر لها عند متى. مازال هناك تمجيد للفقراء، وإدانة للأغنياء عند لوقا. فى أيام متى، لم يعد كثيرون من المسيحيين يحبون هذا الأمر، وإنجيل القديس متى، من ثم، يُحول الفقراء الذين يُباركون إلى هؤلاء الفقراء فى الروح، بينما حذفت إدانة الأغنياء كلية، إذا كانت هذه هى الطريقة التي عوملت بها الأحاديث التى كانت قد سجلت بالفعل فأى سبب يدعونا لأن نعتقد أن هذه الأحاديث التى زُعم أن يسوع قد ألقاها قبل نصف قرن من تسجيلها قد ترددت بأمانة فى الإنجيل! فى المحل الأول، من المستحيل كلية للتقليد الشفوى وحده أن يحفظ بأمانة كلمات حديث لم تدون على الفور، لفترة تجاوز خمسين عاما بعد إلقاءه. أى واحد، بالرغم من هذه الحقيقة الواضحة، يدون أحاديث نُقلت بالسماع فقط، يشير بهذا الفعل ذاته لإستعداده لأن يكتب ما يسُره، أو لسذاجته المطلقة فى التصديق استناداً إلى القيمة الظاهرة لكل شيء قيل له.
من ناحية أخرى، يمكن إثبات أن كثيرا من تصريحات يسوع لا تصدر عنه ، بل كانت متداولة قبل زمنه.
على سبيل المثال، تعتبر صلاة الرب إسهاما أصليا من قبل يسوع. ولكن بفليدرر يشير إلى أن متعبدا قادشيا آراميا من العصور القديمة العظمى ينتهى في دعائه بهذه الكلمات:
"ليتقدس ويتمجد اسمه العظيم فى العالم الذى خلقه وفق مشيئته. لتأت مملكته فى حياتك وفى حياة كل بنى إسرائيل". من الواضح أن الجزء الأول من صلاة الرب المسيحية هو بمثابة تقليد.
ولكن إذا لم يكن بمستطاعنا أن نؤمن بأحاديث يسوع، أو بالتاريخ الباكر لحياته، وبالتأكيد ليس فى معجزاته، ماذا يبقى فى الأناجيل؟
وفقا لهارناك مازال لدينا تأثير يسوع على تلاميذه، وقصة آلامه. ولكن الأناجيل لم تؤلف من قبل تلاميذ يسوع، وهى لاتعكس الانطباع الذى خلقته هذه الشخصية، وانما بالأحرى الانطباع الذى خلقه وصف شخصية المسيح على أفراد الطائفة المسيحية. حتى أكثر الانطباعات قوة لايمكن أن تثبت شيئا يتعلق بالصحة التاريخية لهذا الوصف. فربما تخلق حتى حكاية تتعلق بشخص خيالى أكثر الانطباعات عـمقا على نظام للمجتمع، عـلى أن تـكـون الشروط التاريخية مواتية لإنتاج مثل هذا الانطباع. كيف كان عظيما الانطباع الذى ولده جوته بروايته، آلام ڤ-;---;-----;-------;----رتر، رغم أن الجميع قد عرف أنها كانت رواية فحسب، مع ذلك، كان لڤ-;---;-----;-------;----يرتر أتباع وأخلاف.
مارست الشخصيات المصطنعة بين اليهود نفوذاً بالغاً، خاصة فى القرون التى سبقت وأعقبت زمن المسيح، وذلك حيثما توافقت الأفعال والتعاليم التى نسبت إليها مع الحاجات العميقة للشعب اليهودى. ويظهر هذا، على سبيل المثال، بواسطة شخصية النبى دانيال، الذى يروى عنه سفر دانيال أنه عاش فى ظل نبوخذ نصر، وداريوس وكورش، بمعنى آخر، فى القرن السادس ق.م، وأظهر أعظم المعجزات، ونطق بنبوءات تحققت فيما بعد بطريقة مدهشة. آخرها كانت أن بلايا عظيمة سوف تصيب أورشليم، وسوف يخلصها منها أو ينقذها مخلص، حتى تنهض مرة أخرى لمكانتها السابقة. دانيال هذا لم يعش أبدا؛ السفر الذى يتناوله لم يكتب حتى حوالى عام 165، فى وقت الانتفاضة المكابية ؛ يكاد من ثم أن يكون معجزة أن تنطبق كل النبوءات التى زعموا أن النبى قد تفوه بها بدقة على كل الأحداث السابقة على العام 165، والتى أقنعت القارئ الورع أن النبوءة الختامية لمثل هذا النبى المعصوم يجب أن تتحقق أيضاً بلا إخفاق. إن كل المسألة هى اختراع جرىء كان له مع ذلك أعظم أثر ممكن ؛ الاعتقاد فى المخلص، الاعتقاد فى فادى سوف يأتى، وجد أقوى دعم له فى هذا النبى، لقد أصبح النموذج لكل النبوءات التالية عن المخلص. ولكن سفر دانيال يُظهر أيضاً كيف يلجأ الناس الورعين بلا تردد إلى الاحتيال فى هذه الأيام حينما كانوا يهدفون إلى توليد تأثير قوى. إن التأثير الذى ولدته شخصية يسوع من ثم ليس دليلا على واقعيته التاريخية.
لم يتبق لدينا من ثم شيء مما يظن هارناك نفسه أنه قد أنقذه باعتباره النواة التاريخية الحقيقية، عدا قصة آلام المسيح. مع ذلك فإن هذه القصة أيضا، تتداخل لحد بعيد مع معجزات من البداية وحتى النهاية، منتهية بالقيامة والصعود، حتى أنه من المستحيل تقريبا أن نكتشف النواة التاريخية فى حياة يسوع. وسوف تكون لدينا فرصة لاحقة لنلم بمصداقية قصة الآلام.
ليست الحالة بالنسبة لبقية الأدب المسيحى الأولّى أفضل. الظاهر أن كل شيء قيل إنه كُتب من قبل معاصرى يسوع، على سبيل المثال، بواسطة تلاميذه، قد اعتبر تزويرا بمعنى أنه نتاج عصر تال على الأقل.
لاتتضمن الرسائل الإنجيلية التى نسبت للقديس بولس واحدة لم يجادل فى حقيقتها أيضاً؛ إن عددا منها تعرف عليه النقد التاريخى بصفة عامة باعتباره غير حقيقى. ومن المحتمل أن تكون أكثر هذه التزويرات صفاقة هى الرسالة الثانية إلى التسالونيكيين. ينطق المؤلف فى هذه الرسالة المقلدة الذى يخفى نفسه تحت إسم بولس بالتحذير التالى "أن لا تتزعزعوا سريعا عن ذهنكم ولاترتاعوا لابروح ولا بكلمة ولابرسالة كأنها منا" (2،2) (المقصود خطاب مزيف)، وأخيرا يصرخ المزور: "السلام بيدى أنا بولس الذى هو علامة فى كل رسالة. هكذا أنا أكتب". بالطبع، هذه الكلمات فقط هي التى وشت بالتزوير.
ربما يحتوى عدد من رسائل بولس الأخرى بعضاً من المنتجات الأدبية الأقدم للمسيحية، ولكنها لاتذكر عمليا أى شيء عن يسوع بخلاف حقيقة أنه صُلب ثم قام من بين الأموات.
تصديقنا بالقيامة هو بالكاد أمر نحتاج إلى مناقشته مع قراءنا. من ثم، ليس هناك عمليا عنصر واحد فى الأدب المسيحى يتعلق بيسوع قد يتحمل اختبار الفحص.
*****
الفصل الثالث
الصراع من أجل صورة يسوع
لايبدو أن النواة التاريخية للرواية المسيحية الأولية التى تتعلق بيسوع تتجاوز فى أفضل الأحول مايقوله لنا تاسيت: أى، أنه فى زمن طيباريوس، أُعدم نبى، الذى تنتمي اليه الطائفة المسيحية في أصولها. ماذا عَلَّم هذا النبى وماذا كان تأثيره، هذا موضوع لم تتأتى لنا عنه بعد أقل المعلومات إيجابية. على أى حال، فهو بالتأكيد لم يجذب الانتباه الذى نُسب إليه فى السجلات المسيحية الأولية، وإلا لكان يوسيفوس قد روى لنا شيئاً عنه بالتأكيد، لأنه يحكى مراراً عن أشياء ذات أهمية أقل كثيرا. إن تحريض وإعدام يسوع لم يثر أدنى اهتمام لدى معاصريه على أى حال. ولكن إذا كان يسوع قد كان محرضا فعلا عبدته طائفة باعتباره بطلها وقائدها، فبالتأكيد سوف تنمو أهمية شخصيته بنمو طائفته. بدأ يتشكل الآن تاج من الخرافات حول شخصيته، التى سوف تنسج حولها النفوس الورعة أي شيء رغبوا فى أن يكون نموذجهم/ مثالهم قد قاله أو فعله. ولكن حيث بات يسوع يعتبر أكثر فأكثر، كمثال لكل الطائفة، فقد حاولت أكثر كل المجموعات المتنافسة العديدة، التى تكونت منها الطائفة فى البداية، أن تعزو لشخصيته تحديدا تلك الأفكار التى كانت كل مجموعة أشد ارتباطا بها، بحيث يمكنها أن تستشهد بهذا الشخص بوصفه حجة. وهكذا فإن صورة يسوع، كما صُورت فى الخرافات التى جرى تناقلها فى البداية من فم إلى فم ودونت فيما بعد فحسب، أصبحت أكثر فأكثر صورة شخصية مافوق إنسانية، أو تناسخ لكل المُثل التى طورتها الطائفة الجديدة، غير أنها أصبحت بالضرورة أيضاً مليئة بالتناقضات، و لم تعد السمات المتنوعة للصورة متوافقة مع بعضها البعض.
حين كانت الطائفة قد انتهت إلى أن تكون تنظيماً ثابتاً، وأصبحت كنيسة شاملة، حيث توصل اتجاه نوعى فيها إلى أن يهيمن، كان واحد من مهماتها الأولى أن تضع قانونا ثابتا، وقائمة بكل هذه الكتابات المسيحية الأولية التى اعترفت بها باعتبارها حقيقية. وسوف يعترف بالطبع بمثل هذه الكتابات لأنها كتبت من وجهة نظر هذا الاتجاه المهيمن. وعليه فقد رُفضت كل هذه الأناجيل والكتابات الأخرى التى احتوت صورة ليسوع لم تتفق مع هذا الاتجاه الخاص بالكنيسة بوصفها "هرطقية "، ومزورة، أو على الأقل مشكوك فى صحتها (أبوكريفا)، وحيث انها غير جديرة بالثقة، فلم تنشر، بل حتى حُظرت إلى أبعد مدى ممكن، وأُهلكت المخطوطات، مما مؤداه أن قلة ضئيلة منها قد بقيت. كانت الكتابات التى سُمح بدخولها فى القانون (الكتابات المعترف بها) أيضاً "محررة" من أجل إدخال أكبر وحدة ممكنة عليها، ولكن لحسن الحظ كان التحرير قد أجرى بغير مهارة إلى حـد أن آثارا مـن تقويمات متناقضـة أبكر مازالت تتكشف هنا وهناك، وهي تسمح لنا بأن نخمن مسار تاريخ الكتاب.
ولكن الكنيسة لم تنجح فى هدفها، الذى كان مرتبطاً بإنتاج وحدة في وجهات النظر داخل الكنيسة بهذه الطريقة ؛ وكان هذا مستحيلا. كانت الشروط الاجتماعية المتغيرة تولد دائما اختلافات جديدة فى وجهات النظر والطموحات داخل الكنيسة، وبفضل التناقض الذى حفظته صورة يسوع كما اعترفت بها الكنيسة بالرغم من التحرير والحذف الذى جرى عمله، فقد نجحت وجهات النظر المتنوعة هذه فى أن تجد دائما فى هذه الصورة نقاطا تخدم أغراضها. من ثم، أصبح الصراع بين القوى المتعارضة اجتماعيا داخل إطار الكنيسة المسيحية بشكل غير حقيقى مجرد صراع يتعلق بتفسير كلمات يسوع، واعتقد المؤرخون الزائفون، من ثم، بسيطى العقول بما يكفى أن كل الصراعات الكبرى وغالبا الدموية داخل العالم المسيحى، التى حوربت تحت رايات دينية، لم تكن شيئا أكثر من نضالات من أجل مجرد كلمات، ومن ثم علامة مؤسفة على غباوة الجنس البشرى. ولكن حينما تعزى ظاهرة اجتماعية جماهيرية إلى مجرد غباوة البشر المشاركين، فإن هذه الغباوة الظاهرة تكون غباوة الملاحظ والناقد فحسب، الذى لم ينجح بوضوح فى أن يجد وجهته بين المفاهيم والآراء الغريبة عليه، أو فى النفاذ إلى الشروط المادية والدوافع الكامنة وراء هذه الأنماط من الفكر. كقاعدة فإن الحرب قد شنت بين مصالح شديدة الواقعية ؛ فحين تتجادل الطوائف المسيحية المتعددة حول تفسير مختلف لكلمات المسيح فإن مثل هذه المصالح بالفعل هى التى تكون فعالة.
إن نشوء نمط التفكير الحديث وأفول نمط التفكير الإكليركى قد حرم بالطبع هذه الصراعات التى تتعلق بصورة المسيح من مغزاها العملى أكثر فأكثر، مختزلا إياها إلى مجرد مماحكات من جانب اللاهوتيين، الذين تدفع لهم الدولة حتى يستبقوا السيكولوجية الإكليركية حية، والذين يجب أن يؤدوا مقابلا ما لقاء مرتباتهم.
إن نقد الإنجيل الحديث، بتطبيق المناهج التاريخية لبحث المصادر على إصحاحات الإنجيل، أعطى حافزا جديدا لبذل جهد لخلق شكل لشخصية يسوع. وقد قوض هذا النقد يقينية الصورة التقليدية ليسوع، ولكن لأنها وظفت بصفة رئيسية بأيدى اللاهوتيين، فنادراً ما تقدمت، انتهاءً إلى المدى الذى أعلنته وجهة النظر التى طرحها أولا برونوباور، وبعد ذلك آخرين، بصفة خاصة أ. خالتوف، وهى أنه من المستحيل على ضوء الأوضاع الحالية للمصادر أن نكون صـورة جديدة على الإطلاق. لـقد حـاول الـنقد مـرة بعـد أخرى أن يستعيد هذه الصورة، مع تكرار نفس النتيجة التى أنتجتها سابقا مسيحية القرون الأخرى: يضع كل واحد من أصدقاءنا اللاهوتيين مُثِلَه الخاصة، ورُوحه الخاصة، فى صورته عن يسوع. تشبه أوصاف يسوع فى القرن العشرين تلك التى كُتبت فى القرن الثانى وفى هذا فهى لاتصور ماذا عَلَّم يسوع بالفعل، ولكن مارغب منتجو هذه الصور في أن يكون قد علم.
يعطينا خالتوف تقييما دقيقا للغاية لهذا التحول لصورة يسوع: "من وجهة النظر اللاهوتية الاجتماعية، فإن صورة يسوع هى من ثم أكثر التعابير الدينية وأشدها تساميا لكل القوى الاجتماعية والأخلاقية الفعالة فى العصر محل البحث؛ وتزودنا التحولات التى عانتها دوما صورة المسيح هذه، خاصة توسعاتها وتقلصاتها، وإضعاف السمات القديمة وعودة ظهورها فى ألوان جديدة بأكثر الأدوات رهافة التى يمكن أن نقيس بها التغيرات التى تعاينها الحياة المعاصرة، من ذرى مثلها الروحية، حتى أدنى أعماق أكثر ظواهرها مادية. سوف تُظهر صورة المسيح هذه حينا سمات الفيلسوف الإغريقى، وحينا سمات القياصرة الرومان، ثم مرة أخرى سمات الإقطاعي، ومعلم الحرفة، الفلاح القن المعذب، والبورجوازى الحر، وكل هذه السمات حقيقية، وكلها حية حتى أصبح لاهوتيى الكلية وقد استحوذت عليهم فكرة غريبة وهي إثبات السمات الفردية لزمنهم الخاص بوصفها الملامح التاريخية الأصلية لمسيح الأناجيل. وفى أفضل الأحوال، صنعت هذه السمات لتبدو تاريخية من خلال حقيقة أن القوى الأكثر اختلافا، وحتى الأكثر تعارضا، كانت فعالة فى الفترات الوليدة والمنشئة للمجتمع المسيحى، وأن كل واحدة من إجمالى هذه القوى تحمل شبهاً معيناً مع القوى الفعالة اليوم. ولكن صورة المسيح تبدو اليوم مليئة تماما بالمتناقضات للوهلة الأولى. إنها مازالت تحمل إلى مدى معين سمات القديس القديم أو إله السموات، وكذلك أيضاً الملامح الحديثة كلية لصديق البروليتارى وحتى لقائد عمالى. ولكن هذا التناقض هو انعكاس لأكثر التضادات جوهرية التى تحى حياتنا المعاصرة فحسب". وفى مقتطف أسبق:
"إن أكثر ممثلى ما يسمى باللاهوت الحديث يستخدمون مقصاتهم حين يقتبسون طبقا للمنهج النقدى المحبب إلى داڤ-;---;-----;-------;----يد شتراوس: انهم يبترون العناصر الأسطورية فى الأناجيل، ويعلنون أن الباقى هو النواة التاريخية. ولكن حتى اللاهوتيون يدركون أن هذه النواة قد جرى تلميعها أيضاً لتسند عملياتهم.... ففى غياب كل اليقين التاريخى، فإن اسم يسوع قد أصبح وعاء فارغا للاهوت البروتستانتى، حيث يصب فيه كل لاهوتى عدته الذهنية الخاصة. أحدهم سوف يجعل من يسوع هذا سبينوزيا حديثا، وآخر اشتراكيا، بينما سوف ينظر اللاهوتيون الرسميون الأساتذة إلى يسوع بالطبع فى الضوء الدينى للدولة الحديثة، فـى الواقع قـد عـرضوه بجسارة ماتنفك تتزايد فـى الأزمنة المعاصرة كـمدافع دينى عـن تـلك الطموحات التى تدعى الآن الهيمنة فى اللاهوت القومى، البروسى الأعظم" .
بالنظر إلى وضع الأمور فليس مما يدعو إلى الدهشة أن المؤرخين الزمنيين قد شعروا بميل ضئيل لبحث مصادر المسيحية، إذا ما بدأ هؤلاء المؤرخون بوجهة النظر التي تقول بأن المسيحية كانت من عمل رجل واحد. فإذا كانت وجهة النظر هذه صحيحة، فسوف يكون من المعقول بالطبع أن نتخلى عن كل جهد لتحديد أصل المسيحية، وأن ندع لاهوتيينا يحوزون حقل القص الدينى حيازة لاتُنازع.
ولكن موقف المؤرخ يصبح مختلفا تماما إذا نظر لديانة عالمية ليس بوصفها نتاجا لإنسان أعلى فرد (سوبرمان)، بل كنتاج اجتماعى. الشروط الاجتماعية فى الزمن الذى ظهرت فيه المسيحية معروفة جيدا. ويمكن أيضاً تعيين الطابع الاجتماعى للمسيحية الأولية ببعض الدقة من دراسة أدبها.
من المحتمل ألا تكون القيمة التاريخية للأناجيل ولأعمال الرسل أعلى من قيمة القصائد الهومرية، أو أغنية النيبلونجن. فربما تعالج هذه شخصيات تاريخية ؛ ولكنها تشى بفعالياتها من خلال هذه الرخصة الشعرية حتى يستحيل أن نستخرج من رواياتها أقل مادة تتعلق بالوصف التاريخى لهذه الشخصيات، هذا إذا تغاضينا عن حقيقة أنها تختلط بشدة بعناصر خرافية، وعليه لن نستطيع أبدا أن نكون قادرين على أساس هذه القصائد وحدها أن نعين من هي شخصياتها التاريخية ومن هى المخترعة. فإذا لم تكن لدينا معلومات تتعلق بأتيلا عدا ماوجد فى أغنية النيبلونجن، فينبغى أن نقول عنه كما نقول الآن عن يسوع، أننا لسنا متيقنون أبدا من أنه قد عاش، وربما كان شخصية أسطورية مثل سيجفريد.
ولكن مثل هذه الحكايات الشعرية لها قيمة لاتقدر في دراسة الشروط الاجتماعية التى ظهرت فى ظلها، والتى تعكسها بأمانة، بغض النظر عن تحرر مؤلفيها فى معالجة الوقائع والأشخاص. إن المدى الذى يتأسس عليه تقييم الحرب الطروادية وأبطالها على الحقيقة التاريخية مغلف بالغموض، وربما يبقى دائما هكذا، ولكن لدينا فى الإلياذة والأوديسة مصدران تاريخيان من المرتبة الأولى لدراسة الشروط الاجتماعية للعصر الهومرى.
غالبا ما تكون الأعمال الشعرية أكثر أهمية في دراسة زمانها من الروايات التاريخية الأشد أمانة. لأن الأخيرة تعطينا فقط العناصر الشخصية، المثيرة، غير العادية الأقل دواما فى تأثيرها التاريخى ؛ بينما تزودنا الأولى من ناحية أخرى بوجهة نظر عن الحياة اليومية للجماهير، الثابتة والدائمة فى تأثيرها، ذات النفوذ الدائم على المجتمع، حيث لايروى المؤرخ هذه الأشياء، لأنه يفترض أنها معروفة بصفة عامة وواضحة بذاتها. لهذا السبب فإن روايات بلزاك هى واحدة من أكثر المصادر أهمية عن الحياة الاجتماعية فى فرنسا فى العقود الأولى من القرن التاسع عشر.
هكذا، قد لا نعلم شيئا محددا من الأناجيل، وأعمال الرسل، والرسائل، عن حياة ومذهب المسيح، إلا أننا قد نحصل على معلومات غاية فى الأهمية تتعلق بالطابع الاجتماعى للمُثل والطموحات الخاصة بالمجمع المسيحى الأولى. حين يكتشف النقد الإنجيلى المواد التى تجمعت فى طبقات متعاقبة فى هذه الكتابات، فإنه يزودنا بفرصة تتبع تطور هذه المجامع إلى مدى معين على الأقل، بينما تُمكننا المصادر "الوثنية" واليهودية من أن نلقى نظرة على القوى الاجتماعية التى كانت تتزامن فى التأثير فى المسيحية الأولية. وهذا يمكننا من أن ندرك وأن نفهم الأخيرة كنتاج لزمنها ؛ وهذا هو أساس كل المعرفة التاريخية. ربما يؤثر الأفراد على المجتمع، وتصوير الأفراد البارزين أمر لامفر منه من أجل تكوين صورة كاملة عن زمانهم. ولكن حين يُقاسون بالحقب التاريخية، فإن تأثيرهم عرضى فى أفضل الأحوال، يقدم فقط زخرفات السطح، التى تصدم العين حيث أنها قد تكون القسم الأول من الهيكل، ولاتكشف لنا عن شيء يتعلق بجدران أساسه. إنه الأخير الذى يحدد طابع ودوام الهيكل. إذا استطعنا أن نكشفه فإننا نكون قد أنجزنا العمل الأكثر أهمية فى فهم الصرح.
*****



#كارل_كاوتسكى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التناقض بين المثقف والبروليتاري
- الدين والصراع الطبقى فى المجتمع الشرقى العبودى القديم - ترجم ...


المزيد.....




- بابا الفاتيكان: الغارات الإسرائيلية على غزة وحشية
- رئيس الإدارة الدينية لمسلمي روسيا يعلق على فتوى تعدد الزوجات ...
- مـامـا جابت بيبي.. حـدث تردد قناة طيور الجنة 2025 نايل وعرب ...
- بابا الفاتيكان يصر على إدانة الهجوم الاسرائيلي الوحشي على غز ...
- وفد -إسرائيلي- يصل القاهرة تزامناً مع وجود قادة حماس والجها ...
- وزيرة داخلية ألمانيا: منفذ هجوم ماغديبورغ له مواقف معادية لل ...
- استبعاد الدوافع الإسلامية للسعودي مرتكب عملية الدهس في ألمان ...
- حماس والجهاد الاسلامي تشيدان بالقصف الصاروخي اليمني ضد كيان ...
- المرجعية الدينية العليا تقوم بمساعدة النازحين السوريين
- حرس الثورة الاسلامية يفكك خلية تكفيرية بمحافظة كرمانشاه غرب ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كارل كاوتسكى - يسوع الإنجيل ويسوع التاريخ - كارل كاوتسكى