أخبار الشرق - 24 كانون الثاني 2003
التقى في عام 2002 المنصرم نوعان من الظروف التي قد يكون لها تأثير كبير على مستقبل المشرق العربي في العقود القادمة. يخص النوع الأول الإرادة الأمريكية المعلنة لإعادة ترتيب النظام الإقليمي الشرق أوسطي انطلاقا من أولوية جديدة هي "الحرب ضد الإرهاب"، بعد عقود "تشرف" الصراع العربي الإسرائيلي فيها بحمل اسم أزمة الشرق الأوسط. النوع الثاني من الظروف هو نهاية أو إنهاء عهد آخر الحكام الأقوياء في بلدان المشرق العربي باستهداف أمريكي صريح: الرئيسين صدام حسين وياسر عرفات. وكان الموت قد غيب في بداية هذا القرن الرئيس السوري السابق حافظ الأسد. ولا تدخل في الحساب دول الخليج العربي التي تنفرد بوضع أمني وجيوسياسي خاص. والتي يشكل النفط، وبالتالي العلاقة الخاصة مع الولايات المتحدة، كلمة السر في تنظيماتها السياسية والاجتماعية والأمنية. ولا مصر التي ارتكنت إلى سقف أمريكي خفيض منذ أكثر من ربع قرن. ولا كذلك اليمن لفقرها وهامشيتها الجغرافية وارتهانها المحدث للإرادة الأمريكية.
تستمد النهاية المحتملة، بل المرجحة، لعهد الحكام الأقوياء أهميتها من أننا نتحدث عن بلدان ليست قوية بمؤسساتها أو باقتصادياتها، وهي لم تعد قوية بالمعنى العسكري. إنها دول يحكمها أفراد لا أنداد لهم، وتتحكم بها تنظيمات منحدرة من أيام الحرب الباردة تستند، في حالتي سورية والعراق، إلى حزب عقائدي كما يسمي حزب البعث في البلدين نفسه، وإلى إيديولوجية تعبئة واستنفار وتجييش اجتماعي ورفض (بالقوة إن اقتضى الأمر، وقد اقتضى) الاستقلال الاجتماعي والتعددية السياسية، إضافة إلى اقتصاد حكومي مسير بيروقراطيا وأوامرياً. وفي الحالة الفلسطينية لدينا قضية تحرر وطني بعد انتهاء موسم التحرر الوطني بـ "تحرير أرض إسرائيل"، وكانت ساحة من ساحات الحرب الباردة بعد أن جعل التعادل النووي بين قطبي الحرب الباردة الحرب الساخنة احتمالا مستبعدا.
لدينا في الحالات الثلاثة "حالة طوارئ" حقيقية أو مصنوعة، وفي الغالب مزيج من الاثنين، بما يخدم تمكين الرؤساء من تثبيت سلطتهم دون منافس تقريباً. فهم أقوياء إذاً بمعنى أنهم مهابون إن لم نقل مخيفون في بلدانهم، وهم أقوياء بمعنى أنهم أجادوا الاستفادة من وضع الاستقطاب الدولي أيام الحرب الباردة لتثبيت حكمهم، وهم أقوياء كذلك بمعنى أن لهم شبكة من العلاقات الإقليمية والدولية التي تلعب شخصياتهم ومواقع بلدانهم دورا هاما فيها، وهم أقوياء أخيراً بمعنى أن هناك خشية حقيقية من أن يولد غيابهم حالة من الفراغ وربما حروب خلافة.
لكن هناك عنصراً آخر أساسياً في قوة هؤلاء الرجال الثلاثة: إنهم مستقلون في حكم بلدانهم ومستوى التبعية المباشرة لنظمهم السياسية وقرارتهم الوطنية محدود خلافا لما هو الحال بخصوص مصر ودول الخليج.
بدأت المتاعب بالنسبة لهؤلاء الرجال مع بداية التسعينات حين انتهت الحرب الباردة لغير مصلحة القطب الحليف. ثم تحولت المتاعب إلى كوابيس بعد 11 أيلول وفي ظل إدارة أمريكية يمينية و"ملتزمة". وخلال هذا العام قد نصير إلى مشرق عربي بلا صدام حسين ولا ياسر عرفات، وبسورية منقلبة على ذاتها أو منكمشة دون أن يعني ذلك أنها "مغلقة الأبواب" (وفقاً للاحتمال الذي يُنسب إلى الرئيس بشار الأسد أنه أشار إليه في أيار 2002 تعبيراً عن استعداد سورية لكل الاحتمالات)؛ فإغلاق الأبواب أو خيار العزلة والانكفاء ليس ممكناً في "الشرق الأوسط" الذي إما أن يكون مفتوحاً أو لا يكون. أما بعد نهاية الحرب الباردة، ثم خصوصا بعد 11 أيلول 2001، فإن إغلاق الأبواب الذي لم يكن ممكنا بحكم الشرط الشرق أوسطي، أعني التدويل العميق للمنطقة، بات بحكم المستحيل (دع عنك انه خيار سيئ أصلا كما يثبت المثال الألباني حتى عام 1990 والمثال الكوري الشمالي حتى اليوم).
والواقع أن نهاية الحرب الباردة أعلنت أن الدول التي لم تكن في الصف الأمريكي سلفاً لن تستطيع أن تبقى خارجه إلا إذا تمكنت من تعويض استنادها السابق إلى القطب المهزوم بشيء جديد يمكنها من التماسك في وجه الموجة الأمريكية. هذا الشيء الجديد حسب معظم التحليلات التي تصدت للموضوع هو محاولة بناء كتل إقليمية أكبر و/أو تغيير المعادلات السياسية والاجتماعية الداخلية باتجاه دمقرطة النظم السياسية المحلية وتحجيم البيروقراطيات الفاسدة والوسيطة وإطلاق عملية تنمية أكثر جدية. وما نريده من ذلك أن نهاية عهد الحكام الأقوياء ليست مرهونة رهناً حصرياً باستهداف أمريكا لهم؛ إنها بالأحرى مرتبطة بما ترتب على نهاية الحرب الباردة من تغير التوازنات وعلاقات الجذب والنبذ في علم الفلك السياسي الدولي إن جاز التعبير. فبينما كان بوسع الكويكبات الصغيرة التي كانت تخضع لجذب متقارب من الجرمين الكبيرين أن تحتفظ بمدرارت خاصة بعض الشيء، فإن تناثر أحد الجرمين لا بد أن يفضي إلى طغيان جاذبية الجرم الكبير المتبقي. هذا التشبيه أفقر من أن يستوعب العلاقات الدولية بالطبع، لكنه يضيء جوانب هامة منها.
* * *
هل فات الوقت على محاولة استدراك الهندسة الأمريكية المقبلة للمنطقة؟ فلننظر في بعض عناصر اللوحة الراهنة: أزمة اجتماعية واقتصادية تعصف بمجتمعات المشرق العربي من أهم مؤشراتها الفقر والبطالة والعجز عن مكافحة الفساد الذي يحتل الدولة احتلالا استيطانيا واختلال الموازين التجارية والتفكك الاجتماعي، إضافة إلى ميول انحلالية مرشحة لمزيد من التفاقم في المستقبل غير البعيد، ويعزز هذه الأزمة في الحالتين العراقية والفلسطينية حصار خارجي محكم؛ ثم أزمة العقيدة الوطنية والقومية التي تستند إليها الأطراف الثلاثة المشار إليها؛ ثم بالتأكيد حالة التفريغ السياسي والثقافي والمؤسسي التي يعاني منها المجتمعان السوري والعراقي نتيجة إخضاعهما لحصار داخلي مديد؛ هذه العوامل وليس قوة المهندس الأمريكي وحدها هي التي ترجح أن يكون المجال مفتوحا على سعته لتغير تاريخي في أقدار منطقة المشرق العربي.
قد يكون من التفاؤل الموضوع في غير موضعه الأملُ بأن حال من خرج سقيماً مدنفاً من صيغة محددة للنظام الإقليمي سينقلب قوة وعافية في صيغة أخرى لا فضل له في إيجادها. هل سنأسف؟ ليس ما يؤسف له هو خسارة أنظمة الحكام الأقوياء بل حالة الفراغ السياسي والاجتماعي والفكري التي سيخلفونها وراءهم، الفراغ الذي أنجب "البن لادنية" التي ترتد اليوم تشكيلا ووصاية أمريكيين على مشرق العالم العربي. وحتى هنا قد لا يكون ثمة موجب للأسف، ولا فائدة منه على كل حال.
لكن الديناميكية التي جلبت عصر الحكام الأقوياء إلى نهايته هي مجرد جانب من دينامية أوسع وأعمق تتضمن إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط كلها وحسم نزاعاتها المزمنة التي لم يمكن حسمها في إطار الشرق الأوسط القديم. بعبارة أخرى هذا التغير قد يكون الجانب الأكثر شكلية من انقلاب اجتماعي وسياسي وثقافي واستراتيجي يتعدى الشرق الأوسط ليشمل العالم العربي وربما العالم كله. والأمر بكل بساطة أن نهاية عصر الحكام الأقوياء هو جانب من نهاية عصر بدولته ورجاله، بصراعاته وإيديولوجياته، وبمخاوفه وتطلعاته. وكما أن انتهاء عصر الحكام الأقوياء ليس شراً كله، فكذلك هذا الانقلاب. وقد نميل إلى الاعتقاد أن المجتمعات التي تعجز عجزا متكررا عن حل مشكلاتها والتصدي للتحديات التي تواجهها، يمر انبعاثها وتجددها بالضوررة عبر انحلالها. فإن صح ذلك قد يكون انتهاء عصر الحكام الأقوياء مجرد الوجه الظاهر من تحول انحلالي عميق يأتي بعده شرط مختلف تماما. إن العجز الذليل الراهن عن تحريك ساكن في مواجهة تغير غير مسبوق في البيئة الإقليمية، وفوعة الفساد الشامل التي لا يقف في وجهها شيء، والانحطاط المطرد في المستوى السياسي والفكري والأخلاقي لنخب الحكم العربية إلى درجة إمحاء الحدود بين البراغماتية السياسية والعمالة الصريحة، وسلبية الجمهور العام ولا مبالاته، وهشاشة المعارضات السياسية وإمعانها في التشتت والهزال، وعزلة النخب المثقفة وافتقارها إلى الشجاعة ..، كلها أعراض انحلالية لا جدال فيها.
لكن قد تدفع هذه الأوضاع الصعبة إلى ارتفاع موجة جديدة من المقاومة والكفاحية والنهوض، بل قد تساعد هذه الأوضاع ذاتها على انطلاق الموجة الجديدة. صحيح أن شروط الكفاح من أجل السيادة والديمقراطية والكفاية ستتغير كثيراً، وقد تكون أصعب وأقسى، لكنها ستكون كذلك أوضح من الشروط الحالية في ظل الأنظمة "القومية". وليس من المستحيل أن تتمكن المجتمعات العربية من استنفار طاقاتها على المقاومة والإبداع، ومن الانتفاض على مسار التعفن الذي يغرقها منذ عقود؛ وعندئذ سيكون لإعادة ترتيب الشرق الأوسط (أمريكيا) مفعول تحرير الدينامية التاريخية في المنطقة (لمصلحة شعوبها). ولا شك أن شجاعة وإبداعية ونشاط النخب المثقفة والمعارضة من شأنهما أن تسهم في بناء حركات المقاومة والكفاح على أرضيات وأسس جديدة.
ولعله عندئذ سيكون ابن لادن قد انتصر رغم كل شيء، وخصوصاً رغماً عنه هو. فقد فكر الرجل في إيلام الغرب وشفاء غل بني قومه لأنه لم يجد وسيلة أخرى لشفاء أرواحهم وعقولهم. لكن تحويل تاريخ المنطقة إلى سكة جديدة وآفاق جديدة بعد أن استنفدت السكك الأخرى آفاقها، قد يشفي المجتمعات العربية من فصامها بين "البن لادنية" و"الغربية"، ويجعل من افتتاننا بابن لادن "لحظة" ضرورية في مسار الشفاء و.. التطابق مع الذات.
إن المسار الذي يوشك إقليم "الشرق الأوسط" أن ينخرط فيه ليس مترتباً على محض انتهاء عصر الحكام الأقوياء الباقين من أيام الحرب الباردة وتنظيماتها، بقدر ما هو حصيلة لمجمل العملية التاريخية التي "تواطأت" فيها الدول المحلية والقوى العالمية على تفريغ المنطقة من السياسة والدولة والمواطنة، التواطؤ الذي أبقى العالم العربي "شرقاً أوسط"، أي مجتمعات معزولة ودولاً مفتوحة، وأبقى الوظيفة الأهم للدول فيه عزل المجتمعات.
لعل أكثر ما يمكن أن يثير التفاؤل في الأوضاع العربية الحالية هو أنه لا يمكن لأي وضع يأتي بعدها أن يكون أسوأ.
__________
* كاتب سوري - دمشق