العراق الى أين ؟
دور الأمريكان والمجلس الأعلى في تخريب الانتفاضة العراقية !
" القسم الخامس "
وفي غضون ساعات انتشرت الثورة على ذرى الجبال واوديتها ، حتى وصلت السليمانية ، وبعد يومين من القتال الضاري والشرس ، سيطر الثوار الاكراد على القلعة الصخرية ، والموقعة في النفس الرعب ، حيث كانت تستخدم من قبل السلطة الصدامية ، كمركز قيادية للامن العامة "التي تعتبر رمزا للقوة والسلطة واداة لفرض النظام واخضاع المعارضين " . يتوقف المؤلفان امام هذه القلعة ليصفانها بدقة متناهية ، يقولان : " خلف المدخل الامامي المهيب ، المزخرف بعين كاشفة معدنية كاشفة ، وجدوا منطقة تعود للقرون الوسطى مملؤة بغرف التعذيب ، المزودة بكلاليب بعلاليق معدنية ، سلك رقيق ، وسائل تعذيب اخرى ملطخة بالدماء . في بعض الغرب اكتشف الثوار جثثا لنساء واطفال اعدموا حديثا ، وفي اخرى آذانا بشرية مثبتة الى جدار بمسمار ، وكما هو الحال في البصرة كان بعض السجناء معزولين عن العالم الخارجي في زنزانات تحت الارض ، لمدة تزيد على عقد من الزمن " يضيف المؤلفان: " خاضت الجموع الغاضبة معركة عنيفة ضد ما يقارب الاربعمائة عضو من حزب البعث الحاكم ، ضباط مخابرات ، وعملاء الشرطة السرية ، الذين استقروا في مركز قيادة الامن العامة ، عندما اندلعت الثورة ، وقتلوهم عن اخرهم " ص 45 .
وبعد مضي اسبوعين ، استولت قوات البشمركة على مركز النفط الحيوي في كركوك . وفي هذا الوقت ، فقد صدام زمام السيطرة على اربعة عشر محافظة ، من اصل ثماني عشرة محافظة ، وظلت بغداد هادئة ، لكن المسؤولين الحكوميين / كما يقول المؤلفان / يبدون الاستعداد لترك السفينة المشرفة على الغرق والنفاذ بجلودهم ، حيث روجت اشاعات تفيد بان صدام فر من البلد " ثم يضيفان تعليقا سياسيا هاما " وقد ابدا مسئولو التحالف في واشنطن ولندن نوعا من الارتياح المعزز بافتراض مشجع ، مفاده انه لا يمكن لاي قائد في العالم ان ينجو من ارهاصات هذه الحوادث المهلكة ، لكن افتراضاتهم كانت خاطئة " ص 46 .
* هذه " الهبة الثورية التي اشتعلت في 14 محافظة ، لا يمكن لها ان تتكرر فقد كانت الظروف مواتية جدا لو كانت هناك معارضة حقيقية تدرك معنى التواجد على ساحة العراق الداخلية ، ولكن هناك الحسبات الدولية ، والاقليمية والداخلية ، كانت في المرصاد لاحباط الانتفاضة .
ج * العوامل الاساسية في انتكاسة الانتفاضة ؟!
النتابع لاحداث حرب الخليج وتداعياتها لا يفوته الحدث بتقدير الاوضاع المقبلة للحكومة العراقية ، والتي اوضحنا من خلال العرض والتحليل لكتاب " كوكبورن " بعض تداخلتها وخباياها وبتقديرنا ، ان انتفاضة الشعب العراقي في الاول من اذار 1991 م كان من ابرز عوامل اخفاقها هو غياب التنظيم السياسي المعارض للسلطة ، والذي كان يتوجب حضوره اليومي في وسط المجتمع العراقي ، بحيث انه يكون مع نبض الشارع لحظة بلحظة - يلاحظ القارئ هنا - بأننا تجاوزنا الخطة المقترحة للعمل ضمن المحاور المقررة لكننا نقول - بأن لضرورة احكام - فتعريجتنا هذه ، سوف تكون ضمن سياق المحور الذي نحن فيه ، لاسيما تحليل واقع ونتائج الانتفاضة - فمعذرة لهذ الامر ونقول ، بأن الانتفاضة لم يكن هناك من يسيرها بشكل يومي ودقيق ، وضمن خطة استراتيجية مرسومة ، لها هدفها ووسائل تنفيذها ، والعامل الرئيسي الاخر هو الموقف الامريكي الخسيس الوجل من الانتفاضة ، والذي لعب " دور الشيطان في تضليل المنتفضين من خلال وعوده الكاذبة ثم يأتي العامل الرئيسي الثالث ، وهو مطامح القوى الاقليمية في جني ثمار الانتفاضة . وسوف نقارن هذه النتائج المستخلصة مع تتابعات المؤلفيين كوكبورن . واللذان يقولان : " اصابات الانتفاضة العالم باسره ، وكذلك صدام حسين ، بالدهشة والذهول ، فالسنوات خلت ، وخلال الحرب الايرانية - العراقية اساء معاضروه في الخارج تقدير الروح الوطنية عند الشعب العراقي ، وتصورت بأن " صدام " قادر على تجميدهم وعدهم للوقوف الى جانبه ونصرته ، خاصة بعد دخول القوات الايرانية الاراضي العراقية في عام 1982 " ويضيف المؤلفان كوكبورن : " وفي اثناء الازمة التي مر بها العراق عقب عزو الكويت ، ارتكب المعارضون نفس الخطأ ولكن بصورة متعاكسة ، وذلك بسوء تقيمهم وبخسهم لقوة وعنف الغضب والسخط الشعبي العارمين ازاء صدام حسين ، فعندما زحف الثوار مسقطين مدن الجنوب ، الواحدة تلو الاخرى ، لم يكن لقوى المعارضة أي مؤسسة او مقر في هذه المدن قادرة على توجيه وادارة دفة الاحداث " ص 46 .
وفي مكان اخر من الكتاب يشير المؤلفان كوكبورن الى ان احد الاشخاص يلقي بالنائحة على قيادة المعارضة " العراقية" في ايران . وتحديدا " محمد باقر الحكيم " والذي كان يقود المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق ، ومقره-طهران-وظهرت طلائع قواته في البصرة ، وقسم منها في العمارة ، "حيث ظهرت صورا للحكيم والقائد الايراني الراحل أية الله الخميني " ثم صدرت " بيانات وبلاغات باسم الحكيم تطالب بالسيطرة الكاملة على الانتفاضة " لا يسمح بأي عمل خارج نطاق هذه السياسات " ."كل الاحزاب العاملة والمنطلقة من الحدود الايرانية يجب ان تطيع اوامر الحكيم ايضا " . " لا يسمح لاي حزب بتجنيد المتطوعين " . " لا يجوز نشر أي افكار او اراء ما عدا تلك التي تنطبق مع تعاليم الدين الاسلامي الحنيف " ص 48 - 49 .
اذا هذا الفصيل المعارض ، يتحكم بشؤون الانتفاضة من خارج الحدود اولا ، وثانيا فقد فرض نوع من الارهاب الفكري على المنتفضين ، وكانه هو المحرك الاساسي لاحداث الانتفاضة ، ثم نصب نفسه - بتلك الشعارات - قائدا اعلى " بدل صدام سين ، والانتفاضة ما زالت في المهد ؟ ! الامر الذي شكل " ردة نفسية " عند الثوار ، و بدأوا وكان ثمرة انتفاضتهم قد خرجت من بين ايدهم ، وبدأت الوساويس تراود اذهانهم باحتمال " حصول ثورة اسلامية " ناهيك عن كون الولايات المتحدة وحاليفاتها رأت في تلك البيانات والشعارات الاسلامية ، وكأنها مماثلة ومطابقة للثورة التي حصلت في ايران وقد اعتقدت بعض قيادات المعارضة العراقية على وجه السرعة - كما يقول المؤلفان كوكبورن ، وبالادلة التي لا تقبل الشك على التورط الايراني في مسار الانتفاضة " ص 49 . ورغم انكار الايرانيين لهذا التدخل ، الا ان الامر بات مكشوفا ، وصبت في مصلحة صدام حسين ، والذي بادر من قبله و ارسل بعض / شرطته السريين لرفع صور الخميني في الجنوب / راجع ص 49 ، امتعض الكثير من العراقيين الاسلاميين في ايران ذاتها ، والذي صعقوا بمرارة من تصرف وموقف الايرانيين تجاه الانتفاضة عام 1991 " فقد شجعوا الانتفاضة ثم خذلوها ، حيث سمحت الحكومة الايرانية لاشخاص معدودين بتجاوز الحدود باتجاه العراق لغرض المساعدة ومد يد العون للثوار " ص 49 .
* اما موقف الامريكان من الانتفاضة ، فقد كان اوسخ من موقف " تيير " ضد منتفضي كومونة باريس ، فقد ماثل شوارسكوف موقف تيير في القرن الثامن عشر ، حيث سمح هذا الامريكي اللعين لقوات الحرس الجمهوري ، الموالية لصدام ، بكسر الطوق الذي فرضته قوى التحالف ، والسماح لها بالهرب ، قبل 24 ساعة من اعلان جورش بوش قراره بوقف اطلاق النار " ص 50 .
كما اننا نميل مع المؤلفين كوكبورن برأيهم الخاص بكون الثوار " اعتقدوا بانهم سيتلقون الدعم والمساعدة من الامريكيين " فقد نقل - حديثا للسيد مجيد ابن اية الله الخوئي احد الثوار- يقول: " كانوا على يقين بانهم لن يستطيعوا دحر صدام وهزيمته بالاعتماد على قدراتهم الذاتية ، وكذلك اعتقدوا ان بامكانهم باحكام السيطرة على المدن ، وسيتكلف الامريكيون بمنع الجيش من التدخل " ص 50 .
- لم يكن هذا الاعتقاد - وهما - عند الثوار ، بل كان حقيقية موثقة ، فقد تحدث العميد علي - وهو من اهالي النجف ، واحد القائمين على الانتفاضة ومشعليها بعد هروبه من ارض الكويت ، يقول : " لدينا رسالة تؤكد بان الامريكيين سيدعموننا ويساعدوننا " ثم يردف قولا اخر - بعد مضي سبع سنوات من هروبه من العراق ولجوئه الى لندن ، يقول : " لكني رأيت بأم عيني تحليق الطائرات الحربية الامريكية فوق الطائرات المروحية العراقية ، حامية لها ، وموزودة لها بالمعلومات ، كنا نتوقع منهم المساعدة ، وفي تلك الاثناء يمكن رؤيتهم وهم يشاهدون من الاعلى منظر ابادتنا على الطريق الموصلة بين النجف وكربلاء ، كانوا يلتقطون صورنا ، وكانوا يعلمون علم اليقين ما يحدث على الارض " ص 51 .
* هنا ، بدأت اللعبة الامريكية الخبيثة بمصير الشعب العراقي ، فقد ادركوا بأن المنتفضين قادريين على فعل الثورة ، ولكن هؤلاء الثوار سوف لن يحققوا ما تصبوا اليه امريكا فهذا العراق ليس كبلد اخر تفرض عليه الوصاية ، لذلك تعاملوا معه / أي مع الشعب العراقي / معاملة الوغد ، وخذلوه ، ليجعلوه تحت الطرقة والسندان ، الامريكي والصدامي ، ولهدف اخر هو ، جعل النظام العراقي ضعيفا جدا وتحت رحمتهم في أي وقت ، وهو ما حدث فعلا ، حتى هذه الساعة ، فصدام ضعيف امامهم ، والشعب العراقي مسحوق ، والشعوب العربية تنظر بعينيها الى هذه التجربة المريرة ولا تحرك ساكن .
* الكاتبان كوكبورن ، متعاطفان مع الشعب العراقي بشكل واضح ، لذلك هما يسعيان جاهدين لكشف حقائق الموقف الامريكي من انتفاضة الشعب العراقي ، فهما ينقلان بأمانة احداث الواقائع للاتصال بين قادة الانتفاضة والقوات الامريكية ، والتي تسيطر على كل قوى التحالف - بما فيها الجيوش العربية ، المنضوية تحت قيادتها ، يقول المؤلفان كوكبورن : " عندما توجه العميد علي والوفد المفاوض كانت سيارتهم دائما ما تحاط عند كل مدينة او قرية بحشود هائلة من المواطنين حين سماعهم خبر وجود ابن أية الله الخوئي - السيد مجيد - برفقتنا ، فعلى الرغم من مطالبة المواطنين بالتزود بالاسلحة اللازمة ، يقول بعض المواطنين بأن الامريكيين قد اوقفوا الثوار من التقدم تجاه حاميات الجيش المدمرة في مدينة الناصرية ، اخذين الاسلحة والذخيرة منها ، وفي اماكن اخرى اضرمت تشكيلات من الجيش الامريكي النار في مخازن السلاح المستولى عليها او ينقلونها ويطرحوها بعيدا عن متناول الثوار ، والادهى من ذلك كان الثوار بحاجة الى اجهزة اتصال ، فعلى الرغم من بسط نفوذهم على جميع مناطق الجنوب ، كان الثوار الزافرون نادرا ما يتصل بعضهم بالاخر " ص 52 .
انظر الى هذه المسلكية الخبيثة التي يتعامل بها الامريكيون مع الشعوب المقهورة ، فهم لا يريدون لاي شعب ان يتحرر من جلاديه ، دعونا نتابع ما يقوله الكاتبان كوكبورن : " على مشارف مدينة الناصرية ، التقى وفد الثوار المفاوض اول الامر بالامريكيين الذين كانوا مزودين بدبابات ( ايرامز .M ) وناقلات اشخاص مدرعة ، وهذا جزء من القوة الهائلة التي زحفت باتجاه الكويت ، ومنها الى داخل الحدود العراقية خلال هجوم قوات التحالف الخاطف نهاية شهر شباط 1991 م - التقى الوفد بالقائد الامريكي هناك ، وشرحوا له لماذا هم هنا ؟ .لم يكن الاستقبال حارا ووديا كما توقعوا - انظر الى الغطرسة الامريكية - ابتعد الضابط الامريكي عنا لفترة تزيد عن العشرة دقائق ، ثم عاد مدعيا ادعاء شديد الغرابة ، حيث اخبرنا بأنه لم يتمكن من الاتصال بمركز القيادة ؟ ! " يقول المؤلفان كوكبورن : " بالنسبة لضابط عسكري ضليع مثل العميد علي ، يبدو هذا الادعاء بعيد الاحتمال ! ثم يذكران ان - الضابط الامريكي ، وبصورة مقتضبة وعلى نحو فظ اقترح قائلا " بانهم حاولوا الاتصال وتمكنوا من الاتصال باحدى الوحدات الفرنسية المتمركزة على بعد ثمانين ميلا الى الغرب من هنا ، والمح بضرورة الذهاب الى هناك ومعرفة رأيهم " ص 52 - 53 / انظر الى خباثة الامريكيين ، فانهم ارادوا توريط فرنسا - مستقبلا في علاقتها مع العراق ، من جهة ، ومن جهة ثانية ، اصرار الامريكان بخذلان الانتفاضة ، من خلال الوعود والاتصالات الكاذبة ، لتفويت الفرصة لان عامل الزمن ، في مثل هذه الظروف يكون للدقيقة ثمنها ؟!! وباعتقادي ان الشعب العراقي سوف لن ينسى هذه المسلكية الامريكية للتعاطي السلبي مع قضاياه المصيرية ، فلتتعظ بقية الشعوب .
وللحديث صلة في القسم القادم .