علي آل شفاف
الحوار المتمدن-العدد: 1382 - 2005 / 11 / 18 - 07:23
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أعاد بعض شيوعيينا ـ العراقيين ـ رأس "الديالكتيك" إلى الأسفل, بعد أن ظن "ماركس" أنه قد صحح وضعه (المقلوب), الذي قال أن "هيغل" وضعه فيه. لكن, في هذه المرة لم يُِعِده هؤلاء من عالم المادة والتأريخ إلى عالم الفكر كما كان, وإنما من حالة الوعي ـ بدرجة ما ـ إلى اللاوعي, ليصبح أقرب إلى المعنى اللغوي العربي, منه إلى المعنى الاصطلاحي "الماركسي" أو "الهيغلي" أو حتى "الإغريقي". بل تعدى ذلك ليهبط إلى المستوى الخطابي, الذي ينحدر عن "الديماغوجيا", ويبتعد عن "البيداغوجيا" التي عُرف بها شيوعيونا الأوائل. وقد تمظهر هذا اللاوعي ـ عند بعضهم ـ على شكل ضياع وتخبط وعشوائية في الفكر والموقف والخطاب والسلوك السياسي.
إن التعسف والتطرف ليس له إلا لون واحد, مهما كانت بواعثه. فالتطرف الديني الذي يتجسد حاليا بمجازر وحشية, وما رافقه وسبقه من تطرف قومي, وما سبق ورافق الأخير من تطرف "إيديولوجي" "راديكالي" لا نزال نتلمس أثاره؛ عبارة عن منهج واحد. لا يمكن وصف الأول بطريقة, والثاني بأخرى, والثالث بثالثة. ولكون التطرف الأول هو أشد ما نعاني منه حاليا, لسعة قاعدته, وتطور أدواته الإعلامية والعسكرية؛ كان من الأولى بنا أن نركز جهودنا لدرء خطره. وقد دعوت سابقا للتركيز عليه, ولم أزل. إلا أنني لاحظت في الأيام الأخيرة, أن الكثير من كتابات ومواقف (البعض من) شيوعيينا تتجاهل مثل هذه الخطورة البالغة على حياة الجميع, وتشغل الرأي العام بمعارك جانبية تضعف الجميع , مما يصب في مصلحة التطرف.
لذلك وجدت من الضروري أن أبين حالهم (من وجهة نظري) ـ وأنا القريب البعيد ـ ثم أعرج على نموذج خرج عن حدود لغة النقد والتنافس إلى تجريح وطعن شخصيات تأريخية مقدسة غير مختلف عليها, لأسباب قد تكون نفسية أو ذهنية جعلته متشنجا ومتوترا لدرجة أفقدته الاتزان.
لقد انقسم شيوعيونا بعد انهيار (الإتحاد السوفييتي) إلى مجموعات واضحة الملامح, وقد تكون هناك مجموعات أخرى غير واضحة الملامح, سأتجاوزها, لأنني لست في طور الاستقصاء.
• الأولى: (الواهية): ضاعت ثم تموضعت, بعد أن ضاعت وتموضعت. نموذجها: الخط الذي انحدر مع البعثيين و(القومجيين), وتعاطف مع التكفيريين, وهو غني عن التعريف.
• الثانية: (التائهة): ضاعت ولم تتموضع, بعد أن ضاعت وتموضعت؛ فبقيت تعيش اغترابا عن (أناها) وبيئتها ومجتمعها وهويتها. نموذجها: أسماء معروفة تركت دكتاتورية "البروليتاريا" أو ديمقراطيتها, وهي ضائعة مترددة ما بين الاشتراكية, واليسار الجديد, والديمقراطية الغربية, والليبرالية, و(الإسلامية) . . . الخ, ولا تعرف أين تضع قدمها.
• الثالثة (الجامدة): لم تًضِع ولم تتموضع, بعد أن ضاعت وتموضعت؛ بقيت تحت سيطرة "الأنا المكتسبة". نموذجها: الذين لا يزالون يعضون بنواجذهم على المنهج الشيوعي الكلاسيكي.
• الرابعة (الأصيلة), انشَدَّت في فترة ما, لكنها لم تَضِع ولم تتموضع من قبل, ولا من بعد, وبقيت تمتلك حدا معينا من الوعي بذاتها وبهويتها وبأناها الأصيلة. نموذجها: الذين تعاطفوا مع الشيوعية, وانتموا إليها سياسيا في فترة ما, لكنهم ما ضاعوا وما انسلخوا عن انتمائهم وبيئتهم يوما ما؛ وما أن اتضح فشل التطبيق الشيوعي, وخطأ وعدم واقعية النظرية الماركسية, حتى أزالوا الغبار الذي تجمع يوما ما على انتمائهم, ليعيدوه نقيا جليا.
ما كان أعضاء المجموعة الرابعة يوما ما أخوة لـ "ناتاشا", بل ما انفكوا أبناء مجتمعهم وثقافتهم ومتمسكين بهويتهم, وإن انطلقوا إلى مديات أبعد, ليحلقوا في سماء الأممية, التي يفترض أنها تجمع كل بني الإنسان "كلكم لآدم وآدم من تراب". لكنهم وعوا أن ليس كل فرضية هي ممكنة التطبيق, وأن الطبيعة الإنسانية في الصراع والتنافس والاستحواذ والتملك والسلطة, هي قدر لا يمكن الفكاك منه, ولا يمكن تجاهله أيضا.
أما المجموعة الأولى فقد فضحها خزي مواقفها, وانحدارها إلى دركات البعث والتكفير, وقد عرضت حالها في مقالات سابقة, وأعرض ـ الآن ـ عنها صفحا.
أما الثانية فتحتاج إلى علاج سريع! لأنها فقدت وعيها لما يدور حولها وبدت وكأنها تتحرك بعشوائية وفوضوية (صعد عندها الإنتروبي). فهي تصدم هذا وترتطم بذاك, فكان فعلها خراب وغايتها سراب. على الرغم من بقايا الصبغة الشيوعية التي تتلمسها في كتاباتهم, تجد أنهم يحاورون ويدعون لديمقراطية الإمبريالية الغربية والأمريكية ـ التي كانت عندهم أعلى درجات الرأسمالية ـ ويناظرون في القومية, ويجادلون في الطائفية, ويتبنون الليبرالية البرجوازية . . . الخ!!
أما الثالثة فبقيت محتفظة بأخوتها لـ "ناتاشا", حتى وإن تبين أنها تخلت عنهم وتآخت مع أعدائهم. ولكي يبقوا أنفسهم على منصة المسرح السياسي, أوجدوا لهم متنفسا في عدو ـ لعله أضعف من العدو القديم ـ فأفرغوا فيه كبتهم وعقدهم, وانهالوا علية بأقلامهم أو بأصابعهم (إذ ليس لديهم حاليا غيرها) سبا وشتما ولعنا, ولكما وطعنا.
كنت قد كتبت سابقا عن الصراع الأجوف بين العلمانيين (والشيوعيين خاصة), و(الإسلامويين) الذين يبدو أنهم مشغولون عنهم ومتشاغلون. إن أحد أهم البواعث على هجوم أولئك على هؤلاء, هو خسارتهم للقاعدة الشعبية التي استحوذ الخصوم عليها, مما شكل دافعا قويا للتعبير عن الشعور بالخسارة. وهذا ما قد يكون مبررا مقبولا لو أنهم التزموا قواعد (اللعبة) الديمقراطية, دون (الضرب تحت الحزام).
من وجهة نظري! لا يوجد في العراق ـ حاليا ـ حزب إسلامي تنطبق عليه هذه التسمية تماما, أي أنه يعمل على تحقيق مشروع إسلامي معين. على العكس من ذلك, فإننا لا نرى سوى علمانيين متدينين (يسمون خطأ إسلاميون), وعلمانيين غير متدينين (يحتكرون تسمية العلمانية). بل, إننا لنجد بعض الأحزاب والتشكيلات والشخصيات التي يطلق عليها (إسلامية), أكثر علمانية ممن يدعون بالعلمانيين. يتضح ذلك من خلال سلوك هؤلاء (المتسامح أكثر مما يجب), الذي اتسع للبعثيين وهم ما بين مجرم وداعم للجريمة؛ و(الليبرالي جدا), الذي اتسع لمنح الجنسية العراقية لابن المرأة العراقية, الأمر الذي يعارضه الكثير من العلمانيين؛ و(الديمقراطي جدا), الذي يفتقد ـ ربما ـ إلى السند الديني, وإن افتقد المانع له أيضا. مما جعل البعض ـ وأنا منهم ـ يتهم الكثير منهم بالضعف والليونة والمهادنة والتساهل واللامبالاة وقلة الخبرة. بينما تجد العكس مِن أكثر مَن احتكر تسمية العلمانية؛ إذ يتسم بعضهم بالتشدد, وبعضهم بالتعصب, وبعض آخر منهم بالتطرف, إذا ما استثنينا المعتدلين ـ وما أقلهم!! . . فتأمل!!
سأضطر هنا لتناول نموذجا شدني للرد عليه ما فيه من التعجل والتسرع, النابع ـ كما يوحي نصه ـ من انفعال وتشنج. . حيث يضع الكاتب نفسه في موضع من يتكلم فيما لا يعلم . . وحسبه به من موضع!!
لعلي أغبط السيد "رزاق عبود" على دقة اختياره للعنوان المثير لمقاله, الذي شدني لقراءة محتواه, فما وجدته فيه إلا مغضبا محنقا, قد أوغر صدره اليأس, وأضرم غيظه الفشل. لقد استغربت ـ ومعي الكثير ممن قرأت تعليقاتهم ـ هذا الهجوم غير المبرر وغير السوي على الآخر, بتعصب وتشنج وتطرف لا ينتظر من أمثاله. لقد ذهب أبعد من مهاجمة (خصومه), ليهاجم شخص الإمام الصادق جعفر بن محمد (ع) والتشيع, جهلا وتحاملا على خصومه السياسيين. ما أبعده عن أن يمس هذه الشخصية العبقرية التي دان لها علماء زمانها والأزمنة التي بعدها!
ففي مقاله المعنون "زعماء الشيعة يستعينون بالدعاية الصهيونية", فقد التوازن ـ المنتظر ـ وبدأ يسطر سيلا من المغالطات والمعلومات الخاطئة؛ التي إن علم بخطئها كان (كمن يكذب), وإن جهل خطأها, فحري به أن يدقق ويمحص قبل أن يكتب.
لن أناقش هنا الأخطاء اللغوية الواردة في مقاله. ولن أناقش سذاجة المقارنة بين جرائم هتلر مع اليهود, وجرائم صدام مع الأكراد "الفيلية", والمحاولات البعثية للتقليل من مأساة الشيعة عبر التأريخ, ومحاولة التعمية والتعتيم عليها, عن طريق النبز باستغلال اليهود لجرائم "هتلر", إذ ليس هناك أي رابط بين الحالتين. ولا أدري هل أن استغلال لليهود السيئ لجرائم النازية, يمنع المظلومين من بث شكاواهم, والسعي لتأمين مستقبلهم؟ ولماذا تظلم الشيعة فقط هو الذي يقارن باستغلال اليهود, دون تظلم الفلسطينيين من مجازر اليهود (الصهيونيين), وهي لا تمثل إلا أقل من واحد بالألف مما تعرض له الشيعة عبر التأريخ, ودون تظلم الأكراد من مجازر البعثيين, والتي لا تقارن بما حدث للشيعة عبر التأريخ؟ أم أن ما وراء الأكمة ما وراءها؟!
كفى بالفقرة التي سأنتخبها ـ وأكتفي بها ـ نموذجا لمستوى ودقة وسعة اطلاع الكاتب ـ وقس عليها الباقي! حيث كتب:
". . . ومعروف ايضا، انه لم يكن هناك تشيع حتى زمن الإمام جعفر الصادق الذي ابتدع مذهب الاماميه في محاولة لاستعادة الخلافة باسم الانتساب الى النبي محمد."
إن هذه الفقرة تفضح جهل الكاتب فيما يتكلم فيه, وقد بدأها بكلمة "معروف", ولا أدري "معروف" عند من؟ فهو ـ كما يبدو ـ لا يعرف معنى التشيع, ومعنى مذهب "الإمامية", الذي هو فرع التشيع الذي تميز عن الفرع الآخر "الزيدية" قبل إمامة الصادق (ع). وقد تمايزا ـ من بين ما تمايزا به ـ في أن الثاني يدعو للقيام والثورة, بينما الأول لا يدعو لهما. إن "الإمامية" هم أتباع الإمام الباقر, وهو أبو الصادق (ع)؛ وأتباع عمه زيد (رض) هم "الزيدية". فكيف ابتدع الإمام الصادق ما وجد قبله؟!! كما يزعم الكاتب.
ثم كيف يفتري على الإمام الصادق, بما يخالف ما معروف عنه, من أنه لم يدع لنفسه يوما؟!! وقد حاول منع ابني عمه عبد الله بن الحسن بن الحسن من القيام بالثورة على بني العباس, لأنه كان على علم بمقتلهما (راجع كتاب "مقاتل الطالبيين" لأبي الفرج الأصفهاني, وغيره). وكان ـ أيضا ـ على علم بأن ليس له نصيب في الحكم. ثم لم يعهد عنه أنه قام بأي عمل مسلح أو ثورة ضد بني العباس, بل سخر نفسه ـ تماما ـ للعلم, بما فيه من كيمياء وفلك وفروع أخرى كثيرة. حسبك ـ هنا ـ كتاب "جابر بن حيان" الذي حققه المستشرق الألماني "بول كراوس" على ما أذكر. حيث نسب "جابر" جميع علومه في الكيمياء إلى الإمام الصادق, وقد كرر لعشرات المرات عبارة "حدثني مولاي جعفر" أو "الصادق" أو عبارات مشابهة أخرى.
فعلى من يحترم قلمه أو أصابعه التي تسطر الحروف أو فكره, أن يتحرى الصواب والدقة فيما يكتب أو يتكلم, لا أن يلقي الكلام على عواهنه. كأنه في مراء وجدل شفاهي مرتجل.
ثم أن كاتبنا لا يعي الفرق بين التشيع, وهو مذهب عقيدي (في الأصول)؛ والمذهب الجعفري, وهو مذهب فقهي (في الفروع). ولعله قصد الأخير بزعمه أن الإمام الصادق ابتدعه!!
علما أن متبعي الإمام الصادق سموا من قبل الآخرين بـ "الجعفرية", لكونهم طلبة وأتباع هذا الإمام؛ تمييزا لهم عن الأحناف والمالكية, ثم الشوافع والحنابلة فيما بعد, وغيرهم.
وحسبك هذا نموذجا, لتعرف مدى التسرع والارتجال والتحامل والغيظ الذي يفقد البعض أدنى مراتب الموضوعية والدقة والتحري للصواب. وهو نموذج لأحد ضحايا انهيار "الإتحاد السوفييتي", وسقوط المشروع الشيوعي, وفشل (النظرية) الماركسية.
ملاحظة: جرت العادة عندنا ـ في العراق ـ على التعبير عن شدة الإنتماء والنخوة بالقول "أخوة فلانة", وما ذكرته في العنوان هو تعبير عن الانتماء الفكري للمقصودين بهذا العنوان, دون أي غرض للنبز أو الغمز أو الطعن.
#علي_آل_شفاف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟