|
في «القارورة» لديانا الجيرودي.. «بضع حكايات» عن المرأة والحرية، في سوريا
بشار إبراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 1382 - 2005 / 11 / 18 - 07:14
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
دائماً، يمكن القول إن المرأة تصلح كي تكون مدخلاً لمعايرة كلّ التفاصيل في المجتمع، سواء على مستوى المفاهيم والقيم، والتكوين الذهني والنفسي، أو على مستوى الشعارات والبرامج، أو على مستوى المواقف والسلوكيات!.. ولا يبدو من المغالاة، في هذا الإطار، اعتبار أن وضعية المرأة في مجتمعها، هي المقياس الأوّلي، الذي يحدِّد حقيقة التطوّر والتقدّم، أو أصالة التحديث والتنمية، ومدى تحقيق العدالة والحرية، وإرساء أسس الديمقراطية، وروح المواطنة، التي ينبغي لها أن تتكئ على المساواة، بين الجميع.. وبالتالي فإن موضوع المرأة يلعب دور المحكّ الذي يكشف عن أصالة كلّ ما يمكن أن يُقال، أو يُمارس، علناً أو ضمناً.. وهو الكاشف الفاضح للممارسات المجتمعية، على صعيد التربية والتعليم، والتأهيل النفسي والاجتماعي، خاصة في مجتمع شرقي محافظ، يمتلك إرث آلاف السنوات من عقلية خفض المرأة، واختزالها في العديد من الصور، التي لا تكاد تبتعد بها كثيراً عن صورة المرأة/الجارية، التي ينحصر دورها في مجال «الإمتاع» و«المؤانسة»، من جهة، فتُعدُّ وتُهيَأ لممارسة دور اللعوب التي تعرف كيف تلتقط زوجاً، وتصطاده، قبل أن يلتقطها «قطار العنوسة»!.. ومن ثمَّ يتم تدجيجها بالعديد من الأفكار «الشيطانية»، التي لا غاية لها إلا الحفاظ على الرجل/الزوج، حتى لا يطير، ومنها إغراقه بالأولاد، وملء معدته، وكيِّ جوربيه، وإفراغ جيبه من المال (أي نتف ريشه)!.. سنستفيد من مساهمات د. مصطفى حجازي، وكتاباته الهامة، لنرى معه أن تربية الفتاة في المجتمعات القهرية، تشكو من تناقض جوهري: فمن جهة أولى، تُحاط ميولها الجنسية بسور من الإثم والتكفير والتنفير، والعيب والحرام، وقوائم ما لا يجوز، وارتباط شرف الرجل والأسرة والعائلة والعشيرة، به.. ومن جهة تالية، يتم تلقينها على أن تكون موضوعاً قياسياً للجنس، فيتم تعليمها كيف تلبي رغبة الرجل، وكيف تثيره، وكيف تعمي أبصاره عن امرأة أخرى، وكيف تتملَّكه، ويتملَّكها (بالحلال)!.. إنها المسافة بين أن تمارس المرأة، دور الناسكة، المتعبِّدة، المنزَّهة، المتعالية، المتعفِّفة.. في آن.. ومن ثم تمارس دور المرأة الغانية، اللعوب، المغوية، البارعة، التي تستلب لبّ رجلها، وتوقد مشاعره، وانفعالاته، وغرائزه.. في آن آخر.. بل ويتم إقناع المرأة أن الجنس هو أداة التماسك الاجتماعي، فتنبري المرأة في هذا «الفسق التربوي»!.. وتتفانى في أداء هذا الدور، حيث تتحول إلى أداة جنسية، تنظّم العلاقة بين مفردات المجتمع، وحينذاك (للمفارقة) يرتفع دور المرأة ليتحول إلى حامية للشرف والعفّة، وبانية لكينونة البيت والأسرة والمجتمع.. وحينذاك يتبدى كم هو مرير وممضّ دور المرأة، وواقعها، وحضورها.. وكم هو مذلّ هذا الواقع!.. في فيلمها «القارورة» تدخل المخرجة السورية ديانا الجيرودي في هذه المسارب الضيقة، والشديدة الحذر، لتثير موضوعة المرأة في المجتمع السوري، الذي يتمتع بكل مميزات المجتمع القهري، وبامتياز!.. المخرجة الجيرودي، هنا، وللحديث عن واقع المرأة السورية، تختار ـ على المستوى المضموني ـ فكرة أن المرأة ما هي في النهاية إلا قارورة؛ قارورة تُملأ بما لا يدَ لها فيه، أو بما يمكن أن تتواطأ هي معه.. ربما هي قارورة عطر، أو مشروب روحي، أو مشروب غازي، أو سائل حارق، أو مُحرق (يحرق الدنيا)!.. ولكنها في الحالات كلها تبقى مجرد قارورة؛ قارورة لا تمتصّ السائل، ولا تشربه، ولا تتفاعل معه.. أي أنها أداة استعمالية، لا أكثر!.. فيلم «القارورة»، التسجيلي الوثائقي القصير (مدته 11 دقيقة)، والمُنتج عام 2005، بشكل مستقل، من قبل مؤسسة سورية خاصة هي «بروأكشن فيلم»، بإدارة الفنان عروة النيربية (بطل فيلم «باب الشمس»)، يأتي في إطار مشروع «بضع حكايات»، الذي دعا إليه «متحف كونستالي» في فيينا، بالنمسا، وهو المشروع الذي يقوم على مساهمة سبع نساء، من سبعة بلدان مسلمة، في محاولة لمعرفة الكيفية التي يمكن أن تقوم كل منهن بقراءة هوية المرأة في الثقافة المحلية في بلدها، وتقصي الشكل الفني البصري الذي يمكن أن تُقدم هذه القراءة من خلالها.. وبالتالي، فإن امتحان فيلم «القارورة» الأساس تتبدَّى في مدى قدرته على النفاذ إلى جوهر الموضوع (هوية المرأة السورية في الثقافة المحلية)، من جهة أولى، ومن ثمّ امتلاكه للشكل الفني، أو الاقتراح البصري، المُعبِّر عنه، من جهة أخرى.. خاصة وأن مجتمعاً من طراز المجتمع السوري، يحتفظ لنفسه بالعديد من السمات، التي تكاد تصل إلى حدّ التناقض ذاته.. هنا نحن في إطار مجتمع مدجَّج بالكثير من الشعارات الوطنية والقومية، ومقولات التحديث والعصرنة، في الوقت الذي يحتفظ بكل السمات الأكثر تقليدية، ورعاية كل ما هو محافظ على صعيد التفكير، والممارسة!.. ترى المخرجة ديانا الجيرودي أن المرأة قارورة!.. أي أن المهم في العرف الاجتماعي، والثقافة العامة، ليس هي، ولكن بم تمتلئ.. يبدأ الفيلم من حديث إحدى الشخصيات التي تقدم جزءاً من تجربتها. عندما عرف أهل زوجها أنها حامل، أي ممتلئة بجنين، فاشتعلت المبادرات لإراحتها، ومنعها من التعب، وتسابقوا إلى وضع المخدات تحت رجليها، آن تجلس.. لم تكن تلك المرأة غافلة عن حقيقة أن السؤال عن حالها، هو أصلاً وضمناً، السؤال عن حال الجنين، المتكور في أحشائها!.. يمكن للمجتمع أن يتقبَّل عمل المرأة، لكن لا يمكن له أن يقبل تقصير المرأة في مجال تكوين العائلة، فالعائلة هي الأساس!.. وعلى هذا الأساس فإن المرأة التي لا تُنجب ستبقى دائماً أشبه بالشجرة التي «قطعها حلال»، وفق المُتعارف الشعبي!.. تستضيف المخرجة ديانا الجيرودي، في فيلمها، عدداً من النساء السوريات (ناديا، نجوى، ليلى، ريم، زبيدة).. وستعترف إحداهن أن قيام المرأة بدور الولاّدة ليس خطأ. وترى أخرى أن مهمة المرأة الأساس هو الحفاظ على البيت، وإدارته، بل إنها تشفع رأيها من خلال تجربة خاصة، إذ في غياب أمها لم يستطع الوالد ـ الرجل ـ القيام بدورها، على الرغم من كل ما بذله!.. فالبيت كان في حالة غياب للحضور الأنثوي!.. وإذ تحاول المخرجة ديانا الجيرودي، عبر المونتاج، التدخّل من ناحيتها بما تريد أن تقول، من طراز مشهد لباس عرائس الدمى، وصورة أحد أبرز الإعلانات في سوريا، الذي يجعل من المرأة «دائماً في الخدمة»، أو من خلال مشهد السيارة الرسمية (السوداء) التي تخترق دمشق، ومشهد الأذان (وصوت الله أكبر) المنهمر من المئذنة، على فسيفساء النخيل والبلح والأعناب.. بما يدل على التوالي، عن السلطة السياسية المستبدة، والسلطة الدينية الأكثر استبداداً، إلا أنها لا تستطيع إخفاء أن شخصياتها النسوية لم يخرجن أبداً عن الثقافة السائدة، بل إنهن يقعن في الارتباك ذاته!.. المتجلّي في عدم قدرتهن على وعي الحرية.. كان من المهم جداً البناء على حديث المرأة، ذات اللباس الأحمر، التي تتناول مسألة الحرية الافتراضية.. وذلك عندما تتناول نقطة غاية في الأهمية، ملخصها أن السلطات السياسية، والاجتماعية، وربما الدينية، يمكن لها ببساطة أن تضعك في وضع من لا يمتلك من الحرية شيئاً، ولكن في الوقت نفسه دون أن يمكنك القول إنك لا تمتلك من الحرية ما يكفي!.. ودون أن تجد سبيلاً لإثبات ذلك!.. في مجتمعات عجيبة، من هذا الطراز، أنت مسجون في قيود الحرية الافتراضية، فلا أنت تستطيع القول إنك مسجون، أبداً، ولا أنت تملك القدرة على إقناع الآخر أنك لست حراً.. والآخر هنا هو السلطات التي تمتد من الأب والأخ والزوج، وتمتدّ لتتجلى في صور سياسية، واجتماعية، وثقافية فكرية!.. تلعب المخرجة دينا الجيرودي على الشكل الفني في فيلمها، فتمحو حضور العينين، من خلال الصورة المقطوعة، التي تعتمدها طيلة الفيلم، مستفيدة من أن غياب حضور العين، يقود إلى أن تتحول الشخصيات إلى مجرد معطيات، لا أبعاد خاصة لها.. بغياب حضور العينين؛ والعين هي «مغرفة الكلام» كما يقول السوريون، تأتي الشخصيات مختزلة فيما تقول، ومتجسّدة في وضعياتها أمام الكاميرا، إذ تبدو المرأة متكورة، مستسلمة، مستلبة من القدرة عن التعبير الذاتي الخاص!.. إنها في النهاية تجسيد لتهميش شخصيتها، وتحوّلها إلى مجرد معطى جسد.. ثدي، أو كرش، أو بطن.. الأمر الذي يتّسق مع قول الخاتمة، من حيث أن المرأة لا يبقى لها في النهاية سوى الحديث عن ألـ «هو».. لا فرق إن كان الحديث عن «ابني» أو «ابنتي»!.. أو التزامها بأداء وظيفة اجتماعية لصالح الزوج، وتوافقاً مع رغبة الأب، وإرضاء للأخ، وكل رجالات الأسرة.. ولكن الفيلم، وعلى الرغم من قوة الفكرة التي يتناولها، وينبني عليها، إلا أنه سيشكو ـ كما هو حال التجارب الأولى ـ من العديد من الهنات، والمشكلات الفنية، إذ يبدو الفيلم وهو يقوم على اقتراح بصري واحد، سمته محو العينين، أولاً وأخيراً، دون أي تغيير أو تنويع على هذه المسألة، حتى بالنسبة للشخصيات اللواتي يمكن أن يكون العامل الأساس في التعبير عندهن أبعد من العينين، بما يقوم مقام العينين أو بما يساعدهما، من طراز حركة اليدين، ونبرة الصوت!.. كما يقوم الفيلم على بنية بصرية، تقوم على تناول الشخصيات النسائية، وتصويرهن في وضعيات محدّدة، فيبدون جميعاً وهن جالسات إلى أريكات مريحات. وعلى الرغم من أن هذه الوضعية منحتهن سمة الاستسلام، والاستكانة، إلا أنها لم تضع النساء في مواقعهن الحياتية، أو تفاصيلهن العملية!.. لقد ظهرن جميعهن جالسات إلى أريكاتهن، بما يوحي بأنهن ينتمين إلى الطبقة الوسطى، حصراً.. وتماماً في الوقت نفسه، ظهرن على أنهن مخنوقات الصوت!.. وهذا ما يمكن ردّه «فيزيولوجياً» إلى أنهن ربما كن يشكين من مشكلة في الجيوب الأنفية، أو يعانين من نزلات برد.. كما يمكن اعتباره سمة للصوت المخنوق في سوريا!.. يقوم الفيلم على تركب مونتاجي وظيفي، لا يقدم سوى الإجابات، من جهة النساء المُستهدفات (باستثناء مشهد واحد مربك تماماً)، فلا يظهر أيّ حال من الحوار معهن، ولا مناقشة، أو تأصيل، لما يقلن!.. إنهن يدلين بآرائهن، تماماً، حتى تلك التي يمكن مناقشتها، وردّها، أو رفضها.. ولا يعير الفيلم أيّ اهتمام للبحث في مرجعياتهن الثقافية، أو الاجتماعية، أو السياسية، على الرغم من تنوعهن، أو تنافرهن، كما يبدو.. ربما، هي سوريا ذاتها، في أصواتهن المخنوقة.. وانعدام حالة الحوار.. التي التقطتها مخرجة بارعة من طراز ديانا الجيرودي، على أمل الخروج من عنق الزجاجة (القارورة كما قالها مثقف سوري في وقت ما)!..
#بشار_إبراهيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قبلتان.. على اسم برهان علوية
-
عن المخرج جان شمعون
-
عبد الله المحيسن والسينما السعودية
-
عن فيلم «الجنة الآن» للمخرج هاني أبو أسعد
المزيد.....
-
إيران تعلن البدء بتشغيل أجهزة الطرد المركزي
-
مراسلنا في لبنان: سلسلة غارات عنيفة على ضاحية بيروت الجنوبية
...
-
بعد التهديدات الإسرائيلية.. قرارت لجامعة الدول العربية دعما
...
-
سيناتور أمريكي: كييف لا تنوي مهاجمة موسكو وسانت بطرسبرغ بصوا
...
-
مايك والتز: إدارة ترامب ستنخرط في مفاوضات تسوية الأزمة الأوك
...
-
خبير عسكري يوضح احتمال تزويد واشنطن لكييف بمنظومة -ثاد- المض
...
-
-إطلاق الصواريخ وآثار الدمار-.. -حزب الله- يعرض مشاهد استهدا
...
-
بيل كلينتون يكسر جدار الصمت بشأن تقارير شغلت الرأي العام الأ
...
-
وجهة نظر: الرئيس ترامب والمخاوف التي يثيرها في بكين
-
إسرائيل تشن غارتين في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بعشرات
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|