|
نمط الانتاج العبودى وبنيته الفوقية فى المجتمع الرومانى - كارل كاوتسكى
سعيد العليمى
الحوار المتمدن-العدد: 5093 - 2016 / 3 / 4 - 22:20
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
من كتاب كاوتسكى اسس المسيحية ترجمة : سعيد العليمى المجتمع الرومانى فى الفترة الإمبراطورية - القسم الثانى
الفصل الأول نظام تملك العبيد أ - ملكية الأرض هؤلاء الذين سيفهمون الآراء المميزة لحقبة معينة والتى تجعلها مغايرة لأفكار حقب أخرى، يجب أولاً وقبل كل شيء أن يدرسوا الحاجات، والمشاكل الخاصة بتلك الفترة. فهى فى الأساس نتاج لنمط معين للإنتاج فى هذه الفترة، وللطريقة التى حافظ بها مجتمع هذا الزمن على حياته. دعنا نحاول أولاً أن نتتبع النظام الاقتصادى الذى تأسس عليه مجتمع الإمبراطورية الرومانية من بداياته الأولى. إذ يمكننا بهذه الطريقة فحسب أن نفهم سماته النوعية فى لحظة خاتمة هذا التطور، أى، فى ظل الفترة الإمبراطورية، والاتجاهات النوعية التى أسفر عنها فى هذا الوقت. كانت الزراعة هي أساس الإنتاج الاقتصادى فى البلدان التى تكونت منها الإمبراطورية الرومانية، التى مورس إضافة لها الصناعة الحرفية والتجارة فى السلع على نطاق أصغر بكثير. وكان الإنتاج من أجل الاستهلاك المباشر هو القاعدة العامة. وقد كان إنتاج السلع، بمعنى آخر، الإنتاج من أجل البيع، مازال فى طفولته. كان للحرفيين والتجار فى حالات كثيرة مزارع تخصهم، وكانت هذه مرتبطة بوثوق بالحياة المنزلية، وكانت مهمتها الرئيسية الإنتاج من أجل الأسرة، حيث زودت الزراعة المطبخ بمواد الغذاء وكذلك ببعض المواد الخام مثل الكتان، والصوف، والجلد، والخشب، الذى يصنع منه أفراد العائلة ملابسهم الخاصة، وآنيتهم وأدواتهم. كان كل مايمكن أن يباع فائضاً - حين كان هناك بالكاد أى فائض - علاوة على احتياجات الأسرة. يتطلب نمط الإنتاج هذا أن تكون هناك ملكية خاصة فى معظم وسائل الإنتاج، فى كل ما يتضمن عملاً إنسانياً، بما فيها أرض الزراعة، غير أنه لا يتطلب الملكية الخاصة للغابات والمراعى، التى قد تبقى حيازة مشتركة، والملكية فى الحيوانات المنزلية، ولكن ليس فى لعبة [يبدو أن المقصود هو الألعاب العامة ـ المترجم]، أخيراً، فهو يتضمن الملكية الخاصة للأدوات والمواد الخام وكذلك المنتجات المتأتية عن استعمالها. ولكن مع وجود الملكية الخاصة تكون لدينا بالفعل إمكانية عدم المساواة الاقتصادية. ربما تميز الأحداث حسنة الطالع وتُثرى مؤسسة مابينما تُضير وتُفقر أخرى. سوف تنمو المؤسسات من النوعية الأولى؛ سوف تتزايد أرضها وماشيتها، ولكن ينتج هذا الشرط على الفور مسألة خاصة بالعمل بالنسبة للمؤسسات الأكبر، أى، مسألة من أين يجرى الحصول على العمل الإضافى المطلوب من أجل العناية الملائمة بقطعان الماشية الأكبر والفلاحة المناسبة للحقول الأكثر اتساعاً. تتجلى الخلافات الطبقية والتعارضات الطبقية كلما يصبح العمل الزراعى منتجاً أكثر، كلما كان الفائض الذى يقدمه أعظم زيادة على حاجات المزارع نفسه. يخدم هذا الفائض من ناحية فى إعالة الحرفيين، الذين كُلفوا بإنتاج مواد مفيدة معينة، مثل الحدادين وصانعى الفخار، من ناحية أخرى ربما يستعمل الفائض فى مبادلة مواد مفيدة، أو مواد خام لايمكن إنتاجها فى الإقليم نفسه، لأن الطبيعة لاتقدمها، أو أن المهارة الضرورية لإنتاجها مفتقدة. مثل هذه المنتجات يأتى بها التجار من أقاليم أخرى. يدفع ظهور الحرفى والتجارة إلى زيادة عدم المساواة فى الملكية العقارية. بالإضافة إلى عدم المساواة بين الممتلكات الكبيرة والصغيرة فإن لدينا الآن أيضاً مسألة القرب أو البعد من النقاط التى يتجمع فيها العاملون والتجار حتى يتبادلوا سلعهم من أجل الفائض الذى أنتجه الفلاحون. كلما كانت وسائل المواصلات أسوأ، كلما أصبح من الصعب أكثر الإتيان بالمنتجات إلى السوق. وكلما كانت ميزة من يعيش بقرب السوق أعظم. إننا نلاحظ من ثم تشكل طبقة الملاك العقاريين من بين كل هؤلاء الذين خُصوا بواحد أو أكثر من هذه العوامل، الذين يحصلون على فائض أعظم قياساً بجمهور الفلاحين، والذين يستطيعون عبر التبادل تأمين منتجات تجارية وصناعية أكثر، ويملكون وقت فراغ أكثر من الفلاح المتوسط، ويتحكمون فى مصادر تقنية أكثر فى العمل والحرب، ويتلقون حوافز عقلية أكثر بواسطة العيش مع الآخرين، أو بواسطة العلاقات المتواترة مع الفنانين والتجار، ويستطيعون أن يوسعوا أفقهم العقلى. هذه الطبقة من الملاك العقاريين المحظوظين لديها الآن الوقت، القدرة والوسائل للقيام بالأعمال التى تتجاوز الحدود الضيقة للنظرة الفلاحية. إن لديها الوقت والطاقة التى تمكنها من أن تصهر معاً، عدداً من الجماعات الفلاحية فى دولة، وكذلك أن تدير وتدافع عن الدولة وتنظم علاقاتها مع الدول المجاورة والأكثر بعداً. تعيش كل هذه الطبقات، كبار الملاك العقاريين، والتجار، والحرفيين، على الفائض الناتج عن العمل الزراعى، الذى سرعان ما أضيف له الفائض من العمل الصناعى. وحيث أن وظائفها فى المجتمع قد حظت بأهمية، يحوز التجار وملاك الأرض الكبار مزيداً ومزيداً من هذه المنتجات الفائضة. وفور أن يصبح الملاك العقاريون أكثر قوة، بفضل تميزهم الاقتصادى، وكذلك مركزهم القوى فى الدولة، يكونون قادرين على حرمان جمهور الفلاحين والحرفيين من الفائض الناتج عن عملهم. وهكذا فإنهم يحصلون على ثروة تتجاوز بعيداً مستويات فلاحيهم وحرفييهم وبالمقابل تمتن سلطتهم الاجتماعية وقدرتهم على حيازة منتجات فائضة أكثر، ويحصلون على ثروات إضافية. وهكذا نما فوق رؤوس الفلاحين والحرفيين، عدد من شرائح المستغلين الكبار، الملاك العقاريون، والتجار، فضلاً عن المرابين، الذين سوف تكون لدينا الفرصة للتحدث عنهم فى معرض آخر. لقد صاحب زيادة ثروتهم حاجة متزايدة لتوسيع اقتصادهم المنزلى الذى مازال مرتبطاً بوثوق بفلاحة الأرض. إن من سيكون لدية اقتصاد منزلى خاص به يجب أن يكون فى هذه الفترة مازال يسيطر على مؤسسته الزراعية الخاصة، والتى تكون أكثر أمناً حيثما تكون على أرضه الخاصة. إن الطموح العام من ثم ينحو فى اتجاه ملكية الأرض، حتى طموح الحرفيين، والمرابين، والتجار. وتتقوم الرغبة العامة فى زيادة ملكية أرض المرء الخاصة مادام الإنتاج من أجل الاستعمال المنزلى مازال سائداً، فالرفاهية المتزايدة، والاقتصاد المنزلى الأكثر سخاءاً، يمكن أن يؤسساً فقط على زيادة رقعة نطاق المزرعة. إن الرغبة فى الحصول على وزيادة كمية الأرض التى يملكها المرء هى العاطفة المهيمنة فى هذه الفترة، التى تمتد من الحقبة التى يكف فيها المجتمع المؤسس على الزراعة، عن أن يكون رعوياً، بمعنى آخر، بدءاً من تأسيس الاقتصاد الفلاحى حتى زمن نشأة الرأسمال الصناعى. لم يتجاوز المجتمع القديم حتى فى ذروته، فى الفترة الإمبراطورية هذه المرحلة، التى لم تزول حتى زمن الإصلاح.
ب - العبودية المنزلية ولكن ملكية الأرض لانفع فيها بدون أكارين يفلحونها. لقد أشرنا سلفاً إلى مشكلة العمل النوعية التى تنشأ من أول تكوين للملكيات العقارية الكبيرة. إننا نجد حتى قبل الأزمنة التاريخية، الأفراد الأغنياء يبحثون عن عمال يمكن الإعتماد عليهم دائماً، من أجل ضمهم لاقتصادهم المنزلى بالإضافة لأعضاء العائلة، الذين يرتبطون بالأسرة بروابط الدم. لايمكن الحصول على مثل هؤلاء العمال فى البداية بتقديم أجور لهم. مما لاشك فيه، فإننا نجد حالات من العمل المأجور مبكراً جداً، ولكنه دائماً ظاهرة استثنائية وعرضية، على سبيل المثال، فى المساعدة فى جمع المحاصيل. إن أدوات الإنتاج المطلوبة من جانب مؤسسة مستقلة لم تكن كثيرة لدرجة أن عائلة منافسة لاتستطيع أن تحوزها كقاعدة. كانت العائلة والروابط المشاعية مازالت قوية لدرجة أن أى حادث أصاب عائلة وحرمها من ملكيتها كان يمكن أن يواجه عادة بواسطة مساعدة الأقارب والجيران. بينما لم يكن هناك سوى رافد قليل من العمال المأجورين، فقد كان هناك أيضاً طلباً ضئيلاً للغاية عليهم. لأن الاقتصاد المنزلى وصناعته كانا مازالا مرتبطين بوثوق. إذا كانت هناك حاجة لعمال إضافيين من أجل المؤسسة، فقد كان عليهم أن يصيروا أعضاء فى الأسرة، مفتقرين بالضرورة ليس فقط لورشة تخصهم، وانما أيضاً لحياة أسرية تخصهم، حيث يُستوعبون كلياً فى عائلة الغريب. لم يكن العمال الأحرار متوفرين فى ظل هذه الظروف. حتى خلال العصور الوسطى، فقد رضى العمال المياومين بقبول العضوية فى عائلة معلم (الحرفة) كمرحلة مؤقتة فقط، انتقالية حتى يصيروا معلمين، وحتى يؤسسوا عائلاتهم الخاصة. لا يمكن تأمين الرجال الأحرار فى هذه الفترة دائماً بواسطة دفع أجور باعتبارهم عمالاً إضافيين فى عائلة غريب. يمكن لاحتجاز إجبارى فقط أن يوفر العمال الإضافيين المطلوبين للمؤسسات الزراعية الكبرى. تحقق هذا الغرض بواسطة العبودية. وليس للغريب حقوق فى ظل العبودية. وبالنظر إلى صغر حجم الجماعة فى تلك الأيام، فإن مفهوم "الغريب" كان شاملاً. كان يُستعبد فى الحرب ليس فقط المحاربين المأسورين، وإنما غالباً جداً كامل سكان البلد المهزوم، وهم إما أن يقسموا بين المنتصرين أو يُباعوا. ولكن كانت هناك أيضاً وسائل للحصول على العبيد فى أزمنة السلام، خاصة عبر المواصلات البحرية، التى كانت ترتبط غالباً بالقرصنة فى مراحلها الأولى، وقد كانت أكثر أنواع الجزية المرغوبة، بشراً أقوياء ووسيمين، الذين كانوا يؤسرون فى غارات على السواحل حين يوجدون عُزَلاً من السلاح على الشواطئ. إضافة لذلك، فإن نسل العبد الذكر والأمَةَ الأنثى يدخل فى العبودية. لم يكن وضع العبيد فى البداية سيئاً جداً، وكانوا أحياناً يقومون بمقطوعيتهم [نصيب العبد الإجباري من العمل] بهوادة بوصفهم أعضاء فى أسرة ثرية. وإذ انخرطوا غالباً فى مهام تسهم فى الراحة أو الترف، فقد كانوا لايعملون بشكل زائد إلى درجة ملحوظة. أما إذا كان عملهم ذو طبيعة إنتاجية، فقد كان ينجز غالباً - فى المزارع الكبيرة - بمساعدة السيد MASTER، ومثل فقط إنتاجاً من أجل الاستهلاك العائلى، المحدود بالضرورة. كانت مقطوعية العبد محددة بشخصية سيده، وبثروة العائلة التى إنتمى إليها. لقد كان للسادة اهتمام عظيم بتحسين وضع العبيد، لأن ذلك تضمن تحسينا فى وضعهم الخاص. أضف إلى ذلك وقف العبد، عبر الاتصال الشخصى الدائم مع السيد، بدرجة أكثر أو أقل فى علاقة إنسانية مع الثانى، وربما يصبح، إذا حاز ذكاء وفطنة، لاغنى عنه بالنسبة للسيد وصديقاً إذا جاز القول. يمكن أن نجد مقاطع عند الشعراء القدامى تظهر كيف كان العبيد أحراراً مع سادتهم وبأى عاطفة نظر كل منهم للآخر. ولطالما تكرر أن أنهيت خدمات العبيد بهدية قيمة للخدمات المخلصة، وآخرون كان يمكن أن يدخروا ما يكفى لشراء حريتهم. ولكن لم تكن قلة تلك التى فضلت العبودية على الحرية، أى، فضلت الحياة كأعضاء فى عائلة ثرية على العيش الوحيد، الهزيل وغير المؤكد بعيداً عن عائلة كهذه. يقول ينتش: "يجب الا يفترض، أن الوضع القانونى للعبد، الكريه للغاية بالنسبة لنا، كان يؤخذ جدياً فى الحياة الخاصة وأن العبد لم يكن يعتبر ولم يعامل ككائن إنسانى، فحتى نهاية الحرب البونية الأولى فإن مقطوعية العبد لم تكن مؤذية. ينطبق ما قيل أيضاً على السلطة القانونية لرب العائلة على زوجته وأولاده على حقوقه إزاء عبيده، فبالرغم من أنها غير محدودة قانونا، فقد كانت معدلة بواسطة الدين، والعادة، والعقل، والعاطفة، والمصلحة الذاتية، والإنسان الذى كان يُعتبر فى نظر القانون سلعة، خاضعاً بدون دفاع للشراء ولنزوة سيده، كان يُقدر كزميل عامل مخلص فى الحقول وكرفيق فى المنزل، يمكن للمرء أن يتحدث معه بسرور جانب المدفأة بعد العمل معه خارج الأبواب" . وجدت هذه العلاقة الرفاقية ليس فقط فى مزرعة الفلاح، وانما نلاحظ أنه حتى الأمراء مازالوا يقومون بقدر من العمل فى العصر البطولى. فى الأوديسة، تقوم إبنة الملك الكينووس بالغسيل مع أَمَتِها؛ ولايتحدى الأمير أوديسيوس منافسه بدعوته إلى مبارزة، ولكن إلى منافسة فى الحصاد والحراثة، وعند عودته إلى وطنه يجد أباه يعمل فى الحديقة مستخدماً الجاروف. أضف إلى ذلك، فإن أوديسيوس وإبنة تيليماخوس هما موضوع اهتمام عاطفى من عبدهما، مربى الخنازير الخالد،، إيومايوس، المقتنع بحزم أن سيده كان سيعطيه حريته منذ زمن طويل، وايضاً مزرعة وزوجة، إذا كان سيده قد عاد فقط". كان هذا الشكل من العبودية من أشد أشكال الاستغلال المعروفة لنا اعتدالاً. ولكن تغير طابعه حين أصبح وسيلة للحصول على النقود، خاصة عندما بدأت الملكيات العقارية الكبيرة فى توظيف كثير من العمال، بعد أن انفصلت عن الاقتصاد المنزلى للسيد.
ج- العبودية فى الإنتاج السلعى من المحتمل أن المناجم كانت أول مثل هذه الملكيات. التعدين واستخراج المعادن، وخاصة المعادن النفيسة لاتناسب البتة بطبيعتها الإنتاج من أجل الاقتصاد المنزلى فقط. فبمجرد أن تحرز مثل هذه الصناعات أقل درجة من التطور، فإنها تنتج فائضاً عظيماً يتجاوز الحاجات المنزلية؛ أضف إلى ذلك أنها يمكن أن تحرز كفاية معينة فقط من خلال توظيفها عمل مجموعات كبيرة من العمال بشكل منتظم، لأن العامل لايمكن أن يحوز المهارة الضرورية والخبرة بأى طريقة أخرى، أو أن يجعل الهياكل الهندسية الضرورية مربحة. إننا نجد بالفعل حتى فى العصر الحجرى مراكز كبرى كان فيها تصنيع الأدوات الحجرية يُنفذُ ببراعة وعلى نطاق واسع، حيث كانت توزع آنئذ بواسطة المقايضة من مجموعة إلى مجموعة أو من عشيرة إلى عشيرة. يبدو أن هذه المنتجات المعدنية كانت أول السلع التجارية ومن المحتمل أنها أول ماجرى إنتاجه بنية مقايضته . بمجرد أن تطورت عملية تعدين استنادا إلى مخزون من المعادن الثمينة، وجاوزت حدود تعدين السطح الأكثر بدائية، فقد تطلبت جماعات أكبر فأكبر من العمال. ربما تجاوز بسهولة عدد العمال الأحرار الذين يمكن أن يستخدموا من مراتب العشيرة التى تملك المنجم. بيد أنه لايمكن للعمل المأجور أن يقدم دائماً فرقاً عدة من العمال، بينما يمكن للعمل الإجبارى بواسطة العبيد أو المجرمين المدانين فقط أن يؤمن العدد الضرورى من العمال. ولكن هؤلاء العبيد لم يعودوا ينتجون فقط آنية من أجل المتطلبات الشخصية المحددة لسيدهم، لقد عملوا من أجل أن يجنى نقوداً. لم يكونوا يعملون من أجل استهلاكه للكبريت، الحديد أو النحاس، الذهب أو الفضة، فى منزله، ولكن حتى يبيع المنتجات المعدنة، لتجعله حائزاً للنقود، هذه السلعة التى يمكن أن تشترى كل شئ، كل المتع، كل السلطة، والتى لايحصل منها المرء على الكثير أبداً، بقدر ما كان ممكناً انتزاع عمل العمال فى المناجم، لأنه، كلما عملوا أكثر، كلما حصل سيدهم على نقود أكثر. وقد كانوا يُطعمون ويلبسون بأردأ شكل ممكن. لأن طعامهم ولباسهم كان يجب أن يشترى، كان يجب أن يدفع مقابلة نقوداً ؛ لايستطيع العبيد فى المنجم أن ينتجوها. بينما لم يكن بمستطاع مالك مؤسسة زراعية ثرية أن يفعل شيئاً آخر بفائضه من مواد الاستهلاك غير أن يسرف على عبيده وأصدقائه من الضيوف، كانت الحالة مع الإنتاج السلعى مختلفة، كلما قل استهلاك العبيد كلما كان حاصل النقود أكثر من الصناعة. وقد أصبح وضعهم أسوأ فأسوأ عندما أصبحت الصناعة أكبر، وهكذا جرى إبعادهم أكثر فأكثر عن منزل السيد، وجرى تسكينهم فى ثكنات خاصة تناقض عريها الموحش بحدة مع ترف المنزل الأسبق. أضف إلى ذلك، توقف كل اتصال شخصى بين السيد والعبد، ليس فقط لأن الورشة قد انفصلت عن منزله، ولكن أيضاً بسبب عدد العمال الكبير. وهكذا فقد رُوى أنه فى أثينا فى زمن الحرب البيلوبينزية أن هيبونيكوس كان لديه ستمائة عبد يعملون فى مناجم تراقيا TRACIAN وألف فى نيقيا. لقد أصبح مركز العبد بلية فظيعة له؛ بينما يمكن للعامل الحر بعد كل شيء أن يجرى اختياراً معيناً من بين سادته ويمكن على الأقل فى ظل ظروف مواتية معينة أن يمارس ضغطاً معيناً على سيده بأن يرفض أن يعمل، وهكذا يقاوم أفظع الانتهاكات، فإن العبد الذى هرب من سيده أو رفض أن يعمل له ربما يُقتل عند رؤيته. لقد كان هناك سبب واحد فقط للإبقاء على العبد، السبب الذى يبقى المرء من أجله على الماشية؛ تكاليف شراء واحد جديد. لايكلف العامل المأجور شيئاً، فإذا دمره العمل فإن آخرا سيأخذ مكانه، ولكن كان يجب شراء العبد، إذا مات قبل أجله، كان سيده هو الخاسر - ولكن كان لهذا السبب تأثير أضأل فأضأل حين كان العبيد رخيصين، وقد أتت أوقات كان ثمن العبد فيها متدنياً للغاية، حين قذفت الحروب الأجنبية والمحلية بأسرى عديدين فى السوق. وهكذا ففى الحروب الرومانية الثالثة ضد مقدونيا، فإن سبعين مدينة قد نهبت فى إيبيروس EPIRUS فى عام 169 ق.م، بيع فى يوم واحد, 150000 من سكانها كعبيد. وفقاً لبوك BOCKH كان الثمن المعتاد للعبد فى أثينا يتراوح بين 100 - 200 دراخمة (20 - 40 جنيه إسترلينى). ويروى كسينوفون أن الثمن تراوح بين خمسين وألف دراخمة. يقول أبيانوس البنطى فى إحدى المناسبات بيع أسرى الحرب مقابل أربع دراخمات (مبلغ ضئيل يتجاوز 75 سنت) لكل منهم. حين بيع يوسف من إخوانه لمصر بيع بمبلغ عشرون شاقل (4.5 جنيه) فقط. كان حصان ركوب جيد أكثر تكلفة من العبد، وقد كان ثمنه فى زمن أريستوفان حوالى اثنى عشر ميناً MINAE أو حوالى 250 جنيه. ولكن نفس الحرب التى قدمت عبيداً رخيصين قد دمرت أيضاً فلاحين كثيرين. مادامت الميلشيا الفلاحية قد كونت آنئذ عماد الجيوش. فبينما كان الفلاح يشن الحرب فإن أرضه كانت تتشقق بسبب الافتقار إلى العمال. لم يكن لدى الفلاحين المدمرين مصادر أخرى غير اللجوء إلى قطع الطريق، هذا إذا لم تكن تواتيهم الفرصة لأن يذهبوا إلى مدينة مجاورة ويقتصدون فى عيشهم كحرفيين أو كجزء من البروليتاريا الرثة . هكذا أفرخ كثير من الجرائم والمجرمين الأمر الذى لم يكن معروفاً فى الأزمنة الأسبق، ووفرت مطاردة هؤلاء المجرمين عبيداً جدداً، لأن السجون لم تكن معروفة بعد، حيث أنها نتاج لنمط الإنتاج الرأسمالى. وكان يحكم على الأشخاص الذين لم يصلبوا بالعمل الإجبارى. كانت تتوافر عبر فترات معينة من ثم جموعاً من العبيد الرخيصين للغاية الذين كانت أوضاعهم بائسة. مناجم الفضة الأسبانية، وهى من بين الأكثر إنتاجية فى العصور القديمة، هى مثال ممتاز. يقول ديودورس عن هذه المناجم: "فى البداية تولى أفراد خاصين عاديين التعدين، وحصلوا من ثم على ثروة عظيمة، حيث أن خام الفضة لم يكن على عمق فى الأرض وكان موجودا بوفرة غزيرة. حين أصبح الرومان سادة أيبريا (أسبانيا)، فيما بعد انجذب عدد غفير من الإيطاليين نحو المناجم، محرزين ثروة عظيمة من خلال جشعهم لأنهم اشتروا عدداً من العبيد وسلموهم إلى مشرف المنجم.... استخرج العبيد الذين كان عليهم أن يعملوا فى هذا المناخ كميات لاتصدق من أجل سادتهم، ولكن كثيراً منهم، إذ يعملون عميقاً تحت الأرض ويجهدون أجسامهم نهاراً وليلاً فى مهاوى (المنجم) يموتون من فرط العمل. فلم يكن لهم حق استجمام أو عطلة من عملهم، ولكنهم كانوا يساقون بسياط مشرفيهم، ويتحملون أسوأ المتاعب ويشتغلون حتى الموت. إن قلة ممن تملك قوة بدنية كافية ورباطة جأش صابرة قادرة على تحمل هذه المعاملة، ولكنها تطيل من بؤسهم فقط، وهولها يجعل الموت يبدو مرغوباً أكثر بالنسبة لهم من الحياة" . ربما كانت العبودية البطريركية المنزلية هى الشكل المعتدل من الاستغلال، إلا أن العبودية فى خدمة الجشع هى بالتأكيد الأكثر بغضاً. إن الطرق التقنية للتعدين فى ظل الظروف المحددة جعلت من الضرورى تشغيل الإنتاج الكبير بالعبيد، فى المناجم. ولكن تزايد عبر مجرى الزمن الطلب على إنتاج السلع على نطاق كبير بواسطة العبيد فى فروع الصناعة الأخرى. لقد كانت هناك جماعات أكثر تميزاً بالقياس إلى جيرانها فى القوة العسكرية، وقد وجد هؤلاء الحرب مربحة لدرجة أنهم لم يتعبوا منها أبداً. لقد قدمت الحرب معيناً لاينضب من العبيد الجدد بغرض أن يُستثمروا فى عمل مربح. ولكن كانت هذه الجماعات مرتبطة دوماً بالمدن الكبرى. حين كانت مدينة كهذه، بسبب موقعها المتميز، قد أصبحت مكاناً عظيماً للتجارة، كانت التجارة فقط ستجتذب اهتمام أشخاص كثيرين، وإذا كانت المدينة كريمة فى منحها حق المواطنة للغرباء، فسرعان ما تصبح أغنى بالسكان، وفى وسائلها أيضاً، أكثر من الجماعات المجاورة الأخرى التى أخضعتها. كان نهب واستغلال الريف المحيط مصدراً إضافياً لزيادة ثروة المدينة وسكانها. وكان لمثل هذه الثروة أن تحفز الحاجة إلى عمليات بناء كبيرة، سواء كانت مجارى ذات طبيعة صحية - قنوات سحب المياه؛ أو كانت ذات طبيعة جمالية ودينية - المعابد والمسارح، أو ذات طبيعة عسكرية - الأسوار المحيطة. كان يمكن لمثل هذه الهياكل أن تبني بأفضل شكل بواسطة جمهور غفير من العبيد. ظهر المقاولون، الذين اشتروا أعداداً ضخمة من العبيد ونفذوا عدة إنشاءات للدولة بعملهم. لقد قدمت المدينة الكبيرة أيضاً سوقاً واسعاً من مواد الطعام للجماهير الغفيرة. وكان أكثر الفوائض ضخامة ينتج عن المؤسسات الزراعية التى تعمل على نطاق كبير، مع ثمن العبيد المنخفض. ممالاريب فيه، لم يكن التميز التقنى للإنتاج الكبير فى الزراعة فى هذا الوقت بأى حال حقيقة ناجزة. كانت العبودية، فى الواقع، أقل إنتاجية من عمل الفلاح الحر، ولكن مادامت لم تكن هناك حاجة لتوفير قوة عمل العبد، ويمكن سوقه إلى الموت دون أسف، فقد أنتج فائضاً زيادة وأكثر من تكاليف بقاءه مما فعل الفلاح، الذى لم يكن قد تعلم بعد أن يُقَدر بركات العمل الزائد وكان معتاداً على الحياة السهلة. أضف إلى ذلك، كان لعمل العبد ميزة، فى هذه الجماعات تحديداً، وهى أن العبد كان متحرراً من الخدمة العسكرية، بينما كان يمكن فى أى لحظة أن يؤخذ الفلاح من على المحراث بسبب واجب الدفاع عن بلاده. وهكذا، ففى النطاق الاقتصادى لمثل هذه المدن الكبرى شبة المحاربة، بدأ الإنتاج الزراعى الكبير على أيدى العبيد. وقد رفعه القرطاجنيون إلى مستوى رفيع؛ وألم به الرومان فى الحروب مع قرطاج، وحين ضموا أقاليم كبرى من منافستهم العظيمة، فقد ضموا أيضاً ممارسة الإنتاج الزراعى الكبير، الذى طوروه أكثر ووسعوه. وأخيراً، فى المدن الكبرى حيث كان هناك عبيد كثيرون يمارسون نفس التجارة، وأيضاً سوق جيد لمنتجاتهم، فقد كان من البساطة بمكان شراء عدد كبير من هؤلاء العبيد وتشغيلهم فى مشغل FACTORY عام، حتى إنهم قد ينتجون من أجل السوق مثلما يفعل العمال المأجورين اليوم. ولكن مثل هذه المانيفاكتورات العبودية أحرزت أهمية فقط فى العالم الهيلينى وليس فى الرومانى. تطور فى كل مكان، على أية حال، نوع معين من الصناعة العبودية مع الإنتاج الزراعى الكبير، بغض النظر عما إذا كان إنتاجاً كهذا مجرد زراعة تزود بأنواع معينة مثل الحبوب بطرق المصنع من أجل السوق، أو ما إذا كانت قد خدمت بصفة رئيسية الاستهلاك المنزلى للعائلة، بواسطة الاقتصاد المنزلى، ومن ثم كان عليها أن تقدم أكثر المنتجات التى احتاجها الأخير تنوعاً. العمل الزراعى له نوعيته فى أنه يتطلب عدداً كبيراً من العمال فى فصول معينة من العام فقط، بينما فى فصول أخرى - خاصة فى الشتاء - لايتطلب سوى قلة. هذه مشكلة حتى بالنسبة لمؤسسات الإنتاج الزراعى الكبيرة الحديثة؛ لقد كانت مشكلة أصعب فى ظل نظام العمل العبودى. لأن العامل المأجور يمكن أن يفصل حين لاتكون هناك حاجة إليه ويعاد تشغيله حين تكون هناك حاجة إليه. كيف يتصرف فى الفترة الفاصلة هو أمر من شأنه. من ناحية أخرى، لايستطيع الفلاح صاحب الإنتاج الكبير أن يبيع عبيده كل خريف ويشترى جدداً فى الربيع. كان سيجد مثل هذه الممارسة غاية في التكلفة، لأنه فى الخريف لن يساووا شيئاً وفى الربيع قيمة باهظة. لقد كان من ثم مضطراً أن يحاول أن يبقيهم مشغولين خلال الفترات التى لم تكن هناك فيها فلاحة. لقد كان تقليد وجود زراعة وصناعة مرتبطتان مازال قوياً، وكان الفلاح مازال يحول كتانه، وصوفه، جلده، خشبه، ومنتجات أخرى من أرضه إلى ملابس وأدوات. كان عبيد المشاريع الزراعية الكبيرة يشتغلون من ثم، خلال الزمن الذى تكون فيه الفلاحة عاطلة، فى مهام صناعية مثل النسيج ومعالجة الجلد، صنع العربات والمحاريث، إنتاج الآنية من كل الأنواع. ولكن، حين تقدم إنتاج مثل هذه السلع إلى مستوى عال، فقد صنعوها ليس فقط من أجل مؤسستهم الخاصة ومنزلهم، وانما أيضاً من أجل السوق. حين كان العبيد رخيصين، فقد كان يمكن لمنتجاتهم الصناعية أيضاً أن تكون رخيصة، حيث أن الأخيرة لم تتطلب إنفاقاً للنقود. قدم العقار، واللاتيفونديا (العزبة، الضيعة)، الغذاء والمواد الخام للعمال، وللقسم الأعظم حتى الأدوات وحيث كان ينبغى إبقاء العبيد أحياء فى أى حالة خلال الفترة التى لاحاجة لهم فيها لأعمال الفلاحة، تضمنت كل المنتجات الصناعية التى أنتجوها ما يزيد عن حاجة مؤسستهم ومنزلهم فائضاً ربما سمح بربح حتى وإن بيعت بأثمان قليلة. ليس مما يثير الدهشة أنه لم تتمكن طبقة حرفية حرة وصحيحة من التطور فى وجه هذه المنافسة من العمل العبودى. بقى الحرفيون فى العالم القديم، خاصة العالم الرومانى، بؤساء، يعملون على الأغلب وحيدين بدون صبيان، وعادة في منزل العميل، بمواد مقدمة من الأخير. إن طبقة حرفية صحية، مثل تلك التى تطورت فيما بعد فى العصور الوسطى، غائبة كلياً. بقيت الطوائف الحرفية ضعيفة، والحرفيون دائماً تحت رحمة عملاءهم، الذين كان أكثرهم من الملاك العقاريين الكبار، ووفقاً لمن هم عملائهم فقد عاشوا غالباً وجوداً طفيلياً على تخوم البروليتاريا الرثة. ولكن الإنتاج الكبير المعتمد على العمل العبودى كان قوياً فقط بما يكفي ليمنع نموا صحياً لصناعة حرة وتطوراً لتقنياتها، الذى بقى دائماً فى مستوى متدنى فى الأزمنة القديمة؛ ولكن ربما تصبح مهارة الحرفى فى مناسبة ما متطورة للغاية، وإن بقيت أدواته بائسة وبدائية. ولكن لم تكن الحالة مختلفة فى المشروعات الكبرى، هنا أيضاً للعبودية نفس الأثر الكابح على كل التطور التقنى.
د- الدونية التقنية لنظام تملك العبيد لم يتضمن الإنتاج الكبير فى الزراعة بعد نفس شرط الكفاءة العالية كما فى التعدين. مما لاشك فيه، فإن زيادة إنتاج السلع قد أنتج تقسيماً للعمل حتى فى الزراعة، حيث اتجهت كثير من المزارع إلى زراعة الحبوب بينما قام البعض الآخر بتربية الماشية، الخ. حين تطورت مؤسسة الإنتاج الكبير، أصبح من الممكن أن تدار برجال مدربين علمياً بقدرة أكبر مما للفلاح المعتاد، إننا نجد من ثم بالفعل فى هذه البلدان التى أدخلت هذا الاقتصاد الزراعى الكبير، بمعنى آخر بين القرطاجنين وفيما بعد الرومان، علم متطور تماماً للزراعة يقارب نفس المستوى الذى وجد فى الزراعة الأوربية فى القرن الثامن عشر. ولكن كان هناك افتقار للعمال الذين ربما استخدموا هذا العلم لرفع مؤسسة الإنتاج الكبير ماوراء ممارسة المؤسسة الفلاحية. حتى العامل المأجور ليس مهتماً كثيراً أو تواقاً لعمله مثل المالك العقارى الحر؛ إن تشغيل عامل مأجور مربح فقط فى الأماكن التى تكون فيها مؤسسة الإنتاج الكبير أكثر تميزاً بما لايقاس بالنسبة للمؤسسة الأصغر. ولكن العبد المستخدم فى مؤسسة إنتاج كبير، الذى لم يعد يعيش فى شروط عائلة بطريركية، هو عامل مكره، فجهوده، فى الواقع، موجهة بصفة رئيسية للإضرار بصاحب عمله. لم يكن عمل العبد يعتبر حتى فى العبودية المنزلية منتجاً مثل عمل المالك الحر، يقول أوديسيوس فى حينه: "الخدم لم يعودوا يحفزون من قبل السيد المهيب فهم يهملون على الفور ما أن يشرعوا فى القيام بالعمل الذى أعطاه لهم سيدهم. نصف كامل من فضيلة العناية الإلهية لزيوس تؤخذ من الإنسان بمجرد أن يدركه يوم القنانة!" كيف كانت الحالة أسوأ مع العبيد الذين كانوا يُعذبون يومياً فى الصميم، والذى كان موقفهم تجاه سيدهم موقف يأس وحقد. لقد كان ذلك يتطلب تميزاً كثيفاً من جانب الإنتاج الكبير على الإنتاج الصغير، حتى يحقق الأول نفس نتائج الأخير بنفس عدد العمال. ولكن الإنتاج الكبير لم يكن فقط غير متميز، وإنما كان بعدة طرق متدنياً. وجد العبيد، الذين أسيئت معاملتهم هم انفسهم، متنفساً لكل غضبهم فى معاملتهم للماشية، التى لاحاجة للقول بأنها لم تتكاثر بالمثل، فقد كان من المستحيل السماح لهم أن يستعملوا أدوات دقيقة. وقد أشار ماركس لهذا سلفاً. وهو يقول عن "الإنتاج المؤسس على العبودية". "هذا هو أحد الشروط التى تجعل الإنتاج بواسطة عمل العبيد عملية باهظة هكذا. العامل هنا، إذا استعملنا تعبيراً صارخاً عن القدماء، قابل للتمييز فقط باعتباره أداة ناطقةinstrumentum vocale من الحيوان باعتباره أداة شبه ناطقة instrumentum semi vocale وعن الأداة باعتبارها أداة صامتةinstrumentum mututum ولكنه هو نفسه يعنى بأن يدع كلا من الحيوان والأداة تشعر بأنه ليس واحداً منها، ولكنه إنسان. وهو يقنع نفسه برضى كبير، أنه كائن مختلف، بمعاملة الواحد بلا رحمة ومدمراً بحماسةcon amore الآخر. من ثم فإن المبدأ المطبق شمولياً فى طريقة الإنتاج هذه هو أن تستخدم فقط أكثر الأدوات خشونة وثقلاً وتلك التى يصعب تخريبها بسبب عدم صقلها كلية. صممت المحاريث فى الدول العبودية التى تتاخم خليج المكسيك، وحتى تاريخ الحرب الأهلية، وفق النماذج الصينية القديمة، التى كانت تقلب التربة مثل الخنزير، أو تبقي كتلة غير مستوية، بدلاً من عمل أخاديد، وهي وحدها التي كانت توجد فقط...". فى كتابه الدول العبودية الساحلية، يخبرنا أولمستد: "لقد شاهدت هنا أدوات لايوجد إنسان يمتلك حواسه، معنا، سوف يسمح لعامل، يدفع له أجوراً، أن يكون مثقلاً بها. ويمكنني أن أقرر أن الوزن الزائد والخشونة التى لها سوف تجعل العمل أكبر على الأقل بنسبة عشرة فى المائة من تلك التى تستعمل عادة لدينا. وقد جرى التأكيد لى؛ عن الطريقة اللامبالية والخشنة التى لابد وأن تستعمل بها من قبل العبيد، فأى شيء أخف أو أقل خشونة لم يكن ليزودهم باقتصاد جيد، وأن تلك الأدوات التى نعطيها دوماً عمالنا ونجد ربحنا فى إعطاءهم إياها، لن تستمر ليوم واحد فى حقل ذرة فى فرجينيا – رغم أنها أخف كثيراً وأكثر خلوا من الحجارة مما لأدواتنا. وهكذا، أيضاً، حين أسأل لماذا استُبدلت البغال بشكل شامل بالجياد فى المزرعة، أول سبب أُعطى، وباعترافهم السبب الأكثر حسماً، هو أن الجياد لايمكن أن تتحمل المعاملة التى لابد وأن تتلقاها دائماً من الزنوج؛ فسرعان ماتصاب الجياد دائماً بالعرج أو تصاب بالشلل من قبلهم، بينما تتحمل البغال الضرب، أو فقد وجبة أو وجبتين بين الحين والآخر، ولن تصاب مادياً، وهى لاتصاب بالبرد أو المرض؛ إذا أهملت، أو ضوعف لها العمل. ولكن لا أحتاج إلى أن اذهب أبعد من نافذة الغرفة التى أكتب منها، حتى أرى تقريباً فى أى وقت، معاملة للماشية سوف تضمن الفصل الفورى لأى سائق من قبل أى مزارع يملكها فى الشمال" . غير ذكى، عابس، حقود، متطلع إلى فرصة يُضير فيها المُعذب المكروه، حينما سنحت الفرصة، أنتج عمل العبد فى اللاتيفونديا أقل كثيراً من مزرعة الفلاح. أشار بلينى قبلاً، فى القرن الأول من عصرنا، إلى كيف كانت حقول إيطاليا مثمرة حينما كان الفلاح لم يحتقر بعد أن يفلحها بنفسه، وكيف أصبحت أمنا الأرض حين سُمح للعبيد المغلولين والموسومين أن يسيئوا معاملتها. ربما يتأتى عن هذا النوع من الفلاحة فى ظل ظروف معينة فائضاً أعظم من مزرعة الفلاح، ويمكن على أى حال أن يُبقى أناساً كثيرين فى رفاهية. على أية حال، مادامت حالة الحرب قد استمرت، وهو ما ازعجت به روما كل العالم الذى أحاط بالبحر الأبيض المتوسط، فإن امتداد عملية الفلاح استمرت أيضاً، ولكن جنباً إلى جنب معه ساد تدهور الاقتصاد الفلاحى المضطهد منه، مادامت الحروب قد قدمت غنيمة ثرية للملاك العقاريين الكبار الذين كانوا يشنوها، إضافة إلى أرض جديدة وأعداد غير متناهية من العبيد الرخيصين. وهكذا فإننا نجد فى روما عملية اقتصادية تحمل تشابها صارخا مع تلك التى تجرى فى الأزمنة الحديثة: تدهور الصناعة الصغيرة، تقدم الإنتاج الكبير، ومازالت هناك زيادة أعظم للملكيات العقارية الكبيرة، اللاتيفونديا، التى جردت الفلاح من ملكيته، وحينما لايستطيعون أن يستبدلوه بواسطة طرق الزراعة أو أى إنتاج آخر كبير، يختزلوه على الأقل من مالك حر إلى مستأجر مستقل. يقتبس بولمان PÖ-;---;-----;---HLMANN فى مؤلفه تاريخ الشيوعية والاشتراكية القديمة، من ضمن أشياء أخرى "نُواح الفقير ضد الغنى" من المجموعة الكانتيلية المنحولة للخطب، التى وصف فيها نمو اللاتيفونديا بشكل ممتاز. إنه تفجع فلاح معدم، الذى ينوح قائلاً: " لم أكن دائماً جاراً لرجل غنى. كل من هم حولى كانوا ذات مرة فى مزارع عديدة فلاحين مستقلين، متساوين فى الغنى، الذين فلحوا أرضهم المتواضعة فى جيرة مسالمة. كيف اختلف الحال الآن ! الأرض التى أطعمت ذات مرة كل هؤلاء المواطنين هى الآن مزرعة واحدة كبرى، تخص رجلاً غنياً واحداً. لقد توسعت أملاكه فى كل الاتجاهات؛ منازل الفلاحين التى التهمها قد سويت بالأرض ودمرت تماثيل آلهة الأسلاف. كان على الملاك السابقين أن يودعوا آلهتهم الحامية لبيت أسلافهم وأن ينطلقوا إلى مناطق أجنبية مع زوجاتهم وأطفالهم. إن تماثلاً عظيماً للعمل يهيمن على نطاق واسع. تطوقنى الثروة فى كل مكان مثل جدار. هنا حديقة الغنى، وهناك حقوله، هنا كرومه، وهناك غاباته ومراعيه. أنا أيضاً كنت لأرحل بسرور ولكنى لم أجد بقعة واحدة من الأرض لن يكون لى فيها جيران أغنياء. لأنه أين نجد الأملاك الخاصة للأثرياء؟ إنهم لم يعودوا راضين عن توسيع ممتلكاتهم إلا أن يقابلوا حداً طبيعياً، كما تفعل الأمم، فى شكل نهر أو جبل، وهم يستولون على أكثر قفار الجبل والغابات بعداً. ولايواجه هذا التوسع فى أى مكان أى حد، أى حاجز، عدا حين تلتقى أرض غنى بأرض غنى آخر. وعنصر آخر فى الاحتقار الذى يوليه هؤلاء الأثرياء لنا نحن الفقراء، أنهم لايعتبرون أن مما له قيمة أن ينكروا أفعالهم إذا أدينوا بأى انتهاك للحقوق". (تاريخ الشيوعية والإشتراكية القديمة، المجلد الثانى، الصفحتان 582، 583). يعتبر بولمان ماسبق تشخيصاً للاتجاهات "الخاصة برأسمالية متطرفة بشكل عام" ولكن تشابه هذا التطور مع التطور الخاص بالرأسمالية الحديثة وتركيزها للثروة الرأسمالية هو تشابه زائف فحسب ومن المضلل للغاية أن نقارن الإثنين. إن من يدرس الموضوع على نحو أكثر عمقاً سوف يجد بالأحرى تعارضاً حاداً بين التطورين. قبل كل شئ، فى حقيقة أن هذا الاتجاه للتركيز، وسعى المشروعات الأكبر لأن تحل محل الأصغر، وكذلك الاندفاع للاستقلال المتزايد للمشروعات الأصغر عن حائزى الثروات الكبيرة يجرى فى الوقت الحاضر بصفة رئيسية فى الصناعة وبدرجة أقل كثيراً فى الزراعة، بينما فى الأزمنة القديمة، كان الحال عكس ذلك تماماً. أضف إلى ذلك، فإن إخضاع المشاريع الصغيرة من قبل الأكبر يجرى اليوم فى شكل منافسة، حيث تمكن الإنتاجية الأكبر للمؤسسة العاملة بآلات ومنشآت ضخمة أن يكون لها فعاليتها الكاملة. اتخذ الإخضاع فى العصور القديمة، شكل إضعاف الفلاحين الأحرار، المضطهدين بالخدمة العسكرية وبرخص أكبر لقوة العمل التى فى متناول حائزى مصادر النقود الكبرى فى شكل إمداد كثيف بالعبيد. وأخيراً بسبب الربا، الذى سوف نتكلم عنه لاحقاً. كل منها عوامل خفضت إنتاجية العمل بدلاً من رفعه. كانت الشروط الضرورية لتطوير واستعمال الآلات مفتقدة فى العصور القديمة كما أنه لم تكن قد تطورت بعد طبقة حرفيين أحرار إلى مستوى عال يمكنها من أن تقدم كميات ضخمة من العمل الماهر الحر، مستعدة لتأجير نفسها بشكل دائم لقاء أجر، باعداد كبيرة، أي عمال يُطلبون لإنتاج الآلات وتشغيلها. ومن ثم فإن الحافز الضرورى للمفكرين والباحثين لاختراع الآلات كان أيضاً مفتقداً، مادامت هذه الآلات كانت ستبقى دون فائدة عملية. على أية حال، إذا ما اخترعت الآلات، ذات الصلاحية للاستخدام الناجح فى الإنتاج، وبمجرد أن يظهر عدد من العمال الأحرار، التائقين للتوظف فى الإنتاج واستخدام هذه الآلات، تصبح الآلة واحداً من أكثر الأسلحة أهمية فى المنافسة بين أصحاب المشاريع أنفسهم. النتيجة سعى ثابت نحو الكمال وحجم متزايد للآلة، زيادة إنتاجية العمل، زيادة الفائض فوق الأجر المدفوع للعامل، وأيضاً ضرورة اختزان أو مراكمة قسم من هذا الفائض بغرض التزود بآلات جديدة أفضل، وأخيراً أيضاً زيادة ضرورة توسيع السوق دوماً، مادامت الآلات المحسنة تستمر فى تقديم منتجات أكثر فأكثر يجب التخلص منها. ويقود هذا إلى زيادة غير متقطعة للرأسمال حتى أن إنتاج وسائل الإنتاج يفترض دوراً متزايد الأهمية فى نظام الإنتاج الرأسمالى، انتهاءاً إلى أن الأخير، من أجل أن يتصرف بربحية فى أدوات الاستهلاك المتزايدة التى خلقت متزامنة مع وسائل الإنتاج المتزايدة، يجب أن يبحث أكثر فأكثر عن أسواق جديدة، حتى يمكن أن يقال أنه فى مجرى قرن واحد، أى القرن التاسع عشر، قد غزا العالم كله. كان مجرى الأحداث مختلفاً تماماً فى العصور القديمة. لقد رأينا أن العبيد الذين اشتغلوا فى المؤسسات الكبرى يمكن أن يزودوا فقط بأكثر الأدوات خشونة، حتى يمكن أن يشتغل أكثر العمال غباوة وفظاظة، ومن ثم كان الرخص البالغ لمادة العبد فقط هو الذى جعل مؤسسة الإنتاج الكبير مربحة بشكل معقول. لقد أثار هذا بين أصحاب مشاريع مؤسسات الإنتاج الكبير ميلاً ثابتاً نحو الحرب، بوصفها أكثر الوسائل فعالية للحصول على عبيد رخيصين، ونحو توسع مستمر للحدود القومية. أصبح هذا الميل بداية بالحرب ضد قرطاجنة، واحداً من أعتى القوى المحركة للسياسة الرومانية فى الغزو، التى أخضعت فى مجرى قرنين كل البلدان المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط، وفى زمن المسيح، بعد أن وضعت الغال – التى هى فرنسا الآن - تحت النير كانت تستعد لإخضاع المانيا، التى قدم سكانها الأشداء مثل هؤلاء العبيد الممتازين. جعل هذا الميل الثابت النهم لزيادة المناطق المستغلة مشروع الإنتاج الكبير القديم مشابهاً إلى حد ما لمشاريع زمننا الحديث، ولكن كان هناك مع ذلك اختلافا كبيراً فى الطريقة التى طُبقَ بها إنتاج المنتجات الفائضة بواسطة الجموع المتزايدة من العبيد. على الرأسمالى الحديث، كما رأينا، أن يوفر أرباحه إلى حد بعيد، من أجل أن يُحسن ويُوسع مشروعه، إذا لم يكن يرغب فى أن يستولى عليه ويهزمه منافسوه. لم يشعر مالك العبيد القديم بحاجة كهذه. لم يكن الأساس التقنى الذى ارتكز عليه إنتاجه أعلى، وبالأحرى كان أدنى من أساس الفلاحين الصغار الذين كان يخرجهم عنوة. لم يكن هذا الأساس التقنى يُثَور ويُوسَع دائماً، ولكنه بقى دائماً نفس الشيء. كانت كل المنتجات الفائضة التى تجاوزت التكاليف التى أنفقت، وإحلال أو تلف الأدوات، الماشية والعبيد، فى متناول مالك العبيد من أجل متعته، حتى وان لم يكن مسرفاً. مما لاريب فيه فإن النقود يمكن أن تستثمر فى التجارة والربا أو بقعاً جديدة من الأرض، ويمكن أن تصبح هكذا مصدراً لربح متزايد، ولكن حتى هذا الربح الجديد لايمكن أن يستثمر فى غرض آخر سوى المتعة. إن تراكم رأس المال لأغراض إنتاج وسائل إنتاج جديدة ماوراء الكمية المحددة سوف يكون مثيراً للسخرية، لأن وسائل الإنتاج الجديدة هذه ربما لاتكون قد وظفت فى تطبيق جديد. كلما حلت اللاتيفونديا أكثر مكان الفلاحين، كلما تعاظمت كميات الأراضى والعبيد التى تجمعت تحت إطار ملكية واحدة، وكلما أصبح الفائض أعظم، زادت الكنوز التى كانت فى متناول الأشخاص الفرديين، والتى لايمكن للأخيرين أن يوظفوها فى غرض آخر غير استهلاكها لمسرتهم الخاصة. بينما يتسم الرأسمالى الحديث بميله لمراكمة رأس المال، تميز الأرستقراطى الرومانى فى الفترة الإمبراطورية بملاحقته للمتعة: لقد نشأت المسيحية فى هذه الفترة. لقد راكم الرأسماليون الحديثون رأسمالاً يجعل ثروة أغنى مواطن من روما القديمة مثاراً للسخرية بالمقارنة. ان نموذج ثراء الرومان القدماء كان نارسيس، عبد نيرون المحرر، الذى كانت لديه ثروة نافت على 20000000 مليون جنيه إسترلينى ولكن ماهى 20000000 مليون جنيه إسترلينى مقارنة بـ 1000000000 التى قيل أن السيد روكفلر يملكها؟ ولكن التبذير الذى يمارسه الأمريكيون ذوى الملايين لايمكن أن يقارن، بالرغم من كل جنونه، بتبذير أسلافهم الرومانيين الذين قدموا ألسنة طيور العندليب فى مآدبهم وأذابوا لآلئ ثمينة فى الخل. تزايد مع نمو الترف عدد العبيد المنزليين المستخدم فى الخدمة الشخصية أيضاً، وبات أكثر حين أصبحت مادة العبد أرخص. يقول هوراس فى واحدة من هجائياته إن أصغر عدد من العبيد يمكن لرجل أن يحتفظ به حتى يصبح مستريحاً نوعاً ما لا يقل عن عشرة. ربما يصل عددهم فى مؤسسة ارستقراطية إلى الآف. بينما وُضع البرابرة فى المناجم وفى المزارع الكبرى، فقد كان الأكثر دربة هم العبيد الأغارقة خاصة، مع "عائلات المدينة"، بمعنى آخر، فقد عاشوا فى منزل يقع في المدينة. ليس فقط الطهاة، والكتاب SCRIBES، والموسيقيون، والمربون، والممثلون، وإنما حتى أطباء وفلاسفة كانوا يعتبرون عبيداً. تعارض وضع العبيد الذين خدموا فى زيادة ثروة المالك، مع وضع أغلب هؤلاء العبيد المتعلمين الذين كان لديهم عمل قليل يقومون به. كان العدد الأعظم منهم الآن عاطلين عظماء مثل سادتهم أنفسهم. ولكن الشرطين اللذين خدما سابقاً فى الإسهام فى معاملة حسنة لعبد العائلة اختفيا الآن: وهما ثمنه المرتفع، الذى جعل من الضرورى الإبقاء عليه، والعلاقة الرفاقية مع سيده، الذى عمل العبد معه. الآن، على ضوء الثروة الكبيرة للسيد ورخص العبيد، لم يشعر أحد بأدنى التزام لأن يُبقى على الأخيرين. أضف إلى ذلك، توقفت كل علاقة شخصية مع السيد بالنسبة للجمهرة العظمى من العبيد المنزليين؛ لقد عرفهم السيد بالكاد. وإذا جرى اتصال شخصى بين السيد والعبد، فلم يكن بشأن عملهم، الذى كان مصدر احترام متبادل، وإنما فى العربدة والرذائل، التى تنتجها العطالة والغطرسة التى ألهمت السادة والخدم باحتقار متبادل. رغم أنهم عاطلون، وغالباً مدللون، فقد كان عبيد المنزل معرضون لكل رداءة طبع بدون إمكانية دفاع، ولكل إنفجار غاضب، الذى حمل لهم غالبا مصائر خطرة. إن التصرف القاسى (الذى قام به) فيديوس بوليو معروف جيدا: لقد كسر العبد آنية مصنوعة من الكريستال، وبسبب هذا الخطأ أمر بوليو أن يلقى به كطعام لسمك متوحش MURDENAE، كان يبقيه فى بركة، لأن أسماك الإنفليس هذه كانت تقدر آنذاك كطعام شهى. لقد عنت الزيادة فى عدد هؤلاء العبيد المنزليين زيادة فى عدد العناصر غير المنتجة فى المجتمع، الذين تزايدت جموعهم بالمثل بنمو البروليتاريا الرثة، التى جُندت جزئياً من الفلاحين المحررين. وجرت هذه العملية بينما كان طرد العمل الحر من قبل عمل العبيد يُنقص فى نفس الوقت لحد بعيد إنتاجية العمل فى عديد من المهن المنتجة. ولكن كلما كان عدد أعضاء العائلة اكبر، أصبح من السهل أن تجهز المنتجات لاستهلاك المنزل من قبل عماله، منتجات كان أصغر منزل مضطراً لشراءها، مثل أردية معينة وأوعية. أدى هذا إلى تطور مجدد للإنتاج من أجل الاستهلاك المنزلى داخل العائلة. ولكن هذا الشكل الأخير من الاقتصاد العائلى للأثرياء لايجب أن يخلط مع الاقتصاد العائلى البدائى البسيط، الذى كان مؤسساً تقريباً على غياب الإنتاج الجماعى، والذى أنتج هو نفسه تحديداً أكثر المواد أهمية والتى لاغنى عنها من بين حاجاته، شارياً فقط أدوات ومواد الترف. كان هذا الشكل الثانى من الإنتاج للاستهلاك المنزلى ضمن العائلة ـ كما صادفناه فى نهاية الجمهورية الرومانية والفترة الإمبراطورية، فى منازل الأغنياء ـ مؤسساً تحديداً على الإنتاج الجماعى، على إنتاج المناجم واللاتيفونديا من أجل السوق: كان هذا الإنتاج المنزلى أولاً وبصفة رئيسية إنتاجاً لمواد الترف. كان هذا التطور الجديد للإنتاج من أجل الاستهلاك المنزلى خطراً على الحرفى الحر، حيث كانت المشاريع الصناعية فى المدن واللاتيفونديا، التى نهض بها العبيد، تسبب له مايكفى من الأضرار. لقد كان من المحتم أن تتناقص طبقة الحرفيين الأحرار نسبياً، وبمعنى آخر، إن عدد العمال الأحرار لم يكن الا ليهبط مقارنة بعدد العبيد، حتى فى العمل الحرفى. ولكن فى عدد من التجارات ربما مازال عدد العمال الأحرار يتزايدون فى العدد بشكل مطلق، بفضل زيادة التبذير، التى خلقت طلباً متزايداً على موضوعات الفن وعلى الصناعات الفنية، بل أيضاً على مجرد مواد تافهة، مثل أدوات التجميل والدهانات العطرية. إن من يحكم على رفاهية مجتمع بواسطة مثل هذا التبذير، ويتخذ نفس الموقف ضيق الأفق كذلك الذى زعمه القياصرة الرومان والملاك العقاريون الكبار وبطانتهم من الحاشية، والفنانين، والأدباء LITERATI، سوف يغالي في تقدير الظروف الاجتماعية فى فترة الإمبراطور أغسطس ويصفها بأنها ممتازة. لقد كانت الثروة اللامحدودة تتراكم فى روما من أجل غرض وحيد هو خدمة المسرة الشخصية، وترنح المسرفون الأثرياء الباحثين عن المتع، من مأدبة إلى مأدبة ناثرين بأيد مبذرة الوفرة التى كان من المستحيل عليهم أن يستهلكوها كلها بأنفسهم. تلقى كثير من الفنانين والباحثين عطايا من النقود غاية فى الكرم من MOECENATES، وشيدت هياكل كبرى، اتسمت بالحجم الهائل والنسب الفنية التى هى موضوع إعجابنا حتى اليوم، بدا العالم كله وكأنه يعرق ثروة من كل مسامه - ومع ذلك فإن هذا المجتمع كان قد حكم عليه بالدمار سلفاً.
د - التدهور الاقتصادى إن نذيراً بحقيقة أن الأحوال كانت فى مسار هابط ظهرت بالأحرى فى وقت مبكر داخل الطبقة الحاكمة؛ نائين إذا جاز القول عن كل الأنشطة، فإن عملهم بما فيه ذلك المتعلق بالدراسة والسياسة، كان يقوم به العبيد. خدم عمل العبد فى بلاد الإغريق، أولاً هدف منح وقت فراغ كبير للسادة، ولإدارة الدولة، وللتأمل الذى يتعلق بأكثر مشاكل الحياة أهمية. ولكن كلما تزايدت المنتجات الفائضة التى كانت متمركزة فى أيدى أفراد معينين بتركيز الملكية العقارية، وتوسع اللاتيفونديا، وتزايد جمهرة العبيد، كلما أصبح الميل أعظم لاعتبار ممارسة الاستمتاع، فى تبديد تلك الفوائض، كأنه أكثر الوظائف الاجتماعية للطبقات الحاكمة أرستقراطية، وكلما تحرقوا أكثر بحماس المنافسة للتبذير، المنافسة فى أن يبز الواحد الآخر فى الأبهة، والترف، والعطالة. أنجزت هذه العملية فى روما بشكل أكثر سهولة منها فى بلاد الإغريق، مادام البلد الأخير كان متخلفاً إلى حد ما فى مستواه الثقافى حين بلغ هذا النمط من الإنتاج. لقد توسعت القوة العسكرية الإغريقية بصفة رئيسية على حساب القبائل البربرية، بينما واجهت فى آسيا الصغرى ومصر معارضة قوية بالفعل. كان عبيدهم برابرة فلم يكن بمستطاع الإغريق أن يتعلموا منهم شيئاً، كما لم يستطيعوا أن يعهدوا إليهم بإدارة الدولة. والثروة التى كان من الممكن اقتطاعها من البرابرة كانت بالمقارنة ضئيلة. انتشر الحكم الرومانى من ناحية أخرى، بسرعة فى المواقع القديمة للحضارة فى الشرق، بعيداً حتى بابل (أوسلوقيا): لم يستخرج الرومان من هذه الولايات المغزوة حديثاً ثروة هائلة فقط، وإنما كثيراً من العبيد الذين كانوا أرفع قياساً بسادتهم فى المعرفة، حيث كان على الأخيرين أن يتعلموا منهم الكثير، وأمكن أن يعهدوا إليهم بإدارة الدولة. خلف مدبرى الدولة، الذين كانوا سابقاً أرستقراطيين ملاك أرض كبار، أكثر فأكثر فى الفترة الإمبراطورية عبيد البيت الملكى وعبيد الإمبراطور السابقين، المعتقين الذى بقوا مخلصين لسادتهم السابقين. كانت المتعة هى الوظيفة الوحيدة فى المجتمع التى بقيت لملاك اللاتيفونديا ولحاشيتهم الكبيرة من الطفيليين. ولكن الإنسان لا يستجيب لمثير يستمر فى التأثير فيه لفترة طويلة، للذة كما للألم، للدوافع الشهوانية وللخوف من الموت. إن مجرد اللذة المتواصلة، التى لايخمدها العمل، أنتجت فى البداية سعياً دائماً لمتع جديدة، التى استهدف منها أن تفوق التجارب الأسبق، لهمز الأعصاب المنهكة من جديد، الأمر الذى قاد إلى أكثر الرذائل مخالفة للطبيعة، والى أكثر القساوات إتقاناً، والذى رفع التبذير إلى أكثر الذرى علوا وعبثية. ولكن هناك حد لكل شيء، واذا ماوصل الفرد إلى نقطة لم يعد فيها قادراً بعد على زيادة ملذاته، إما من خلال الافتقار للمصادر، أو القوة، أو نتيجة لإفلاس مالى أو مادى، فقد كانت تعاينه أشد أنواع الغثيان حدة، مع بغض شديد لمجرد فكرة اللذة، وحتى مع اشمئزاز كامل من الحياة، بدت كل الأفكار والصور الأرضية الآن تافهة - VANITAS , VANITATUM , VANITAS. اليأس، الرغبة فى الموت، كانت النتيجة، ولكن تجذرت أيضاً الرغبة فى حياة أرقى جديدة. كانت هناك كراهية متأصلة للعمل فى عقول كثيرة، على أى حال، حتى أن هذه الحياة الجديدة المثالية لم تكن تُتصور كحياة عمل مبهج، وإنما كحالة ساكنة تماماً من النعيم، استخلصت كل مسراتها من انفصالها الكامل عن الآلام وتحررها من وهم الحاجات والمتع المادية. ولكن ظهر أيضاً بين أفضل أفراد الطبقة المستغلة شعور بالعار استنادا إلى حقيقة أن لذتهم كانت قائمة على تدمير عدد من الفلاحين الأحرار، وعلى سوء معاملة آلاف العبيد فى المناجم واللاتيفونديا. أيقظ وخز ضميرهم أيضاً إحساساً بالتعاطف مع العبيد – الذي كان يتناقض بشكل غريب مع القسوة الفظة التى كان ينظر بها لحياة العبيد - إننا فى حاجة إلى أن نشير عرضاً فقط إلى قتال المصارعين. أخيراً أثار الضمير المريض أيضاً كراهية نحو شهوة الذهب، والنقود، التى كانت تحكم العالم فى هذا الزمن. يصرخ بلينى فى الكتاب الثالث والثلاثون من التاريخ الطبيعى " نحن نعرف أن سبارتاكوس (قائد انتفاضة العبيد) منع أى شخص فى معسكره من أن يقتنى ذهباً أو فضة. لأى مدى يفوقنا عبيدنا الهاربون فى عظمة العقل ! يكتب الخطيب ميسالا أن تريمفير أنطونيوس قد استخدم الآنية الذهبية لحاجاته الجسدية الدنيا.... أنطونيوس، الذى حط من الذهب إلى هذا الحد، وجعله أدنى شيء فى الطبيعة، كان يستحق أن يعلن خارجاً على القانون. ولكن سبارتاكوس فقط هو الذى كان يمكن أن يجعله "خارجاً على القانون ". أسفل تحت، فى ظل هذه الطبقة الحاكمة، التى كان جزء فيها يُدمر نفسه بسعى مجنون الى المتعة، والشهوة للنقود والقسوة، وكان جزء آخر مملوءاً بالتعاطف مع الفقير، ومع كراهية الذهب والملذات، وحتى مع الرغبة فى الموت، توسع هناك جمع كثيف من العبيد الكادحين، الذين كانوا يعاملون بقسوة أشد من حيوانات حمل الأثقال، جُندوا من أشد القبائل تنوعاً، خُلعوا وأُفسدوا بإساءة المعاملة الدائمة، بالعمل جماعات مقيدة بالسلاسل تحت قرقعات السوط، مملوئين بحنق عنيد، وبالرغبة فى الانتقام، واليأس، مستعدون دائماً لانتفاضة عنيفة، ولكن غير قادرين - بسبب تخلف العناصر البربرية التى شكلت أغلبيتهم - عن الإطاحة بمؤسسة نظام الدولة العاتى وإقامة نظام جديد، بالرغم من أن شخصيات بارزة مفردة بينهم ربما تابعت مثل هذه المطامح. لم يكن النوع الوحيد من التحرر الذى ربما نجحوا فى إحرازه يرتبط بالإطاحة بالمجتمع القائم، وإنما بالهروب من ذلك المجتمع، بالفرار إما للفئات الإجرامية، إلى قطاع الطرق، الذين كان عددهم يتضخم باستمرار، أو بالهرب بتخطى الحدود الإمبراطورية واللحاق بأعداء الإمبراطورية. كانت هناك إلى حد مافوق هذه الملايين الأكثر بؤساً من كل البشر طبقة من العبيد تحتوى على عدة مئات من الآلاف، التى عاشت غالباً فى ترف ووفرة، وشهدت دائماً وعانت من العواطف الأكثر عنفاً وغلواً، التى خدمت كملحق فى كل شكل للفساد يمكن تخيله، صائرين إما خاضعين للفساد أنفسهم ومن ثم فاسدين تماماً مثلهم مثل سادتهم، أو - مرة أخرى يشبهون بعض سادتهم، وغالباً أبكر فى اللعبة من الآخرين، مادام كان عليهم أن يعانوا من شرور حياة اللذة بشكل أسرع للغاية - مشمئزون بعمق من الفساد، والبحث عن اللذة وحدها، ومليئين بتوق إلى حياة جديدة، أنقى، وأعلى. وجنباً إلى جنب مع كل هذا كانت هناك أيضاً حشود من مئات آلاف المواطنين المحررين والعبيد المعتقين، وايضاً بقايا عديدة مفقرة من الطبقة الفلاحية، حائزين متدهورين، حرفيين حضريين بائسين وحمالى أثقال، وكذلك، أخيراً، البروليتاريا الرثة فى المدن الكبيرة، لديها الطاقة والثقة فى الذات الخاصة بالمواطن المحرر ومع ذلك فقد أصبحت غير ضرورية اقتصادياً فى المجتمع، مشردة، بدون إحساس بالأمان، تعتمد بشكل مطلق على الفتات الذى يلقيه لها السادة الكبار فائضاً عن حاجاتهم، مدفوعين إما بالكرم أو الخوف، أو بالرغبة فى السلام. حين يصور إنجيل القديس متى يسوع قائلاً عن نفسه: "للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار. وأما ابن الإنسان فليس له أين يسند رأسه " (الإصحاح الثامن، 20) فهذا يعبر فحسب فى حالة يسوع عن فكرة كان قد عبر عنها طيباريوس جراكوس قبل 130 عاماً من ميلاد المسيح لكل بروليتاريا روما: "للوحوش فى إيطاليا كهوفها وأوجرتها التى تستريح فيها ولكن الرجال الذين يناضلون ويموتون من أجل عظمة إيطاليا لايملكون شيئاً سوى النور والهواء لأنه لايمكن سلبهم إياها. فهم مشردون بلا مأوى يتجولون مع زوجاتهم وأطفالهم". البؤس وعدم الأمان الدائم لوجودهم لابد وأن أحنقهم أكثر مع الوقاحة المتزايدة والترف الذى كانت ثروة العظماء تضعه دوماً أمام أعينهم. تَوَلَّد من ذلك حقد طبقى عنيف عند الفقراء ضد الأغنياء، ولكن هذا الحقد الطبقى كان من نوع مختلف تماماً عن ذلك الذى تعاينه البرولتياريا الحديثة. كل مجتمع اليوم مؤسس على عمل البروليتارى. عليه أن يتوقف عن العمل فقط حتى يتزلزل المجتمع من أساسه. لم يقم البروليتارى القديم المتشرد بعمل وحتى العمل الذى قام به بقاياً الفلاحين الأحرار والحرفيين لم يكن ضرورياً. لم يعش المجتمع على حساب البروليتاريا فى هذا الزمن، لقد عاشت البروليتاريا على حساب المجتمع. لقد كانت البروليتاريا نافلة تماماً وكان لها أن تختفى كلية دون أن تضر المجتمع. على النقيض من ذلك كان بإمكان اختفاء البروليتاريا فحسب أن يجعل النظام أكثر أمناً. كان عمل العبيد هو الأساس الذى بنى عليه المجتمع. تحارب اليوم المتناقضات بين الرأسمالى والبروليتارى فى المصنع، فى الورشة، والسؤال هو: من سيسيطر على المنتجات، مالك وسائل الإنتاج، أم مالك قوة العمل ؟ يتضمن الصراع كامل نظام الإنتاج؛ انه نضال من أجل إحلال نمط إنتاج أرقى محل القائم الآن. لم يكن البروليتارى القديم المفقر معنياً بهذا النضال. والحقيقة، أنه لم يكن يعمل ولم يرد أن يعمل. كل ماأراده هو نصيب فى متع الأغنياء، توزيع مختلف للملذات، وليس وسائل الإنتاج، نهب الغنى، وليس تغيير نمط الإنتاج. لم تؤثر معاناة العبيد فى المناجم والمزارع فيه كما أثرت معاناة الحيوانات العامة. الأقل إمكاناً أن يفكر الفلاحون والحرفيون فى محاولة إقامة نمط جديد أرقى. لاتطمح هذه الطبقات لأى شيء كهذا حتى الآن. لقد كان حلمها فى أفضل الأحوال استعادة الماضى، ولكنها كانت مرتبطة بوثوق بالبروليتاريا الرثة، وكانت طموحات الأخيرة مغرية بالنسبة لهم، حتى أنهم أيضاً لم تكن لديهم رغبة أو طموح أكثر مما لهؤلاء البروليتاريون المفقرون: حياة بلا عمل، تعاش على حساب الغنى، شيوعية بواسطة نهب الغنى. ربما يعرض المجتمع الرومانى فى نهاية الجمهورية وخلال الفترة الإمبراطورية، من ثم، متناقضات اجتماعية هائلة، كثير من الحقد الطبقى وكثير من الصراعات الطبقية، انتفاضات وحروب أهلية، نزوع لا حدود له لحياة مختلفة، أفضل، وإلغاء النظام القائم للمجتمع، ولكن لايظهر أن هناك أى جُهد قد بذل فى اتجاه إدخال نمط إنتاج جديد أرقى . لم تكن المتطلبات الأخلاقية والثقافية لحركة كهذه قائمة، فلم تملك أى طبقة المعرفة، والطاقة، والفرح بالعمل والإيثار المتطلبة لممارسة ضغط فعال فى اتجاه نمط إنتاج جديد، وأيضاً، كانت المتطلبات المادية غائبة، وبدونها لم تكن لتظهر فكرة مثل هذا الشيء. لقد رأينا عاليه أن الاقتصاد العبودى لم يتضمن من الناحية التقنية تقدماً وإنما تقهقرا، ذلك أنه لم يُخنث السادة فقط وجعلهم غير ملائمين للعمل، وأنه لم يفعل غير زيادة عدد العمال غير المنتجين فى المجتمع، ولكن إضافة إلى ذلك خَفَّض إنتاجية العمال المنتجين وأعاق التقدم فى التقنية العملية – ويمكن ان نستثني تجارات ترف معينة. إن من يقارن نمط الإنتاج الجديد مع النمط الذى يخص طبقة الفلاحين الأحرار الذى أزاحه واضطهده، لا يمكن الإ أن ينظر إليه باعتباره تدهوراً، وعلى وجه اليقين ليس تقدماً. بدأ الناس يشعرون أن الأزمنة القديمة كانت الأزمنة الأفضل، العصر الذهبى، وكل حقبة لاحقة كانت نسبياً انحطاطا. يتسم العصر الرأسمالى بفكرة التقدم اللانهائى للبشرية، بسبب جهد الرأسمالية الدائم لتحسين وسائل الإنتاج، وهو يسفر عن ميل للنظر إلى الماضى فى ألوان داكنة، وأن يرى فقط المستقبل وردياً؛ ولكن فى الفترة الإمبراطورية الرومانية فإننا نجد وجهة نظر معاكسة، أى، أن هناك تدهوراً متلاحقاً لايتوقف للبشرية، ونزوع دائم لاستعادة الأزمنة القديمة الطيبة. حينما كانت الإصلاحات الاجتماعية والمثل الاجتماعية فى الأيام الإمبراطورية معنية تماماً بتحسين شروط الإنتاج، فقد استهدفت فقط استعادة نمط الإنتاج القديم، أى، نمط إنتاج الفلاحين الأحرار، هكذا بحق، لأن هذا النمط من الإنتاج كان أرقى نسبياً. لقد أدى العمل العبودى لطريق مسدود. على المجتمع أن يوضع مرة أخرى على قاعدة العمل الفلاحى قبل أن يستطيع البدء فى صعود جديد. ولكن كانت الحضارة الرومانية عاجزة عن أن تأخذ حتى هذه الخطوة، لأنها فقدت الفلاحين اللازمين. لقد كان من الضرورى لهجرة الأمم أن تلقى بكتل كبيرة من الفلاحين الأحرار داخل الإمبراطورية الرومانية قبل أن تستطيع مرة أخرى بقايا الحضارة التى كانت تلك الإمبراطورية قد خلقتها أن تستخدم كأساس اجتماعى جديد. مثل كل نمط إنتاج قائم على العداء المتبادل، كان الاقتصاد العبودى القديم يحفر قبره. كان هذا الاقتصاد فى الشكل الذى أحرزه فى النهاية فى الإمبراطورية الرومانية، مؤسساً على الحرب. فقط حروب منتصرة لاتتوقف، إخضاع متواصل لأمم جديدة، وتوسع متصل للنطاق الإمبراطورى يمكن أن تقدم كميات هائلة من مادة العبيد الرخيصين الذي احتاج إليها. ولكن الحرب لايمكن أن تشن بلا جنود وكانت أفضل مادة للجنود هى الفلاح. المعتاد على العمل الشاق المتصل فى الهواء الطلق، فى القيظ والبرد، تحت الشمس المحرقة وفى المطر المنهمر، استطاع أن يتحمل أشد المعاناة التى تلقيها الحرب على عاتق الجنود. إن بروليتارى المدينة المفقر، لم يعد معتاداً على العمل، وكذلك الحرفى الحاذق، نساجاً، أو صانعاً أو نحاتاً، باتوا أقل ملائمة لمثل هذا الغرض. لقد عنى اختفاء الفلاحين الأحرار اختفاء الجنود للجيوش الرومانية. لقد أصبح ضرورياً أكثر فأكثر أن يستبدلوا بالمتطوعين من المرتزقة، والجنود المحترفين، عدد الجنود المطلوبين لخدمة الميليشيا الذين كانوا مستعدين لأن يخدموا ما بعد مدتهم العسكرية. وسرعان مالم يعد يكفى هذا أيضاً، مالم يُقبل أيضاً مواطنيين غير رومانيين. قبل ذلك فى أيام طيباريوس، أعلن الإمبراطور فى مجلس الشيوخ، أنه كان هناك افتقار للجنود الجيدين، فكان لابد وأن يقبل كل أنواع الرعاع المتشردين. أصبح المرتزقة البرابرة أكثر فأكثر عدداً من الجيوش الرومانية، جُندوا من الولايات التى أُخضعت؛ وأخيراً كان لابد وأن تملأ الخروق فى الجيش، بالمجندين الأجانب، أعداء الإمبراطورية. نجد بالفعل تيوتون فى الجيوش الرومانية فى ظل قيصر. مع تناقص فرصة تجنيد الجنود للجيش من بين العرق المسيطر، ومع الندرة المتزايدة وتكلفة الجنود، تزايد حب الرومان للسلام بالضرورة، ليس بسبب أى تغير فى المفاهيم الأخلاقية، ولكن لأسباب غاية فى المادية. كان على روما أن تكون ضنينة بجنودها، ولكنها أيضاً لم تستطع أن تحتمل بعد توسيع حدودها الإمبراطورية، لقد كانت سعيدة كفاية بأن تكون قادرة على الحصول على عدد كاف من الجنود للاحتفاظ بالحدود القائمة. لقد جرى ذلك فى ذات الوقت الذى عاش فيه يسوع، أى، فى ظل طيباريوس، فالعدوان الرومانى، إذا نظر إليه فى إجماله، قد انتهى إلى توقف تام. يبدأ الآن جهد فى الإمبراطورية الرومانية للإبقاء على وحدتها ضد الأعداء الذين يهددونها من الخارج. وبدأت صعوبات هذا الوضع فى هذه اللحظة تصبح أشد خطورة، لأنه كلما زاد عدد الأجانب، خاصة التيوتون، الذين كانوا يخدمون فى جيوش روما، كلما أصبح جيران روما البرابرة أكثر معرفة بثروتها، وبأسلوب حربها، فضلاً عن وضعها، وكلما أصبحوا ملهمين أكثر بالطموح إلى اختراق الإمبراطورية، ليس كمرتزقة وخدم، ولكن كغزاة وسادة. وبدلاً من القيام بحملات صيد أكثر للبرابرة، سرعان ما وجد السادة الرومان أنفسهم مضطرين للتقهقر أمام البرابرة أو لشراء السلام منهم. وهكذا ففى القرن الأول من عصرنا انتهى تدفق العبيد الرخيصين إلى توقف مفاجئ وأصبح ضرورياً أكثر فأكثر تربية العبيد. ولكن كانت هذه عملية غاية فى التكلفة. كان تدريب العبيد مربحاً فقط فى حالة العبيد المنزليين من الأنماط الأرقى، القادرون على انجاز عمل ماهر. لقد كان من المستحيل إدارة اللاتيفونديا باستخدام العبيد المدربين. كان استخدام العبيد فى الفلاحة قد أصبح أقل فأقل حدوثاً وحتى التعدين كان يتدهور، أصبح العديد من المناجم غير مربح مع توقف إمداد العبيد المأسورين فى الحرب، التى لم تكن هناك حاجة للإبقاء عليها. ولكن سقوط الاقتصاد العبودى لم يؤد لانبعاث للطبقة الفلاحية. المخزون الضرورى من الفلاحين الكُثر، الذي قد يهيئ لحل اقتصادى، كان مفتقداً، وبالإضافة لذلك، كانت الملكية الخاصة للارض عقبة. لم يكن ملاك اللاتيفونديا مستعدون للتخلى عن ملكيتهم، وانما خفضوا فحسب من نطاق عملياتهم الأكبر. لقد وضعوا قسماً من أراضيهم تحت تصرف حائزين صغار، مؤجرينها إلى مستأجرين أو إلى مستوطنين COLONI، بشرط أن يكرس الأخيرين قسماً من عملهم لمزرعة السيد. وهكذا نشأ نظام للزراعة، بقى حتى فيما بعد، فى الفترة الإقطاعية، طموح الملاك العقاريين الكبار، حتى حلت محله الرأسمالية بنظام الإيجار الرأسمالى. كانت الطبقات العاملة التى جُند منها المستوطن جزئياً من العبيد الريفيين والفلاحين الذين أصابهم الفقر، وجزئياً بروليتاريين، حرفيين أحرار وعبيد من المدن الكبرى، لم يعودوا قادرين على أن يعيشوا فى الأخيرة، مادامت الحصيلة الإنتاجية للمؤسسات العبودية فى الزراعة والتعدين كانت فى تدهور، انتهاءاً إلى أن شهامة وترف الغنى كانت تعانى من انتكاس. إضافة إلى ذلك، كانت هذه القوى العاملة قد تضخمت أيضاً بواسطة سكان الولايات الحدودية الذين أُخرجوا من ممتلكاتهم بسبب تقدم البرابرة وفروا نحو الولايات المركزية للإمبراطورية حيث وجدوا بيوتاً باعتبارهم مستوطنين. ولكن لم يستطع نمط الإنتاج الجديد هذا أن يعوق عملية التدهور الاقتصادى الناجم عن الافتقار للإمداد بالعبيد. كان هذا النمط الجديد أيضاً متخلفاً تقنياً مقارنة بطبقة الفلاحين الأحرار، وكان عقبة فى وجه التطور التقنى. بقى العمل الذى كان على المستوطن أن يقوم به فى المزرعة مهمة إجبارية، وعولج بنفس البطء والإهمال، بنفس الاحتقار للماشية والأدوات، كما كان الحال فى العمل العبودى. ممالاريب فيه أن المستوطن قد اشتغل بالفعل فى مزرعة تخصه، ولكنه أعطى مزرعة صغيرة حيث لم يكن هناك خطر من أن يظهر متعجرفاً، أو أن يحصل على أكثر من مجرد أسباب عيشه منها، يضاف إلى ذلك، الإيجار، الذى كان يدفع عيناً، وصار مفرطاً، حتى تعين على المستوطن أن يسلم لسيده كل ما أنتجه زيادة على الحاجات الأساسية للحياة. لقد كان بؤس المستوطن قابلاً للمقارنة ربما مع بؤس المستأجرين الصغار فى أيرلندا، أو ربما مع فلاحى إيطاليا اليوم، حيث مازال نمط إنتاج مشابه قيد الوجود. ولكن لدى الأقاليم الزراعية فى الوقت الحاضر صمام أمان فى الهجرة إلى الأقاليم المزدهرة صناعياً على الأقل. لم يكن هناك شيء كهذا بالنسبة للمستوطن فى الإمبراطورية الرومانية. خدمت الصناعة آنئذ فقط بقدر ضئيل لإنتاج وسائل الإنتاج، ولكنها كانت مكرسة بصفة أساسية لمواد الاستهلاك والترف. حيث أن العائدات الفائضة لملاك اللاتيفونديا والمناجم قد هبطت، تقهقرت الصناعة فى المدن وتناقص سكانها بسرعة. ولكن كان سكان أقاليم الولايات أيضاً يتناقصون. لم يستطيع الحائزون الصغار أن يعولوا عائلات كبيرة، لأن محصول مزارعهم فى الأوقات العادية كان كافياً بالكاد لأن يبقيهم أحياء. يلقيهم عجز المحاصيل بلا مؤن وبدون نقود لشراء مايفتقرون اليه. كان للمجاعة والبؤس بالضرورة حصاد غنى، حيث كانت فئات المستوطنين يهلك معظمها، خاصة أطفالها. إن تناقص السكان فى أيرلندا فى القرن الماضى يشبه النقص فى السكان فى الإمبراطورية الرومانية. "من السهل أن نفهم أن الأسباب الاقتصادية التى كانت تسبب نقصاً فى السكان فى كامل الإمبراطورية الرومانية أثرت بالضرورة بشكل محسوس أكثر فى إيطاليا، وأكثر فى روما منها فى أى مكان آخر. إذا سأل قارئ عن الأرقام، فدعه يفترض أن مدينة روما فى زمن أغسطس قد حوت حوالى مليون من السكان، الذى بقى فى نفس المستوى تقريباً خلال القرن الأول من الفترة الإمبراطورية، وعندئذ هبط فى عهد سيفرى إلى حوالى 600000 نسمة؛ وبعد ذلك استمر العدد فى التناقص بسرعة " . يطبع إدوارد ماير، فى مؤلفه الممتاز، التطور الاقتصادى فى الأزمنة القديمة (1895)، ملحقاً يتضمن الوصف الذى قدمه ديوكريسوسوتم (ولد حوالى 50 ب.م) فى خطبته السابعة، حول ظروف مدينة صغيرة فى إيوبيا EUBOEA، والذى لا يورد اسمها، وهي تمثيل عنيف لتناقص سكان الإمبراطورية. "تخص المقاطعة المحيطة بكاملها المدينة وتدفع جزية للمدينة. كل الأرض تقريباً، إن لم يكن كلها، مملوكة للأغنياء، وهم ملاك قطع أراضى شاسعة، تستخدم فى رعى الماشية والفلاحة. ولكن الأرض مهجورة كلية. أعلن مواطن فى الجمعية الشعبية، "ثلثى أرضنا تقريباً، تترك في راحة لأننا لانستطيع أن نعمل فيها، ولأن عدد سكانها ضئيلون للغاية. أنا نفسى لدى كثير من الأكرات مثل أى أحد آخر، ليس فقط فى الجبال، ولكن تحت فى الأودية. إذا أمكننى أن أجد أحداً مستعداً لأن يفلحها، فلن أدعه فقط يأخذها دون أن يدفع، ولكنى سوف أدفع له بسرور نقوداً فى الصفقة... "، لقد مضى المتحدث فى القول بأن هجر (الارض) قد بات الآن على عتبة الأبواب، "إن الأرض عاطلة تماماً وتقدم مشهداً حزيناً، كما لو كانت فى وسط الصحراء تقريباً وليست خارج أبواب المدينة تماماً. ولكن داخل جدران المدينة، فإن معظمها مستخدم كمراعى... لقد تحول الجمنازيوم إلى حقل محروث، حتى أن هرقل وتماثيل الآلهة والأبطال الأخرى قد اختفت بسبب المحصول فى الصيف، والمتحدث الذى سبقنى يسوق ماشيته كل صباح لترعى أمام قاعة المدينة ومكاتب المدينة، انتهاءاً إلى أن الغرباء الذين يزوروننا يضحكون علينا أو يحزنون من أجلنا". "وفقا لذلك، فإننا نجد أن بيوتاً كثيرة فى المدينة نفسها خاوية، السكان يتناقصون بوضوح. قلة من صيادى الأرجوان تعيش عند الصخور الكافاريةCAPHARIC ROCKS، خلافاً لذلك فلا توجد نفس واحدة بطول وعرض الإقليم كله. كانت كل هذه المنطقة سابقاً تخص مواطناً ثرياً حاز قطعان خيول وماشية عظيمة، مراعى كثيرة، وعديد من الحقول الجيدة المحروثة وكثير من الأملاك الأخرى. وبسبب ثروته، أمر الإمبراطور بقتله، أبعدت قطعانه، بما فيها الماشية التى تخص راعيه، ومنذئذ تعيش أرضه عاطلة. راعيان فقط، رجال أحرار ومواطنون من المدينة، قد بقوا هنا ويعولون أنفسهم بالصيد وقليل من الزراعة وتربية الماشية"... إن الظروف التى وصفها ديو هنا - وعبر بلاد الإغريق كلها كانت الأشياء تقريباً نفسها حتى فى أبكر أيام الإمبراطورية - هى نفس الظروف التى تطورت فى القرون التى تلت مباشرة فى روما وما أحاط بها، والتى وضعت بصمتها على كامبانيا CAMPAGNA حتى يومنا هذا. إننا نجد فى هذه المقاطعة أيضاً أن المدن الريفية قد اختفت، تبقى الأرض قاحلة فى كل اتجاه، وتستخدم فقط فى تربية الماشية (ايضاً لزراعة الكرم على جوانب التلال) وأخيراً روما نفسها تصبح خاوية من سكانها، ومنازلها خالية، وتنهار منشآتها العامة الكبرى فى الساحة العامة FORUM وفى الكابيتول قدمت الأرض مراعى للماشية. بدأت نفس الظروف فى الظهور فى قرننا (التاسع عشر) فى أيرلندا، وهى "لاتخفق فى أن تصدم أى زائر يأتى إلى دبلن أو يسافر عبر الريف". (نفس المصدر، ص ص 67 - 69). كانت خصوبة التربة تهبط ايضاً. كانت التغذية للتسمين حتى آنذاك مستخدمة قليلاً، وبالضرورة كان يُلجأ إليها قليلاً فى نظام تملك العبيد، لأنها عنت هنا معاملة سيئة للماشية. ولكن عنى عدم وجود تغذية للتسمين عدم توفر سماد، والإخفاق فى إخصاب الارض، أو زراعتها بكثافة، عنى أنها كانت تحرم من قدرتها على تقديم محاصيل تالية. يمكن الحصول على المحاصيل المربحة فقط من أفضل أنواع الترب بطريقة الزراعة هذه. ولكن عدد مثل هذه الأراضى الجيدة كان يتناقص بثبات، مع المحاصيل الدورية دوماً، تصبح التربة مجهدة أكثر فأكثر. إن ظاهرة مماثلة قد شهدتها أمريكا فى مجرى القرن التاسع عشر، حيث لم تكن التربة تخصب فى الولايات الجنوبية، إذ كان يعمل هناك العبيد أيضاً، ومن ثم تدهورت بسرعة، وكان استخدام العبيد مربحاً فقط فى أكثر الترب مواتاة. أمكن فى هذا البلد لنظام ملكية العبيد أن يبقى بواسطة توسع دائم تجاه الغرب، مستوعباً أكثر فأكثر أراض جديدة، تاركاً خلفه التربة القاحلة التى كانت قد استُنفدت.والحالة كذلك فى الإمبراطورية الرومانية، وقد شكل هذا واحداً من أسباب الجوع الدائم للأرض عند سادة تلك الإمبراطورية، ولجهدهم فى غزو اراض جديدة بواسطة الحرب. كانت إيطاليا الجنوبية، وصقلية، وبلاد الإغريق، بالفعل مجهدة زراعياً فى بداية الفترة الإمبراطورية. إجهاد للتربة، اقترن بافتقار متزايد للعمال، وكذلك باستخدام غير عقلانى للأخيرين، لم تكن له نتيجة أخرى سوى تناقص دائم فى المحاصيل. ولكن تزامن مع ذلك أن كانت أيضاً قدرة الأمة على شراء المواد الغذائية من الخارج تتناقص. بات الذهب والفضة أقل ظهوراً، لأن المناجم كانت تنتج القليل، وكما رأينا، لكون العمال قلة. كان الذهب والفضة الذى كان متاحاً يفيض أكثر فأكثر داخل القنوات الأجنبية، بعضه إلى الهند والجزيرة العربية، لشراء مواد الترف لهؤلاء الأشخاص الأثرياء الذين كانوا مازالوا باقين، ولكن بصفة أساسية كجزية للقبائل البربرية على الحدود. لقد رأينا أن الجنود كانوا يجندون بقدر متزايد من هذه القبائل؛ وكان عدد الجنود الذين كانوا يعيدون مرتباتهم معهم يتزايد، أو على الأقل ماتبقى منها، حين كانت تنتهى مدة خدمتهم. إذ تدهورت القوة العسكرية للإمبراطورية فقد كان من الضرورى أكثر فأكثر تهدئة الجيران الخطرين، وإبقاءهم فى مزاج طيب، الأمر الذى كان يتأتى بسهولة أكثر بواسطة دفع جزية باهظة. كان الإخفاق فى ذلك، يؤدى بالقبائل المعادية التي أتت للنهب إلى أن تغزو غالباً إقليم الإمبراطورية. وقد خدم هذا أيضاً فى تناقص ثروة الإمبراطورية، وكانت البقية الأخيرة من هذه الثروة غارقة فى الملذات فى جهد يهدف لحمايتها. إذ هبطت القوة العسكرية الإمبراطورية، وإذ بات المجندون المحليون أقل فأقل وروداً، وإذ أصبحت الحاجة لاستيراد مجندين من الخارج أكثر إلحاحاً، وتدفق البرابرة المعادين من ثم أكثر اتساعاً، كل هذه الأسباب، أنتجت طلباً متزايدا على المرتزقة، بينما كانت المئونة تتناقص؛ وارتفع الأجر الذى كان يجب دفعه إليهم أعلى فأعلى. بداية بقيصر كان هذا الأجر 225 دينارى (50 جنيه إسترلينى) وبالإضافة له تلقى الجند 4 مودى MODII من الحبوب شهرياً ( أو 3/2ميديمنوس MEDIMNUS أو 36 لتراً ) وفيما بعد ارتفعت العلاوة الشهرية حتى 5 مودى MODII. تلقى العبد الذى عاش على الحبوب فقط، نفس العلاوة الشهرية. بالنظر إلى الاعتدال فى الطعام الذى لوحظ بين الجنوبيين، فإن معظم احتياجاتهم يمكن أن تشبع بالحبوب. رفع دوميتيان الأجر إلى 300 دينارى (65 جنيه إسترلينى)، وفى ظل الأباطرة المتأخرين كانت حتى الأسلحة تقدم مجاناً. أجرى سبتيميوس سيفيريوس وبعده كراكلا زيادة إضافية على مرتب الجند. ولكن كانت القوة الشرائية للنقود آنئذ أعلى كثيراً منها اليوم. يقول لنا سينيكا معاصر نيرون، أن فيلسوفاً يمكن أن يعيش على نصف سيسترتيوس SESTERTIUS (أقل من ثلاثة سنتات) فى اليوم. كانت كلفة 40 لتراً من النبيذ 6سنتات، وكلفة حمل 10 سنتات؛ وخروف حوالى 40 سنتاً. "كان من الواضح أن أجر الفيلقى الرومانى مرتفعاً للغاية بالنظر للأسعار السائدة. وبالاضافة إلى أجره، تلقى هدايا نقدية عند ارتقاء أباطرة جدد، فى الأيام التى كان يولى فيها الجنود إمبراطوراً جديداً كل بضعة شهور، وقد مثل هذا اختلافاً إلى حد بعيد. حصل الجندى عند إنتهاء خدمته على منحه عند صرفه، والتى كانت فى أيام أغسطس 3000 دينارى (650 جنيه إسترلينى )، خفض كاليجولا هذا المقدار إلى النصف، بينما رفعه كراكلا مرة أخرى وهذه المرة إلى 5000 دينارى (فوق 1000جنيه إسترلينى)" . هذه أرقام ضخمة حين نتذكر أن عدد سكان الإمبراطورية كان قليلاً، بسبب المستوى المنخفض للزراعة، وأن فائض عملهم كان ضئيلاً. يقدر بيلوخ سكان كامل الإمبراطورية الرومانية، التى كان حجمها حوالى أربع أضعاف الإمبراطورية الألمانية الحالية، باعتباره حوالى 55000000 نسمة فى أيام أغسطس. إيطاليا التى تحتوى وحدها الآن 33000000 نسمة عدت آنئذ 6000000 نسمة هذه الـ 55000000 نسمة، كانت مضطرة بطرقها البدائية، لأن تعول جيشاً كبيراً مماثلاً لذلك الذى يمثل عبئاً كبيراً حتى للإمبراطورية الألمانية الحالية، بالرغم من التقدم التقنى الضخم الذى جرى منذئذ، وهذا الجيش من المرتزقة المجندين كان يُدفع له بشكل أفضل بما لايقاس أكثر مما يدفع للمحارب الألمانى اليوم . وبينما كان السكان يتناقصون ويزدادون فقراً كانت أعباء النزعة العسكرية تتزايد. كان هناك سببان لذلك؛ وقد أكملا معاً الانهيار الاقتصادى. كانت الوظيفتان الرئيسيتان للدولة فى هذه الأيام هى شن الحرب وتشييد المبانى الضخمة. إذا كانت ستزيد الإنفاق على الأولى، دون زيادة الضرائب، فهى بالضرورة يجب أن تهمل الأخيرة، وهذا مافعلته. كانت الدولة فى فترة ثروتها، وحين كان هناك فائض كبير أنتجه عمل عدد كبير من العبيد، غنية بما يكفى لتنفيذ عمليات بناء كبرى،، والتى خدمت ليس الترف، والدين، وأغراض صحية فقط، وإنما أيضاً حاجات اقتصادية. شيدت الدولة بمساعدة جماهير الفلاحين الضخمة التى كانت طوع أمرها، هذه الأعمال الهائلة التى لم نتوقف عن الإعجاب بها حتى اليوم، تلك المعابد والقصور، قنوات سحب المياه والمجارى، وأيضاً نظام الطرق الممتازة الذى يربط روما بأكثر ممتلكات الإمبراطورية بعداً، أداة جبارة للتوحيد الاقتصادى والسياسى وللمواصلات الدولية، فضلاً عن عمليات الرى والصرف الكبرى. وهكذا، بواسطة تجفيف مستنقعات بونتين PONTINE جنوب روما، فإن إقليماً واسعاً من التربة الخصبة، يصل إلى مائة ألف هكتار قد فتح للزراعة، وذات مرة اشتمل على ما لا يقل عن ثلاثة وثلاثين مدينة. ان إنشاء وصيانة شبكة صرف مستنقعات بونتين شكل مصدراً دائماً للقلق لمن يتسنمون السلطة فى روما. تدهورت هذه الشبكة حتى أن إقليم المستنقع والأرض التى حوله قاحلة خربة إلى يومنا هذا. حين ضعفت القوة المالية للدولة، آثر حكامها أن يهملوا صيانة كل هذه الإنشاءات بدلاً من أن يكبحوا النزعة العسكرية. باتت الصروح المهيبة خرائب مهيبة، وعجل اختفائها زيادة الافتقار لقوة العمل، التى جعلت من الأسهل أخذ مواد البناء من هذه المنشئات الجديدة، بدلاً من الحصول عليها من المحاجر النائية. أضارت هذه الطريقة أعمال الفن القديم أكثر مما فعل تدمير الوندال الغازين والقبائل البربرية الأخرى. "يُغرى المشاهد، الذى يلقى نظرة حزينة على خرائب روما القديمة أن يتهم ذكرى القوط والوندال باعتبارهم سبب للأذى الذى لم يكن لديهم وقت فراغ، ولاقوة، وربما الميل، لأن يرتكبوه. ربما أصابت عاصفة الحرب بعض الأبراج السامقة وسوتها بالأرض؛ ولكن التدمير الذى قوض أسس هذه المصانع الكبيرة كان مقموعاً، ببطء وفى صمت، خلال فترة عشرة قرون... إن آثار العظمة القنصلية أو الإمبراطورية لم تعد تحترم باعتبارها مجد العاصمة الخالد؛ لقد قدرت فقط باعتبارها منجماً لاينضب للمواد، أرخص وأكثر ملائمة من المحجر البعيد " . لم تكن أعمال الفن فقط هى التى خربها هذا التدهور، وانما أيضاً المنشئات العامة التى كانت تخدم أغراضاً اقتصادية أو صحية، وأنظمة الطرق وإمداد المياه، هذا الخراب العام، عاقبة الانهيار الاقتصادى الشامل، ساعد بدوره فى تعجيل هذا الانهيار. ولكن الأعباء العسكرية كانت تتزايد بالرغم من كل شئ، وأخيراً أصبحت غير محتملة محققة التدمير الأقصى. إن الإجمالي العام للأعباء العامة - المدفوعات العينية، المدفوعات بالعمل، الضرائب النقدية - بقيت كبيرة أو تزايدت، بينما كان السكان وثرواتهم تتناقص. أصبحت الأعباء المفروضة على الفرد من قبل الدولة مضجرة أكثر فأكثر. سعى كل إنسان إلى أن ينقل هذا العبء إلى الأكتاف الأضعف؛ كان أكثر هذا النقل يتم باتجاه المستوطنين COLONI البائسين. وأصبح وضعهم الذى يحزن القلب بالفعل يائساً، كما أظهرته انتفاضات عديدة مثل (انتفاضة) الباجاودى BAGAUDI، التي جرت في مستوطنة غالية GALLIC ، حيث انتفضت أولاً فى ظل ديوكليتان ، 285 ب.م، ثم قمعت بعد بعض النجاحات فى البداية، ولكنها عبرت مرة بعد مرة عن شدة بؤسها بالانخراط فى محاولات متجددة للانتفاض والتمرد. كانت هناك فى هذه الأثناء طبقات أخرى من السكان مضطهدة بشكل أكثر قسوة، وإن لم تكن فى سوء (حالة) المستوطن. لقد أخذت خزانة الدولة FISCUS كل شيء استطاعت أن تضع يدها عليه، ولم يكن البرابرة ناهبين أسوأ من الدولة. بدأت عملية ثابتة من التفسخ الاجتماعى، نفور متزايد وعدم قدرة أعضاء متنوعين من المجتمع على إنجاز حتى أكثر الوظائف ضرورة للرفاهية العامة COMMON WEALTH ولكل منهم للآخر. ما كان قد نظم ذات مرة بواسطة العادة والحاجة الاقتصادية، تطلب الآن تدخلاً فعالاً من الدولة لتحقيقه. أصبحت الإجراءات أكثر تعدداً بعد ديوكليتيان. تربط بعض هذه القوانين المستوطن بالأرض، وهكذا فعلت محولة إياه إلى قن، وأجبر البعض الآخر ملاك الأرض على المشاركة فى إدارة المدينة، التى كانت وظيفتها بصفة أساسية جباية ضرائب الدولة. نظمت قوانين أخرى كهذه الحرفيين فى اتحادات مهنية أجبرتهم أن يقدموا خدماتهم وكذلك السلع بأسعار محددة. أصبحت بيروقراطية الدولة التى جرى الاحتياج إليها لتنفيذ هذه الإجراءات الإجبارية أعظم. واجهت البيروقراطية والجيش - بمعنى آخر، سلطة الدولة – معارضة متزايدة، ليس فقط من الطبقات المستغَلة وإنما أيضاً من المستغِلين. كانت الدولة بالنسبة للأخيرين قد كفت عن أن تكون مؤسسة حامية ومشجعة وصارت سلطة ناهبة ومخربة. تزايد العداء للدولة، حتى اعتبر حكم البرابرة راحة. لقد كان سكان الحدود يهربون إلى الفلاحين البرابرة الأحرار، وفى النهاية دعى سكان الحدود الأخيرين باعتبارهم مخلصين ومنقذين من النظام السائد للحكومة والمجتمع، ورحبوا بهم بأذرع مفتوحة. يكتب سالڤ-;---;-----;---يانوس وهو كاتب مسيحى من الفترة الإمبراطورية المتأخرة، ، مايلى حول الموضوع فى كتابه DE GUBERNATIONE DEI: "ان قسماً كبيراً من بلاد الغال وأسبانيا هو قوطى بالفعل ، وكل الرومان الذين يعيشون هناك تدفعهم الرغبة فقط فى ألا يكونوا رومانيين مرة أخرى. سوف أدهش فقط إن لم يهاجر كل الفقراء والمحتاجين إليهم، إن لم يكن بسبب حقيقة انهم يشعرون أنهم لايستطيعون أن يتركوا أملاكهم وعائلاتهم ورائهم. ونحن الرومان نعتبر كوننا لانستطيع التغلب عل القوط أعجوبة، بينما نفضل نحن الرومان أن نعيش بينهم أكثر مما بين شعبنا". هجرة الأمم، وغمر الإمبراطورية الرومانية بواسطة جموع الجرمانيين الأفظاظ لم يكن يعنى التدمير المبكر لحضارة مزدهرة، متقدمة، ولكن إنهاء عملية الانحلال فحسب لحضارة محتضرة ووضع الأساس لنمو ثقافى جديد، الذى، لاريب فى أنه انطلق لقرون بطريقة شديدة البطء وغامضة. اتخذت المسيحية شكلها: فى القرون الأربعة التى تقع بين تأسيس السلطة الإمبراطورية من قبل أغسطس وهجرة الأمم فى الفترة التى تبدأ بأعلى الذرى التى بلغها المجتمع القديم، مع أشد تراكم للثروة وللسلطة ضخامة ونشوة فى أيدى حفنة قليلة، مع تراكم كثيف لأعظم بؤس على العبيد، الفلاحين المتدهورين، والحرفيين وأدنى البروليتاريين، مع أشد المتناقضات الطبقية عنفاً، والحقد الطبقى الأشد قسوة - والذى ينتهى بالإفقار الكامل ويأس كل نظام المجتمع. طبعت كل هذه الأوضاع بطابعها المسيحية وتركت آثارها على شكلها. ولكن المسيحية تحمل أيضاً بصمات تأثيرات أخرى نشأت من الحياة القومية والاجتماعية لهذا الزمن، التى بنيت على أساس نمط الإنتاج الموصوف أعلاه، والتى عاظمت حتى بطرق مختلفة تأثيرات هذا النمط من الإنتاج. *****
الفصل الثانى حياة الدولة أ - الدولة والتجارة كان هناك بالإضافة إلى العبودية نمطين آخرين من الاستغلال فى المجتمع القديم اللذين وصلا أيضاً إلى أوجهما حوالى زمن أصل المسيحية، شحذا التضادات الطبقية حتى الحد الأقصى، وبعدئذ عجَّلا بشكل متلاحق من تدمير المجتمع والدولة: الربا، ونهب الولايات الخاضعة بواسطة السلطة المركزية القاهرة. كلا من هاتين المؤسستين مرتبطتان بوثوق بطابع الدولة كما تشكلت حينئذ، وهى متناسجة بوثوق مع الوضع الاقتصادى لهذه الأزمنة بصفة عامة حتى أنه كان علينا أن نذكر الدولة مراراً فى مناقشتنا حول أساس الدولة والمجتمع، أى، نمط الإنتاج. واجبنا الأول من ثم هو أن نقدم موجزاً قصيراً عن الدولة القديمة. لم تتجاوز ديمقراطية العصر القديم أبداً حدود جماعة المدينة أو العشيرة. لقد تكونت العشيرة من قرية من القرى أو أكثر التى امتلكت وأدارت إقليماً معيناً بشكل مشترك. وقد تم هذا بواسطة التجنيد المباشر من جانب الناس أنفسهم، فى جمعيتهم لكل أعضاء العشيرة البالغين. تطلب هذا الوضع بالضرورة ألا تكون الكومونة أو العشيرة واسعة جداً؛ يمكن أن يكون إقليمهاً كبيراً بما يكفى لتمكين كل عضو من أن يسافر من مزرعته إلى الجمعية الشعبية بدون إجهاد وخسارة مفرطة. لقد كان من المستحيل فى هذه الأزمنة القديمة تطوير أى تنظيم ديمقراطى ماوراء هذه الدرجة، حيث كانت الشروط التقنية والاقتصادية الضرورية لمثل هذا التوسع غائبة. كانت الرأسمالية الحديثة بكتبها المطبوعة وبمكاتب بريدها، مع الجرائد، والسكك الحديدية، وأجهزة البرق، هي القادرة فقط على أن تصهر الأمم الحديثة فى وحدات ليس فقط بالنسبة للغة، كما كانت الأمم القديمة، وإنما أيضاً فى عضويات سياسية واقتصادية صلبة. بقيت هذه العملية غير كاملة بصفة أساسية حتى القرن التاسع عشر. لقد تمكنت إنجلترا وفرنسا بسبب ظروف خاصة من أن تصبحا أمتين بالمعنى الحديث فى تاريخ أبكر، وأن تؤسساً برلمانية قومية، أساس الديمقراطية على نطاق أكبر من نطاق الكومونة. ولكن حتى فى هذه البلدان بات هذا الشرط ممكناً فقط بقيادة مركزين كبيرين هما لندن وباريس، وفي زمن متأخر حتى عام 1848 كان يهيمن على الحركة القومية الديمقراطية حركة مجتمعات بارزة معينة - باريس، فيينا، برلين. بقيت الديمقراطية فى العصور القديمة بتسهيلات مواصلاتها الأقل تقدماً بما لايقاس، محدودة بنطاق الكومونة. كان الانتقال بين البلدان الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، حقيقة، ذو مستوى محترم بالأحرى فى القرن الأول من عصرنا، فقد بلغ مدى بعيداً لحد أنه وضع لغتين موضع الأهمية الدولية، أى، الإغريقية واللاتينية. ولكن أنجز هذا تحديداً لسوء الحظ فى الوقت الذى كانت فيه الحياة الديمقراطية والسياسية ككل على طريق الانحدار - نقول، لسوء الحظ، ولكن ليس كنتيجة لحادثة سيئة الحظ - كان تطور المواصلات بين المجتمعات فى هذا الوقت مرتبطاً بالضرورة بشروط كانت تسبب موت الديمقراطية. ليست مهمتنا أن نثبت هذا فى حالة بلدان الشرق، حيث أصبحت الديمقراطية، المحدودة بالكومونة، الأساس لنوع معين من الاستبداد. سوف نتابع هنا فقط المسار النوعى للأحداث فى العالمين الهيلينى والرومانى، وسوف نفحص مثلاً واحدا فقط، وهو الخاص بالمجتمع الرومانى. فاتجاهات التطور القديم هنا واضحة بشكل مؤكد، لأن هذا التطور انطلق هنا على نحو أكثر سرعة وعلى نطاق أكثر عظماً مما هو الحال فى أى من مجتمعات المدينة الأخرى فى العالم القديم. ولكن كانت نفس الاتجاهات فاعلة، فى كل هذه المجتمعات وان كانت ربما على نطاق أكثر تواضعاً وصغراً. كان لنطاق كل عشيرة وكومونة حدود غاية فى الضيق، لاتستطيع أن تنتشر وراءها، وقد سبب هذا في أن تبقى العشائر والكومونات المختلفة متساوية تماماً طالما ساد اقتصاد فلاحى فقط. ولم تكن هناك فى هذه المرحلة أسباب عديدة لاثارة انواع الغيرة أو للنزاعات بينها، حيث أنتجت كل عشيرة وكومونة بصفة عامة كل مااحتاجت إليه. فربما تسبب زيادة فى السكان نقصاً فى الأرض فى أسوأ الأحوال. ولكن الزيادة فى السكان لم تكن لتؤدى لتوسيع حدود العشيرة، لأن الأخيرة لايمكن أن تكون شاسعة لتحول دون كل عضو وأن يكون قادراً على السفر إلى الجمعية الشعبية التشريعية دون جهد مفرط وخسارة. إذا ماحدث وأن كانت الأرض الصالحة للزراعة الخاصة بالعشيرة فى سبيلها للزراعة، فسوف يشرع العدد الزائد من الشباب القادر على حمل السلاح فى الهجرة ويؤسس عشيرة خاصة به، إما بطرد العناصر الأخرى الأضعف، أو بالاستقرار فى أقاليم مازال يوجد فيها نمط إنتاج أدنى، وبالتبعية سكان أقل ومساحة متاحة أكثر. بقيت من ثم الكومونات والعشائر الفردية ذات قوة متساوية تماماً. ولكن تغير هذا الوضع بمجرد أن بدأت التجارة فى العمل بجانب الاقتصاد الفلاحى. لقد رأينا سلفاً أن التجارة فى السلع تبدأ مبكراً جداً، وهي ترجع للعصر الحجرى. فى إقليم يتوافر فيه عدد من المواد المرغوبة أكثر يمكن الحصول عليها بسهولة أكثر، بينما فى مكان آخر لاتوجد دائماً أو لاتوجد على الإطلاق، فقد كان من الطبيعى لسكان مثل هذه الأقاليم أن يحوزوا من هذه المواد أكثر مما استهلكوا، وانه كان عليهم أن يطوروا مهارات أعظم فى كسب، وتسخير هذه المواد. وسوف يقدمون عندئذ فائضهم فى المقايضة بمنتجات أخرى لجيرانهم، الذين سوف ينقلونها بدورهم أبعد. كان بمقدور كثير من المنتجات فى عملية المقايضة هذه من قبيلة إلى أخرى أن تغطى مسافات كبيرة بشكل لايصدق. وقد كان المفترض المسبق لهذه التجارة نمط حياة رعوى من جانب الرعاة الأفراد الذين اتصلوا مراراً بعضهم ببعض فى تجوالهم وتبادلوا فوائضهم فى مثل هذه المناسبات. توقفت مثل هذه الفرص حين شرع الإنسان فى الاستقرار، ولكن الحاجة إلى تبادل السلع لم تتوقف، خاصة الحاجة إلى الأدوات أو على الأقل المادة التى تصنع منها، التى كانت متوفرة فى مستودعات قليلة فقط، ومن ثم يجري الحصول عليها بصعوبة، إلا من خلال التجارة فى السلع، وقد نمت هذه بالضرورة. كان يجب لإشباع هذه الحاجة، أن تتشكل فئة خاصة من الرعاة، التجار وهؤلاء كانوا إما قبائل رعوية من مربيى الماشية، الذين كرسوا أنفسهم الآن للتزود بالسلع من المقاطعات التى تكون فيها وفيرة، ومن ثم رخيصة، وحملوها إلى مقاطعات أخرى تكون فيها نادرة، ومن ثم غالية الثمن، بمساعدة حيوانات الحمل، أو كانوا صيادين أبحروا فى قواربهم على طول الساحل أو من جزيرة إلى جزيرة. ولكن حيث ازدهرت التجارة أكثر فأكثر فحتى الفلاحين قد أغراهم أن يتعاملوا فيها. كقاعدة، كان لدى طبقة الملاك العقاريين احتقار متغطرس إزاء التجارة، بينما اعتبرت الارستقراطية الرومانية الربا حرفة لائقة، وليس التجارة؛ وهذا كله لم يمنع الملاك العقاريين من أن يحصلوا عرضاً على ميزات من عمليات التجارة. تتبع التجارة طرقاً معينة تكون من ثم الأكثر اعتياداً فى السفر. تتلقى المدن التى تقع على مثل هذه الطرق سلعها بسهولة أكثر مما تفعل الأخريات، ويجدون فى التجار شراة لسلعهم. فى نقاط عديدة، حيث تصادف أن امتنع الانعطاف جانباً عن الطريق، والذى لايمكن الدوران حوله، والذى يكون بالإضافة إلى ذلك، فى موضع محصور بالطبيعة، فإن سكان وسادة أماكن كهذه يقدرون على إيقاف التجار وتغريمهم، بفرض ضرائب عليهم. من ناحية أخرى، تصبح نقاطاً أخرى أماكن تخزين حيث يجب أن تنتقل السلع من سفينة لأخرى، على سبيل المثال، الموانئ البحرية أو تقاطع الطرق، حيث يصل التجار بأعداد كبيرة من أكثر البقاع اختلافاً وتبقى السلع غالباً مخزونة لبعض الوقت. تطورت هكذا كل الكوميونات التى ميزتها الطبيعة فى مسألة التجارة بالضرورة ماوراء حدود كوميونات الفلاحين، وبينما سرعان مايصل سكان الكومونة الفلاحية حداً فى نطاق وخصوبة إقليمهم، فإن سكان مدينة تاجرة يستقلون عن خصوبة التربة التى يملكونها وربما يمتدون ليتجاوزونها كثيراً. فبالنسبة للسلع التى يتحكمون فيها فإنهم يملكون وسائل شراء كل شيء يحتاجونه، بمعنى آخر، يتمكنون أيضاً من الحصول على المواد الغذائية من ما وراء حدود القبيلة. تتطور أيضاً مع التجارة فى الأدوات الزراعية، وفى المواد الخام وأدوات الصناعة، وفى منتجات الترف الصناعية، التجارة فى الأغذية المطلوبة من قبل ساكنى المدينة. ولكن توسع التجارة نفسها لايواجه أى حدود ثابتة، وبطبيعته يستمر فى الامتداد ماوراء الحدود التى جرى الحصول عليها سلفاً، دائم البحث عن زبائن جدد، منتجين جدد، مستودعات جديدة للمواد الخام، أقاليم صناعية جديدة، مشترون جدد لمنتجاتها. وهكذا تجاوز الفينيقيون بشكل مبكر جدا فى التاريخ البحر الأبيض المتوسط ووصلوا إلى الشمال حتى إنجلترا، بينما داروا فى الجنوب حول رأس الرجاء الصالح. "فى فترة مبكرة لاتصدق نجدهم فى قبرص ومصر، فى اليونان وصقلية ، فى أفريقيا وحتى فى المحيط الأطلنطى وبحر الشمال. ووصل حقل تجارتهم من سيراليون وكورنوال فى الغرب، تجاه الشرق حتى ساحل مالابار. مر الذهب ولآلئ الشرق خلال أيديهم، أرجوان صيدا، العبيد، العاج، جلود الأسود، والفهود، من داخل أفريقيا، اللبان من الجزيرة العربية، كتان مصر، الأوانى والأنبذة الجيدة من بلاد الإغريق، فضة أسبانيا، القصدير من إنجلترا، والحديد من إلبا " . من الطبيعي أن يفضل الحرفيون، الاستقرار فى مدن تجارية، فى الواقع تقدم الأخيرة السوق الوحيد لطبقات عديدة من الحرفيين، وهي تشجع تكوين مثل هذه الطبقات: هناك من ناحية التجار الذين يبحثون عن البضائع، ومن ناحية أخرى الفلاحون من القرى المجاورة الذين يرحلون إلى المدينة يوم السوق حتى يبيعوا موادهم الغذائية ويشتروا الادوات والأسلحة، والزينة بدخلها. تكفل المدينة التجارية أيضاً للحرفيين الإمداد الضرورى بالمواد الخام، التى لايستطيعون بدونها أن يمارسوا تجارتهم. بالإضافة إلى التجار والحرفيين تنشأ أيضاً طبقة من الملاك العقاريين الأثرياء فى مجتمع المدينة. إن أعضاء الكومونة الأصلية لهذه المدينة، الذين يملكون فى أراضى المدينة يصبحون الآن أغنياء، وحيث أن على الملكية العقارية طلباً بين القادمين الجدد، تصبح ذات قيمة ويرتفع سعرها بثبات، ويربحون أيضا من واقعة أنه من بين السلع التى احضرها التجار كان هناك عبيد أيضاً، وكما رأينا سلفاً تمكنت الآن عائلات معينة من الملاك العقاريين التى تتجاوز فئة الفلاحين العاديين بملكيتها الأكبر فى الأرض أو ثروتها، لسبب أو لآخر، تمكنت من توسيع منشآتها الزراعية بواسطة زيادة العبيد فقط، بينما تنسحب هى نفسها إلى المدينة وتكرس نفسها للأعمال الحضرية، وإدارة المدينة أو شن الحرب. إن مالكا عقاريا من هذا النمط، الذى كان لديه سابقا مزرعة فى الإقليم المجاور فقط، ربما يبنى الآن أيضاً منزلا بالمدينة ويعيش فيه، ويستمر مثل هؤلاء الملاك العقاريين فى تأسيس قوتهم الاقتصادية ومركزهم الاجتماعى على ملكيتهم للأرض والزراعة، ولكن أضف إلى ذلك فهم يصبحون من ساكنى المدينة ويزيدوا سكان المدينة بعائلاتهم العديدة؛ والتى يمكن أن تصبح فى وقت ما، بإضافة العبيد لأغراض الترف، واسعة للغاية كما رأينا. وهكذا تتزايد المدينة التجارية بثبات فى الثروة والسكان، ولكن بقدر ماتنمو قوتها، فإن روحها الحربية والرغبة فى الاستغلال تنمو ايضاً. لأن التجارة ليست بالشئ المسالم الذى تعلمه لنا الاقتصاديات البورجوازية، وكان هذا صحيحاً على الأقل فى أيام بداياتها. لم تكن التجارة والمواصلات آنذاك منفصلتان بعد. لم يكن بمقدور التاجر أن يجلس فى مكتبه كما يفعل اليوم، يتلقى طلبات زبائنه كتابة، ويلبيها بمساعدة السكك الحديدية، والباخرة والبريد. كان عليه أن يحمل بضاعته إلى السوق بنفسه، وقد تطلب هذا قوة وشجاعة عبر حقول لاممرات فيها، على القدم أو على ظهر جواد، أو فى البحار العاصفة فى قوارب صغيرة مفتوحة، وكان مضطراً لأن يكون فى الطريق لعدة شهور، وفى احوال كثيرة لسنوات، بعيداً عن الوطن. وقد تضمن هذا أعباء ليست أقل شأناً من (أعباء) حمله، التى كان الرجال الأقوياء فقط كفؤا لها. ولم تكن مخاطر الرحلة أقل من مخاطر الحرب. لقد كان التجار مهددين فى كل لحظة ليس من قبل الطبيعة فقط بأمواجها العظيمة أو منحدراتها الصخرية، بزوابعها الرملية، بالافتقار للمياه أو التغذية، البرد الثلجى أو الحرارة المهلكة، إنما شكلت الكنوز الثمينة التى حملها التاجر معه غنيمة دعت الأقوى لأن يأخذها منه. بينما جرت التجارة بين قبيلة وقبيلة أولاً، فقد مورست فيما بعد من قبل مجموعات واسعة من الرجال، بواسطة القوافل فى البر، وبواسطة الأساطيل التجارية فى البحر. وكان على كل عضو فى حمله كهذه أن يكون مسلحاً وقادراً على الدفاع عن ممتلكاته، والسيف فى يده. أصبحت التجارة هكذا مدرسة للروح الحربية. ولكن بينما اضطرت القيمة الكبيرة للسلع التى حملها التاجر معه على تطويره قدرته كمحارب حتى يدافع عنها، فإن هذه القوة الحربية بدورها أصبحت تغري على ممارستها لأغراض الهجوم. نتج ربح التجارة عن الحصول على ما هو رخيص وبيعه غالياً. ولكن كانت أرخص طريقة للحصول على أى شيء هى بلا جدال أخذ المرء ما يريد بدون إعطاء مقابل. السرقة والتجارة من ثم فى البداية مرتبطتان بوثوق. أصبح التاجر بسهولة قاطع طريق، حيثما شعر بنفسه أنه الأقوى، حين كانت الغنيمة الثمينة على مرأى منه - ولم يكن أقل مافى هذه الغنيمة الإنسان نفسه. ولكن التاجر احتاج لقوته الحربية ليس فقط لتمكينه من أن يقوم بمشترواته ومكتسباته بأرخص مايمكن، ولكن أيضاً حتى يُبعد منافسيه عن الأسواق التى كان يتردد عليها؛ لأنه كلما زاد عدد المشترين، زاد سعر السلع التى أراد أن يشتريها؛ وكلما زاد عدد البائعين، قلت أثمان السلع التى كان يحملها إلى السوق؛ بمعنى آخر، كلما عظم الفرق الناتج بين سعر الشراء وسعر البيع، وهو ما يعنى الربح. حيثما يقوم عدد من المدن التجارية الكبيرة دانية قريبة، فسرعان ما تتطور الحرب بينهما، والمنتصر يتوقع لا أن يزيح فقط منافسيه من المجال، وإنما تحويل المنافسين من عامل سالب للربح إلى عامل جالب للربح؛ إما بأشد الطرق جذرية، وهي غير قابلة للتكرار، أي بالنهب الكامل لمدينة الخصم وبيع سكانها للعبودية، أو بالطريقة الأقل جذرية، التى تتضمن مكسباً متجدداً كل عام، بإدماج المدينة المهزومة فى الدولة باعتبارها "حليف" ملزم بأن يقدم الضرائب والقوات وأن يحجم عن الإضرار بالمنافس المنتصر بأى طريقة. ربما تضم مدن تجارية معينة، مميزة بأوضاعها أو بظروف أخرى بهذه الطريقة مدناً أخرى كثيرة، بأقاليمها، فى تنظيم دولة بدون أن تمنع بالضرورة الوجود المتواصل لقوام ديمقراطى فى كل مدينة كهذه. ولكن كلية هذه المدن، والدولة ككل، بالرغم من ذلك ليست محكومة ديمقراطياً، لأن المدينة المنتصرة المفردة هى وحدها التي تكون في موضع السيطرة بينما الأخرى يجب أن تطيع دون أن تكون لديها أدنى سيطرة على أمور التشريع وإدارة الدولة ككل. نجد فى بلاد الإغريق عدداً كبيراً من دول المدينة هذه، كانت أثينا الأكثر قوة من بينهم، ولكن لم تكن أى من المدن المنتصرة قوية بما فيه الكفاية حتى تخضع كل المدن الأخرى على نحو دائم، وأن تحوز سيطرة نهائية على كل منافسيها. من ثم ليس تاريخ بلاد الإغريق شيئاً سوى حرب أبدية بين المدن المختلفة ودول المدينة بينها وبين نفسها، ونادراً ما قاطع ذلك دفاع مشترك ضد عدو مشترك. لقد عجلت تلك الحروب بكثافة سقوط بلاد الإغريق، حيث ظهرت تبعات الاقتصاد العبودى، الذى وصف آنفاً. ولكن من المضحك أن تصبح ساخطاً أخلاقياً على هذا الوضع كما يفعل أساتذتنا. فالصراع ضد المنافس هو لازمة ضرورية للتجارة. تتغير أشكال هذا الصراع، ولكن الصراع يدخل بالضرورة مرحلة الحرب حين تقف المدن التجارية ذات السيادة وجهاً لوجه. ولم يكن من الممكن تجنب مشهد بلاد الإغريق تمزق لحمها بمجرد أن بدأت التجارة فى جعل مدنها عظيمة وقوية. ولكن الهدف النهائى فى أى صراع تنافسى هو إزاحة أو قهر المنافس؛ أي تحقيق الاحتكار. لم تصبح أى مدينة فى بلاد الإغريق قوية بما يكفى لتحرز هذا الهدف، ولاحتى أثينا القوية. كان هذا الأمر محجوزاً لمدينة إيطالية، روما، التى أصبحت حاكم نظام الحضارة بكامله حول البحر الأبيض المتوسط.
ب - النبلاء والعامة ليست المنافسة مع المنافسين السبب الوحيد الذى من أجله قد تشن الحرب مدينة تجارية كبيرة. حيث يكون إقليمها مجاوراً (لإقليم) فلاحين أشداء، خاصة فلاحين مربين للماشية فى الجبال، الذين هم عادة أفقر من الفلاحين المزارعين فى الأودية الخصبة، ولكن أقل ارتباطاً بالأرض بلاريب، فقد اعتاد الرجال إراقة الدماء والصيد، مدرسة ممتازة للحرب - ربما تثير ثروة المدينة بسهولة الرغبة فى الغنيمة لدى الفلاحين. ربما يمر الأخيرون بلا مبالاة جانب المدن الريفية الأصغر، خادمين فقط التجارة المحلية لمنطقة محدودة وحامين قلة من الحرفيين الصغار إضافة إلى ذلك، لكن لابد لكنوز مركز تجارى كبير بالضرورة أن تجذبهم وتغريهم بأن يتجمعوا معاً فى كتل من أجل هجوم لصوصى على المجتمع الثرى. من ناحية أخرى، يقوم الأخير بجهد دائم لتوسيع ممتلكاته فى الأرض وعامة رعاياه. لقد رأينا أن نمو المدينة مصحوب بتطور سوق واسع داخلها لمنتجات الزراعة، وأن التربة التى تنتج السلع للمدينة تصبح ثمينة، مثيرة الرغبة في أرض أكثر، وربما يفلح العمال هذه الأرض التى جرت حيازتها حديثاً لصالح قاهريها. والنتيجة صراع دائم بين المدينة وقبائل الفلاحين المجاورة. إذا كان الأخيرون منتصرين تنهب المدينة ويجب أن تبدأ من جديد تماماً. ولكن إذا انتصرت المدينة، فإنها تسلب قسماً من أرض الفلاحين المهزومين، محولة إياها لملاك الأرض فيها، الذين يجعلون أحياناً أبناءهم اللذين لا أرض لهم يستقرون فيها، ولكن يترك القسم الأعظم الأرض المغزوة تُفلح لهم بالعمل الإجبارى، الذى يُقدم أيضاً من المجتمع المهزوم، اما فى شكل مستأجرين أو أقنان أوعبيد. يتخذ أحياناً، على أية حال، إجراء أرق بحيث لايتحول السكان المخضعين إلى عبيد فقط، ولكن يسمح لهم حتى بالمواطنة، فى المدينة المنتصرة، ليس مواطنة كاملة، بلاشك، لأن المواطنين الكاملين يحكمون المدينة والدولة فى جمعيتهم، وانما المواطنة من الدرجة الثانية، فيتمتعون بحرية تامة وكل الحماية القانونية للدولة، ولكن دون مشاركة فى حكومتها. احتاجت المدينة مثل هؤلاء المواطنين الجدد لأن ثروتها وبالتبعية أعباء الحرب تزايدت. مادامت عائلات مواطنى الزمن القديم لم تعد قادرة على تقديم العدد المطلوب من الجنود المواطنين. كانت الخدمة العسكرية وحقوق المواطنة فى البداية مرتبطتان بوثوق شديد. لم تكن هناك طريقة لزيادة عدد المحاربين بسرعة سوى بجعل الدولة تستقبل مواطنين جدداً. لم يكن أقل الأسباب فى إرتقاء روما إلى العظمة، أنها كانت فى الواقع شديدة الكرم فى منح حق المواطنة للمهاجرين وكذلك للمجتمعات المجاورة التى كانت قد هزمتها. أمكن توسيع عدد هؤلاء المواطنين الجدد حسب الإرادة. لم تنطبق الحدود المفروضة على عدد مواطنى الزمن القديم على المواطنين الجدد. كانت هذه الحدود جزئياً ذات طبيعة فيزيائية. مادامت إدارة المدينة كانت وظيفة جمعية المواطنين القدامى، فربما لاتجعل هذه الجمعية غاية فى الكبر حتى لا يستحيل التعامل التجارى، ولايمكن أن يعيش المواطنين بعيداً جداً عن مكان الجمعية حتى يستحيل بالنسبة لهم أن يسافروا إلى ذلك المكان دون صعوبة ودون إهمال مزارعهم فى أوقات معينة. ولكن مثل هذه الإعتراضات لم تنطبق على حالة المواطنين الجدد. ففى الحالات التي تكون قد منحت لهم فيها حقوقا سياسية معينة، حتى حق التصويت فى جمعية المواطنين (التى كانت نادرة عند التحاقهم للمواطنة)، لم يكن ضرورياً على الإطلاق - من وجهة نظر المواطنين القدامى - أن يتمكن المواطنين الجدد من أن يشتركوا فى هذه الجمعيات. فكلما كانت الأشياء على طريقة المواطنين القدامى، كلما أحبوها أكثر. لم تنطبق الحدود المفروضة على عدد الأخيرين على المواطنين الجدد. أمكن زيادة عدد المواطنين الجدد بقدر ما كان ذلك مرغوباً؛ لقد كان محدوداً فقط بحجم الدولة وبحاجة الدولة إلى الجنود الذين يُعتمد عليهم. لأنه حتى حين كان واجب الإمداد بالقوات يقع على عاتق الولايات الخاضعة، احتاج الجيش بعد نواة تضمن جدارته بالثقة، وأمكن تقديم هذه النواة بواسطة فرقة طوارئ عسكرية من المواطنين الجنود. وهكذا ينشأ هناك فى المدينة النامية شكل ثان لتنظيم غير ديمقراطى للدولة. بينما يصبح مجتمع المدينة الكبرى من ناحية السيد المطلق للكومونات والولايات المتعددة، وهناك ينشأ داخل مواطنى الكومونة، التى تمتد الآن بعيداً وراء حدود إقليم المدينة الأسبق وأراضى المدينة، عداءً بين مواطنى النمط القديم أو المواطنين الكاملين (النبلاء) والمواطنون الجدد (العامة) وهاتان العمليتان تحولان الديمقراطية إلى أرستقراطية، ليس بواسطة الحد من دائرة المواطنين ذوى المميزات الكاملة، أو برفع بضعة أشخاص ذوى امتياز فوقهم، ولكن بواسطة نمو الدولة نفسها، التى تبقى فيها هذه الدائرة نفس الشيء بينما يكون لكل العناصر الجديدة التي التحقت بالجماعة القديمة أو العشيرة حقوق أقل أولا حقوق على الإطلاق. ولكن هذين النمطين لنشوء الأرستقراطية من الديمقراطية لاتتبعا نفس المجرى تماماً. واحدة من أنماط الاستغلال والسيطرة على الدولة من قبل قلة متميزة، وحكم جماعة واحدة على إمبراطورية بكاملها، ربما يتزايد دوماً فى مداه، كما ظهر من مثال روما، ويجب أن يتزايد، مادامت الدولة تمتلك طاقة حيوية ولم تطح بها قوة أعظم. ولكن الحال مع المواطنين الجدد ممن لا يتمتعون بحقوق سياسية هو أمر مختلف تماماً. مادام هؤلاء المواطنين هم الفلاحون فقط، فقد قبلوا حقوقهم المقيدة بهدوء بهذا القدر أو ذاك. فبسبب المسافة الكبيرة بين مزارعهم والمدينة، فإن القسم الأعظم منهم غير قادر على ترك موطنه فى الصباح الباكر، لحضور جمعية المواطنين فى سوق المدينة فى الظهر، والعودة ثانية فى المساء. ومع نمو الدولة، تصبح ظروفها الداخلية والخارجية معقدة أكثر فأكثر. وتصبح السياسة والحرب عملاً يتطلب تدريباً سابقاً ليس متاحاً للفلاح. ولأنه لا يتوفر لديه قدر من الفهم للمسائل الشخصية والفنية التى تناقش فى جمعيات المدينة السياسية، لذا يشعر بأضال حاجة لطلب حق المشاركة فيها. ولكن لايبقى جسم المواطنين الجدد مقصوراً على الفلاحين. فقد جعلوا الأجانب الذين يقيمون فى المدينة ويعتبرون مفيدين لها مواطنين. ولم تتضمن المقاطعات الخاضعة التى منحت لها المواطنة قرويين فحسب؛ بل إنها احتضنت حتى مدناً بها حرفيين وتجار، وكذلك ملاك عقاريين كبار ممن كانوا يملكون منزلاً بالمدينة بالإضافة إلى منزلهم الريفى. بمجرد أن يحوز الأخيرون حقوق المواطنة الرومانية، يبدأوا يشعرون بالحاجة للتحرك من المدينة الأصغر إلى المدينة الكبيرة، التى أصبحوا فيها أكثر من محتملين والتى جذبتهم اليها فرص العمل الأسهل والتسليات الأكثر إثارة. فى هذه الأثناء، وبالطريقة التى أشرنا إليها سلفاً صودر المزيد من الفلاحين بواسطة الحرب ومتطلبات العبودية. أفضل ملاذ لمثل هذه العناصر التى لا ميراث لها هو مرة أخرى المدينة الكبيرة، التى هم مواطنيها الذين حاولوا أن يشقوا طريقهم فيها كحرفيين أو حمالين، كباعة متجولين، أو مجرد بطانة لأحد السادة الأغنياء. الذين يصبحون عملاؤه بشأن كل أنواع الخدمة الممكنة، والتى تكون حاشيته - البروليتاريا الرثة. مثل هذه العناصر لديها الوقت والفرصة أكثر بما لايقاس من الفلاحين لتنشغل بسياسات المدينة، التي يمكن إدراك أثرها عليهم لمدى أبعد كثيراً ومباشرة. إن لديها اهتماماً نشيطاً للحصول على نفوذ سياسي، وفى إحلال جمعية كل المواطنين محل جمعية المواطنين القدامى فقط، وفى أن تحقق لكل المواطنين حق انتخاب موظفى الدولة وتشريع القوانين. حيث نمت المدينة، تزايد نمو عدد كل هذه العناصر ، بينما لم يتزايد دائرة المواطنين القدامى. أصبحت الدائرة من ثم أضعف فأضعف نسبياً، والأكثر حيث أنها لم تكن تملك أية قوة عسكرية منفصلة عن قوة كل المواطنين، ومادام المواطنون الجدد وكذلك المواطنين القدامى كانوا جنوداً، حاملين السلاح، ومدربون على استعمالها. وهكذا لدينا فى كل المدن من هذا النوع صراع طبقى مرير بين المواطنين القدامى والجدد منتهياً دوماً آجلاً أم عاجلاً بانتصار الأخيرين، ومن ثم الديمقراطية، والتى لاتبلغ شيئاً أكثر ولا أقل من توسع الأرستقراطية، على أية حال، لأن الحرمان من حق التصويت واستغلال المقاطعات التى ليس فيها حقوق للمواطن، يستمر. بالفعل، أحياناً ما، تجرى زيادة فى الإقليم، يرافقها فى بعض الأحيان استغلال أشد للمقاطعات، فى نفس الوقت الذى تحقق فيه تلك الديمقراطية تقدماً داخل المدينة الحاكمة.
ج - الدولة الرومانية توجد كل هذه الصراعات، التى هى سمة لكل مدينة تجارية مزدهرة فى العصور القديمة، متطورة تماماً فى روما حين تظهر هذه المدينة أولاً فى التاريخ. لقد كانت روما مدينة مميزة للغاية بموقعها وصيرورتها مدينة سلعية للبضائع. تقع المدينة على نهر التيبر، على مسافة ما من ساحل البحر، الذى لم يكن فى تلك الأيام عقبة أمام التجارة البحرية، لأن السفن كانت غاية فى الصغر فى الواقع، وكان ذلك ميزة لأن، كونها بعيدة عن الساحل، جعل المدينة محمية بشكل أفضل ضد القراصنة والفيضانات من المدن التى تقع على الساحل. ليس مصادفة أن كثيراً من المدن التجارية العظيمة الأقدم لم تنشأ على ضفاف ساحل البحر نفسه، ولكن على أنهار صالحة للملاحة على مسافة مامن أفواهها - بابل وبغداد، لندن وباريس، أنتورب وهامبورج. نشأت مدينة روما على نقطة كان مازال فيها التيبر صالحاً للملاحة وحيث هناك تلان محصنان بسهولة، امتدا لأسفل للالتقاء بالنهر، وهكذا تضمنا الحماية والأمن للمخازن التى تستخدمها السفن فى الشحن والتفريغ. كانت المقاطعة التى تقع فيها روما مازالت خشنة، يسكنها الفلاحون فقط، ولكن فى شمالها وجنوبها كانت هناك أراضى فى مرحلة متقدمة من التطور الاقتصادى، إتروريا وكامبانيا، مع صناعة نشطة، تجارة ممتدة، ولديها بالفعل اقتصاداً زراعياً مؤسس على العمل الإجبارى. ومن أفريقيا جاء القرطاجنيون الذين كانوا فى حوالى نفس مرحلة تطور الحضارة مثل المستعمرات الأتروسكانية والإغريقية فى إيطاليا الجنوبية، مع بضاعتهم. هذا الموقع الجغرافى مميز جداً لروما. لقد بدت المدينة التجارية لشعوب محيطها المباشر، اللاتين والفولسكيان، أنها تمثل حضارة أعلى؛ ولكن لهؤلاء الذين فى التخوم الأكثر بعداً، الإتروسكبين والإغريق الإيطاليقيين، بقى الرومان مجرد شعب فلاحى فقط. وفى الحقيقة، بقيت الزراعة المصدر الرئيسى للعيش بالنسبة للرومان، بالرغم من كل الزيادة فى التجارة. وحيث أنهم لم يكونوا قريبين من البحر، فلم يعرفوا شيئاً عن الملاحة وبناء السفن، ولكن ترك للتجار الأجانب وربابنة السفن مهمة الإبحار إلى روما والقيام بتجارتها. بقى هذا الظرف ثابتاً ويفسر جزئياً حقيقة أن اليهود شكلوا مثل هذه المستوطنة المهمة فى روما فى زمن قيصر وأخلافه المباشرين، بمعنى آخر، حوالى زمن أصل المسيحية، لقد نجحوا فى ذلك الوقت فى السيطرة على قسم من التجارة الرومانية. يمكن أن نلاحظ أن ظرفاً مشابهاً يوجد حتى اليوم فى القنسطنطينية حيث التجارة فى أيدى غير الأتراك بصفة رئيسية. كلما ازدهرت روما بسبب تجارتها، كلما تنازعت أكثر مع جيرانها. حفز السوق من أجل المواد الغذائية، الذى فُتح بواسطة التجارة، الملاك العقاريون الرومان لتوسيع ممتلكاتهم على حساب جيرانهم، بينما راود الأخيرون الجشع لثروة المدينة. من ناحية أخرى، نشأت صراعات تنافسية مع المدن الإتروسكية. خيضت سلسلة من الحروب الطويلة والحادة من قبل المجتمع الشاب، ولكنه خرج منها منتصراً، والفضل للموقع النوعى المزدوج، الذى ذكرناه سلفاً. انتصرت المصادر التقنية الأعلى والتنظيم الحازم للمدينة الكبيرة على الفلاحين، ولكن الإتروسكيين، الذين كانوا قد فقدوا سلفاً بعض قوتهم العسكرية نتيجة لاستبدال العمل الإجبارى بطبقة فلاحية حرة، قد هزموا بسبب خشونة وقوة احتمال الفلاح الرومانى. بمجرد ان أصبحت روما قوية بما فيه الكفاية لأن تتخلص من الإتروسكيين، تعلمت عبر هذا الإجراء أى عمل ممتاز يمكن أن تكونه الحرب. كان يمكن إحراز ثروة أكثر بما لايقاس بالحرب منها بالتجارة، مادامت الأخيرة كانت فى الغالب فى أيدى الأجانب، أو من الزراعة، التى أنتجت أرباحاً طفيفة للغاية كل عام ، بسبب انشغال الفلاحين. إذا كانت الحروب ناجحة، وكانت قد شنت ضد مدن وأمم ثرية، فكثير من النهب والجزية قد تأتى. التجارة وقطع الطريق مرتبطان بوثوق منذ البداية الأولى، ولكن من المحتمل أنه لم تكن هناك مدينة أخرى قد أكدت كثيراً مرحلة قطع الطريق، أو جعلتها حتى مؤسسة قومية، إن لم يكن أساساً لعظمة المدينة، مقيمة كل المؤسسات القومية على هذا الأساس، كما فعلت روما. بمجرد أن قهرت ونهبت المدن الإتروسكية وجعلتها تدفع جزية لها، تحولت روما نحو هؤلاء الجيران الأغنياء فى الجنوب التى تضمنت ثروتهم النامية أيضاً فقدانا لقوتهم العسكرية، لأسباب غالباً ما صرحنا بها فى هذه الصفحات، انتهاءاً إلى أن الغنيمة كانت فى نفس الوقت مرغوبة أكثر وأسهل كثيراً فى أخذها. ولكن كانت هذه الثروة تجذب فى نفس الوقت أنظار شعب فلاحى آخر، السامانيينSAMNITES ، الذى كان يجب أن يهزم حتى يمكن أن تأخذ روما المدن الإغريقية فى جنوب إيطاليا. لقد كانت حالة قبيلة فلاحية تقاتل قبيلة فلاحية، ولكن السامانيين لم تكن لديهم مدينة كبيرة، مثل روما، فى مركزها، التى ربما وفرت تنظيماً مركزياً للقوى الفلاحية المقاتلة.من ثم خضعوا وهكذا تمهد الطريق لروما لتنهب وتُخضع المدن الثرية فى إيطاليا الجنوبية. لم تكن هناك سوى خطوة واحدة من إيطاليا الجنوبية إلى صقلية، التى، لم تكن أقل ثروة من القسم الإغريقى من إيطاليا، التي جذبت بقوة أيضاً جيوش روما اللصوصية. ولكن فى هذا الحقل واجه الرومان عدواً خطراً، القرطاجنيين. قرطاجنة (قرطاج) مدينة تجارية قوية ليست بعيدة عن تونس اليوم، أخضعت النصف الغربى من الساحل الشمالى الإفريقى، وكذلك، إسبانيا، وكانت تحاول الآن أن تفعل نفس الشيء مع صقلية تحت تأثير نفس الغريزة اللصوصية مثل روما،. كانت قرطاجنة مستعمرة للفينيقيين، الذين اضطروا منذ فترة مبكرة بسبب طبيعة بلادهم أن يشتغلوا بالملاحة، وحازوا قوتهم الكبرى فى هذا المجال. اكتسبت قرطاجنة أيضاً عظمتها وثروتها بواسطة الملاحة، أنتجت قرطاجنة بحارة وليس فلاحين، وبدلاً من اقتصاد فلاحى طورت نظام اللاتيفونديا بواسطة العبيد الأسرى الرخيصين، وأيضاً بعض التعدين. لقد افتقرت من ثم إلى جيش فلاحى شعبى. بمجرد أن اضطرت قرطاجنة أن تخترق خط الساحل إلى الداخل، حتى تعزز غزواتها وتطور قوة عسكرية فى البر، كان عليها أن تلجأ لاستئجار المرتزقة. بدأ الصراع بين روما وقرطاجنة بالحروب الثلاثة المسماة البونية، فى 264 ق.م، بالطبع كان هذا الصراع قد حسم بالفعل بهزيمة هانيبال التى أدت لنهاية الحرب البونية الثانية فى 201 ق.م. أصبحت هذه الصراعات حروباً بين جيوش المرتزقة وجيوش الفلاحين، بين قوى محترفة وشعبية. غالباً ماكان الأولون ناجحين؛ شارفت روما فى ظل هانيبال على الهزيمة ولكن جيش الميليشيا، إذ كان يدافع عن بيوته، تبين أخيراً أنه أكثر احتمالاً، وأجبر خصم روما على الركوع فى نهاية النزاع العاتى. سويت قرطاجنة بالأرض، ودمر سكانها؛ وكانت مواردها الكثيفة من اللاتيفونديا، والمناجم، والمدن المهزومة، غنيمة المنتصر. هكذا سقط خصم روما الأشد خطراً؛ حكمت روما الآن بدون تدخل فى النصف الغربى من البحر الأبيض المتوسط، وسرعان ماكانت تحكم أيضاً النصف الشرقى، الذى كانت أممه قد تقدمت بعيداً بالفعل على الطريق القديم للتدمير، الذى يعنى استبدال العمل الإجبارى للعبيد أوالأقنان، بعمل الفلاحين الأحرار وإفقار الفلاح بواسطة حروب لانهاية لها، واستبدال قوى المرتزقة بالميليشيا. كانت أمم شرقى المتوسط الآن ضعيفة للغاية من وجهة نظر عسكرية حتى أنها لم تكن قادرة على إبداء أية مقاومة جدية لجيوش روما. أخضعت الأخيرة مدينة بعد أخرى، دون صعوبة، وبلداً بعد آخر، بغرض نهبها والحكم عليها بأن تدفع جزية أبدية. من هذا الوقت فصاعداً، أصبحت سيدة العالم القديم حتى نجح البرابرة التيوتون فى تهيئة نفس المصير لروما الذى أعدته روما بالفعل للأغارقة، بالرغم من أن الأخيرين كانوا أرفع شأناً بما لايقاس بالنسبة لروما بقدر ما تعلق الأمر بالفن والتعليم. لم يكن الرومان أبداً أكثر من ناهبين للأغارقة، ليس فقط فى الاقتصاديات والسياسة، ولكن أيضاً فى الفلسفة والفن. إن أعظم مفكرى روما وشعراءها كان جميعهم تقريباً منتحلي آراء الآخرين. إن الأرض الأغنى فى العالم المعروف آنذاك، التى كانت قد راكمت الكنوز التى لاتحصى لحضارة استمرت لقرون، أو كما فى حالة مصر، لآلاف السنين، تعرضت الآن لنهب وسرقة روما. إن الإجهاد الضخم للقوى العسكرية الذى أوصل لهذه النتيجة المهيبة، كان متاحا لروما فقط حين كانت روما ديمقراطية، مدينة كان وجودها مثار اهتمام جاد - وإن لم يكن كله بدرجة متساوية - من كل طبقات السكان. نجح المواطنين الجدد، أو العامة، فى صراع طويل وخطير، يستمر من القرن السادس حتى الرابع ق.م، فى أن ينتزعوا من المواطنين القدامى، النبلاء، امتيازاً بعد امتياز، حتى انمحت فى النهاية كل الاختلافات القانونية بين الفئتين وكان للجمعية الشعبية لكل المواطنين امتياز سن القوانين وانتخاب أعلى الرسميين، القناصلة، البريتوريون، الايديليون AEDILES، الذين دخلوا لاحقاً مجلس الشيوخ بعد انتهاء مدة منصبهم؛ وكان مجلس الشيوخ الحكومة الفعلية للدولة بكاملها. ولكن لم يحز الشعب الرومانى هكذا السيطرة على الدولة، ولكن فقط حق انتخاب الحكام. وكلما غلبت البروليتاريا الرثة على سكان المدينة كلها أصبحت هذه الديمقراطية بالفعل أداة للكسب، وسيلة لابتزاز الهبات والتسليات من المرشحين. لقد أصبحنا سلفاً ملمين بالوكلاء CLIENTES، الذين أجَّروا أنفسهم للسادة الأغنياء لتقديم خدمات من أى نوع. فى حالة هؤلاء الوكلاء، الذين كان لهم حق التصويت، كانت واحدة من أكثر خدماتهم أهمية هى التصويت وفقاً لرغبات حُماتهم. سيطر كل رومانى ثرى، كل عائلة ثرية، هكذا على أصوات عديدة فى الجمعية الشعبية، التى سخروها لخدمة مصالح العصبية التى انتموا اليها. احتفظت عصب قليلة من الأسر الغنية بهذه الطريقة بحكومة الدولة فى أيديها ومرة بعد مرة سوف تنجح فى تأمين انتخاب أعضاء عائلاتها فى أعلى مناصب الدولة، ومن ثم فى النهاية إلى مجلس الشيوخ. لم تغير الديمقراطية أى شيء فى هذا النظام عدا أنها سمحت أيضاً للعائلات البربرية الثرية أن تدخل فى الدائرة المميزة، التى كانت مقصورة على النبلاء بينما بقى النظام الارستقراطي على حاله. كان القناصلة والبريتوريون بعد هذه الانتخابات، مضطرين لأن يقضوا العام الأول من نشاطهم الرسمى فى روما. تولى كل منهم فى العام الثانى إدارة ولاية وحاول فى هذا الحقل الجديد أن يسترد النفقات التى دفعها بسبب الترشيح للمنصب، وأيضاً أن يحقق بعض الربح فى الاستثمار، لأن هؤلاء الموظفين لم يتقاضوا أجورا؛ لقد كانت المناصب "مناصب شرفية". من ناحية أخرى، كان منظور الربح الذى يمكن أن يتحقق فى الولايات بالاغتصاب والارتشاء، وغالباً أيضاً بواسطة سرقة فاضحة، سبباً للضغط على ترشيح المرء للمنصب بشكل أشد توكيداً انتهاءاً إلى أن بز المرشحين المتعددين كل منهم الآخر فى هداياه وتسلياته للشعب. ولكن كلما زادت الطرق المتنوعة لشراء الأصوات الانتخابية منظورات الكسب من بيع البرولتياريا الرثة امتيازات المواطنة، كلما عظم الإغراء أمام هؤلاء الفلاحين الذين حازوا حقوق المواطنين الرومان لأن يتخلوا عن شرطهم البائس، الكادح والمقهور فى الريف ويرحلوا إلى روما. زاد هذا الاتجاه بدوره عدد الغوغاء التى تملك حق الانتخاب، وأيضاً الطلبات التى تحملها المرشحين. لم يكن هناك فى عهد قيصر أقل من 320000 مواطن رومانى فى روما كانوا يتلقون منح الحبوب من الدولة، كان عدد الأصوات الانتخابية الذي يمكن أن يشترى من ثم من المحتمل أن يصل إلى حوالى 320000. ربما يمكننا أن نتخيل أية كميات ضخمة كانت تستهلك فى الانتخاب. فى عام 53 ق.م، خلق شراء الأصوات الانتخابية مثل هذا الطلب على النقود، حتى أن الفائدة على رأس المال قد ارتفعت لحد بعيد لدرجة أن تلاها أزمة . ويلاحظ مومسن أنه كان على النبالة (النبالة الساعية للمناصب) أن تدفع رغم أنفها "تكلف قتال مصارعين 720000 سيسترسيس (حوالى 40000 جنيه إسترلينى). ولكنهم كانوا سعداء بأن يدفعوا لأنهم أبعدوا هكذا كل الأشخاص الذين لم يكن لديهم كثير من النقود عن المنصب" . بالفعل، لقد دفعوا مراراً، حيث كانت هناك انتخابات جديدة كل عام. وهم لم يدفعوا، على أية حال، إنطلاقاً من أى دافع مثالى، ولكن بسبب أنهم عرفوا أنهم كانوا يشترون هكذا الإذن بأن ينخرطوا فى نهب أكثر ربحاً للمقاطعات صانعين من ثم تجارة جيدة للغاية. أصبحت "الديمقراطية"، أو السيطرة على سكان الإمبراطورية الرومانية بكاملها، التى تحتوى على خمسين أو ستين مليوناً من السكان، بواسطة بضع مئات من آلاف المواطنين الرومان، أصبحت هكذا واحدة من أشد الوسائل فعالية فى المغالاة لأعلى درجة فى نهب وتجريد الولايات، بواسطة زيادة عدد الأشخاص المشاركين فى هذه العملية بكثافة. لم يفعل الحكام فقط كل مافى مقدورهم فى طريق الابتزاز، "ولكن يتبنى كل منهم حشداً من "الأصدقاء" معه، ممن ساعدوه فى الانتخاب، والذين يُطلقون الآن، ليسرقوا وينهبوا تحت جناحه الحامى كمكافأة. ولكن هذا لم يكن كل شيء، فرأس المال الربوى في روما كان أيضاً قد أطلق له العنان ضد الولايات، التى أتيحت له فيها كل الفرصة لأن يطور قوته التدميرية إلى حدها الأقصى، وأن يحرز موقعاً ذا أهمية لم يتمتع به فى أى جزء آخر من العالم القديم.
د - الربا الربا نفسه قديم للغاية، قدم التجارة تقريباً. بينما لا يمكننا تتبعه حتى العصر الحجرى، فمن المحتمل رغم ذلك أن يكون أقدم من استخدام النقود. بمجرد أن تشكل عدد من الاقتصاديات المنزلية بممتلكات محددة لكل عائلة، فقد كان من الممكن لعائلة ما أن تصبح أثرى من الأخريات فى الماشية، الأرض، العبيد، بينما يمكن أن تصبح العائلات الأخرى فقيرة. لقد كان من ثم طبيعياً للفلاحين أن يوجدوا فى أوضاع يكونوا فيها متورطين في الاقتراض من فائض جار ثرى، إما حبوباً أو ماشية، وعلى المقترض أن يعد بأن يقدم بدلها بعد فترة، مع كمية إضافية، أو أن يقوم بمهمة معينة فى المقابل - وهذه هى بداية عبودية المدينين. مثل هذه التعاملات فى الربا ممكنة، وتجرى بالفعل، فى اقتصاد قائم على المنتجات الطبيعية فقط، حتى بدون استعمال النقود. إن ملكية الأراضى الكبيرة والربا، مرتبطان بوثوق منذ البداية الأولى؛ ورأس المال الربوى - يسمى اليوم "المالية العليا" - وكبار الملاك العقاريين كانوا فى أوضاع كثيرة فى أفضل حالات الوفاق. كان الملاك الكبار فى روما أيضاً مرابين منذ زمن قديم بقدر مايمكن أن نوغل فى التاريخ، و لم يكن الصراع بين النبلاء والعامة صراعاً فقط بين الملاك العقاريين والفلاحين من أجل استخدام مشاعات الدولة وإنما أيضاً صراعاً بين المرابين والمدينين. ولكن كانت إنتاجية العمل الفلاحى، ومن ثم الفائض الذى ينتجه، ضئيلين لدرجة أن استغلال جماهير عظيمة من الرجال كان ضرورياً من أجل تزويد المستغلين بأى ثروة ذات وزن. بينما كان الأرستقراطيون الرومان يستغلون بالربا الفلاحين فى التخوم المحيطة بروما فقط، فربما كانوا يضطهدون هؤلاء الفلاحين إلى حد بعيد دون أن يجنوا شيئاً كثيراً جداً لأنفسهم. ولكن ازدهرت أحوال المرابين الرومان بالضرورة بشكل أكثر إرضاءاً وأنتجت ثروة معتبرة أكثر، حتى أنهم حصلوا تدريجياً على منفذ لكل عالم زمنهم. لكن تضمن هذا أيضاً تقسيماً للعمل. إن أخذ فائدة ربوية من الجيران لم يكن عملاً يتطلب انتباهاً كبيراً. وكان الأرستقراطيون قادرين على أن يعنوا به دون إهمال تدبير أملاكهم أو إدارة الدولة. من ناحية أخرى، لقد كان من الصعب استغلال أسبانيا وسوريا، الغال، وشمال أفريقيا، وإدارة أقدار الدولة الرومانية الضخمة فى نفس الوقت. يبدأ الآن عمل الربا فى التميز أكثر فأكثر عن (عمل) الحكومة. بجانب النبالة الرسمية، التى كانت تسرق الولايات بصفتها كقواد وولاة، غير مترفعة فى نفس الوقت عن أن تكسب قليلاً من النقود جانبياً، تطورت هناك الآن طبقة خاصة من الرأسماليين الربويين الذين شكلوا أيضاً تنظيماً اجتماعياً خاصاً، طبقة "الفرسان". ولكن كلما أصبحت طبقة الرأسماليين أكثر عدداً، وهي التى كانت منخرطة على سبيل الحصر فى التعاملات المالية، كلما تنوعت أكثر أنماط هذه التعاملات. كانت واحدة من الوسائل الرئيسية لنهب الولايات جباية ضرائبها. لم توجد آنذاك بيروقراطية يمكن أن تتولى جمع الضرائب، وكانت الطريقة الأكثر ملائمة لجمعها هى أن يوكل هذا الواجب بالنسبة لولاية معينة لمالى رومانى، الذى يتعين عليه أن يسلم إلى الدولة القيمة الكلية للضريبة ويترك ليكافئ نفسه بقدر ما يستطيع. كان هذا نظاماً للضرائب مشابها لذلك الذى مازال يمارس فى كثير من مناطق الشرق مصحوباً بتلك النتائج الوبيلة، فلن يكتفى جابى الضرائب بالطبع بالكمية التى يستحقها عن عدل؛ فسكان الولايات تحت رحمته ويستنزفون. يتصادف غالبا جدا أن مدنا معينة أو ملوكاً فرضت عليهم الجزية لا يتمكنون من أداء المبالغ التى فرضت عليهم. أظهر الماليون الرومان فى هذه الحالة استعداداً لأن يدفعوا مقدمات إليهم، مقابل فائدة بالطبع. وهكذا، على سبيل المثال، فإن الجمهورى الكبير جونيوس بروتوس قام بـ "مضاربات ممتازة بإقراض نقود لملك كابادوشيا ولمدينة سلاميس. لقد أعطى قرضاً للأخيرة بفائدة قدرها 48فى المائة "(سالڤ-;---;-----;---يولى، نفس المصدر، ص 24) لم يكن هذا معدلاً عالياً استثنائياً للفائدة. يفيد سالڤ-;---;-----;---يولى فى كتابه بأن قروضاً أعطيت لمدن بمعدلات تصل إلى 75 فى المائة. ومعدل الفائدة سيكون حتى أعلى فى حالات المخاطر الاستثنائية. وهكذا، أقرض بيت التمويل الكبير لرابيريوس فى عهد قيصر ملك مصر بطلميوس المنفى كل موارده وموارد أصدقاءه، بمعدل فائدة بلغ مائة فى المائة. والحقيقة أن رابيريوس قد قام باستثمار سيئ، لأن بطلميوس حين استعاد عرشه، عجز عن أن يدفع وألقى بدائنة الملحف، الذى أدعى الدولة المصرية بكاملها ملكه الخاص، فى السجن. هرب المالى إلى روما، على أية حال، وأعطاه قيصر فرصة لأن يصنع ثروة جديدة فى عقود من أجل الحرب الأفريقية . كانت هذه العقود شكلاً آخر لكسب النقود. كانت الجزيات التى تجمع فى خزائن رومانية من الولايات الخاضعة ضخمة. ولكن الحروب التى لاتتوقف تكلف كثيراً من النقود أيضاً، لقد أصبحت وسائل نجح الماليون بواسطتها في أن يصبوا فى أكياسهم التى لا قاع لها كثير من الغنيمة التى أخذت من الولايات التى لم تذهب إلى الماليين مباشرة بل سلمت إلى الدولة. لقد قاموا بتزويد الدولة بإمدادات الحرب - وهو مصدر دائم لكسب النقود، حتى يومنا هذا. ولكنهم سوف يشرعون فى ممارسة الربا على دولتهم، حين تصادف أن تورطت الأخيرة مالياً، ولم يكن ذلك أمراً غير عادى، لأنه كلما نجحت الدولة فى اجتلاب غنيمة أكثر من الولايات كلما ارتفعت عالياً ادعاءات مختلف أنواع البطانات على الدولة. كان يجب أن تقدم أحياناً كميات كبيرة للدولة، كميات أكبر مما امتلكه أى فرد. لهذا الغرض، فإن تكوين شركات المحاصة كان مفيداً للغاية. إن الربا ليس فقط الشكل الأبكر للاستغلال الرأسمالى، انه أيضاً الوظيفة الأولى لشركات المحاصة. أسس ماليو روما شركات تماثل بنوك المحاصة عندنا، كان لديهم مديرين، وصيارفة، ووكلاء.. إلى آخره. تكونت فى ظل سولاSULLA شركة الأسيانى Asiani برأس مال ضخم إلى الحد الذى استطاعت فيه الشركة أن تقرض الدولة عشرين ألف تالنت، أو خمسة وعشرين مليون دولار. زاد هذا القرض بعد إثنى عشر عاماً إلى مائة وعشرين ألف تالنت.... كانت تستثمر موارد أصغر فى حصص بالشركات الكبيرة انتهاءاً إلى، كما يقول لنا بوليبيوس (السادس، 17) أن المدينة بأجمعها (روما) كانت تشارك فى كل المشاريع المالية المتنوعة التى ترأستها بعض الشركات القليلة البارزة. كانت المدخرات الأصغر لها حصتها فى مشاريع جباة "الضرائب، التى حصلت الضرائب وأجرت أراضى الدولة، وأثمرت أرباحاً ضخمة ". (سالڤ-;---;-----;---يولى، نفس "المصدر، ص ص 40،41) كل هذا يبدو حديثاً جداً بالنسبة لنا، وإنه علامة على الأقل على حقيقة أن المجتمع الرومانى فى الوقت الذى كانت تولد فيه المسيحية قد تقدم إلى عتبة الرأسمالية الحديثة، ومع ذلك فإن تأثيرات هذه الرأسمالية القديمة كانت مختلفة تماماً فى نوعها عن تأثيرات الرأسمالية الحديثة. إن الطرق التى وصفناها هنا هى تقريباً نفس الشيء الذى نتج عن تكوين الرأسمالية الحديثة، الطرق التى شخصها "ماركس باعتبارها طرق "التراكم الأولى": مصادرة ملكية السكان الفلاحين، نهب المستعمرات، تجارة العبيد، الحروب التجارية، والديون القومية. نجد فى الأزمنة الحديثة أن هذه الطرق تنتج نفس الآثار المدمرة والمخربة التي أنتجتها فى العصور القديمة. ولكن الفرق بين العصور الحديثة والقديمة يكمن فى حقيقة أن العصور القديمة كانت قادرة على أن تطور فقط التأثيرات المدمرة للرأسمالية، بينما تبدأ الرأسمالية الحقبة الحديثة بالتدمير حتى تطور شروط إقامة أنماط إنتاج جديدة وأعلى. إن الطريقة التى تطورت بها الرأسمالية الحديثة ليست بالتأكيد أقل بربرية، وقسوة من تلك التى تابعتها الرأسمالية القديمة، ولكن تخلق الرأسمالية الحديثة على الأقل أساساً للتقدم ماوراء هذا النشاط القاسى، والمدمر، بينما الرأسمالية القديمة لم تستطع أبداً أن تتجاوز هذا الحد. لقد رأينا سلفاً أسباب ذلك فى الفصل السابق. إن التراكمات التى صنعتها الرأسمالية الحديثة، بالنهب والاغتصاب وبأعمال العنف الأخرى، تستخدم فقط جزءاً صغيراً لأغراض الاستهلاك، وتخصصها بصفة رئيسية لإنتاج وسائل إنتاج جديدة وأرقى، وهكذا تزيد إنتاجية العمل الإنسانى. لم تجد رأسمالية العالم القديم الشروط الأولية الضرورية لهذه المهمة. كان تأثيرها على نمط الإنتاج محدوداً فى استبدال عمل الفلاحين الأحرار بعمل العبيد، الذى كان يساوي خطوة إلى الخلف من الناحية الاقتصادية فى أكثر حقول الإنتاج أهمية، ونقص فى إنتاجية العمل الاجتماعى، وإفقار للمجتمع. مكاسب رجال المال الرومان هذه، وكذلك غنيمة القادة والرسميين الرومان، التى لم تتجه لتوظيف جديد فى الربا، بمعنى آخر فى خدمة نهب جديد، كان يجب إما أن تبدد من ناحية، فى المتع، وكذلك فى إنتاج وسائل المتع - ويجب أن نحسب ليس فقط القصور ولكن أيضاً المعابد من بين وسائل المتع هذه - أو ربما تخصص هذه المكتسبات، إذا تجاهلنا تلك التى سحبت من عمليات التعدين القليلة، لحيازة ملكية، بمعنى آخر لمصادرة ملكية الفلاحين الأحرار واستبدال العبيد بهم. خدم نهب وتخريب المقاطعات من ثم فى أن يزود ماليي روما فقط بوسائل تتيح نقص إنتاجية العمل الاجتماعى، بسبب إنتشار العبودية، لينطلق بسرعة مما إذا كان الحال على خلاف ذلك. لم يكن التدمير فى حقل معين يواجه بازدهار اقتصادى فى حقل آخر، كما هى الحال أحياناً على الأقل مع الرأسمالية الحديثة، ولكن عجَّل التدمير فى المقاطعات أيضاً تدهور روما. من ثم، وكنتيجة لسيادة روما العالمية، يبدأ الإفقار العام للعالم القديم فى التحرك بشكل أسرع بعد بداية العصر المسيحى، بخلاف ما كان قبل ذلك. ولكن توارت فى الظل لوقت طويل أعراض الإفلاس الاقتصادى بسبب الفخامة الباهرة لوضع روما. جمعت روما فى عقود قليلة، معاً تقريباً كل الأشياء التى خلفتها قرون، وحتى آلاف السنين، من العمل الفنى المتقن، فى كل مراكز الحضارة حول البحر الأبيض المتوسط. أصبح الإفلاس السياسى للنظام أشد سرعة من إفلاسها الاقتصادى. هـ - الاستبداد لقد دمرت روما الحياة السياسية فى كل الأقطار التى غزتها، بكسر قدرتها على المقاومة وحرمانها من استقلالها. كانت كامل سياسة هذه الإمبراطورية الهائلة مركزة فى مدينة روما فقط. ولكن من هم الأشخاص الذين أصبحوا حملة الحياة السياسية فى تلك المدينة؟ لقد كانوا رجال مال فكروا فى مراكمة الفائدة على الفائدة فقط، وارستقراطيين ترنحوا من متعة إلى متعة أخرى، الذين احتقروا العمل المنتظم، وكل جهد، حتى جهد الحكم وشن الحرب؛ وأخيراً البروليتاريا الرثة، التى عاشت بواسطة بيع قوتها السياسية لمن يدفع أكثر. وهكذا، يفيد سويتونيوس فى سيرة حياة قيصر، فيما يتعلق بهبات الأخير بعد الحروب الأهلية بمايلى: "أعطى كل رجل من السكان، بالإضافة إلى عشرة مودى MODII من الحبوب وعشرة أرطال من الزيت، الثلاثة مائة سيسترسس التى كان قد وعد بها سابقاً، سوية مع مائة سيسترسس كفائدة على الأقساط. (بمعنى آخر20 جنيه إسترلينى فى وقت كان بإمكان المرء أن يعيش فيه بثلاث سنتات فى اليوم.ك) وشرع أيضاً فى دفع إيجارهم السنوى (لهؤلاء الذين يعيشون كمستأجرين فى المبانى.ك) ، فى روما حتى ألفى سيسترسس للعائلة (100 جنيه إسترلينى)، وفى إيطاليا حتى خمسمائة سيسترسس (25جنيه إسترلينى). وبالإضافة إلى ذلك أقام مأدبة (لمائتى ألف شخص، ك) ووزع اللحم مجاناً وبعد الانتصار على أسبانيا أقام أيضاً مأدبتى إفطار عامتين، لأن الأولى بدت له هزيلة للغاية ومن ثم ليست جديرة بكرمه؛ "وطبقاً لذلك رتب لإفطار ثان، بعد خمسة أيام تالية الذى كان عيداً رائعاً " (الفصل الثامن والعشرون) لقد "أعد ألعاباً أيضاً ذات أبهة لم يُسمع بها، يتلقى فيها ممثل واحد، ديسيموس لابيريوس، خمسائة ألف سيسترسس، أو 25000جنيه إسترلينى مقابل عرض واحد" ! يقول سويتينيوس فيما يتعلق بأغسطس: "غالباً ماوزع هدايا على الشعب، لم تكن دائماً بنفس القدر، أحياناً أربعمائة سسترسس (20جنيه إسترلينى) أحياناً ثلاثمائة سسترسس (15جنيه إسترلينى) أحياناً مائتى وخمسين سسترسس فقط (12جنيه إسترلينى) للشخص. وهو لم يغفل حتى عن الفتية الصغار، بالرغم من أنهم فى توزيعات أخرى لم يتلقوا شيئاً الا إذا كانوا فوق سن الحادية عشر. وبالمثل، فى أعوام المجاعة غالباً ماوزع الحبوب على كامل السكان بسعر "زهيد للغاية، وشدد تعليماته من أجل توزيع نقود ". (أوكتاڤ-;---;-----;---يوس، الفصل الثانى عشر) من الطبيعي إذا سمحت البروليتاريا لنفسها بأن تباع بهذه الطريقة، بعد أن وضعت قواعد فسادها فى نظام واستعرضته علناً، أن تفقد استقلالها السياسى كلية. لقد باتت الآن أداة فقط فى أيدى من يدفع أكثر. أصبح الصراع من أجل السلطة فى الدولة تنافساً بين عصب قليلة كانت قادرة على أن تُراكم الغنيمة الأعظم والتى تمتعت بأوسع ائتمان مع الماليين. كان هذا العامل مؤكداً لحد كبير بنشوء نظام المرتزقة، الذى كان يجعل من الجيش سيد روما أكثر فأكثر. بعد أن جرى توسيع نظام المرتزقة، تدهورت البسالة الحربية لدى المواطن الرومانى - أو بالأحرى سبب تدهور بسالته زيادة تطبيق نظام المرتزقة. باتت كل عناصر السكان القادرة على الخدمة العسكرية موجودة فى الجيش، وفَقَدَ السكان خارج الجيش قدرتهم القتالية وروحهم القتالية أكثر فأكثر. كان هناك عاملان يعملان بصفة خاصة فى اتجاه تدني الجيش أكثر فأكثر حتى يكون أداة طيعة فى يد أى قائد عسكرى يمكن أن يُقدم له أو يَعِدَهُ بمرتب وجزية كافيين، وبسبب كونه بات محكوماً أقل فأقل بالاعتبارات السياسية. كان العامل الأول هو العدد المتزايد لغير الرومان، من سكان الولايات، وحتى الأجانب فيه، عناصر لم يكن لها حقوق كمواطنين، عناصر كانت مُستبعدة كلياً من أى إسهام فى الحياة السياسية، العامل الثانى كان النفور المتزايد من قبل الأرستقراطية محبى المتع، والمخنثين من الاشتراك فى الخدمة العسكرية. لقد قدمت هذه الطبقة حتى الآن الضباط العسكريين، الذين كانوا يخلون الأرض أكثر فأكثر للضباط المحترفين؛ لم يكن الأخيرين مستقلين اقتصادياً، كما كان الأرستقراطيون، ولم يكن لديهم اهتمام أيا كان بنزاعات الأحزاب الرومانية، التى كانت فى الواقع صراعات بين زمر الأرستقراطية المختلفة. حيث تزايد غير الرومان فى الجيش أكثر فأكثر، بينما استمر استبدال الضباط الأرستقراطيين بالضباط المحترفين ، كلما أصبح استعداد الجيش أعظم لبيع نفسه لمن يدفع أكثر وأن يجعله حاكم روما. وهكذا وُضع الأساس للقيصرية، الشرط الذى مَكَّن أغنى رجل فى روما من أن يبتاع الجمهورية، مشترياً السلطة السياسية لنفسه، وهذا بدوره كان حافزاً يمكن أن يحث قائداً ناجحاً، له السيطرة على الجيش، لأن يسعى ليصبح أغنى رجل فى روما، الأمر الذى يمكن أن يحققه بأفضل شكل بتجريد خصومه ومصادرة ملكيتهم. تحتوى الحياة السياسية للقرن الأخير من الجمهورية فى التحليل الأخير على لا شيء سوى الحروب الأهلية – وهو مصطلح شديد الخطأ، حيث أن المواطنين لم يكن لهم شأن بهذه الحروب. لم تكن حروب مواطنين، وإنما حروب بين ساسة فرديين، الذين كان أغلبهم ماليين جشعين وقادة بارزين فى آن معاً، ذبحوا وسرقوا بشكل متبادل كل منهم الآخر حتى نجح أغسطس أخيراً، بعد أن تغلب على كل منافسيه، فى تأسيس حكمة الفردى الدائم. نجح قيصر إلى مدى معين بالفعل فى هذا قبل أيام أغسطس؛ كان قيصر، مغامراً أرستقراطياً غارقاً فى الديون، وقد تآمر مع اثنين من أغنى الماليين الرومان، بومبى وكراسوس، بغرض الاستيلاء على سلطة الدولة. يصف مومسن كراسوس على النحو التالى: "كانت ثروته قائمة على شراء الأرض خلال الثورة؛ ولكنه لم يحتقر أى وسيلة لكسب المال: لقد قام بعمليات بناء فى العاصمة كانت عظيمة بقدر ما كانت حكيمة، وكان مرتبطاً برجاله المعتقين الموزعين فى أكثر المشروعات تنوعاً؛ وداخل روما وخارجها سوف يسلك كمصرفي إما مباشرة أو من خلال أصدقاءه، لقد قدم نقوداً لأصدقائه فى مجلس الشيوخ وسيقوم لحسابهم، بتنفيذ الأعمال العامة أو يرشو الهيئات القضائية، أيا ما كان مطلوبا. لم يكن مرهفا فى اختياره فى كيفية كسب النقود... وهو لن يتردد فى قبول ميراث لأن الوصية التى ورد اسمه فيها كانت تزويراً فاضحاً" . لم يكن قيصر أفضل، لم تَبدُ أى طريقة لكسب النقود غاية فى الوضاعة بالنسبة له. سويتونيوس، الذى اقتبسنا منه سلفاً عدة مرات، عنده ما يقوله لنا فى سيرته الذاتية عن قيصر الذى مجده مومسن فيما بعد: "لم يظهر إيثاراً سواء كقائد أو كحاكم للدولة، لأنه كما نعلم من عدة مصادر فقد تلقى نقوداً من حلفاءنا حين كان نائب قنصل PROCONSUL فى أسبانيا، تسول منهم حتى يدفع ديونه، ونهب عدة مدن فى لويستانيا، متظاهراً بأنها كانت معادية، بالرغم من أنها امتثلت لأوامره وفتحت أبوابها عند وصوله. سرق المعابد والحرم المقدسة، المليئة بثراء بالهبات فى بلاد الغال، لقد دمر مدناً مراراً وتكراراً بسبب غنائمها أكثر مما بسبب انتهاكاتها. كان لديه من ثم كثير من الذهب الذى جعله يعرض ويبيع الرطل منه مقابل ثلاثة آلاف سيسترسس (150 جنيه إسترلينى) فى إيطاليا وفى الولايات . سرق فى فترة قنصليته الأولى ثلاثة آلاف رطل من الذهب من الكابيتول، مستبدلاً إياها بوزن مساوٍ من النحاس المطلى. لقد باع تحالفات وممالك من أجل النقود؛ وهكذا فقد أخذ من بطلميوس (ملك مصر) لنفسه فقط ولبومبى ستة آلاف تالنت (7500000جنيه إسترلينى) ". تحمل فيما بعد أبهظ مدفوعات الحرب الأهلية، الانتصارات والمهرجانات بواسطة أشد الإبتزازات شيناً وبسرقات المعابد". (يوليوس قيصر، الفصل 54). الحرب ضد الغال، التى كانت حتى حينئذ حرة من الاضطهاد الرومانى ومن ثم لم تخضع للنهب، تولاها بصفة رئيسية قيصر من أجل المكاسب. مكنته الغنيمة الثرية التى حصل عليها من هذا البلد أن يقف على قدميه وأن يتخاصم مع رفيقه بومبى، الذى كان قد شاركه حتى آنذاك شئون الحكومة. وقع الشريك الثالث، كراسوس فى آسيا فى حملة لصوصية ضد "البارثيين، التى "أمل أن يحصل فيها ليس فقط على كثير من الشهرة بل أيضا على كثير من النقود"، كما يقول لنا أبيان - بنفس الطريقة التى طبقها قيصر بنجاح شديد فى بلاد الغال. بعد موت كراسوس كان بومبى فقط مازال يقف فى طريق قيصر، كان بومبى محاطاً ببقايا الأرستقراطية التى كانت مازالت نشطة سياسياً، وتخلص يوليوس العظيم منهم فى سلسلة من الحملات التى لم تكن أيضاً غير مربحة فى غنيمتها. "لقد حكى أنه عرض في موكب انتصاره (فى نهاية الحرب الأهلية) ستون ألف تالنت من الفضة وكذلك 2822 تاجاً ذهبياً تزن 2414 رطلاً. استخدم فى اعقاب انتصاره مباشرة هذه الكنوز لتلبية مطالب جيشه معطياً كل جندى خمسة آلاف دراخمة أتيكية (أكثر من 1000 جنيه إسترلينى) وضعف قدرها لكل ضابط غير مقلد، وللضباط الأعلى ضعف قدر الضباط غير المقلدين، وهكذا تجاوز لحد بعيد وعوده الأصلية" . لقد حكينا سلفاً، نقلاً عن سويتونيوس، الهبات التى أعطاها قيصر حينئذ لبروليتاريي روما. منذ هذا الوقت فصاعداً لم تُجادل علناً سلطة قيصر الفردية، وكان الجمهوريون غير قادرين على إبداء احتجاجهم سوى بالاغتيال. سدد خلفاء قيصر، أنطونى وأغسطس لهم الضربة القاضية. وهكذا أصبحت الإمبراطورية الرومانية ملكاً لفرد واحد، القيصر أو الإمبراطور. وتوقفت الحياة السياسية. لقد كانت إدارة هذه الأرض شأناً خاصاً لمالكها، ومثل كل الممتلكات الأخرى، مراراً ما كان يُختلف عليها بالطبع؛ هاجم قطاع الطرق، بمعنى آخر القادة الناجحون المالك الفعلى، الذى كان يُذبح فى حالات عديدة من قبل حراسه الخاصين، حتى يباع العرش الخالى لمن يدفع أكثر. غير أن هذا كان تعاملاً مالياً، ليس أسوأ من بعض مثل هذه التعاملات فى نفس الفترة، وليس عملاً سياسياً. توقفت الحياة السياسية تماماً، وسرعان مانجد، فى البداية ضمن الطبقات الأدنى، وفيما بعد أيضاً فى الطبقات العليا، ليس فقط لامبالاة بالدولة، وإنما حتى كراهية للدولة وأصحاب المقامات الرفيعة، لقضاتها، وجباة ضرائبها، وجنودها، وللأباطرة أنفسهم، الذين لم يعودوا قادرين بالفعل على حماية أحد، الذين أصبحوا سوطاً حتى بالنسبة للطبقات المالكة، وحتى يهربوا منها بحث الأخيرون عن ملاذ بين البرابرة. كانت هناك مواضع قليلة قد تبقت فى الإمبراطورية الرومانية احتفظت ببقايا من الحياة السياسية بعد انتصارات قيصر، وسرعان ما أزيلت هذه البقايا أيضاً من قبل أخلاف قيصر. بقيت حياة سياسية نشطة لفترة أطول فى أورشليم، المدينة الأكبر فى فلسطين. كانت أكثر الجهود جدية مطلوبة لتطويق هذا المعقل الأخير للحرية السياسية فى الإمبراطورية الرومانية. بعد حصار طويل وعنيد سويت مدينة أورشليم بالأرض فى عام 70 ب.م وأصبح الشعب اليهودى بلا مأوى.
الفصل الثالث التيارات الفكرية فى الفترة الإمبراطورية الرومانية أ - إضعاف الروابط الاجتماعية لقد رأينا أن العصر الذى نشأت فيه المسيحية كان عصر تفسخ كامل للأشكال التقليدية للإنتاج والدولة. وكانت الأشكال التقليدية للفكر تبعاً لذلك تحتضر بهذا القدر أو ذاك. كان هناك بحث عام وتلمس لأنماط جديدة من الفكر. شعر الفرد بأنه كان متوحداً، لأن كامل الخلفية الاجتماعية التى امتلكها الفرد سابقاً فى جماعته أو عشيرته، والنظرات الأخلاقية التى تواصلت كانت تتحلل الآن. كانت الفردية من ثم واحدة من الملامح الأشد بروزاً لنمط الفكر الجديد. وبالطبع قد لا تتضمن الفردية أبداً انعزالاً كاملاً للفرد عن ارتباطاته الاجتماعية ؛ سوف يكون هذا من المستحيل تماماً. لا يمكن للفرد البشرى أن يوجد الإ فى المجتمع وخلال المجتمع. ولكن الفردية يمكن على الأقل أن تذهب بعيداً إلى الحد الذى تؤدي فيه بالرابطة الاجتماعية التى نما فى ظلها الفرد، والتى تبدو من ثم طبيعية وواضحة بذاتها بالنسبة إليه، إلى أن تفقد قوتها، مواجهة الفرد هكذا بمهمة أن يتخذ طريقه الآن خارج العلاقات الاجتماعية السابقة. يستطيع الفرد أن يحقق هذا فقط بواسطة الاتحاد مع أفراد آخرين ذوى مصالح ومتطلبات متشابهة، مكونين منظمة اجتماعية جديدة. سوف تتحدد طبيعة هذه التنظيمات بالطبع بالظروف القائمة وليس بواسطة نزوة الفرد المعنى. ولكن هذه المؤسسات لاتقارب الفرد فى صيغة منظمات تقليدية جاهزة الصنع، ولكنها يجب أن تُخلق بواسطته بالارتباط مع الآخرين ذوى المطامح المماثلة، الذى ربما يترافق مع أخطاء عديدة واختلافات عظيمة ممكنة فى الرأى، حتى تنبثق أخيراً منظمات جديدة من صراع الآراء والتجارب، والمنظمات الجديدة، المتوافقة مع الشروط الجديدة، سوف تستمر وتقدم أمناً ثابتاً للأجيال التالية كما فعلت المنظمات الأسبق التى تلتها. ربما يظهر فى مثل هذه الفترات الانتقالية أن المجتمع لايشرط الفرد، وإنما الفرد يشرط المجتمع، وأن الأشكال الاجتماعية، مشاكلها وطموحاتها، معتمدة كلية على إرادته. مثل هذه الفردية، فرد باحث ومتلمس لأنماط جديدة من الفكر ومنظمات اجتماعية جديدة، هى ميزة، على سبيل المثال، لفترة الليبرالية التى تلت انحلال المنظمات الإقطاعية بدون أن تستبدلها مباشرة بمنظمات اجتماعية أخرى جديدة، حتى تطورت أخيراً المنظمات الجديدة للعمال وأصحاب الأعمال أكثر فأكثر إلى أن تكون العوامل المهيمنة فى المجتمع الرأسمالى. القرون الأولى من العصر الإمبراطورى الرومانى شديدة الشبه بالقرن التاسع عشر فى هذا التحلل لكامل المنظمات الاجتماعية وخلق (أخرى) جديدة. ولكن تشبه هذه الفترات أيضاً كل منها الأخرى فى حقيقة أن تفسخ العلاقات الاجتماعية القديمة انطلق فى كلا الفترتين بأشد سرعة وبأكثر مايمكن من التجسد فى المدن الكبرى، حيث أن مجمل الحياة الاجتماعية قد تحدد تدريجياً أكثر فأكثر بواسطة هذه المدن. قدمت للفلاح فى فترة قوته واكتفاءه الذاتى فرصة ضئيلة للتفكير من خلال الحياة الاجتماعية لهذه الأزمنة، لأن الحياة كانت ثابتة تحديداً بالنسبة له بواسطة العرف والعادة. ولكنه كان مضطراً لأن يولى انتباهاً عظيماً للطبيعة التى كان فى حرب دائمة معها، التى قدمت له يومياً مفاجأة جديدة، التى كان يعتمد عليها بشكل كامل، والذى كان عليه أن يتغلب عليها حتى يعيش. كان السؤال عن السبب الخاص بالظواهر الطبيعية المختلفة من ثم قد فرض نفسه عليه. لقد سعى أولاً لأن يجيب عليه بسذاجة شديدة بواسطة شخصنة قوى طبيعية مختلفة، بافتراض وجود آلهة متعددة فعالة فى الطبيعة، ولكن بهذه الطريقة فى وضع السؤال فإن لدينا بالفعل بدايات العلوم الطبيعية، المؤسسة على نفس السؤال، سؤال سبب، أسباب كل الأشياء. بمجرد أن بدأ الإنسان فى فهم أن العلاقة بين السبب والنتيجة فى ظواهر الطبيعة هى علاقة منتظمة وضرورية، وأنها ليست معتمدة على نزوة آلهة أفراد، بات الطريق ممهداً لمعرفة حقيقية عن العلوم الطبيعية. لم يكن لهذا الإدراك أن يتحقق بالطبع بواسطة الفلاحين الذين كانوا معتمدين بشكل مطلق على الطبيعة. لقد استسلم الفلاح بدون مقاومة للقوى الطبيعية، وحيث أنه غير قادر على السيطرة عليها من خلال المعرفة، فقد مال إلى إستعطافها بواسطة الصلوات والأضاحى. إن دراسة علمية للطبيعة ممكنة فقط فى المدن، حيث أن الإنسان غير مجبول على الشعور باعتماده على الطبيعة بهذا الحد من المباشرة والقوة، انتهاء إلى أنه ربما يبدأ فى العمل كملاحظ مستقل عن الطبيعة. نشأت فى المدينة وحدها طبقة لديها وقت فراغ كاف للملاحظة، وليست خاضعة لدافع أن تستعمل وقت فراغها فى المتع الجسدية فقط، مثل الملاك العقاريون الكبار فى الريف، حيث القوة البدنية والقدرة على التحمل عنصر هام فى الإنتاج، بما يترتب على ذلك من أن وقت الفراغ والوفرة يخلق تسليات من أشد الأنواع المادية فظاظة فقط، مثل مطاردات الصيد والمآدب. تبدأ الفلسفة الطبيعية فى المدن، ولكن نمت تدريجياً مدن عديدة لحد كبير حتى أن سكانها بدءوا فى الانقطاع عن أى علاقة مع الطبيعة، وهكذا فقدوا كل اهتمام بالموضوع. كان مجرى الأحداث يولى تدريجياً لهذه المدن القيادة أكثر فأكثر فى الحياة العقلية والاقتصادية لأقاليم كبرى. بالمثل كان نفس مجرى التطور هذا يُضعف كل الروابط الاجتماعية التى كانت حتى الآن قد ربطت الفرد بالمنظمات التقليدية وأشكال الفكر. ولكن كانت نفس العملية تشحذ التطاحنات الطبقية، مطلقة صراعاً طبقياً أشد وحشية بما لايقاس، اتخذ أحياناً حتى شكل الإطاحة بالعلاقات القائمة. لم تكن الطبيعة، لقد كان الآن المجتمع الذى كان يمد الإنسان يومياً بمفاجآت جديدة فى المدن الكبرى، مواجهاً إياه يومياً بمشاكل جديدة، لم يسمع عنها، تضطره يومياً لأن يجيب على السؤال التالى: "ماذا نفعل بعد ذلك"؟ لم يكن السؤال بالنسبة للسبب فى الطبيعة، ولكن عن ماذا ينبغى عمله فى المجتمع، ليس معرفة العلاقات الطبيعية الضرورية، ولكن الاختيار الحر الواضح لأهداف اجتماعية جديدة: هذا ما استولى على أفكار الإنسان بصفة رئيسية. مكان الفلسفة الطبيعية، لدينا الآن الأخلاق، اتخذت الأخيرة شكل البحث عن سعادة الفرد. كان هذا هو الحال بالفعل فى العالم الهيلينى بعد الحروب الفارسية. لقد رأينا سلفاً أن العالم الرومانى كان يستعير فقط من الإغريق فى الفن والعلوم. لم يحوزوا ملكية أتت كنوزها العقلية (ولا المادية) بواسطة العمل، وإنما بواسطة النهب. لقد أصبح الرومان ملمين بالفلسفة الإغريقية حينما كانت الأخيرة معنية أكثر بالفعل بالاهتمامات الأخلاقية من الاهتمام بدراسة الطبيعة. لم يول الفكر الرومانى أبداً من ثم اهتماماً كثيراً للفلسفة الطبيعية ؛ حيث شغلت الفلسفة الرومانية نفسها منذ بداياتها الأولى بالأخلاق. اتجاهان فلسفيان كانا سائدان بصفة خاصة فى القرون الباكرة من العصر الإمبراطورى، وهما (اتجاهى) أبيقور والرواقية. لقد دعا أبيقور الفلسفة نشاطاً يؤدي لحياة سعيدة بواسطة المفاهيم والبراهين. لقد ظن أنه يستطيع أن يحقق السعادة من خلال ملاحقة اللذة، ولكن من خلال ملاحقة اللذات العقلية الدائمة وحدها، وليس من خلال الرغبة فى المتع الحسية العرضية المغالى فيها، التى تؤدى لخسارة الصحة والثروة، ومن ثم تؤدى للتعاسة. لقد ناسبت هذه الفلسفة تماماً استعمالات طبقة مستغلة، لم يكن لديها توظيف آخر تستثمر فيه ثروتها غير أن تستهلكها ؛ كان ما احتاجته تنظيم عقلى لحياة اللذة. ولكن قدم هذا المذهب إشباعاً ضئيلاً لذلك العدد المتزايد دائماً من الأشخاص الذين عانوا انهياراً بدنياً، وعقلياً أو مالياً، للفقير والبائس، ولم يمنح عزاءاً للمتخمين، أي لهؤلاء الذين غثوا بالفعل من المتعة. ولم يتمكن من أن يمنح السرور لهؤلاء الذين كان مازال لديهم بعض الاهتمام بالأشكال التقليدية للحياة المشاعية، والذين كانوا لايزالوا يلاحقون أهدافاً تتجاوز حاجاتهم الشخصية الخاصة، لهؤلاء الوطنيين الذين كانوا يشهدون انحلال الدولة والمجتمع، مملوءين بحزن عاجز، ولكن غير قادرين على إعاقة العملية الجارية. بدت ملذات هذا العالم بالنسبة لكل هذه المجموعات تافهة وضحلة. لقد توجهوا نحو المذهب الرواقى الذى يمجد الفضيلة، وليس اللذة باعتبارها الخير الأعلى، وباعتبارها منتهى السعادة. أعلن الرواقيون أن مجرد الطيبات الخارجية، مثل الصحة، والغنى، الخ، أموراً عديمة الأهمية مثلها فى ذلك مثل الشرور الخارجية. وقد أدى هذا فى النهاية بأشخاص عديدين إلى أن يبتعدوا تماماً عن هذا العالم، وأن يحتقروا الحياة، وحتى أن يرغبوا فى الموت. أصبح الانتحار عادة فى روما الإمبراطورية، وأصبح لبعض الوقت هو (الموضة) تماماً. ولكن لوحظ أنه تطور بشكل متزامن مع الرغبة فى الموت أيضاً فى المجتمع الرومانى رعب حقيقى من الموت. شعر المواطن بنفسه في أى من جماعات العصور القديمة الكلاسيكية بأنه جزء من كل كبير سوف يبقى بعد موته، وقد كان خالداً بالقياس اليه نفسه. سوف يستمر فى الحياة فى جماعته، وسوف يحمل آثار حياته، لم يكن في حاجة لخلود آخر. وفى الواقع فإننا لانجد بين الأمم القديمة، التى لم يكن خلفها سوى فترة قصيرة من التطور الثقافى ، أية أفكار على الإطلاق عن حياة ما بعد الموت، أو أن فكرتها عن أنها حياة ظلال، هي فكرة أنتجتها الحاجة لتفسير ظهور الموتى فى الأحلام: حياة الظلال هذه كانت وجوداً جديراً بالرثاء لم تراود أى شخص الرغبة فيه على الإطلاق. نحن نعرف مرثاة أخيل: "أفضل، أن أفلح حقلى كعامل مياومة لرجل محتاج، ليس لديه أرض أو ممتلكات من أن أحكم كل جموع الموتى المتلاشين!" (الأوديسة، 11، 984 - 194) نكرر، إن افتراض وجود ظلالى مابعد الموت، فرضيه ساذجة استلزمها تفسير بعض ظواهر الأحلام، وليست نتيجة حاجة حقيقية للروح. ولكن تغيرت الأشياء حين كانت الجماعة فى طور الهبوط وكان الفرد ينفصل عنها. لم يعد يتملك الفرد الشعور بأن نشاطه سوف يبقى فى الدولة، لأن موقفه تجاه الدولة كان (موقف) اللامبالاة بل وحتى العداء، ومع ذلك كانت فكرة أنه سوف يبيد تماماً لاتحتمل بالنسبة له. نشأ هناك خوف من الموت لم يكن مثله معروفاً حتى الآن فى العصور القديمة. ازدهر الجبن، وأصبح الموت صورة الرعب، بينما كان قد اعتبر سابقاً قرين النوم. بدأت تُستشعر الحاجة أكثر فأكثر لمذهب يبقى خلود الفرد، ليس كظل متحرر من الجسد، ولكن كروح فرحه. سرعان ما لم تعد النعمة يبحث عنها فى المتع الأرضية ولاحتى فى الفضيلة الارضية، وإنما فى تحقيق حياة أخروية أفضل، مثلت هذه الحياة بالنسبة لها استعداداً فحسب، وجد هذا المفهوم دعماً قوياً فى مذهب أفلاطون، وهذا الاتجاه هو ماإتخذته أيضاً المدرسة الرواقية. افترض أفلاطون بالفعل وجود حياة فى المستقبل، تحررت فيها، الأرواح من أجسادها، وسوف تواصل الحياة وسوف تكافئ وتعاقب على أعمالها فى الارض. يخبرنا أفلاطون فى الفصل الثالث عشر من الكتاب العاشر من جمهوريته، عن البامفيلى الذى سقط فى الحرب، والذى، كان على وشك أن يُحرق فى اليوم الثانى عشر من موته، وقد عاد إلى الحياة فجأة مرة أخرى وأفاد بأن روحه بعد أن فارقت جسده، عاينت أماكن رائعة في شقوق عظيمة تمتد داخل السماء فوق، وتحت داخل أحشاء الأرض جلس القضاة فى ذلك المكان، ليحكموا على الأرواح عند وصولها ويقودوا إلى اليمين هؤلاء الذين وجدوا صالحين إلى الجنة، حيث ساد جمال لانهائى، بينما اقتيد الطالحين إلى الشمال، أسفل شقوق الأرض إلى هوة خفية، حيث تعين عليهم أن يكفروا عشرة أضعاف عن خطاياهم. هؤلاء الذين كانوا شريرين لاسبيل إلى صلاحهم كان يمسكهم رجال غلاظ تجلوا فى صورة النار، الذين غلوهم وعذبوهم. ولكن بقية هؤلاء الذين وضعوا فى الهوة الخفية وكذلك هؤلاء الذين يحيون فى السماء، تيسر لهم أن يحيوا حياة جديدة بعد انصرام ألف عام. وأكد البامفيلى الذى رأى كل هذا أنه قد وُجِه ليخبر عنها ومن ثم فقد أعيد للحياة بمعجزة. من ذا الذى لايتذكر على الفور الجنة والجحيم بالمعنى المسيحى، والخراف عن اليمين والماعز على اليسار، والنار الأبدية المعدة فى الجحيم (متى، الإصحاح الخامس والعشرون، 33، 41) والموتى الذين سوف يبعثون مرة أخرى "حتى تنصرم الألف عام" (رؤيا "القديس يوحنا، 20، 5) إلى آخره ؟ ومع ذلك فقد عاش أفلاطون فى القرن الرابع قبل المسيح. وليس أقل مسيحية الانطباع الذى ولدته هذه الكلمات: "الجسد عبء وعقوبة للروح ؛ إنه يقهر الروح ويبقيها أسيرة". ليس مسيحياً من كتب هذه الكلمات، ولكن مدرس ومعلم نيرون، مضطهد المسيحيين الفيلسوف الرواقى سينيكيا. مشابه للغاية مقطع آخر: "تختفى الروح بهذا الغشاء اللحمى، متقنعة، منفصلة عن ذاتها والحقيقة، وترمى فى الأضاليل، إن صراع الروح بكامله هو مع اللحم الذى يقهرها. تجاهد الروح نازعة إلى هناك حيث تطلق، هناك يلازمها السلام الأبدى، حيث تحفظ ماهو نقى وصافٍ بعد المظاهر المشوشة والمعقدة لهذا العالم ". نجد فى مقطع آخر لسينيكا أيضاً عدداً مذهلاً من الصياغات اللغوية لجمل تتردد أيضاً فى "العهد الجديد وهكذا يقول سينيكا فى احدى المناسبات: "تلبسوا روح رجل عظيم". يقارن برونوباور بصواب هذا التعبير بذلك الذى تتضمنه رسالة بولس إلى الرومانيين. "بل إلبسوا الرب يسوع المسيح" 13/14 الرسالة إلى الرومانيين. وفى الرسالة إلى الغلاطيين: "لأن كلكم الذين إعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح"(3/27). قادت هذه المصادفات بعض الأشخاص إلى الاستنتاج بأن سينيكا كان يستخدم مصادر مسيحية، وحتى أن سينيكا كان مسيحياً، والأمر الأخير بمثابة نتاج للخيال المسيحى. فى الواقع، كتب سينيكا قبل أن تؤلف الأجزاء المختلفة من العهد الجديد، فإذا كانت هناك أية استعارة على الاطلاق، من ثم، فربما نفترض بالأحرى أن المسيحييين كانوا يحتذون الكتابات المنتشرة على نطاق واسع لفيلسوف عصرى فى هذا الزمان. وكذلك من المعقول تماماً أن نفترض أنهم كانوا يستخدمون صياغات لغوية لجمل كانت رائجة فى هذا الوقت، باستقلال كل منهم عن الآخر. يشير بفليدرر خاصة فيما "يتعلق بتعبير لبس المسيح" إلى أنه مستعار من عبادة ميثرا MITHRA الفارسية التى كانت مفضلة للغاية فى روما الإمبراطورية. وهو يخبرنا فيما يتعلق بتأثير هذه العبادة على المفاهيم المسيحية من بين أشياء أخرى مايلى: "لقد تضمنت قرابين ميثرا المقدسة أيضاً وجبة مقدسة، خدم فيها الخبز المقدس وكأساً من الماء أو حتى النبيذ كرموز صوفية لتوزيع الحياة الأبدية على المؤمنين بميثرا. ظهر الأخيرون فى مثل هذه الاحتفالات مرتدين أقنعة حيوانات مشيرين بهذه التمثلات لصفات إلههم ميثرا، لقد "تلبس" المحتفلون إلههم، الذى يعنى أنهم دخلوا فى جماعة حياة معه. هذا أيضاً، مشابه للغاية لتعاليم بولس عن عشاء الرب باعتبارها "مشاركة": فى دم وجسد المسيح (كورنثوس أول، 10/6) إن من عُمِد فقد "تلبس" (الغلاطيون 3/27)" . ليس سينيكا الفيلسوف الوحيد فى زمانه الذى ابتكر أو استخدم صياغات لغوية لجمل تبدو لنا مسيحية. خاصة الأفكار التى نعالجها فى هذه اللحظة، أي التى تتعلق بخلود الروح والحياة الأخرى، كانت تجد أتباعاً أكثر فأكثر فى الوقت الذى نشأت فيه المسيحية. وهكذا فإن فيلون اليهودى السكندرى ، الذى عاش مبكراً فى العصر المسيحى، ينهى كتابه الأول قصص الشريعة الرمزية بجملة: "قال هيراقليطس أيضاً، نحن نحيا موتهم (الآلهة) ومتنا حياتهم، لأنناحين نحيا، ماتت الروح ووضعت فى صندوق الجسد كما فى متراس، بينما تحيا الروح حياتها الخاصة بعد أن متنا، متحررة من الشر وجثة الحياة التى غُلت إليها". بدأ يعتبر الاستعداد للحياة الأخرى أشد قيمة أكثر فأكثر من الصراع من أجل طيبات هذا العالم. أخذت مملكة الله مكان غنى هذا العالم: ولكن كيف نجد هذه المملكة؟ كان المواطن قد امتلك سابقاً ثلاث موجهات متميزة اعتمد عليها فى سلوكه، اتخذت شكل التقاليد، والإرادة الشعبية، واحتياجات الجماعة. أصبحت هذه الآن غائبة. لقد تحلل التقليد إلى ظل خاوٍ، لم يعد لدى الناس أى إرادة موحدة ؛ أصبح المواطن الآن لامبالياً باحتياجات الجماعة. إذ كان الفرد معنياً فقط بنفسه، فقد كان الفرد عاجزاً أمام سيل الأفكار الجديدة والعلاقات الذى كان يغمر المجتمع، ويبحث عن مرساة ثابتة. عن مذاهب ومعلمين سوف يعلمونه الحقيقة وفلسفة صائبة عن الحياة دالين إياه على الطريق المستقيم إلى مملكة الله. كما فى كل الحالات التي تنشأ فيها حاجة جديدة، كان هناك أشخاص عديدين ينهضون لتلبية هذا المطلب. بدأ التبشير بالأخلاق الفردية، التى يمكن بواسطتها للفرد، دون أن يغير المجتمع أن يرفع نفسه خارج وفوق المجتمع ويصبح مواطناً جديراً بعالم أفضل. فى أى نشاط آخر يمكن للمواهب الخطابية والفلسفية أن تنخرط؟ توقف كل النشاط السياسى وقل من ثم الاهتمام بدراسة أسباب الأشياء، فى العمل العلمى. ماذا تُرك لطموح الخطباء والفلاسفة، إضافة لإدارة إجراءات التقاضى لحيازة الملكية أو التبشير بمذهب احتقار الملكية، صائرين من ثم إما قضاة أو مبشرين؟ كلا هذين الحقلين على ذلك، باتا مكتظين بكثافة شديدة فى الفترة الإمبراطورية، وكان الرومان فى ذلك الوقت مفرطين فى خطبهم التى تتعلق بتفاهة طيبات هذا العالم، وكذلك فى المذكرات القانونية المبتكرة للدفاع عن هذه الطيبات. لقد أصبحت (الموضة) إلقاء خطب منورة وابتداع قواعد سلوك وحكايات مهذبة. ليست الأناجيل أيضاً شيئاً أكثر أو أقل من تصنيف لمثل هذه المجموعات من قواعد السلوك والحكايات. ربما لانحكم بالطبع على هذا العصر ببلاغته ذات الصبغة الأخلاقية فحسب. ليس هناك شك في أن الأخلاقية الجديدة باحتقارها لهذا العالم أجابت على حاجات عقلية قوية معينة، والتى كانت قد نتجت بدورها عن ذات الشروط الاجتماعية الواقعية. ولكن فى الواقع كان من المستحيل الهروب من العالم ؛ لقد أثبت العالم دائماً أنه الأقوى وهنا نشأ تناقض بين النظرية الأخلاقية، والممارسة الأخلاقية، الأمر الحتمى فى أى مذهب أخلاقى بهذا الطابع. سينيكا، الذى ذكرناه سلفاً عدة مرات، هو مثل كلاسيكى على هذا. حرر هذا الرواقى الفاخر نفسه من المشاعر الأخلاقية ضد الاشتغال بالسياسة، وعنّف بروتوس الذى انتهك، كما قال، المبادئ الأساسية للمذهب الرواقى باشتغاله بهذا النشاط. ولكن سينيكا نفسه الذى يوبخ الجمهورى بروتوس بسبب الإسهام فى الصراعات السياسية كان محرضاً على كل تصرفات أجريبينا ونيرون الدموية ولعب دور القواد للأخير، بغرض وحيد هو أن يحتفظ بمنصبه كوكيل. أرعد سينيكا هذا نفسه فى كتاباته ضد الثروة، والبخل، وحب الملذات، ولكن فى عام 58 ب.م كان مضطراً لأن يسمع سويليوس يتهمه فى مجلس الشيوخ بأنه قد راكم ملايينه بتزوير الوصايا وبالاشتغال بالربا. إستناداً إلى ديوكاسيوس، فإن انتفاضة البريتون فى ظل نيرون قد حدثت جزئياً بسبب حقيقة أن سينيكا قد "قدم لهم قرضاً قيمته عشرة مليون دينارى DENARII (2200000جنيه إسترلينى) بمعدل فائدة مرتفعة، "وفيما بعد حاول فجأة أن يقبض كل المبلغ بأكثر الطرق وحشية. مادح الفقر هذا خلَّف وراءه ثروة تقدر "بثلاثمائة مليون سيسترسيس (15000000جنيه إسترلينى)، وهي واحدة من أعظم الثروات فى هذه الأزمنة. " فى وجه هذا المثل الرائع عن الرياء الحقيقى، فإنه على الأغلب لبيان قاصر عن الحالة حين يتهكم الكاتب الساخر لوسيان، بعد ذلك بقرن فى مؤلفه هرموتيموس HERMOTIMUS، على فيلسوف رواقى ابتدعه يبشر باحتقار النقود والمتع، ويقدم تأكيداً بأن تعليمه يسفر عن إتزان نبيل عبر كل تقلبات الحياة، والذى يقاضى مع ذلك تلاميذه فى المحاكم إن لم يكونوا قادرين على أن يدفعوا له أجرة التعليم التى اتفق عليها، الذى يثمل فى المآدب ويصبح شديد الحمية فى الجدالات حتى أنه يلقى بكأس فضية كبيرة على رأس خصمه. أصبح التبشير الأخلاقى هو الموضة فى العصر الإمبراطورى. ولكن لم يبحث الناس فقط عن التعاليم الأخلاقية التى يمكن أن تكون عوناً للنفوس الضعيفة التى لم تكن مستقلة، والتى فقدت خلفيتها مع أنشطتها العامة المشتركة، والتقاليد؛ وإنما استشعرت الحاجة أيضاً لعون شخص. نحن نقرأ بالفعل عند أبيقور: "يجب أن نبحث لأنفسنا عن رجل نبيل وأن نجعله دائماً أمام عيوننا، نعيش وكأنه يراقبنا ونتصرف وكأنه شاهدنا". يقتبس سينيكا هذا المقطع ثم يواصل: "نحن نحتاج إلى وصى ومعلم. سوف يختفى عدد كبير من الخطايا إذا وجد شاهد بجانب الإنسان الخاطئ. يجب أن يكون للروح أحد توقرة بإحترام يطهر أيضاً جوهرها الأعمق. إن مجرد فكرة هذا المساعد لها قوة مرشدة ومصوبة. "إنه الوصى، النموذج، والقاعدة، التى بدونها لايستطيع المرء أن يصحح ماهو خاطئ". وهكذا أصبح الناس معتادين على اختيار رجل عظيم متوفى باعتباره قديسهم الحامى. ولكن بعض الأشخاص ذهبوا بعيداً إلى حد إخضاع سلوكهم لسيطرة أشخاص مازالوا أحياء، أي لمبشرين أخلاقيين الذين تظاهروا بأنهم أرفع شأناً، بسبب أخلاقيتهم العظيمة بالنسبة لبقية البشر. أعلنت الرواقية سلفاً بأن الفيلسوف متحرر من الخطأ والعيوب. بجانب التظاهر بالتقوى والنفاق، بدأت الآن تتطور عجرفة مرائية لمعلم الأخلاق - صفات لم تكن معروفة فى العصور القديمة الكلاسيكية، التى كانت حصاد فترة من الانحلال الاجتماعى، والتى أصبحت بالضرورة بارزة أكثر فأكثر، حيث استبدل علم الأخلاق بالعلم فى الفلسفة، بمعنى آخر، ان تقصى العالم قد حل محله صياغة مطالب على الفرد. نشأ الآن مبشرون أخلاقيون لكل طبقة اجتماعية، مبشرون ادعوا أنهم قادرون على أن يرفعوا الإنسان لدرجة من الكمال الأخلاقى الأعظم من خلال مثال شخصياتهم المهيبة.كان الفلاسفة من مدرسة الكلبيين المعلمون الرئيسيون من هذا النوع للبروليتاريين، أخلاف الشهير ديوجين، الذى بشر فى الطرقات، وعاش على التسول، ووجد السعادة فى القذارة والاقتصاد فى الإنفاق، التى جعلت من غير الضرورى بالنسبة لهم أن يشتغلوا بأى عمل، الذى كرهوه واحتقروه باعتباره خطيئة فظيعة. يُمثل المسيح وحوارييه أحياناً كمبشرى طرق متسولين. ليس هناك مكان للعمل فى الأناجيل؛ ففى هذا تتفق جميعاً بالرغم من كل تناقضاتها. ولكن لدى الأرستقراطيين أخلاقيتهم الشخصية الخاصة، الذى إنتمى أغلبهم للمدرسة الرواقية. "احتفظ أغسطس، على طريقة العظماء منذ زمن السيكوبيين، بفيلسوفه الخاص قربه فى شخص آريوس، وهو رواقى من الإسكندرية، وأصبحت ليقيا أيضاً من أتباعه حتى تنال عزاءاً منه بعد موت ابنها دروسوس. أخذ أغسطس آريوس معه فى حاشيته حين دخل الإسكندرية بعد معركة أكتيوم، وقدمه إلى مواطنيه فى خطبته (وعد فيها أغسطس السكندريين بالعفو عنهم لأنهم ساندوا أنطونيو) بوصفه أحد دوافع رأفته. خدم مرشدون روحيون مماثلون الاحتياجات الروحية للعظماء فى قصور وبيوت أخرى. لأنهم كانوا سابقاً معلمى نظرية جديدة ما، أصبحوا بالنسبة للرومانيين، بعد الحروب الأهلية، مرشدين روحيين عمليين، موجهين عقليين، معزين فى أحوال سوء الحظ، وكهنة اعتراف. سوف يرافقون ضحايا النزوة الإمبراطورية إلى حتفهم ويقدمون إليهم الخدمات الكهنوتية الأخيرة. كانوس يوليوس، الذى تلقى الحكم بإعدامه من الإمبراطور كاليجولا بتعبير من الإمتنان، والذى مات فى هدوء ورباطة جأش، كان يرافقه فى رحلته الأخيرة "فيلسوفه". أدخل تراسيا صهره هلڤ-;---;-----;---يديوس والكلبى ديمتريوس، والأخير عمليا كاهنه المنزلى إلى غرفته حيث قام بقطع شرايينه، وفى عذاب موته البطئ احتفظ بعينه مثبتتين عليه (برونوباور،CHRISTUS UND DIE CÄ-;---;-----;---SAREN ص ص 22، 23). وهكذا، نجد حتى قبل نشأة المسيحية، أب الاعتراف يدخل إلى المشهد، وبسبب قوة الظروف الجديدة، وليس بسبب تعاليم أى شخص فرد تنشأ قوة تاريخية جديدة فى أقطار أوروبا، حكم كهنوتى. ممالاريب فيه، كان هناك كهنة بين الإغريق والرومان لوقت طويل، ولكنهم كانوا ذوى شأن ضئيل للغاية فى الدولة. ليس حتى العصر الإمبراطورى إلى أن نبدأ فى أن نجد الأوضاع فى بلدان أوربا ناضجة للحكم الكهنوتى، الذى كان قد وجد قبلاً فى العصور القديمة الباكرة فى بلدان عديدة فى الشرق. إننا نجد الآن حتى فى الغرب الشروط الأولية الضرورية لكهنوت، لـ فئة كهنوتية كحكام على البشر، التى بدأت بالفعل من خلال التظاهر بالتقوى وغطرسة عديد من أعضائها فى تطوير السمات المميزة للكهانة، التى، تسببت فى كل العصور حتى اليوم، فى أن تكرهها العناصر النشيطة فى المجتمع التى ليست فى حاجة إلى وصاية. لقد أعلن أفلاطون قبلاً أن الدولة لن تحكم بشكل صحيح حتى يسيطر عليها الفلاسفة ولايبقى لدى المواطنين الباقين أى شيء يقولونه. إن حلمه قد تحقق الآن بطريقه لم تكن بالطبع، لتروقه. ولكن هؤلاء المبشرين الأخلاقيين وآباء الاعتراف لم يكونوا كافين بأية حال للجيل الذى أضعف وعاش آنذاك. كانت الدولة تتحرك بشكل لايقاوم نحو الدمار. وكان صوت طَرْقِ البرابرة على أبواب الإمبراطورية أعلى فأعلى، التى كان يتمزق لحمها غالبا بسبب الخلافات الدموية لقادتها. تلاحق تزايُدِ فقر الجماهير، وتناقُصِ السكان. كان المجتمع الرومانى قد حُمل به وجهاً لوجه مع نهايته، ولكن هذا الجيل كان أيضاً فاسداً للغاية، ضعيفاً للغاية فى البدن والروح، غاية فى الجبن، غاية فى ضعف الشخصية، فى غاية التغاير تماماً مع ذاته وبيئته ليكون بمقدوره أن يقوم بمحاولة فعالة ليحرر نفسه من هذه الأوضاع غير المحتملة. لقد فقد الإيمان بنفسه، والسند الوحيد الذى حفظه من اليأس الكامل كان امل المساعدة من بعض القوى الأعلى، من مخلص ما. لقد اعتبروا القياصرة أولاً هذا المخلص. كانت هناك فى أيام أغسطس نبوءة متداولة من الكتب السيبيلية، تعد بمخلص فى المستقبل القريب اعتبر أغسطس كأمير للسلام قائد الإمبراطورية غير المنظمة بعد الحرب قائدها، نحو حقبة جديدة من الرخاء والإزدهار، وبـ"السلام على الأرض للبشر ذوى النية الطيبة ". ولكن لم يأت القياصرة لا بالسلام الدائم ولا بالتقدم الاقتصادى أو الأخلاقى، بالرغم من كل الثقة التى وضعت فى قوتهم الإلهية، مع ذلك كانت هذه الثقة عظيمة بالفعل. لقد وضعوا بالفعل فى مصاف الآلهة، قبل أن ينشأ مذهب تحول الإله إلى إنسان، كانت فكرة تحول الإنسان إلى إله قد قُبلت، بالرغم من الصعوبة الأكثر بوضوح لهذا المنحى الأخير. حيث قضى على كل الحياة السياسية، فإن سيد الدولة يرتفع بغاية الجلالة فوق كتلة السكان حتى أنه يجب بالفعل أن يبهرهم باعتباره الأسمى، مادام يبدو فقط وكأنه يوحد فى نفسه كل قوة وسلطة المجتمع ويوجهها وفق إرادته. من ناحية أخرى، كان الآلهة متصورين بطريقة غاية فى البشرية فى العصور القديمة. لم يكن الانتقال من إنسان أعلى إلى إله، من ثم أمراً غاية فى الصعوبة. بدأ الأغارقة المتفسخين من آسيا ومصر قبل عدة قرون من عصرنا فى أن يعتبروا مستبديهم كآلهة أو من نسل الآلهة؛ لقد وقروا حتى فلاسفتهم باعتبارهم كذلك. كانت قد ظهرت فى حياة أفلاطون بالفعل الخرافة التى ذكرت فى خطبة الجنازة التى ألقاها إبن أخيه سبيسيوس، بأن أمه بيريكتوين قد حملت به من أبولو وليس من زوجها. حين أصبحت الممالك الهيلينية ولايات لروما، حولوا عبادتهم الإلهية من ملوكهم وفلاسفتهم إلى حكامهم الرومان. ولكن كان يوليوس قيصر أول رجل جرؤ أن يطلب من الرومان ماقدمه الإغريق الجبناء له: أن يعبد كإله. لقد تبجح بأصله الإلهى؛ ولم تكن جدته الأعلى شخصاً أقل من الإلهة ڤ-;---;-----;---ينوس، كما أوضح فرجيل، شاعر قصر أغسطس إبن أخ قيصر، فيما بعد بالتفصيل فى ملحمته الطويلة الإنياده. حين عاد قيصر إلى روما من الحرب، كمنتصر ظافر، فقد اتخذ قراراً فى روما "بإقامة عدد من المعابد له مثله كالاله، مشتملاً على واحد مكرس له ولإلهه الرحمة، الذى مثل فيه وهو يقبض على يد هذه الإلهة" جرت بهذه الحيلة البارعة محاولة مناشدة رحمة المنتصر. بعد " "موته فإن "يوليوس الإلهى" كان قد أدخل شكلياً بقرار من الشعب ومجلس شيوخ روما إلى كوكبة الآلهة الرومانية. وقد تم هذا،كما يقول سويتونيوس، "ليس اصطناعاً فقط، استناداً إلى قرار، وإنما بسبب القناعة الداخلية للشعب ". لأن المُذَنبَ لم يظهر خلال الألعاب التى أعدها خَلَفَه أغسطس للشعب ـ الأول بعد يوليوس الذى أصبح إلهاً ـ لسبعة أيام متتالية، إلى أن ظهر حوالى الساعه الحادية عشر (بين الساعة الخامسة والسادسة بعد الظهر) ؟ فقد اعتقدوا أن هذه كانت روح قيصر التى صعدت نحو السماء. ومن ثم فما زال يصور ونجمه فوق رأسه".(الفصل 89). ألا يذكر هذا بالنجمة التى أبانت الوهية المسيح الطفل لحكماء الشرق ؟ لقد اعتبر بديهياً منذ زمن أغسطس أن لكل إمبراطور أن ينعم بالألوهية بعد مماته. وقد أعطى فى القسم الشرقى من الإمبراطورية الاسم الإغريقى SOTER، يعنى المخلص. ولكن هذه التطويبات (المؤلهة) لم تكن قاصرة على الأباطرة الراحلين، ولكنها منحت أيضاً لمعارفهم والأثيرين لديهم. وقع هادريان "فى حب شاب إغريقى وسيم، أنطينوس، الذى "أصبح بكل الطرق الأثير عند الإمبراطور"، وكما يعبر هيرتزبرج عن ذلك بلطف فى مؤلفه GESCHICHTE DES RÖ-;---;-----;---MISCHEN KAISERREICHS) (ص 369) . بعد أن غرق عشيقه فى النيل، وضعه هادريان على الفور، فى مصاف الآلهة، مكافأة على خدماته البارعة، وبنى مدينة فخمة لاتبعد عن موقع الحادث، أسماها أنطينوبوليس، وفى هذه المدينة معبد عظيم لقديسه الفريد. انتشرت عبادة هذا الشاب بسرعة عبر الإمبراطورية ؛ فى أثينا كانت تعد الألعاب المهرجانية والقرابين على شرفه. ولكن يروى سويتنيوس فيما يتعلق بأغسطس:" بالرغم من أنه عرف أن المعابد كانت "تخصص حتى لنواب القناصل PROCONSULL (الحكام) فهو لم يقبل بالرغم من ذلك هذا الشرف فى أية ولاية "إذا لم يكن المعبد مخصصاً له ولروما معاً. ورفض دائماً داخل روما على نحو مشدد هذا الشرف". (الفصل 52) ولكن أغسطس كان متواضعاً مقارنة بغيره. الإمبراطور الثالث من السلالة الجوليانية، جايوس، الملقب كاليجولا (الحذاء الصغير) جعل نفسه يُعبد فى روما حينما كان حيا، ليس فقط كشبه إله، وإنما كإله كامل، وقد شعر بنفسه أنه كذلك. قال ذات مرة "حتى مثل هؤلاء، ان من ينبغى أن يرعى الخراف والخنازير، ليسوا "خرافا ولاخنازيرا ولكنهم ذوى طبيعة أسمى، هكذا أيضاً هؤلاء الذين وضعوا كحكام فوق البشر ليسوا بشراً "كالآخرين، وإنما آلهة". وفى الحقيقة فإن الطبيعة الخروفية للبشر هي التى تنتج ألوهية حكامهم. تطورت هذه الصفة شبه الخروفية بشكل غاية فى القوة فى الفترة الإمبراطورية ومن ثم كانت العبادة الإلهية للأباطرة والأثيرين لديهم تؤخذ بجدية مثلها فى ذلك مثلما يأخذ بعض الأشخاص اليوم هدية قطعة من شريط لثقوب أزرارهم، ناسبين تأثيرات عجائبية لمثل هذه الهدية. تضمنت هذه العبادة الإلهية بالطبع قدراً لابأس به من الخنوع؛ فى هذا الصدد لم يجر التفوق على العصر الإمبراطورى حتى هذا اليوم، وهذا يعنى شيئاً كبيراً. ولكن بالاضافة للخنوع، لعبت السذاجة أيضاً دوراً كبيراً.
ب - السذاجة لقد كانت السذاجة أيضاً حصاداً للظروف الجديدة. اضطر الإنسان، منذ بداياته الأولى، إلى أن يلاحظ الطبيعة عن قرب، وأن يتفادى أن تخدعه أى من ظواهرها وأن يرصد بوضوح عدداً من علاقات السبب والنتيجة. إن كل وجوده يعتمد على هذه القدرة؛ وحين لاينجح، غالباً مايؤدى هذا إلى دماره. إن كامل سلوك الإنسان مؤسس على التجربة وهى أن أسباباً معينة محددة تعقبها نتائج معينة محدده، وأن الحجر الذى يلقيه إنسان سوف يقتل الطائر حين يرتطم به، وأن لحم هذا الطائر سوف يشبع جوعه، وأن قطعتان من الخشب تحكان ببعضهما سوف تنتجان ناراً، وأن النار تعطى الدفء، بينما يُستهلك الخشب أيضاً. سوف يحكم الإنسان على أحداث طبيعية أخرى على أساس سلوكه الخاص كما تحدد بمثل هذه التجارب، حيث أن هذه الأحداث غير شخصية بهذا القدر أو ذاك فهو يرى فيها نتائج أعمال شخصيات مفردة، منحت قوى مافوق بشرية، الآلهة. الأخيرون ليسوا فى البداية صانعى معجزات، بل منتجين لمجرى الأحداث العادى الطبيعى، لهبوب الرياح، لاصطخاب البحر، القوى المدمرة للبرق، وايضاً لأفكار البشر، الحكيمة وكذلك الغبية. ومن المعروف جيداً ان الآلهة تجعل من سوف تدمرهم عمياناً. يستمر إحداث هذه النتائج فى استمرار الوظيفة الرئيسية للآلهة فى الديانة الطبيعية البدائية. إن سحر هذه الديانة هو فى طبيعيتها، فى ملاحظتها الحادة للأشخاص والأشياء، التى تجعل حتى هذا اليوم القصائد الهوميرية، على سبيل المثال، أعمالاً للفن لم تبز. هذه الملاحظة الحادة والتقصى الدائم عن مبعث، عن أسباب الأشياء فى العالم الخارجى، أصبحت أكثر رهافة مع تطور المدن وتلك الفلسفة الطبيعية فى المدن، كما رأينا. أصبح الملاحظون الحضريين قادرين الآن على اكتشاف ظواهر غير شخصية فى الطبيعة، غاية فى البساطة حقاً، ولكن بمثل هذا الانتظام الصارم حتى باتت سهلة الإدراك كعلاقات ضرورية، مع تجاوز عالم النزوة المرتبط بمفهوم الآلهة الشخصية. لقد كانت حركة النجوم بصفة خاصة هي التى دعت لنشوء مفهوم القانون والضرورة فى الطبيعة. يبدأ العلم الطبيعى مع علم الفلك. طبقت هذه الأفكار آنئذ على بقية الطبيعة ؛ يبدأ فى كل مكان بحث عن العلاقات الضرورية للقانون. إن التكرار المنتظم لتجربة معينة هو أساس هذا النشاط العقلى. ولكن هذا الظرف يتغير، حينما ينتكس، استجابة للأسباب التى أشير اليها سلفاً، الاهتمام بالبحث العلمى فى الطبيعة ويحل محله الاهتمام الأخلاقى. لم تعد الروح الإنسانية مشغولة بمثل تلك الحركات البسيطة كمجرات النجوم، على سبيل المثال، التى تقدم نقطة انطلاق سهلة، إنها معنية بشكل حصرى بذاتها، بأكثر الظواهر تعقيداً، بأكثرها تغيراً، أكثرها استعصاء على الإمساك، ظاهرة تستعصى على الدراسة العلمية أطول من غيرها. أضف إلى ذلك، لم تعد الأخلاق تتضمن معرفة بما هو كائن وبما كان، بما هو حاضر فى التجربة، وعادة فى تجربة متكررة بانتظام ؛ تنشغل الأخلاق نفسها بالخطط والالتزامات فى المستقبل، ومع ذلك فهى خارج التجربة كلية، متضمنة من ثم مجالاً من الإرادة الحرة المطلقة التى تقع أمامنا. فى هذا المجال الرغبة والحلم لهما اللعب الأكثر حرية، ربما يمرح الخيال ذاته مطلق العنان ويقف فوق كل حواجز التجربة والنقد. يلاحظ ليكى بصواب فى مؤلفه تاريخ الروح العقلانية: "أن فلسفة أفلاطون، بواسطة تعظيمها لحد كبير مجال الروحى، فعلت الكثير لتعزيز العقيدة ؛ وإننا نجد، سواء قبل أو بعد العصر المسيحى، أنه حيثما كان نجم الفلسفة آخذا فى الصعود رافقها ميل إلى السحر" . بالمثل، تحرم الحياة فى المدن الكبيرة سكانها، العنصر العقلى المهيمن الآن بين كل السكان، من الاتصال المباشر بالطبيعة، تحررهم من كل من ضرورة وإمكانية ملاحظة وفهم الطبيعة. بدأ تذبذب مفهوم ماهو طبيعى وماهو ممكن، يفقد السكان معيارهم لصالح لامعقولية المستحيل، غير الطبيعى، مافوق الطبيعى. كلما زاد شعور الفرد بعجزه، كلما بحث بجبن أكثر عن دعم حازم من أحد الشخصيات ظاهرة التفوق عن المتوسط العادى، وكلما أصبح الوضع موئساً أكثر كلما كان هناك احتياج أكثر لمعجزة لإنقاذه، كلما كان الأكثر رجحاناً أنه سيعزو للشخص الذى ربط نفسه به، كمنقذ، كمخلص، القيام بالمعجزات. فى الواقع فإنه سوف يطلب هذه المعجزات كاختبار للبرهنة على أن مخلصه يملك بالفعل القدرة على إنقاذه. ربما يلعب تذكر الخرافات الإلهية من فترة أبكر دوراً أيضاً، فكثير منها جسَّد دوافع مستعارة من مثل هذه الخرافات فى الأساطير الجديدة. ولكن الأخيرة مختلفة تماماً عن الأولى. لقد نسبت القوى مافوق الإنسانية للآلهة القديمة حتى تقدم تفسيراً للأحداث الفعلية التى كانت قد لوحظت بدقة وصواب. نسبت الآن القوى مافوق الإنسانية إلى البشر، حتى تجعلهم قادرين على أن ينتجوا آثاراً لم يلاحظها أحد حتى الآن، والتى كانت مستحيلة كلياً. ربما تكون مثل هذه الظواهر العجيبة قد تطورت من قبل خيال شديد الفعالية من الخرافات القديمة عن الآلهة ، حتى فى أشد الأزمنة قدماً ؛ ولكن الخرافات القديمة ليست مؤسسة على مثل هذه الأحداث العجائبية. تتضمن المعجزة نقطة انطلاق الأشكال الجديدة للأسطورة. واحدة من أكثر النقاط التى توافقت فيها الخرافات القديمة والتالية كانت ميلاد البطل من إله. أحب البشر فى الأزمنة الباكرة أن يرفعوا من فخامة أسلافهم، أن يمثلوا الإنسان الذى أخذ جنسهم أصله منه (ليظهروه فى منتهى الفخامة) باعتباره إنساناً أعلى، نصف اله. وفقاً لنمط التفكير الذى كان رائجاً عندئذ، الذى بحث عن اله خلف كل الأشياء، كان يمكن بالطبع الحصول على القدرة الضرورية من إله. مادام هؤلاء الآلهة، بالرغم من كل صفاتهم مافوق الإنسانية، كانوا يُتَصورون بطريقة غاية فى الإنسانية، بعواطف غاية فى الإنسانية، فقد كان من الطبيعى أن يُفترض أن أم البطل السلفية قد أثارت عاطفة رقيقة فى اله، كانت ثمرته هذا البطل الشجاع. وبالمثل، تتضمن الخرافات التالية أيضاً مخلصين للعالم من أمهات فانيات، ولكن من آباء إلهيين. وهكذا، يروى لنا سوتينيوس: "قرأت فى كتاب أسكلبيادس المندسى فيما يتعلق بالآلهة، أن أتيا، أم أغسطس، قد ذهبت مرة فى منتصف الليل إلى قداس دينى على شرف الإله أبولو، وقد غفت فى محفتها حينما كانت تنتظر النسوة الأخريات، فجأة لحقها ثعبان فى المضجع، ثم سرعان ماتركها بعد ذلك، حين استيقظت خالجها نفس الشعور الذي يراودها حين يباشرها زوجها ومن ثم طهرت نفسها، وظهرت مباشرة بقعة على جسدها، على شكل ثعبان، كان متعذراً إزالتها، ودعتها من ذلك الحين فصاعداً الا تظهر فى الحمامات العامة. ولد أغسطس فى الشهر العاشر التالى، حيث إعتبر إبناً لأبولو". (أوكتافيوس، الفصل XCIV) بدت علاقة غرامية مع اله فى هذا الوقت للسيدات الرومانيات ليست ممكنة فحسب، وإنما أيضاً (أمراً) متميزاً تماماً. يروى يوسيفوس قصه جميلة فى هذا الصدد. عاشت فى روما سيدة اسمها باولينا فى زمن طيباريوس، وكان جمالها عظيماً كطهارتها. وقع فى حبها على نحو قاتل فارس ثرى: ديسيوس مندوس وقدم لها مائتى ألف دراخمة مقابل ليلة واحدة، ولكنها رفضت. ولكن أَمَة معتقة استطاعت مساعدته، فقد علمت أن باولينا الجميلة كانت عابدة متعصبة للإلهة إيزيس، وإستناداً على ذلك وضعت خطتها. لقد رشت كهنة هذه الإلاهة بأن "دفعت لهم أربعين ألف دراخمة لتجعلهم يخبرون باولينا أن الإله أنوبيس قد رغب فيها. "كانت هذه "السيدة مسرورة بل وتباهت أمام صديقاتها بالشرف الذى منحه أنوبيس إياها. أخبرت زوجها أيضاً بأن أنوبيس قد دعاها لأن تتعشى معه وتعاشره. وافق الزوج بسرور، عالماً بفضيلة زوجته. وعلى ذلك، ذهبت إلى المعبد، وبعد أن تعشت معه، حان وقت النوم، أطفأ الكاهن كل الأنوار وأغلق الباب. مندوس، الذى كان قد اختفى قبلاً فى المعبد، لحق بها الآن ولم ينتظر دعوة. لقد كان له ماشاء معها طوال الليل، لأنها ظنت أنه إله. بعد أن أشبع شهوته، غادر فى الصباح، قبل أن يدخل الكهنة المعبد، وعادت باولينا إلى زوجها، وأخبرته أن الإله أنوبيس كان معها وكذلك تباهت بذلك أمام صديقاتها". ولكن الفارس النبيل ديسيوس مندوس ذهب بوقاحته إلى حد توبيخ محبوبته بعدها بعدة أيام، حين قابلها فى الطريق، لأنها سلمت له نفسها مقابل لاشيء، السيدة الورعة التى تحررت الآن من الوهم كانت ساخطة بالطبع لأقصى حد، اتجهت مباشرة إلى طيباريوس ونجحت فى إقناعه بصلب كهنة إيزيس وتدمير معبدهم، واختفى مندوس . تعتبر هذه القصة القصيرة الأكثر تسلية بسبب حقيقة أنها تلى مباشرة المقطع الذى ذكرناه فى البداية، الذى أشيد فيه بحماس بمدائح المسيح العجائبى. لم يُخفق تجاور هذين المقطعين فى جذب انتباه المعلقين الورعين منذ وقت مبكر؛ فقد رأوا رابطة بين المسيح ومغامرة السيدة باولينا، مستشعرين فيها قذفاً مقنعاً من اليهودى الخبيث يوسيفوس فى عذرية مريم وسذاجة خطيبها يوسف، قذفاً سيتوافق بصعوبة بالطبع مع الاعتراف بمعجزات المسيح التى حواها المقطع التالى مباشرة. ولكن حيث ان يوسيفوس لايعرف بالفعل شيئاً عن هذه المعجزات، وحيث أن المقطع الذى يتعلق بها هو إدراج مسيحى متأخر، كما يعرف القارئ الآن، فإن هذا التعريض بالعذراء المقدسة وخطيبها الخاضع بإذعان غير مقصود كلياً. إنه يبرهن فقط على غباء أحد المزيفين المسيحيين، الذى اختار تحديداً هذا الموضع باعتباره قرين الجزء الأكثر مناسبة لشهادته فيما يتعلق بابن الرب. أن تكون ابن الرب كان جزءاً من شئون المخلص سواء كان قيصر أو واعظاً متجولاً. ولكن لم يكن أيضاً أقل ضرورة للقيام بالمعجزات، التى كانت فى كلتا الحالتين قد اخترعت نفس الخطوط. حتى تاسيت، الذى لم يكن ميالاً إلى المبالغة على الإطلاق، يروى (تواريخ، المجلد الرابع، الفصل 81) فيما يتعلق بڤ-;---;-----;---سباسيان، أن الأخير قد صنع كثيراً من المعجزات فى الإسكندرية، مبرهناً على قصد السماء الطيب نحو الإمبراطور. وهكذا فقد بلل عينى رجل أعمى باللعاب فجعله يرى. وبالمثل، فقد خطا على يد مفلوجة لآخر وهكذا شفاها. تحولت القدرة على القيام بمثل هذه المعجزات فيما بعد من الأباطرة الوثنيين إلى الملوك المسيحيين. إمتلك ملوك فرنسا الهبة المتميزة بكونهم قادرين على شفاء داء الملك (SCROFULA) وتضخم الغدة الدرقية فى حفلة تتويجهم بلمسه فحسب. أنجزت هذه المعجزة كما ينبغى متأخراً فى 1825، فى حفل تتويج شارل العاشر، آخر (سلالة) البوربون الذى يحتل العرش الفرنسى. روي عن قدرة على الشفاء مماثلة قام بها يسوع بالطبع أكثر من مرة. يفترض الورع مريڤ-;---;-----;---ال أن معجزة ڤ-;---;-----;---سباسيان قد انجزت وفق النموذج المسيحى - وجهة نظر لاتبدو جديرة بالتصديق حين نأخذ فى الاعتبار كيف كانت المسيحية غير معروفة ولاأهمية لها ، فى زمن ڤ-;---;-----;---سباسيان. يعلن برونو باور من ناحية أخرى، فى "كتابه المسيح والقياصرة: "سوف أسعد اللاهوتيين المثقفين فى العصر الحاضر، بتأكيدى أن المؤلف التالي "للإنجيل الرابع، والتالي أيضاً، محرر الإنجيل الأولى الذي تضمنته طبعة القديس مرقس، إستعارا استعمال اللعاب فى العلاجات العجائبية للمسيح من مؤلف تاسيت هذا ". (يوحنا، 9، 6 ؛ مرقس 7، 33 ؛ 8، 33) " ولكن ليس من الضرورى فى رأينا أن نفترض حتى الاستعارة. كل حقبة تعتقد فى المعجزات لها أيضاً أفكارها النوعية عن كيفية إنتاجها. افترضوا فى العصور الوسطى المتأخرة بصفة عامة أن ميثاقاً مع الشيطان كان ينبغى أن يوقع بدم دافئ؛ وربما يستخدم كاتبين هذه المعالجة بنفس الطريقة فى قصصهما، بدون أن يكون الواحد بالضرورة قد استعارها من الآخر، بالمثل، فى أيام ڤ-;---;-----;---سباسيان، وفيما بعد، ربما كان اللعاب قد إعتبر مادة ملائمة للاستعمال فى العلاجات العجائبية، إنتهاءاً إلى انه كان طبيعياً ليس فقط للراوى الرزين عن المخلص الدنيوى على عرش القياصرة أن ينسب الشفاء بهذه الطريقة للشخص حتى يمجد، وإنما أيضاً للرواى الأكثر شطحاً عن المخلص على عرش المملكة الألفية ؛ ولايحتاج أى مؤلف لأن يستعير من الآخر. بالتأكيد، لم يخترع تاسيت هذا العلاج، ولكنه وجد الخرافة فى التداول العام. لم يكن القياصرة فقط هم من قاموا بالمعجزات عندئذ، ولكن أيضاً كثرة عظيمة من معاصريهم. كانت حكايات المعجزات شديدة الشيوع آنئذ حتى أنها كفت عن أن تلقى أى انتباه. لايعرض حتى رواة الأناجيل معجزات وآيات يسوع باعتبارها تنتج الانطباع العميق الذى يجب، بموقفنا الحديث، أن نتوقع أن تنتجه. حتى بعد الإطعام العجائبى للخمسة آلاف، يبقى أتباع المسيح ميالين إلى الشك. أضف إلى ذلك، ليس فقط يسوع ولكن أيضاً الرسل والأتباع، قاموا بمعجزات كثيرة. كان الناس فى الواقع شديدى السذاجة، حتى أنه لم يخطر أبداً للمسيحيين أن تراودهم الشكوك بالنسبة للمعجزات المتأتية عن أشخاص اعتبروهم محتالين. لقد هربوا من هذه الصعوبة بواسطة الحيلة البسيطة بعزو مثل هذه المعجزات لقوة الشيطان والأرواح الشريرة. لقد نبتت المعجزات كالفطر، أثمرها كل مؤسس لطائفة دينية أو مدرسة فلسفية باعتبارها خطاب توصيته. لدينا، على سبيل المثال، نموذج الفيثاغورثيين الجدد، أبولونيوس من تيانا، وهو معاصر لنيرون. بالطبع حتى مولده كان عجائبياً. حين كانت أمه حبلى فإن الإله بروتيوس، الاله الحكيم غير المفهوم من أحد، ظهر لها، ولكنها سألته بلاخوف أى طفل ينبغى عليها أن تحمل. وقد أجابها: "أنا" . ترعرع "أبولونيوس الفتى، أعجوبة الحكمة، مبشراً بحياة أخلاقية طاهرة، يوزع ثروته على أصدقاءه وأقاربه الفقراء، ويسافر حول العالم كفيلسوف متسول، ولكنه أكثر تأثيراً بمعجزاته منه بتقتيره وأخلاقه. والمعجزات لها شبه يلفت النظر مع تلك الخاصة بالمسيح ؛ وهكذا فقد أورد لنا مثلاً من زمن إقامته فى روما: "ماتت عذراء فى يوم زفافها، أو على الأقل فقد اعتبرت متوفاة. تبع العريس نعشها، نائحاً، وناحت روما معه، لأن الفتاه كانت من عائلة غاية الأرستقراطية. الآن حين قابل أبولونيوس الموكب قال: "ضعوا النعش، سوف أكفكف دموعكم على هذه الفتاه؛ حين سأل عن اسمها اعتقد الجمع أنه نوى أن يلقى واحدة من الخطب الجنائزية المعتادة، ولكنه لمس الفتاة الميتة، وتمتم ببضع كلمات غير مفهومة وأيقظها من غشيتها. ولكنها رفعت صوتها وعادت إلى منزل أبيها" . وفقاً للحكاية الخرافية فإن أبولونيوس يعارض بشجاعة الطاغيتين نيرون ودوميتيان، فيسجناه، وينجح فى تحرير نفسه من أغلاله دون صعوبة، ولكنه لايفر، منتظراً محاكمته، فى السجن؛ ويلقى فى المحكمة خطبة مطولة فى دفاعة عن نفسه، وعندئذ ، قبل أن ينطق الحكم، يختفى بغموض من قاعة المحكمة فى روما، وفجأة يعلن ظهوره بعد بضع ساعات تاليه فى ديكارخيا، بالقرب من نابولى، حيث عززته الآلهة بسرعة قطار سريع. يمتلك أبولونيوس بدرجة عالية هبة التنبؤ الذى كان أمراً لازماً لمهام المخلص، وكذلك القدرة على رؤية الأشياء التى تجرى فى أجزاء أخرى من العالم. حين قتل دوميتيان فى قصره بروما، شاهد أبولونيوس وهو فى أفسس الفعل بوضوح كما لو كان فى ذات الموضع مطلعاً الإفسوسيين عليه مباشرة. هذا عمل فذ لإبراق لاسلكى، وماركونى هاو رخيص مقارنة به. وقد انتهى بالاختفاء فى معبد فتحت أبوابه لاستقباله، وأغلقت خلفه "سمعوا من الداخل اغانى العذارى التى بدت وكأنها تدعوه لأن يصعد نحو السماء، بالكلمات: "أخرج من ظلمة الأرض، وأدخل فى نور السماء، تعال" . لم يوجد أبداً جسد أبولونيوس. لقد أصبح من ثم جلياً أن هذا المخلص أيضاً قد صعد إلى السماء. نشأت منافسة حادة بين المعجزات التى آمن بها أتباع المسيحية وتلك التى قام بها أبولونيوس. فى ظل ديوكلتيان، كتب أحد الحكام المتأخرين، واسمه هيروكليس، كتاباً ضد المسيحيين، أشار فيه إلى أن معجزات المسيح ليست شيئاً حين تقارن (بمعجزات) أبولونيوس بالإضافة إلى أنهما ليسا ذوى قوة متساوية فى الشهادة عليهما. إيوسيبس من قيصرية كتب رداً على هذا الكتاب، لم يعبر فيه عن أقل شك فى واقعية معجزات أبولونيوس، ولكن حاول أن يقلل من شأنها فحسب بوصفها ليست أعمالاً إلهية، وإنما أعمال سحر، عمل أرواح الظلام. بمعنى آخر، حتى حين أصبح ضرورياً معارضة المعجزات، لم يفكر أحد فى الشك فيها. وقد نشأت هذه السذاجة مع التفسخ المتزايد للمجتمع، مع التدهور فى روح البحث العلمى والانتشار الوافر للتبشير الأخلاقى. ورافق تزايد السذاجة حب متزايد للمعجزات. تكف الأحاسيس عن إنتاج أثر حين تتكرر مراراً. يجب أن يستعمل مثير أقوى فأقوى من أجل خلق تأثير. رأينا فى فصلنا الأول كيف تنطبق هذه القاعدة على الأناجيل، حتى أنه يمكننا تعقبها تحديداً فى نموذج الإقامة من بين الأموات، وهى ابسط فى الأناجيل الأقدم منها فى (الأناجيل) التالية. إن أحدث إنجيل، أي إنجيل القديس يوحنا، يضيف إلى المعجزات الأقدم التى رويت من الأناجيل الأبكر، الإنتاج العجائبى للخمر فى عرس قانا، ويذهب يوحنا بعيداً إلى حد القول بأن رجلاً مريضاً شفاه يسوع قد كان مريضاً لمدة ثمانية وثلاثون عاماً، بينما رجل أعمى كان قد ولد كذلك جعله بصيراً، بمعنى آخر، يجعلون المعجزات خارقة أكثر عند كل مرحلة. نقرأ فى الكتاب الثانى لموسى، 17، 1-6، قصه أن موسى أخرج الماء من صخرة فى الصحراء حتى يروى الإسرائيليين العطشى. لم تكن هذه بالمعجزة الكافية فى الفترة المسيحية حيث نعلم من الرسالة الأولى للرسول بولس إلى الكورنثيين (10، 4) أن الصخرة التى استقى منها اليهود قد سافرت فى الصحراء معهم حتى لا ينقصهم الماء أبداً - صخرة متدفقة رحالة. هذه المعجزات التى تظهر فيما يسمى "أعمال الرسول بولس" فجة بصفة خاصة فى مباراة المعجزات التي جرت مع الساحر سيمون، حيث يستعيد الرسول الحياة لسمكة رنجة مملحة. من ناحية أخرى، اعتُبرت أحداث طبيعية تماماً معجزات فى عيون أناس هذه الأيام، وأدلة على التدخل التحكمى للرب فى مجرى الطبيعة، ليس فقط الشفاء والموت، الانتصارات والهزائم، ولكن التسلية اليومية مثل المراهانات. "كانت تتبارى فى سباق خيول فى غزة خيول مسيحى ورع، ووثنى تقى "هزم المسيح مارناس" وأدى ذلك بالوثنيين أن يتعمدوا" . ولكن الحدث الطبيعى الذى فسر كمعجزة لم يكن موضع تفسير واحد فقط. "خلال الحرب ضد الكادى (QUADI) (173-4) فى حكم ماركوس أوريليوس، وجد الجيش الرومانى، الذى أُنهك بسبب حرارة الشمس المحرقة، نفسه محاطاً بقوة أعتى، هددته بالإبادة، عندئذ تجمعت فجأة سحب كثيفة معاً، وسقط المطر مدراراً، وسببت عاصفة مخيفة دماراً واضطراباً فى صفوف العدو؛ أُنقذ الرومان وأحرزوا النصر. لقد كان أثر هذا الحدث غامراً: وفقاً لعادة هذا الزمن فقد تم تخليده بتمثيل تصويرى، واعتبر بصفة عامة معجزة، استمرت ذكراه حتى آخر أيام العصور القديمة، ولقرون تالية كان يستشهد به المسيحيين والوثنيين كدليل على حقيقة إيمانهم الخاص... يبدو أن الخلاص العجائبى للجيش قد عُزى بصفة عامة لصلوات الإمبراطور إلى جوبيتر ؛ وأكد آخرون، على أية حال، أنه كان راجعاً بالفعل إلى فن ساحر مصرى يدعى أرنوبيس، عضو فى حاشيته وقد أسقط المطر من السماء بدعائه للآلهة خاصة الإله هرمس . ولكن وفقاً لتقويم مسيحى معاصر، فإن المعجزة صنعتها صلوات الجنود المسيحيين من اللواء الثانى عشر (MELITENIAN) . يشير ترتليان أيضاً (197) "الى الطبعة المسيحية كما هو معروف، ويلجأ لخطاب ماركوس أوريليوس دعما له". اتخذ الاشتياق للمعجزات، والسذاجة العامة درجات أعظم فأعظم، حتى مارس الرهبان أخيراً فى فترة الانحطاط الأعظم فى القرنين الرابع والخامس، معجزات حين تقارن (بمعجزات) يسوع كما روى عنها الإنجيل، تبدو غير مؤثرة لأبعد حد. "كان جيلاً مؤمناً يقتنع بسهولة بأن أقل نزوة لراهب مصرى أو سورى كانت كافية لأن تُعوق قوانين الكون. لقد اعتاد المُفَضلين من السماء أن يشفوا الأمراض المتأصلة بلمسة، بكلمة، أو برسالة من بعيد؛ وأن يطردوا أشد الشياطين عناداً من النفوس أو الأجسام، التى مسوها. لقد خاطبوا بالمثل بغير كلفه وأمروا بغطرسة، أسود وأفاعى الصحراء، نفخ الحياة النباتية فى جذع جاف، إيقاف الحديد على سطح الماء ؛ تمرير النيل على ظهر تمساح، وأنعشوا أنفسهم فى أتون نارى" . صور شلوسر تشخيصا ممتازا للموقف العقلى لأفلوطين الفيلسوف الأفلاطونى الجديد الأكثر شهرة فى القرن الثالث من عصرنا، فى الوقت الذى ظهرت فيه المسيحية ، فى مؤلفه تاريخ العالم. "كان أفلوطين الذى ولد عام 205 فى ليكوبوليس بمصر، والذى توفى عام 270 فى كامبانيا تلميذاً مجتهداً لأمونيوس، لمدة إحدى عشر عاماً، ولكنه استغرق بعمق شديد فى التفكير حول موضوع الطبيعة الإلهية والبشرية، ولأنه، لم يكن راضياً عن التعاليم الصوفية المصرية - الإغريقية لأسلافه ومعلمه، فقد توجه أيضاً للحكمة الفارسية والهندية، وارتبط بجيش جورديانوس الأصغر وذهب إلى فارس معه.... ذهب أفلوطين فيما بعد إلى روما حيث وجد الاتجاه المهيمن ينحو نحو الصوفية الشرقية موافقاً لغرضه غاية الموافقة، ولعب دور النبى لمدة خمسة وعشرين عاماً، نظر اليه الإمبراطور جالينوس وزوجته بتبجيل خرافى، حتى قبل وفاته بوقت قصير، حتى قيل إنه كانت لديهما النية فى تأسيس دولة فلسفية فى إحدى مدن إيطاليا، تُحكم وفقاً لمبادئ أفلوطين. كانت عظيمة كذلك الاستجابة التى تلقاها أفلوطين من أكثر عائلات المواطنين الرومان احتراماً ، وأصبح بعض من أكثر الرجال برزوا فى المدينة أكثر أبطاله تحمساً وتلقوا تعاليمه وكأنها رسالة من السماء". إن الضعف الروحى والأخلاقى للعالم الرومانى والاتجاه السائد عموماً باتجاه النشوة الهيستيرية، نحو الأخلاق الرهبانية وتجاه الصفات مافوق الطبيعية والنبوئية، لم يعبر عنها فى أى مكان بهذا الوضوح كما فى الانطباع الذى خلقة أفلوطين والاحترام الذى تلقاه مذهبه، لسبب خاص جداً وهو أنه كان مبهماً. "كانت هذه الوسائل التى إستخدمها أفلوطين وتلاميذه لنشر الفلسفة الجديدة مماثلة لتلك التى استخدمت فى نهاية القرن الثامن عشر من قبل مِسْمَر وكاليجوسترو فى فرنسا لتصويف النبالة المتدهورة، وبواسطة الروزيكروسيين، ساحرى الأزواج وأمثالهم فى ألمانيا لتصويف ملك بروسى ورع. مارس أفلوطين السحر واستدعى الأرواح للظهور أمامه، وانحط حين كان يسأل من قبل معارفه حتى القيام بالنشاط الذى مارسته فى بلاده فئة من الأشخاص المحتقرين فقط وهو كشف المذنبين في سرقات صغيرة،. كان يعبر عن كتابات أفلوطين أيضاً بالطريقة النبوءية، لأنه وفقاً لشهادة أكثر تلاميذه شهرة كان يُدون إلهاماته المزعومة دون أن يتفضل أبداً بالنظر إليها ثانية، أو حتى يصحح اللغة. لم تكتب روائع الإغريق القدامى أبداً هكذا ! حتى أكثر قواعد التفكير أولية، التى اعتدنا على تسميتها "المنهج"، مفتقرة فى كل من الكتابات والأطروحات الشفوية لهذا الرجل، الذى طلب من كل من يُقبل على تحصيل معرفة فلسفية الانسلاخ عن طبيعته الخاصة أو الخروج عن الحالة الطبيعية للفكر والشعور، باعتبار ذلك شرطه الأول. من أجل نقل فِكْرة عن طبيعة تعاليمه وعن الأثر الذى أنتجته، نحتاج فقط إلى أن نقدم مادة قليلة تتعلق بمضامين كتاباته. يعتبر العيش مع البشر وبين البشر أمراً أثيماً وغير طبيعى، بينما الحكمة الحقيقية والنعيم يكمنان، وفقاً له، فى الانفصال الكامل عن عالم الأحاسيس، فى التأمل وفى السكينة وفى العزلة الموحشة لروح المرء الخاصة، والتركيز على الأشياء الأعلى.... هذه النظرية عن الحياة التى تقوض كل فعالية، وتتبدد فى وجه كل تجربة وكل العلاقات الإنسانية، والتى دافعت إضافة إلى ذلك بأشد احتقار ضد هؤلاء الذين لهم وجهات نظر مختلفة، مترافقة مع مفهوم نظرى خالص عن الطبيعة وقوانينها، قائم فقط على أهواء عقلية غاية فى الخفة. لقد أسس أرسطو أفكاره عن الطبيعة على التجربة، والملاحظة والرياضيات؛ ليس هناك أثراً لذلك عند أفلوطين. اعتبر أفلوطين نفسه فيلسوفاً أناره الله ؛ وأعتقد من ثم أن كل معرفته كانت تتأتى من مصدر داخلى للإلهام، وأنه لم يكن محتاجاً لأن يرتقى دَرَجاً حتى يحرز معرفة، لأن أجنحته حملته فوق الأرض وعبر كل عوالم الفضاء ... كان لدى أفلوطين ثلاثة تلاميذ وضعوا فى شكل يُحتمل الكلمات التى ألقاها فى شكل نبوءات، والذين نشروا تعاليمه باعتبارهم رسله: هيرينيوس، أميليوس، وفورفوريوس. كان الثلاثة جميعهم موهوبين تماماً، ويذكر لونجينوس الأخيرين باعتبارهما الفيلسوفين الوحيدين فى زمنهما التى كانت كتاباتهما مقروءة، بالرغم من أن لونجينوس كان شديد العدواة فى معظم الأمور لأى فلسفة أدارت ظهرها للحياة والعقل السليم. ولكننا يمكن أن نحكم بأفضل شكل على كيف كان حبهم للحقيقة متدنياً من خلال سيرة أفلوطين التى كتبها فورفوريوس. يروى فورفوريوس أسخف القصص عن سيده ومعلمه، وحيث أن فورفوريوس يراوده إحساس عظيم بتصديقها هو نفسه، فلابد أنه قد إصطنعها قصداً وعن معرفة من أجل رفع رصيد أفلوطين من المأثورات النبوئية (ORACULAR DICTA)" .
ج - اللجوء إلى الكذب النفاق مكمل ضرورى للسذاجة وحب المعجزات. أوردنا حتى هذا الحد الأمثلة التى حكى فيها الرواة معجزات تتعلق بالموتى فحسب، ولكن لم يكن هناك افتقار للأشخاص الذين رووا أعظم الأعاجيب فيما يتعلق بأنفسهم، مثل أبيون السكندرى، معذب اليهود، ""ثرثار العالم" (CYMBALUM MUNDI) ، مثلما سماه الإمبراطور طيباريوس، وهو رجل ملئ بالكلمات الكبيرة وأكاذيب أكبر بعد. بأكثر المعارف المضمونة لانهائية وإيمان غير محدود بنفسه، إن لم يكن عالماً بالرجال، فعلى أى حال بعدم جدارتهم، معلم المقالات المشهور وكذلك فن التضليل مستعد للعمل، بارع، صفيق، ومخلص بغير شروط . كان الرجال الذين يتسمون بهذا الطابع عادة مخلصين - أى ذليلين. تميز هذا الوغد المخلص بوقاحة أن يستحضر روح هوميروس من العالم السفلى ليستجوبه فيما يخص محل ميلاده. وقد أكد حتى أن روح الشاعر قد ظهرت له وأجابت على سؤاله، ولكنه تعهد لها أن يبقى سراً! كان الإسكندر الأبونوتيخوس محتالاً أشنع (ولد حوالى 105 ب.م، ومات حوالى 175 ب.م ) الذى مارس السحر بأفظ الوسائل، وعلى سبيل المثال، ذبح حيوانات وجَوَّف صور الآلهة، التى أخفى فيها آدميين. استنزل هذا الرجل وحياً يقدم معلومات مقابل أتعاب، ويقدر لوسيان دخل هذا العمل بحوالى 15000 جنيه إسترلينى فى العام. لقد نجح حتى فى أن يمارس نفوذاً من خلال المستشار روتيليانوس على الإمبراطور "الفلسفى" ماركوس أوريليوس. مات الوغد غنياً مليئاً بالجوائز، ونصب تمثال لذكراه حتى قيل أنه أطلق نبوءات بعد وفاته. وقد كانت هناك خُدعة محكمة أخرى تتمثل فيما يلى: "يروى ديوكاسيوس أنه فى العام 22 ظهرت روح، أسمت نفسها (روح) الإسكندر الأكبر، تشابهت معه تماماً فى الشكل والملامح. وارتدت لباساً مماثلاً، مشت مع حاشية مكونة من 400 شخص تزيت مثل كاهنات باخوس، من الدانوب إلى البوسفور BOSPORUS، حيث اختفت: ولم يغامر أي موظف رسمى بإيقافها، ولكن على العكس قدم لها المأوى والطعام فى كل مكان على حساب النفقة العامة" . أبطال البعد الرابع لدينا والأكثر مادية مثل كابتن كوبينيك يجب أن يستحوا خزياً حين يفكرون فى مثل هذه الإنجازات . لم ينخرط المحتالون والدجالون فقط فى ممارسة كذب واع وخداع، وإنما حتى مفكرين جادين، وأشخاص آخرين كان قصدهم طيباً، قد استخدموه مراراً. لم يتسم الأدب التاريخى للعصور القديمة أبداً بإفراطه في صرامة المنهج النقدى، فلم يكن علماً بالمعنى الأضيق للكلمة بعد، ولم يكن مُستخدماً بعد لبحث قوانين تطور المجتمع، وإنما لأغراض تربوية وسياسية. كان موضوعه تنوير القارئ أو إثبات صواب الاتجاهات السياسية التى حبذها المؤرخ. يجب أن تصنع أعمال أسلافهم العظيمة لترتقي بعقول الأجيال المقبلة وأن تلهمها لإنجاز أعمال مماثلة - جعل هذا كتابة التاريخ مجرد صدى نثرى للملحمة البطولية. ولكن وجب أيضاً أن تتعلم الأجيال المقبلة من تجارب أسلافها وما تعين عليهم أن يفعلونه أولاً يفعلونه. من السهل أن نفهم أن كثيراً من المؤرخين، خاصة حين كان غرض التنوير والإلهام هو (الغرض) الرئيسى، لم يكونوا شديدى الرهافة فى اختيار ونقد مصادرهم، وربما يكون المؤرخ قد سمح لنفسه حتى، فى صالح تأثيره الفنى، أن يملأ الفجوات فى حكايته بمساعدة الخيال. كل مؤرخ اعتبر أن امتيازه بصفة خاصة هو أن ينقح بحرية الخطب التى جعل شخصياته تلقيها. ولكن المؤرخين القدماء عانوا حتى لايكونوا مضللين بوعى وبقصدية فى تصويرهم فعالية الشخصيات التى تناولوها. كان عليهم أن يكونوا أكثر عناية فى تجنب هذا الخطأ ماداموا كانوا يتناولون نشاطاً سياسياً عاماً، الأمر الذى جعل سجلاتهم خاضعة لفحص دقيق. ولكن مع تدهور المجتمع القديم، تغيرت مهمة كاتب التاريخ القديم. كف الناس عن طلب تعليمات سياسية، لأن السياسة قد أصبحت لاأهمية لها أكثر فأكثر وزادت تنفيراً لهم. ولم يستمروا فى تطلب أمثله عن الشجاعة الرجولية، والتفانى للوطن، كان ما أرادوه التسلية، ومثيرات جديدة لأعصابهم المنهكة، ثرثرة وأحاسيس، معجزات. إن عدم دقة طفيفة بهذا القدر أو ذاك لم تكن تهم القارئ. أضف إلى ذلك أصبح فحص الوقائع المسجلة أكثر صعوبة، لأن المصائر الخاصة كانت الآن فى طليعة اهتمام القارئ، أي الأحداث التى لم تجر فى ضوء العلنية التامة. انتهى التاريخ الأدبى نفسه أكثر فأكثر، من ناحية إلى أن يكون حكايات للفضائح، ومن ناحية أخرى إلى مبالغات فظيعة من نمط مبالغات البطل الروائي منشوسن (MUNCHAUSEN TYPE). أصبح هذا الاتجاه الجديد ظاهراً فى الأدب الإغريقى حوالى زمن الإسكندر الأكبر، حيث كتب فيما يتعلق بأعمال الإسكندر أحد رجال حاشية الإسكندر أونيسكريتوس كتاباً يحفل ببساطة بالأكاذيب والمبالغات. ولكن هناك خطوة واحدة فقط تفصل بين الكذب والتزوير. أنجز هذه الخطوة إيمروس، الذى أحضر إلى الوطن فى القرن الثالث كتابات من الهند، زعم أنها عتيقة، ولكن كان الرجل الطيب قد اصطنعها بنفسه. ولكن لم تكن هذه الطريقة الممتازة قاصرة على التاريخ الأدبى فقط. لقد رأينا كيف أن الاهتمام بأشياء هذا العالم كان يخبوا تدريجياً بين دارسى الفلسفة، بينما أصبح (الاهتمام) بالعالم الآخر أقوى. ولكن كيف يمكن لفيلسوف أن يقنع تلامذته أن أفكاره عن الحياة الأخرى كانت أكثر من مجرد خيالات ؟ كانت أبسط وسائل إنتاج مثل هذا الاعتقاد بالطبع إختراع شاهد يعرض باعتباره قد عاد من المكان "الذى لايعود من عالمه راحل" ويروي وضعه العام. حتى أفلاطون لم يترفع عن استخدام مثل هذه الحيلة كما رأينا فى حالة البامفيلى الممتاز الذى ذكرناه سلفاً. أضف إلى ذلك تضمن الاهتمام المتناقص بالعلوم الطبيعية واستبدالها بالتأمل فى الأخلاق أيضاً هجر الروح النقدية التى تهدف إلى اختبار صحة كل قضية بواسطة التجربة الفعلية وإضعاف متزايد للقدرة الثقافية للأفراد المتنوعين، مؤدية هكذا لظهور رغبة متزايدة فى إيجاد دعم فى شخص رجل عظيم ما. لقد تأثر البشر الآن ليس بالبراهين الفعلية وإنما بالحجج/ بالثقات AUTHORITIES، ومن أراد أن يمارس تأثيراً عليهم كان لابد وأن ينظر اليه بوصفه مُؤيداً من الحجج الضرورية. فإذا لم يقدم هؤلاء الحجج المقاطع المطلوبة فكان من الضروري تشذيبها قليلاً، أو خلق حجج المرء اجتزاءاً. لقد أتيحت لنا الفرصة لأن نلاحظ حججاً من هذا النوع فى حالتى دانيال وفيثاغورث. كان يسوع حجة كهذه، وكذلك رسله، وموسى، والسيبلييات SIBYLS. لم يتحمل الكاتب دائماً مشقة أن يكتب كتاباً كاملاً تحت اسم مزيف، غالباً ماكان يكفيه إدراج جملة واحدة فى مؤلف أصلى مكتوب من قبل حجة معترف بها، جاعلاً هذه الجملة تعبر عن عقائد الكاتب الخاصة، ومن ثم مخضعاً هذا الحجة لجداله. لقد تم هذا بشكل أسهل استناداً إلى حقيقة أن الطباعة لم تكن قد اخترعت بعد. لقد جرى تداول الكتاب فقط فى نسخ مكتوبة، خطَّها صاحبها، أو كتبها عبد، إذا كان مالكها ثرياً بما يكفى ليقيم أود عبد لتحقيق هذا الغرض. إضافة إلى ذلك، كان هناك ناشرين جعلوا عبيدهم ينسخون الكتب، التى كانت تباع عندئذ بربح كبير. لقد كان غاية فى السهولة أن تحذف فى هذه النسخ جملة تبدو غير ملائمة، أو إدخال أخرى طرأت حاجة إليها، خاصة إذا كان المؤلف قد مات، الذى جعل احتمال بروز احتجاج ، فى هذه الأيام اللامبالية والساذجة، أمراً بعيداً. سوف يحرص النساخون اللاحقون على حفظ هذا التزييف للأجيال اللاحقة. وجد المسيحيون منهج هذا الإجراء أسهل مقارنة بما فعل المؤرخون الآخرون. أيا ماكانت هوية أول معلمى ومنظمى المجامع المسيحية، فمن المؤكد أنهم ظهروا من أدنى فئات السكان، حتى أنهم لم يتمكنوا من الكتابة ولم يتركوا سجلات مكتوبة. كانت مذاهبهم فى البداية منتشرة شفهياً. إذا كان أى من أتباعهم قد توسل بحجة المعلمين الأوائل للمجمع، فى أى مناقشة أثيرت، فقد كان من الصعب مناقضته، إذا لم ينتهك التقليد بفظاظة. سرعان ماكانت أكثر الطبعات تنوعاً من كلمات "السيد" ورسله بالضرورة فى التداول. وبالنظر إلى حالة النزاع المحتدم، التى سادت المجامع المسيحية فى البداية، قدمت هذه الطبعات المتنوعة فى البداية ليس بغرض تسجيل تاريخى موضوعى، وانما لاستعمالها فى الجدال، حيث سجلت لاحقاً وجمعت فى الأناجيل. كان النساخون والمحررون اللاحقين مدفوعين بصفة رئيسية أيضاً بالأهداف الجدالية، التى دعتهم إلى استبعاد جملة غير ملائمة هنا وإدخال أخرى محلها حتى يكونوا قادرين على استخدام كامل السجل كبرهان على حقيقة أن المسيح أو رسله قد أيدوا وجهة نظر أو أخرى. نواجه هذا المنحى الجدالى عند كل خطوة فى تفحص الأناجيل. وسرعان، ما لم يعد المسيحيون يرضون بتكييف وتزوير كتاباتهم المقدسة بهذه الطريقة، كلما تطلبت حاجتهم. كانت هذه الطريقة ملائمة للغاية حتى يمتنع تطبيقها على آخرين أيضاً، على مؤلفين "وثنيين"، بمجرد أن كان هناك عدد كاف من الأشخاص المتعلمين بين المسيحيين ليعطوا بعض الوزن للكتاب البارزين خارج العالم المسيحى، حين كان هناك عدد كاف من مثل هؤلاء الأشخاص، أصبح مما له قيمة أن تكون هناك نسخ خاصة مصطنعة معدة لهم، وقد حيوها برضى منهم وجرى تداولها أكثر. وقد حفظت عديد من هذه التزويرات حتى يومنا هذا. لقد ذكرنا قبلاً تزييفاً كهذا، أى شهادة يوسيفوس عن يسوع. الكاتب التالى، مع تاسيت، الذى يتحدث عن المسيحيين كمعاصر لهم، هو بلينى الأصغر، الذى كتب خطاباً يتعلق بهم إلى تراجان، فى الوقت الذى كان فيه بلينى (بروبريتورPROPRAETOR) فى بيثينيا (من المحتمل 111 - 113 ب.م)، الذى حفظ فى مجموعة خطاباته . يطلب بلينى فى هذا الخطاب تعليمات عما ينبغى أن يفعله مع المسيحيين فى ولايته، فيما يتعلق بهم فلا يعرف عنهم خبراً سيئاً، ولكنهم يتسببون فى أن تكون كل المعابد خاوية. لاتنسجم وجهة النظر هذه عن براءة المسيحيين تماماً مع رأى صديق بلينى تاسيت، الذى يؤكد على "كراهيتهم لكل الجنس البشرى". إنه لمن المصدم لنا بنفس القدر أن نعلم أن المسيحية كانت شديدة الانتشار بالفعل فى بيثينيا فى ظل تراجان، إلى الحد الذى تسببت فيه في جعل المعابد خاوية، التى كانت لزمن طويل مهجورة بالفعل، والتى أهملت "احتفالاتها لزمن طويل، والتى نادراً ماوجدت حيواناتها الأضحوية شاريا". كان علينا أن نميل لافتراض أن مثل هذه الأوضاع سوف تكون قد أثارت قدراً من الانتباه يماثل الانتباه الذى يمكن أن يولى الآن لواقعة، إذا ما صادف وأن حدث أن الأصوات الإشتراكية وحدها هي التي قامت بالتصويت فى برلين. كان سيكون هناك اضطراب كبير بالفعل. ولكن بلينى لايسمع عن وجود المسيحيين حتى يتهمهم أحد. لهذا ولأسباب أخرى نفترض أن هذا الخطاب هو تزييف مسيحى. إفترض سملر قبلاً مبكراً فى عام 1788، أن هذا الخطاب الخاص ببلينى بكامله قد اصطنعه مسيحى فى تاريخ لاحق، لتعظيم المسيحية. ولكن برونو باور يرى بأن هذا الخطاب قد كتب حقاً من قبل بلينى، ولم يكن أصلاً على الإطلاق مادحاً للمسيحيين، ومن ثم فقد "جرى تضبيطه" من قبل ناسخ مسيحى لاحق. أصبحت التزييفات أكثر وقاحة حين أغرق البرابرة التيوتون الإمبراطورية الرومانية فى فترة الهجرات العظيمة. كان السادة الجدد للعالم فلاحين بسطاء مليئين بمكر الفلاح لاشك، ورزينين ومحنكين بما يكفى بصدد الأشياء التى لم تكن غاية فى العمق بالنسبة لهم. كانوا مع كل بساطتهم أقل تعطشاً للمعجزات وأقل سذاجة من ورثة الحضارة القديمة، ولكن لم يعرفوا شيئاً عن القراءة والكتابة. أصبحت هذه الفنون ميزة الكهنوت المسيحى، الذى بات الآن الفئة المثقفة الوحيدة. لم يعد الكهنوت بحاجة إلى الخوف من أن تواجه تزييفاته فى صالح الكنيسة النقد، وهكذا تعددت هذه التزييفات على نحو أشد تكاثراً مما كانت من قبل، ولم تعد بعد مقصورة، كما كان الأمر قبلاً، على أمور المذهب، لم تعد تخدم فقط فى مناقشة الجدالات النظرية، الفنية أو التنظيمية، وانما أصبحت الآن وسائل حيازة الملكية، أو تبرر شرعاً استيلاءاً ناجزاً على الملكية. كانت أكثر هذه التزييفات فظاظة بالتأكيد هى هبات قنسطنطين ومراسيم إيزيودور، التى اصطنع كليهما فى القرن الثامن. فى الوثيقة الأولى، يسلم قنسطنطين (306 - 337 ب.م) إلى البابوات السلطان غير المحدود والأبدى على روما، وإيطاليا وكل الولايات حتى الغرب. مراسيم إيزيودور هى مجموعة من القوانين الكنسية جمعت ظاهرياً من قبل الأسقف الإسبانى إيزيودورس فى بداية القرن السابع، حيث يعلن فيها السلطة المنفردة للبابا فى الكنيسة. ليس هذا القدر العظيم من التزييفات أقل الأسباب أهمية في جعل تاريخ أصل المسيحية شديد الغموض حتى اليوم. ليس من الصعب كشف كثير من هذه التزييفات، وقد عرض الكثير فى القرون الماضية، على سبيل المثال، كشف لورنتيوس ڤ-;---;-----;---الا فى 1440 أن هبات قنسطنطين كانت تزييفاً ولكن ليس سهلاً بنفس القدر كشف وجود ذرة حقيقة فى واحد من هذه التزويرات، وأن نثبت حد هذه الحقيقة. إن الصورة التى نسجلها ليست مفرحة: انحلال عام فى كل اتجاه، اقتصادى، سياسى، وايضاً علمى وأخلاقى. اعتبر الرومان والإغريق القدامى التطور الكامل والمتناسق للرجولة بأفضل معنى لهذه الكلمة فضيلة. لقد دلت الفضيلة وARETE على الشجاعة والقدرة على الاحتمال، وكذلك أيضاً الكبرياء الرجولى، التضحية والتفانى غير الأنانى للصالح العام. ولكن حيث غرق المجتمع على نحو أعمق فى العبودية، أصبح الخضوع هو الفضيلة العليا، ومنه اشتقت كل الصفات النبيلة التى كرسنا لها اهتمامنا: كراهة الصالح العام والتركيز على المصالح الفردية، الجبن والافتقار للثقة بالنفس، التطلع إلى الانعتاق بواسطة إمبراطور أو اله، ليس بقوة المرء الخاصة أو بقوة طبقة المرء؛ الحط من الذات أمام القَوى، الصفاقة المتزمتة تجاه التابعين ؛ عدم اهتمام لامبالى واشمئزاز من الحياة، الإذعان للإشفاق كشعور، للأعاجيب، هيستيريا ونشوة، مقترنة بالنفاق، الكذب والتزييف. هذه هى الصورة التى يزودنا بها العصر الإمبراطورى، وآثاره تنعكس فى نتاج هذا العصر، أي المسيحية. د - النزعة الإنسانية ولكن أبطال المسيحية سوف يقولون إن هذه الصورة أحادية الجانب ومن ثم غير حقيقية. يجب أن نعترف بأن المسيحيين كانوا بشراً فحسب، ولم يستطيعوا أن يحصنوا أنفسهم كلية ضد التأثيرات المُحِطة لبيئتهم، ولكن هذا جانب واحد فقط من المسيحية. من ناحية أخرى، يجب أن نلاحظ أيضاً ترويج أخلاقية أرفع كثيراً من أخلاقية العصور القديمة، إنسانية متسامية، رحمة لانهائية، تجاه أى شيء يحمل شكلاً إنسانياً، تجاه الأدنياء وعلية القوم، الغرباء ورفاق العشيرة، العدو وكذلك الصديق، حتى أنها تبشر بأخوة كل الطبقات والأجناس. يُقال إنه لاينبغى لهذه التعاليم أن تفسر على أساس الأزمنة التى نشأت فيها المسيحية، فمما هو جدير بالملاحظة أكثر انها كانت تُعَلَم فى فترة أشد عمقاً فى فسادها الأخلاقى، يخذلنا التفسير المادى للتاريخ هنا ؛ فنحن نتعامل مع ظاهرة يمكن أن تفسر فقط بسمو الفردية المستقلة تماماً عن شرط الزمان والمكان، إله - إنسان، أو إذا استخدمنا مصطلحاً رائجاً، إنسان أعلى (سوبرمان) . هذه هى الكيفية التى يضعها بها "مثاليونا". ولكن ماهى الحقائق؟ دعنا نعتبر أولاً الإحسان نحو الفقير، والإنسانية نحو العبيد؛ هل توجد هاتان الظاهرتان بالفعل فى المسيحية فقط؟ من الحقيقى أننا لانجد كثيراً من الإحسان فى العصور القديمة الكلاسيكية، وليس عصياً أن نجد السبب، فالإحسان يتضمن وجود الفقر على نطاق واسع. كانت الحياة الثقافية فى العصور القديمة متجذرة بعمق فى شروط شيوعية، وفى ملكية عامة لأراضى العشيرة، الخاصة بالجماعة، للاقتصاد المنزلى، التى أعطت أعضاءها حقاً فى منتجاتها العامة، ووسائل إنتاجها. ونادراً ما كان إعطاء الصدقة ضرورياً. لايجب أن يخلط القارئ بين كرم الضيافة والإحسان. كان كرم الضيافة ملمحاً عاماً جداً فى الأزمنة القديمة ؛ ولكنه علاقة بين متساوين، بينما تضمن الإحسان عدم مساواة اجتماعية، يُبهج كرم الضيافة كلا من الضيف والمضيف، ولكن الإحسان يرفع من يعطى ويحط ويضع من يتلقى. تكون للمدن الكبيرة فى مجرى الأحداث جمهورا بروليتاريا، كما رأينا. ولكن هذه البروليتاريا إما امتلكت أو حققت السلطة السياسية، واستغلت الأخيرة حتى تنتزع نصيباً لنفسها فى المواد الغذائية التى كانت تفيض بها مخازن الأثرياء والدولة كنتاج لعمل العبيد واستغلال الولايات. بفضل الديمقراطية وسلطتها السياسية، لم يحتاج هؤلاء البروليتاريين أبداً إلى إحسان. يتضمن الإحسان ليس فقط بؤساً عظيماً عند الجماهير، وانما أيضاً بروليتاريا بدون حقوق سياسية وأجهزة، وهي أوضاع لم تحدث على نطاق واسع قبل العصر الإمبراطورى. ليس من المدهش أن تبدأ فكرة الإحسان آنئذ فقط فى أن تسود المجتمع الرومانى. ولكنها لم تكن نتيجة للأخلاقية مافوق البشرية للمسيحية. اعتبر القياصرة فى الأيام الأولى من حكمهم، أنه مازال من المنصوح به أن يشتروا بواسطة الخبز والألعاب ليس الجيش فحسب، وانما أيضاً بروليتاريا العاصمة. كان نيرون ناجحاً للغاية فى هذه الممارسة. استخدمت هذه الطريقة فى كثير من مدن الولايات الكبيرة أيضاً حتى تهدئ الفئة الأدنى من السكان. ولكن لم يستمر هذا الإجراء طويلاً. أجبر إفقار المجتمع المتزايد على تخفيض النفقات القومية، الذى كان من الطبيعي أن يطبقه القياصرة أولاً على البروليتاريا، التى لم يعودوا يخشونها. من المحتمل أن الرغبة فى علاج النقص المتزايد فى قوة العمل قد قلل أيضاً كرمهم نحو البروليتاريا. إذا لم تكن هناك هبات محاصيل، كان على البروليتاريين القادرين على العمل البدنى أن يبحثوا عن عمل، وربما يرتبطون بكبار الملاك العقاريين باعتبارهم مستوطنين COLONI أو مستأجرين. وقد تسبب هذا النقص فى العمل الكافى تحديداً فى نشوء أشكال جديدة من الهبات العامة. تتحلل فى العصر الإمبراطورى، كل المنظمات الاجتماعية القديمة، ليس فقط العشائر، وانما أيضاً الاقتصاد المنزلى للعائلات الأكبر. وكل إنسان يفكر فى نفسه فقط، تحللت الروابط العائلية وكذلك الروابط السياسية، يصبح استعداد المرء للتضحية من أجل قريبه خامداً، مثله في ذلك مثل التفانى من أجل الجماعة أو الدولة ايضاً. عانى الأطفال اليتامى بصفة خاصة من هذا الوضع. أن يكونوا بلا والدين جعلهم الآن بلا دفاع، لم يكن هناك أحد ليعتنى بهم. تزايد عدد الاطفال الذين ليس لهم أقارب يعولونهم لحد أبعد بواسطة حقيقة أن العوز العام وتدنى روح التضحية كانت تؤدى بعدد متزايد من الأشخاص لأن يتجنبوا الأعباء العائلية. حقق البعض هذا بعدم الزواج، باللجوء إلى الدعارة فقط، كانت دعارة الذكور، بالمناسبة فى وضع مزدهر، آخرون، بالرغم من أنهم متزوجون، سعوا لتجنب إنجاب الاطفال، كل من هاتين الممارستين أسهم بالطبع فى انقاص سكان البلد وإنتاج نقص العمال، ومن ثم زيادة الفقر العام. وجد كثير من الأشخاص ممن لديهم اطفال أن الأكثر ملائمة هو أن يتخلصوا منهم بهجرهم. اتخذت هذه الممارسة الممتازة نسباً ضخمة؛ لم يكن للمنع أى فائدة حيث أصبحت مسألتان ملحتان أكثر الحاحاً: العناية بالاطفال الذين لايعولهم الأقارب، والعناية باطفال الفقراء، الذين مازالوا يعيشون مع والديهم؛ هاتين المسألتين لقيتا بالضرورة كثيراً من الاهتمام من المسيحيين الأوائل. كان الأخيرون معنيون دوماً بمسألة إعالة اليتامى. لم تكن الشفقة فقط، وانما أيضاً الحاجة لقوة العمل والجنود، هي التى قادت إلى جهد لتأمين تربية اليتامى، واللقطاء، وأطفال البروليتاريين. نجد بالفعل فى ظل أغسطس جهوداً بذلت فى هذا الاتجاه ؛ بدأت فى القرن الثانى من عصرنا فى اتخاذ شكل عملى. كان الإمبراطوران نرڤ-;---;-----;---ا وتراجان أول من أسس مثل هذه المؤسسات فى الولايات الإيطالية، بجعل الدولة تشترى عدداً من الأملاك العقارية ثم تؤجرها من الباطن، أو أن تحولها إلى رهونات. كانت تستخدم غلة الإيجار أو الفائدة على الرهونات فى تدريب الأطفال الفقراء، خاصة اليتامى . وسع هادريان، مباشرة بعد تسنمه (السلطة)، هذه المؤسسة، التى خطط لها فى ظل تراجان لحوالى 5000 طفل وطورها الأباطرة اللاحقين لمدى أبعد، ولكن هذا الإحسان القومى كان مترافقاً أيضاً مع إحسان مشاعى، سبقه الإحسان الخاص. إن أقدم مؤسسة إيواء خاصة لدينا معلومات عنها يعود تاريخها إلى زمن أغسطس. سلم هلفيوس باسيلا، الذى شغل منصب البريتورية،22000 جنيه إسترلينى لمواطنى أتينا فى لاتيوم لإمداد عدد من الأطفال بالحبوب، ولسوء االحظ لم يذكر العدد . فيما بعد، فى ظل تراجان، يرد ذكر عديد من مثل هذه المؤسسات. وهبت سيدة غنية، وهي كالياً ماكرينا، من تراسينا، فى وفاة ابنها مليون سيسترسس (أكثر من 50000 جنيه إسترلينى)، كانت الفائدة التى تأتت منها تعول 100 فتى وفتاة ؛ وأسس بلينى الأصغر مؤسسة إيواء عام 97 فى مسقط رأسه كوموم (الآن كومو)، كانت تتلقى الدخل السنوى لأملاك عقارية تقدر بـ500000 سيسترسس، خصصها لإطعام الأطفال الفقراء. وقد أسس أيضاً مدارس، ومكتبات الخ. لم تنجح هذه المؤسسات بالطبع فى أن تواجه أثر نقص سكان الإمبراطورية، لأن نقص السكان هذا كان راجعاً لأسباب تقع فى أعمق أعماق الشروط الاقتصادية؛ ومن ثم تزايدت حيث تقدم الانحلال الاقتصادى. تقدم الإفقار العام إلى حد استهلاك الموارد الضرورية للاستمرار فى عمل رفاهية الأطفال هذا، أفلس الفقر ليس فقط مؤسسات التغذية، وإنما الدولة ذاتها. فيما يتعلق بتطور مؤسسات التغذية نعرف من موللر أن: "ربما يمكن تتبع حياتها لحوالى 180 عاماً تقريباً. حَسَّن هادريان حصص الأطفال. وخصص أنطونيوس بيوس كميات جديدة لهذا الغرض. عام 145 ب.م نصب فتية وبنات كوبرا مونتانو، مدينة فى بيسيتم، الذين كانوا المستفيدين منه، نقشاً على ضريحه (تعبيراً عن) الامتنان، كما فعل هؤلاء من سستينم من أومبريا عام 161. يشهد إهداءاً مماثلاً فى فيكوليا فى لاتيوم على الأنشطة المماثلة لماركوس أوريليوس. يبدو أن المؤسسة الأخيرة قد وصلت ذروتها مبكراً فى حكم هذا الإمبراطور، منذ آنذاك فصاعداً.كان الانحلال العام للإمبراطورية متوزاياً مع تاريخ المؤسسة، يبدو أن ماركوس أوريليوس بسبب الارتباطات التى كانت تسببها له الحرب دائماً، والتى اضطرته حتى لأن يبيع بالمزاد مجوهرات التاج، الصولجان، وأشياء ثمينة أخرى امتلكتها السلالة الإمبراطورية، قد ذهب بعيداً إلى حد مصادرة الأموال الموقوفة على هذه المؤسسة وضمان دفع الفائدة من خزانة الدولة. كانت الخزانة فى ظل كومودس غير قادرة لمدة تسع سنوات على أن تقوم بهذا الالتزام، وبرتيناكس، غير قادر على دفع الديون المستحقة، وامتنع عن دفعها. ولكن يبدو أن ثروات المؤسسة تحسنت فيما بعد. مازال يذكر موظف رسمى راعياً لها فى القرن الثالث؛ ولكن انتهى وجودها حوالى هذا الوقت. حيث لانسمع عنها بعد فى ظل قنسطنطين" . ربما أباد الفقر المتزايد المؤسسات الخيرية، ولكنه لم يستطيع أن يدمر مفهوم الإحسان، الذى أصبح بالضرورة أقوى فأقوى بالنظر إلى البؤس المتزايد. ولكن ليست هذه ميزة للمسيحية فقط على الإطلاق، فالمسيحية تشارك فيها حقبتها، التى لجأت إليها ليس بسبب السمو الأخلاقى لهذه الأزمنة، ولكن بسبب انحلالها الاقتصادى. إن التقدير والإعجاب الذى حظى به الإحسان أنتج أيضاً صفة أخرى أقل لطفاً: وهى التباهى بالصدقة التى أعطاها المرء. بلينى، الذى ذكرناه سلفاً، هو مثل جيد على ذلك. كل معلوماتنا عن هذه المؤسسة الخيرية مأخوذه منه فقط: فقد وصفها بتفصيل كبير فى كتب قصد نشرها. حين ننظر إلى بلينى يرعى عواطفه السامية ويظهر إعجاباً لاحد له بنبل شخصيته، يبدو لنا أن هذا علامة أقل على العظمة الأخلاقية لـ"العصر الذهبى" للإمبراطورية الرومانية، عن أكثر فتراتها سعادة، كما أسماها جريجورڤ-;---;-----;---يوس وأغلب زملاءه . وهي تنبئ عن التفاهة السخيفة للعصر، نسخة لامعة من العجرفة الكهنوتية ونفاقها الورع. إن أقسى استهجان صرح به ضد بلينى، بقدر مانعرف، هو (استهجان) نيبور الذى اتهمه بـ"التفاهة الصبيانية" و"التواضع غير الأمين" . كما فى حالة الإحسان، فقد قيل لنا أن المعاملة الإنسانية للعبيد خاصة بالمسيحية. يجب أن نشير أولاً وقبل كل شيء أن المسيحية، على الأقل فى الشكل الذى أصبحت فى ظله ديانة دولة، لم تأخذ على عاتقها أبداً أن تكافح العبودية كمبدأ. إنها لم تمارس تأثيرا أبداً باتجاه الغاء العبودية. إذا كان استغلال العبيد لأغراض الربح قد توقف فى زمن المسيحية، فأسباب هذا ليس لها صلة على الإطلاق بالمفاهيم الدينية. لقد كان لدينا قبلاً الفرصة لأن نلاحظ هذه الأسباب: كان تدهور روما العسكرى يقطع إمدادات العبيد الرخيصة جاعلاً هكذا استغلال العبيد غير مربح! ولكن من ناحية أخرى استمر الاحتفاظ بعبيد الترف يمارس حتى فترة طويلة بعد الإمبراطورية الرومانية، فى الواقع، نشأت هناك بالمثل مع المسيحية، فى العالم الرومانى تنويعة جديدة من العبيد الخصيان، الذين لعبوا دوراً هاماً خاصة فى ظل الأباطرة المسيحيين، بدءاً من قنسطنطين. لقد وجدوا بالفعل، على أية حال، فى بلاط كلوديوس، أب نيرون . ولكن لم يفكر أبداً البروليتاريون الأحرار أنفسهم فى التخلص من العبودية. لقد سعوا لتحسين وضعهم بزيادة استنزافهم للأغنياء وللدولة دون أن يقوموا بأى عمل هم أنفسهم، الذى كان مستحيلاً إلا على أساس استغلال العبيد. إنها حقيقة مثيرة للاهتمام أنه فى دولة المستقبل الشيوعية التى يسخر منها أرستوفانز فى مسرحيته نساء في البرلمان EKKLESIAZUSOE، تستمر العبودية فى البقاء. ويتوقف الاختلاف بين هؤلاء الذين لديهم ممتلكات والذين ليس لديهم، ولكن فقط فى حالة الأحرار، كل شيء يصبح ملكاً عاماً لهم، بمن فيهم العبيد، الذين يستمرون فى مهمة الانتاج. قصد أريستوفانز هذا بوصفه مزحة بالطبع، ولكنها على اتفاق تام مع الفكر القديم. نحن نجد موقفاً مشابهاً جرى التعبير عنه فى كراس يتعلق بمصادر الازدهار الأتيكى العام، كُتب فى القرن الرابع بعد الميلاد، الذى يلفت إليه بولمان الانتباه فى تاريخه، الذى اقتبسناه سلفاً فى هذا المؤلف. يتطلب هذا الجدال، كما يطرحه بولمان، "توسيعاً ضخماً لاقتصاد الدولة العام لأغراض المواصلات والانتاج" وبصفة خاصة، أن تشترى الدولة العبيد لتشغيل مناجم الفضة. إن عدد عبيد الدولة هؤلاء يجب أن يزداد حتى يكون هناك فى النهاية ثلاثة عبيد لكل مواطن. ستكون الدولة عندئذ فى وضع تمنح فيه كل مواطن من مواطنيها الحد الأدنى على الأقل من راحة العيش" . يعلن البرفسور بولمان أن هذا الاقتراح الرائع هو سمة مميزة لـ"الراديكالية الجماعية" و"الاشتراكية الديمقراطية"، التى تهدف لتأميم كل وسائل الإنتاج لصالح البروليتاريا. فى الحقيقة إنها سمة مميزة للموقف الخاص بالبروليتاريا القديمة، ومصلحتها فى الاحتفاظ بالعبودية، ولكن فهم بولمان لهذا المطلب هو سمة مميزة لضيق أفق العلم البورجوازى، الذى يعتبر كل تأميم للملكية، حتى ملكية البشر، كمثل على "الجماعية"، وكل إجراء اتخذ فى صالح البروليتاريا كمثل على "الاشتراكية الديمقراطية"، بغض النظر عما إذا كانت هذه البروليتاريا تعد مُستغِلة أم مُستغَلة. توجد علامة على حقيقة أن البروليتاريين كانوا متهمين بالحفاظ على العبودية فى واقعة أنه حتى الممارسة الثورية للبروليتاريين الرومان لم تعارض أبداً من حيث المبدأ ملكية البشر. العبيد، بدورهم، مستعدون أحياناً لأن يُستخدموا فى إخماد انتفاضة بروليتارية. وجه العبيد الذين قادهم الأرستقراطيون الضربة القاضية إلى الحركة البروليتارية فى ظل كايوس جراكسوس. بعد خمسين عاماً، ضرب البروليتاريون الرومان الذين قادهم ماركوس كراسوس العبيد المتمردين بقيادة سبارتاكوس. الطريقة التى كان يعامل بها العبيد تقف بمعزل تام عن فكرة إزالة عامة للعبودية التى لم يأخذها أحد بجدية. وهنا يجب أن نعترف أن تحسناً عظيماً فى النظرات المتعلقة بالعبودية، واعترافاً بالحقوق الإنسانية للعبيد، تظهر بالفعل بوضوح فى المسيحية، التى تتعارض بحدة مع الموقف البائس للعبيد فى بداية الفترة الإمبراطورية، حين كانت حياة وأوصال عبد، كما رأينا، خاضعة لكل نزوة تصدر عن سيده، الذى غالباً مااستغل هذا الامتياز بأقسى شكل. عارضت المسيحية بحدة، بالفعل، هذه الطريقة فى النظر إلى العبيد. ولكن هذا لا يساوي القول بأن المسيحية كانت هكذا تتعارض مع روح زمنها، وأنها وقفت وحدها هذا الموقف من العبيد. ماهى الطبقة التى ادعت أن لها حق إساءة المعاملة الذى لاحدود له وإعدام العبيد ؟ بالطبع كانت طبقة الملاك العقاريين الأثرياء، وخاصة الأرستقراطية. ولكن الديمقراطية، الطبقات الدنيا التى ليس لها نفسها عبيد، لم تكن مهتمة كثيراً بامتياز إساءة معاملة العبيد مثلما كان ملاك العبيد الكبار. ممالاريب فيه، مادامت طبقة الفلاحين الصغار، هى نفسها مالكة للعبيد، أو على الأقل تقاليد هذه الطبقة، التى سادت وسط الشعب الرومانى، فإن الأخيرة لم تشعر بأنها محمولة على الدفاع عن العبيد. ولكن تغيراً فى الشعور كان يختمر ببطء، ليس كنتيجة لتعليم أخلاقى محسن، ولكن كنتيجة للتكوين المتغير للبروليتاريا الرومانية، كان يوجد الرومان الأحرار، خاصة الفلاحين الصغار، أقل فأقل بين الناس، بينما كان عدد العبيد المعتقين المشاركين أيضاً فى حقوق المواطنين الرومان، يتزايد بضخامة، وكان أغلبية سكان روما فى ظل الفترة الإمبراطورية من الطبقة الأخيرة. جرى تحرير العبيد لأسباب عديدة. كثير من الرجال الذين لم يكن لديهم أطفال، غالبا ماكان هذا هو الحال، بسبب رغبتهم فى التهرب من أعباء الزواج والذرية، كانوا مقتنعين، بسبب النزوة أوالطيبة بأن يشترطوا فى وصيتهم تحرير عبيدهم بعد وفاتهم. كان آخرون أحياناً يحررون عبداً أثناء حياتهم، كمكافأة على خدمات خاصة أو بسبب الزهو، لأن من استطاع تحرير عبيد كثيرين انتهى إلى أن يعتبر رجلاً غنياً. آخرون حرروا عبيدهم بسبب حسابات سياسية، حيث يبقى المعتق عادة معتمداً على سيده، كتابعه، بالرغم من كل حقوقه السياسية. زاد العبد من ثم، النفوذ السياسى لسيده. سُمح للعبيد أيضاً بأن يدخروا نقوداً وأن يشتروا حريتهم بمدخراتهم، وكثير من الأسياد كانوا يجرون بنشاط صفقة غاية فى الجودة، حين يشترى عبد، بعد أن يكون قد اشتغل حتى بات هيكلاً عظمياً، حريته لقاء ثمن يسمح لسيده أن يشترى (عبداً) جديداً، مازالت قوته فتية بعد. تزايد مع زيادة عدد العبيد فى السكان، عدد المعتقين أيضاً. كانت البروليتاريا الحرة، على أية حال، تجند أكثر فأكثر من طبقة العبيد، وليس من الفلاحين. ولكن كانت هذه البروليتاريا أيضاً معارضة سياسياً للأرستقراطية مالكة العبيد وحاولت أن تنتزع منها حقوقا سياسية وسلطات، الذى عنى إمكانية إحراز كسب اقتصادى جذاب. ليس هناك من ثم سبب يدعو للدهشة أن نجد تعاطفاً ملموساً مع العبيد وسط الديمقراطية الرومانية تماماً فى الوقت الذى وصلت فيه تجاوزات ملاك العبيد نحو جياد عملهم البشرية ذروتها. ولكن يجب أن يؤخذ عامل آخر فى الاعتبار ايضاً. حين حاز القياصرة السلطة، فإن اقتصادهم المنزلى، كان يدار من قبل عبيد ومعتقين، مثل (الاقتصاد المنزلى) لأى رومانى مبرز. مع ورغم انحطاط الرومان، فإن مواطناً حراً سوف يعتبر أنه مما لا يليق بكرامته أن يرضى بالقيام بخدمات شخصية حتى للأكثر نفوذاً من بين مواطنيه. أصبح الاقتصاد المنزلى للقياصرة الآن البلاط الإمبراطورى، وأصبح خدمهم المنزليين الحاشية الإمبراطورية. تطورت آلية جديدة لإدارة الدولة من بينهم، بالإضافة إلى طاقم الموظفين الموروث عن الجمهورية. و عُهد للآلية الأسبق بالشئون الفعلية للدولة أكثر فأكثر، وحكمت الدولة بينما أصبحت المناصب التى تخلفت عن الفترة الجمهورية ألقاباً خاوية أكثر فأكثر، ربما مُرضية للزهو الشخصى، لكنها لم تتضمن سلطة حقيقية. أصبح العبيد والمعتقون فى البلاط الإمبراطورى حكام العالم، ومن خلال اختلاساتهم، ابتزازاتهم ورشاويهم، أكثر مستغليه نجاحاً. يصف فريدلندر هذا الوضع بشكل ممتاز فى كتابه الشهير، الحياة الرومانية وآداب وقواعد السلوك فى ظل الإمبراطورية الباكرة، الذى إقتبسنا منه أكثر من مرة. "كانت الثروة التى هبطت عليهم بسبب مركزهم المتميز مصدراً رئيسياً لقوتهم. حين أصبح غنى المعتقين مضرب الأمثال لم يكن هناك بالتأكيد كثير من الاشخاص يمكن أن يقارنوا وقتها بهؤلاء الخدم الإمبراطوريين. كان لدى نارسيسوس 400000000 ستسترسس (21 مليون جنيه إسترلينى)، أعظم ثروة معروفة للعالم القديم، پالاس 300000000 سسترسس (16 مليون جنيه إسترلينى). كاليستوس، إيبافروديتوس، دوريفورس وآخرون كان لديهم بالكاد كنوز أقل حجماً. حين شكا الإمبراطور كلوديوس ذات مرة من الحالة المتدنية للمالية الإمبراطورية اعتبرت الثرثرات الرومانية بأنه سوف يغتني إذا ما ارتضاه عبديه المعتقين (نارسيسوس وپالاس) كشريك ثالث". فى الواقع، وجد عدة أباطرة مصدراً ممتازاً للدخل فى ممارسة إجبار العبيد الأغنياء والمعتقين على إشراكهم فى متحصلات اختلاساتهم وابتزازاتهم. "فاق المعتقون الإمبراطوريون بسبب امتلاكهم لمثل هذه الثروة الضخمة، الأرستقراطية الرومانية فى الترف والفخامة. كانت قصورهم هي الأكثر عظمة فى روما. كان (قصر) خصى كلوديوس بوسيدوس أكثر تألقاً من الكابتيول، وفقاً لجوڤ-;---;-----;---ينال، وزينته أندر وفيه أغلى الأشياء التى يمكن أن تكشف عنها الأرض فى إسراف وفير.... ولكن المعتقين الإمبراطوريين زينوا روما أيضاً والمدن الأخرى فى المملكة بهياكل فخمة ومفيدة. كليندر، معتق كومودوس القوى، وظف قسماً من ثروته الضخمة فى إنشاء المنازل، والحمامات، ومؤسسات أخرى مفيدة للأفراد وكذلك لمدن بكاملها ". هذا الازدهار المفاجئ للعبيد الكثيرين والعبيد السابقين كان الأكثر لفتاً للنظر حين يقارن مع التدهور المالى المتزامن للأرستقراطية المالكة للارض. إن لذلك شبها اليوم فى ظهور الأرستقراطية المالية اليهودية. وتماماً مثل الأرستقراطيين المفلسين بالمولد فى الوقت الحاضر، الذين يكرهون ويحتقرون فى أعماق قلوبهم اليهود الأغنياء، ولكن يتملقونهم حين يحتاجون اليهم، هكذا كانت أيضاً معاملة العبيد الإمبراطوريين والمعتقين. "سوف تبز الأرستقراطية الأعلى فى روما كل منها الآخر فى جهودها لتحسن وفادة خدم الإمبراطور الأقوياء، لايهم كيف احتقرت ومقتت بإخلاص هذه الذرية من العائلات القديمة الشهيرة هؤلاء الأشخاص ذوى الأصل المكروه الذين وسموا بميسم العبودية الذى لايمحى، والذين كانوا قانوناً فى أكثر من جانب فى موقع أدنى من المتسول الحر". كان وضع الخدم الإمبراطوريين متواضعاً جداً من الناحية الاجتماعية، خاضع لوضع أصحاب المقامات رفيعى المولد. "لكن فى الواقع كانت العلاقة مختلفة تماماً، فى الحقيقة غالباً ما كانت على العكس تماماً. و"العبيد" المحتقرون بلاحدود شعروا برضى لأن الأحرار النبلاء قد أعجبوا بهم وحسدوهم، وأن أكثر العائلات الرومانية بروزا قد وضعت من نفسها بشدة أمامهم؛ قلة هي التي جرؤت على أن تعاملهم كخدم... ابتكر تملق فظ شجرة عائلة لپالاس تتبعت أصله حتى ملك أركاديا الذي يحمل نفس الاسم، وأقترح سليل آل سكيبيوس تصويتاً بالشكر فى مجلس الشيوخ لأن هذا السليل لبيت ملكى قد أخضع نبالته القديمة لصالح الدولة وتنازل ليصبح خادماً لأمير. وفقاً لاقتراح أحد القناصل (فى عام 52 ب.م) قدم له صولجان البريتورية وحافظة نقود ضخمة (15000000 سيسترسس )" قبل پالاس الأولى فقط. تبنى مجلس الشيوخ بعد هذا قراراً بشكر پالاس "عرض هذا القرار علناً على لوحة برونزية بجانب تمثال يوليوس قيصر فى درع كامل، وجرى تمجيد مالك الـ 300000000 سيسترسس" كنموذج للإيثار الصارم. ل. ڤ-;---;-----;---يتيليوس، وهو أب إمبراطور بنفس الاسم، كان رجل فى منصب رفيع، بالرغم من أن ولعه بالنذالة قد أثار تعليقاً حتى فى هذه الأيام، فقد عبد بين آلهته المنزلية صوراً ذهبية لپالاس ونارسيسوس ".... "ولكن لايمكن لشيء أن يشي هكذا بمركز هؤلاء العبيد السابقين أكثر من حقيقة أنه قد سُمح لهم أن يتزوجوا من بنات العائلات الأرستقراطية، بما فيها هؤلاء الذين يرتبطون بالبيت الملكى، فى الوقت الذى كان فيه كبرياء النبالة فى نسبها القديم وفى سلسلة طويلة لامعة من الأسلاف عظيماً للغاية" . تدنى المواطنون الرومان، سادة العالم من ثم لأن يصبحوا محكومين بواسطة هؤلاء الذين كانوا أو لا زالوا عبيداً، وأن يحنوا رؤوسهم أمامهم. من الواضح كيف كان عظيماً رد فعل هذا الوضع على وجهات النظر الجارية فى هذا الوقت. ربما كره الأرستقراطيون العبيد أكثر، لأنهم كانوا مضطرين لأن يذعنوا لهم أكثر، بينما كانت الكتل الشعبية قد أغريت باحترام العبيد، وبدأ العبيد أنفسهم يشعرون بالبهجة. من ناحية أخرى، ظهرت القيصرية فى الصراع الذى كانت تشنه الديمقراطية، التى تتشكل هى نفسها فى قسمها الأعظم من العبيد، ضد الأرستقراطية مالكى العبيد الكبار. الأخيرون ليس فى غاية السهولة شراءهم مثل الجماهير المفلسة من الشعب، كانوا المنافس الوحيد الخطير الذى كان على القياصرة الطالعون أن يواجهونهم فى الكفاح من أجل سلطة الدولة، وكان كبار ملاك العبيد المعارضة الجمهورية، فى المملكة الإمبراطورية، إذا كان لنا أن نتحدث عن معارضة كهذه على الإطلاق. ولكن العبيد والمعتقين كانوا أكثر مؤيدى الإمبراطورية إخلاصاً. أنتجت كل هذه التأثيرات بالضرورة موقفاً ودياً لهذا الحد أوذاك تجاه العبيد، ليس فقط داخل البروليتاريا، ولكن أيضاً فى البلاط الإمبراطورى، وفى الدوائر التى تبعت البلاط، لقد عبر عن هذا الموقف فلاسفة البلاط على نحو غاية فى التشديد وكذلك مبشرى الطرقات البروليتاريين. لن نورد أية مقتبسات طويلة تعبر عن مثل هذه الآراء، ولكننا سوف نروى ببساطة حادثة شديدة التميز: عن رحمة الطاغية نيرون بالعبيد والمعتقين. كان نيرون دائماً فى نزاع مع مجلس الشيوخ الأرستقراطى، الذى، كان مذعناً للغاية تجاه الأفراد المعتقين الأقوياء، بينما تطلب دائماً مع ذلك اتخاذ أقصى الإجراءات بشأن العبيد والمعتقين بصفة عامة. وهكذا فإن مجلس الشيوخ فى عام 56 ب.م طلب أن يكسر "جشع" المعتقين بمنح ملاك العبيد السابقين الحق فى حرمانهم من حريتهم إذا ماتصرف هؤلاء المعتقين "بوقاحة"، أى، ليس بخنوع كاف، تجاه هؤلاء الملاك السابقين. عارض نيرون هذا الاقتراح على نحو مشدد. أشار كيف كان رفيعاً الآن الوضع الذى أحرزه المعتقون، كثير من الفرسان وحتى أعضاء مجلس الشيوخ قد أتوا من بين صفوفهم، وذَكَّر بالمبدأ الرومانى القديم بأنه أيا ماكان الاختلاف بين طبقات الشعب المتباينة، إلا أن الحرية ينبغى أن تبقى الملكية العامة للجميع. اقترح نيرون اقتراحاً بديلاً وهو ألا تقلص حقوق المعتقين، وأجبر مجلس الشيوخ الجبان على أن يوافق على اقتراحه. أصبح الوضع فى العام 61 منطوياً أكثر على المخاطرة. فقد قُتل بيدانيوس سيكوندوس، والى المدينة، من قبل أحد عبيده. كان هذا الفعل يستلزم وفقاً للقانون الأرستقراطى القديم، عقوبة فى شكل إعدام كل العبيد الحاضرين فى المنزل وقت القتل، فى هذه الحالة، ليس أقل من 400 شخص، بمن فيهم النساء والاطفال. ولكن كان الرأى العام يميل لإجراء أكثر ليناً. كانت جماهير الشعب منحازة فى صالح العبيد، لقد بدا أن مجلس الشيوخ نفسه سوف ينجرف بالمزاج العام. عندئذ وقف كايوس كاسيوس، وهو قائد معارضة جمهورى فى مجلس الشيوخ، سليل أحد قتلة قيصر، وقف خطيباً، وحذر مجلس الشيوخ فى خطبة نارية ألا يرهب، وألا يدع مجالاً للرحمة. حيث لايمكن لحثالة البشرية أن تكبح إلا بالخوف. كانت خطبة المحرض هذه فعالة للغاية. لم يناقضه أحد فى مجلس الشيوخ، حتى نيرون اضطر أن يذعن، معتبراً أنه من الأحكم مسالمته. أعدم كل العبيد. ولكن حين تجرأ الأرستقراطيون الجمهوريون بهذا الانتصار، وقدموا اقتراحاً إضافياً فى مجلس الشيوخ وهو أن يُرَحِلوا من إيطاليا كل المعتقين الذين عاشوا (فى أى وقت) تحت نفس السقف مع العبيد المدانين، نهض نيرون من مقعده وأعلن أنه بالرغم أن الرحمة والشفقه ربما لايكون مسموحاً لها بأن تفل القانون القديم، فلا يجب أن يكون الأخير، على أى حال، مُشدداً؛ وأدى هذا لهزيمة الاقتراح. ذهب نيرون إلى حد أن يعين قاضياً، استناداً إلى سينكا حتى يتقصى عن سوء معاملة العبيد من قبل أسيادهم وأن يفرض حدوداً على قسوة ونزوة السادة وكذلك على شحهم فى تقديم مايؤكل. أنقص نفس الإمبراطور عدد مصارعات المجالدة، وأصر فى بعض الأحيان، استناداً إلى سوتينيوس، ألا يذبح أحد من المشاركين، ولاحتى المجرمين المحكوم عليهم. لدينا رواية مماثلة تتعلق بطيباريوس. تبين الحقائق التى أوردناها عاليه بوضوح كيف يكون عقيماً تسجيل التاريخ بتلوينه أخلاقياً أوسياسياً، الذى يعتبر مهمته قياس رجال الماضى بالمعايير الأخلاقية والسياسية لأيامنا. يمنح نيرون، قاتل أمه وزوجته، بتساهل حياتهما للعبيد والمجرمين. بينما يضع الطاغية الحرية تحت حمايته حين تهدد من جانب الجمهوريين، ويمارس المختل الشهوانى فضائل الإنسانية والإحسان نحو القديسين وشهداء المسيحية، ويطعم الجائع، ويعطى الشراب للظمآن، ويكسو العارى - دع القارئ يتذكر كرمه الأميرى إزاء البروليتاريا الرومانية - ويناصر قضية الفقير والبائس؛ تسخر هذه الشخصية التاريخية من أى محاولة لتقويمها بالمعايير الاخلاقية. ولكن بالرغم من أنه ربما يكون صعباً وغبياً أن نحاول التحقق مما إذا كان نيرون فى قرارة نفسه رجلاً طيباً أم وغداً، أو كليهما، كما يفترض عامة اليوم، فإنه من السهل مع ذلك فهم نيرون وأفعاله، تلك التى ننظر اليها بعين العطف وكذلك تلك التى تنفرنا، إذ ننطلق من وجهة نظر عصره ومركزه الاجتماعى. الرحمة التى أظهرها البلاط الإمبراطورى، وكذلك البروليتاريا، نحو العبيد، لابد وأنها تقوت بشدة بسبب حقيقة أن العبد كف عن أن يكون سلعة رخيصة. من ناحية، مرحلة عمل العبد التى أنتجت دائماً أكثر القساوات فظاعة، أى، استغلالاً من أجل الربح، قد بلغت نهايتها. بقى هناك فقط عبيد الترف الذين بسبب طبيعة عملهم ذاته تلقوا معاملة أفضل. أصبح العبيد نسبياً عنصراً أكثر أهمية بمجرد أن أصبح العبيد أندر وأغلى، كلما أصبحت الخسارة التى يسببها موت العبد فى غير الأوان أعظم، وكلما أصبح من الصعب استبدال العبد. أخيراً، كانت هناك تأثيرات أخرى تعمل فى نفس الاتجاه: النفور المتزايد من الخدمة العسكرية، الذى كان يدعوا عدداً متزايداً من ساكنى المدينة لأن يتراجع عن إراقة الدماء؛ وايضاً نظرية الأممية، التى عَلَّمت أن كل إنسان يجب أن يقدر دون نظر لأصله، وهكذا تزيل الاختلافات القومية والتعارضات.
هـ - الأممية لقد أشرنا سلفاً إلى كيف كان عظيماً تطور المواصلات العالمية فى العصر الإمبراطورى. وَحَّد نظام من الطرق الممتازة روما بالولايات والأخيرة فيما بينها. كانت المواصلات التجارية بينها بصفة خاصة قد حفزها السلام داخل الامبراطوية الذى أعقب الحروب الأبدية بين المدن والدول المختلفة، والحروب الأهلية التالية التى حفلت بها القرون القليلة الأخيرة من تاريخ الجمهورية. بفضل هذا الوضع، كانت القوة البحرية القومية فى العصر الإمبراطورى متاحة تماماً لمكافحة القرصنة، لم تغب الأخيرة، كلية أبداً من البحر الأبيض المتوسط قبل هذا، لكنها توقفت الآن. باتت المقاييس والأوزان والنقود الآن متماثلة فى كامل الإمبراطورية، ساعدت كل هذه العناصر بقدر عظيم فى التعامل بين أقسامها المتنوعة. كان هذا التعامل بشكل جلى شخصياً فى طابعه. كانت الاتصالات البريدية عندئذ، على الأقل بقدر ما يخص الأمر الخطابات الخاصة، قد تطورت بشكل طفيف، أى أحد كان لديه عمل يؤديه فى الخارج وجد نفسه مضطراً لأن يدير هذا العمل شخصياً بالسفر إلى الموقع، غالباً أكثر مما هو الحال الآن،. وهكذا فإن الشعوب التى كانت تسكن حول البحر الأبيض المتوسط قد جُمِعت أكثر عن قرب معاً وسويت خصائصها المحلية أكثر فأكثر. مما لاريب فيه، لم تتقدم الإمبراطورية بكاملها إلى الحد الذي كونت فيه كتله متماثلة معاً. لقد كان من الممكن دائماً تمييز شقين، الغربى، الذى تحدث اللاتينية، وتأثر بالرومنة، والشرقى، الذى تحدث الإغريقية وتأثر بالهيلينية، وحين قضى على سلطة وحكم العالم من روما وتقاليدها، حين لم تعد روما عاصمة الإمبراطورية، فإن هذين القسمين انفصلا بكل من المعنى السياسى وكذلك الدينى. ولكن لم تكن هناك بعد فى الأيام الباكرة من العصر الإمبراطورى إمكانية هجوم خطير على وحدة الإمبراطورية.كانت هذه هى اللحظة التى كان فيها التمييز بين الأمم الخاضعة والمدينة المهيمنة يختفى. بمجرد أن فقدت روما قوتها، بدأ القياصرة فى عدم اعتبار أنفسهم بعد حكاماً للإمبراطورية بكاملها، كسادة روما والولايات، كسادة للولايات باسم روما. أطعمت روما - كلاً من الارستقراطية والشعب - بواسطة الولايات، ولكنها لم تعد قادرة على أن تنتج من مصادرها الخاصة جنوداً كافين وموظفين رسميين للسيطرة على الولايات، لم تعد روما الآن عنصر قوة فى إمبراطورية القياصرة، وإنما عنصر ضعف. ما أخذته روما من الولايات لم يذهب للقياصرة، ولم يكن هناك مكسب مكافئ للأخيرين. لقد أُكره الأباطرة من ثم بسبب مصلحتهم الخاصة على أن يعارضوا وفى النهاية يقضوا على مركز روما المتميز فى الإمبراطورية. كان حق المواطنة الرومانية يمنح بكرم الآن لسكان الولايات. ونجد الأخيرين يدخلون مجلس الشيوخ ويحتلون مناصب عليا. كان القياصرة أول من وضع فى التطبيق العملى مبدأ مساواة كل البشر دون اعتبار لأصلهم: كان كل البشر خاضعين لهم بشكل متساوٍ ولقوا تقديراً منهم فقط حسب فائدتهم، بغض النظر عن الشخص، وما إذا كانوا أعضاء فى مجلس الشيوخ أو عبيد، رومانا، سوريين، أو غاليين. حوالى بداية القرن الثالث، تقدم تلاحم وتسوية الأجناس إلى حد أن كراكلا استطاع تحمل منح حقوق المواطنة الرومانية، لكل سكان الولايات، وهكذا فى آن معاً مزيلاً كل الاختلافات بين الحكام السابقين والمحكومين، توقفت كل هذه الاختلافات فى الحقيقة منذ وقت طويل عن الوجود. لقد كان واحد من أكثر الأباطرة بؤساً هو الذى عبر بوضوح هكذا عن واحدة من أكثر أفكار هذه الحقبة سموا، فكرة تدعى المسيحية أنها خاصة بها، والسبب الذى حرك الطاغية لاتخاذ هذا القرار - كان (سببا) بائساً – وهو العوز الاقتصادى. كان المواطنون الرومان معفين من الضرائب من الوقت الذى كانت الغنيمة قد بدأت فيه تتدفق بوفرة من الولايات المهزومة. "أتى إميليوس باولوس ومعه، 300000000 سيسترسس من الغنيمة المقدونية، للخزانة بعد أن هزم بيرسيوس. لم يدفع الرومان ضرائب منذ هذا الوقت فصاعداً " . ولكن بدءاً بعهد أغسطس، جعل العوز المالى المتزايد من الضرورى تدريجياً إعادة فرض الضرائب فى شكل أعباء جديدة حتى على المواطنين الرومان. جعل "إصلاح" كراكلا الآن سكان الولايات مواطنين رومان، حتى يضطرهم لدفع الضرائب كمواطنين رومان بالإضافة إلى ضرائبهم الاعتيادية، وقد ضوعفت الأولى بشكل متزامن من قبل هذا العبقرى المالى الإمبراطورى. الجانب الآخر من القصة هو أنه زاد من ميزانية الجيش 15000000 جنيه إسترلينى ولسنا مندهشين من أن "إصلاحه المالى" كان ذو فائدة ضئيلة، وأنه كان عليه أن يلجأ لطرق أخرى، كانت أكثرها وقاحة التضخم وتزييف النقود. كان التفسخ العام مواتياً من جانب آخر بالنسبة لانتشار الأفكار الأممية واختفاء التحيزات القومية. إن نقص السكان والفساد فى روما، انطلق بسرعة شديدة مع الرومان، إذ بعد أن كفوا عن تقديم جنود، سرعان ما توقفوا أيضاً عن أن ينتجوا موظفين رسميين ملائمين. نستطيع أن نتعقب هذا النقص حتى فى الأباطرة. كان الأباطرة الأوائل مازالوا من نسل عائلات روما الأرستقراطية القديمة، من عشيرتى جوليان وكلوديان. ولكن الإمبراطور الثالث من سلالة جوليان، كاليجولا، كان مجنوناً. ونيرون علامة على الافلاس الكامل لقدرة الأرستقراطية الرومانية على الحكم. خلف نيرون جالبا، كان أيضاً من عائلة رومانية عامية، ولكن تلاه أوتو من عائلة إتروسكانية مبرزة، وڤ-;---;-----;---يتيليوس، عامى من أبوليا. أخيراً، ڤ-;---;-----;---سباسيان، الذى أسس السلالة، كان عامياً من أصل سابينى. ولكن العامة الإيطاليقيين ITALICS سرعان ماتبين أنهم فاسدين وغير أكفاء للحكم مثلما كان الأرستقراطيون الرومان تماماً، ودومتييان البائس، إبن ڤ-;---;-----;---سباسيان، قد خلفه بعد حكم نيرڤ-;---;-----;---ا القيصر الإسبانى تراجان. يبدأ مع الأخير حكم الأباطرة الإسبان، الذى استمر لقرن تقريباً، حتى دللوا هم أيضاً على الإفلاس السياسى، فى شخص كومودوس. أسس سيبتيموس سيڤ-;---;-----;---يروس، بعد إنهاء الخط الإسبانى سلالة أفروسورية. فوراً عقب قتل الإسكندر سيڤ-;---;-----;---يروس الإمبراطور الأخير فى هذا الخط، ذهب التاج إلى ثراسيانى، من أصل قوطى، وقدم الى، ماكسميين، من قبل الفيالق (الرومانية)، نذير بالزمن الذى سوف يحكم فيه القوط فى روما. هوجمت الولايات أكثر فأكثر بالعملية العامة للانحلال، وأصبح من الضرورى أكثر فأكثر تنشيطها بالبرابرة، أي الدم غير الرومانى، حتى ينفخوا حياة جديدة فى الإمبراطورية المحتضرة، وكان يجب البحث الآن عن الجنود أبعد فأبعد عن المراكز الأساسية للحضارة، ليس الجنود فحسب، بل حتى الأباطرة. لقد رأينا آنفاً العبيد يحكمون بوصفهم حاشية الرجال الأحرار، ونحن نرى الآن الولاياتيون PROVINCIALS، حتى البرابرة الذين وضعوا على العرش كأباطرة، يحكمون باعتبارهم كائنات لها حق العبادة الإلهية. اختفى كل التحيز العرقى والطبقى للعصور القديمة الوثنية بالضرورة، واتجه شعور بالمساواة يتأكد أكثر فأكثر. برهنت كثير من العقول على هذا الموقف فى مرحلة مبكرة، قبل أن تجعله الظروف الموصوفة آنفاً ظاهرة متكررة. وهكذا يكتب شيشرون بالفعل (DE OFFICIIS، 3، 6): "إن من يدافع عن أننا يجب أن نقدر مواطنينا، والا نقدر الغرباء، ينتهك الروابط العالمية للجنس البشرى، وهكذا يلغي جوهرياً الإحسان، والكرم، والعطف والعدالة". يخلط مؤرخونا الأيديولوجيون هنا مرة أخرى السبب بالنتيجة ويحاولون أن يستخدموا مثل هذه الجمل (التى يجدها "الورع" فى الأناجيل، و"المستنير" فى الفلسفات الوثنية) كأسباب لتفسير ترقيق العادات وتوسيع مفهوم الأمة ليشمل كل البشرية. الصعوبة الوحيدة هى أنهم مواجهون بحقيقة أن النفوس النبيلة والسامية التى يزعمون أنها أحدثت هذه الثورة فى عقول البشر قد ترأسها مجرمون وشهوانيون مثل طيباريوس، نيرون، كراكلا، وكذلك كوكبة من الفلاسفة العصريين المسرفين فى الأناقة والمحتالين، مثل سينيكا، بلينى الأصغر، أبولونيوس من تيرانا، وأفلوطين. لابد وأن نشير على نحو عابر، إلى أن المسيحيون الأرستقراطيون، لم يجدوا من العسير أن يتكيفوا مع مجتمع عصبة النبلاء هذه، ودعنا نقدم مثلاً واحداً فقط على ذلك. من بين المحظيات من الأناث والذكور الذين احتفظ بهم الإمبراطور كومودوس (081-291 ب.م) - ذُكِر حريم مؤلف من 300 فتى و300 فتاة - كان شرف احتلال المكانة الأولى لمارسيا، وهي مسيحية ورعة، ابنة بالمعمودية لهاكينيثوس، كاهنة المجمع المسيحى فى روما. لقد كان نفوذها عظيماً إلى حد أنها أَمَّنت تحرير عدد من المسيحيين المرحلين. ولكنها أخيراً وجدت عشيقها الإمبراطورى مثيراً للغثيان إلى حد ما، وربما خافت من أن تعطشه للدماء قد يكلفها حياتها. باختصار، اشتركت فى المؤامرة ضد حياة الإمبراطور وأخذت على عاتقها أن تنفذ الاغتيال. فى ليلة 31 ديسمبر 192، أعطت هذه السيدة المسيحية الورعة عشيقها الذى لم تراوده الشكوك قدحاً من السم، وحيث لم يسر مفعولة بسرعة كافية، خُنق الإمبراطور، الذى لم يكن واعياً بالفعل. مميزة بنفس القدر قصة كاليستوس، الذى حظى بحماية مارسينا. "كان لدى كاليستوس هدايا خاصة للعمل المالى فى سنواته الباكرة، وقد احتفظ ببنك. كان فى البداية عبداً لمسيحى مبرز، الذى أعطاه قدراً معتبراً من المال ليقرضه بفائدة. واستناداً على قوة متانة مركز سيده حصل على نقود الآرامل وآخرين، وشارف أخيراً حافة الإفلاس، وسأله سيده عندئذ عن الحساب. فهرب، ولكنه أسر، وأرسله السيد إلى طاحون التعذيب. إذ حصل على حريته من خلال توسلات إخوته المسيحين، أرسله الوالى عندئذ إلى المناجم السردينية، ونال عطف مارسيا، أكثر عشيقات الإمبراطور كومودوس قوة. فأطلق سراحه بناء على طلبها، وعين بعدها بوقت قصير أسقفاً لروما . يعتبر خالتوف من الممكن أن الروايتين الواردتين فى الأناجيل التى تتعلق بالقهرمان الكافر الذى "يصنع أصدقاء بمال الظلم". (لوقا 161 -، 1 -9) والمرأة الخاطية، التى غفرت خطاياها، "الكثيرة لأنها أحبت كثيراٌ" (لوقا 7، 36 - 48). قد ضمنت فى الأناجيل حتى تقدم تفسيراً إلهيا واقراراً للشخصيتين المشكوك فيهما لمارسيا وكاليستوس، اللذين كانا شديدى البروز فى المجمع المسيحى فى روما. قد يخدم هذا أيضاً كإسهام فى تاريخ أصل الأناجيل. لم يكن كاليستوس الأسقف والبابا الأخير الذى يدين بمنصبه لعشيقته، ولم يكن قتل كومودوس آخر عمل للعنف المسيحى: بدأ التعطش للدماء وقسوة كثير من الباباوات والأباطرة، من أزمنة قنسطنطين المقدس، وهى معروفة جيداً حتى تستلزم ذكرها. "ترقيق وترفيع آداب السلوك" الذى رافق إدخال المسيحية كان من ثم إلى حد ما ذو طبيعة خصوصية. ولفهم حدوده وتناقضاته، فمن الضرورى أن ندرس جذوره الاقتصادية، حيث لن تفسره المذاهب الأخلاقية الرفيعة لهذه الأزمنة. ويصدق نفس القول على أممية تلك الأيام.
و- الاتجاه إلى الدين مواصلات بامتداد العالم وعملية تسوية سياسية كانتا سببان قويان فى تزايد الأممية، ولم تكن هذه الزيادة لتصل النسب التى بلغتها، إذا لم تكن بسبب انحلال كل هذه الروابط التى لحمت الجماعات القديمة، وعزلت فى آن معاً كل منها عن الأخرى. التنظيمات التى حددت كامل حياة الفرد فى العصور القديمة، وزودته بدعم وإرشاد فقدت كثيراً من مغزاها وقوتها فى الفترة الإمبراطورية. ولاينطبق هذا فقط على تلك التنظيمات التى أُسست على روابط الدم، مثل أخوية العشائر، متضمنة حتى الأسرة، وإنما أيضاً على تلك المؤسسة على الوحدة الإقليمية، على إقامة مشتركة فى نفس الموطن، كما فى حالة العشيرة والجماعة. نتج هذا، كما رأينا، عن سعى عام، من جانب الأشخاص الذين فقدوا هكذا دعمهم الأخلاقى، من أجل نماذج وقادة، بل وحتى مخلصين، ولكنه حث البشر أيضاً على السعى إلى تأسيس تنظيمات اجتماعية جديدة، تلبي على نحو أفضل الحاجات الجديدة أكثر مما فعلت الأشكال التقليدية، التى أصبحت مجرد عبء أكثر فأكثر. نجد بالفعل اتجاهاً عاماً قرب نهاية الجمهورية نحو تشكيل النوادى والجمعيات، خاصة لأغراض سياسية، ولكن أيضاً لأغراض تقديم مساعدة خيرية. لقد حلت هذه من قبل القياصرة، لأن الاستبداد لايخشى شيئاً بقدر مايخشى التنظيمات الاجتماعية. تكون قوة الاستبداد أعظم حين تمثل سلطة الدولة التنظيم الاجتماعى الوحيد، بينما يواجه مواطنى الدولة تلك السلطة كأفراد مبعثرين فقط. ". يروى لنا سويتنيوس (القيصر، الفصل 42)ان قيصر بالفعل "حل كافة الجمعيات سوى التى كانت غاية فى القدم بينما يقول عن أغسطس: "نظمت كثير من الأحزاب فِرَقاً PLURIMOE FACTIONES تحت اسم كوليجيوم* لممارسة كل الفظاعات الممكنة.... حل هذه الكوليجيومات باستثناء تلك التى كانت غاية فى القدم ومعترف بها قانوناً" . يجد مومسن هذه التدابير جديرة بالثناء تماماً. لاشك، لأن المحتال البارع وعديم الضمير قيصر يبدو له كرجل دولة حقيقى "خدم الشعب ليس من أجل مكافأة، ليس حتى مكآفأة لحبه" ولكن "من أجل نعمة الرفاهية، وفوق كل شيء للتصريح بإنقاذ وتجديد أمته" . لفهم هذا التقويم لقيصر، يجب أن يتذكر القارئ أن مؤلف مومسن ظهر فى الأعوام التى تلت مباشرة معركة يونيو (ظهرت الطبعة الأولى فى 1854) حين كان الليبراليون يمجدون نابليون الثالث، وخصوصاً الألمان، باعتباره منقذ المجتمع، حيث جعل نابليون نمطاً معيناً من عبادة القيصر عصرية. بعد توقف النشاط السياسى (ونشاط) الجمعيات السياسية، تحول هؤلاء الذين يرغبون فى التواصل الاجتماعى إلى جمعيات أكثر براءة، خاصة الجمعيات المهنية والجمعيات الخيرية لإعانات المرضى والمتوفين، ومساعدة الفقراء، جمعيات (إطفاء) الحريق الطوعية، ولكن نمت أيضاً هيئات تزجية أوقات الفراغ، المطاعم، الجمعيات الأدبية، وماشابه، مثل نبات الفطر. ولكن القياصرة كانوا شاكين جداً لحد أنهم لم يحتملوا حتى هذه التنظيمات، لأن الأخيرة ربما تخدم كقناع لجمعيات أخطر نشاطاً. ربما مانزال نقرأ فى المراسلات بين بلينى وتراجان رسائل يتحدث فيها بلينى عن حريق هائل دمر نقوديميا ويوصى بالتصريح بتأسيس جمعية حريق طوعية COLLEGIUM FABRORUM لا يزيد عددها عن 150 رجل، حيث يمكن إبقاء مثل هذا العدد بسهولة تحت المراقبة. ولكن تراجان وجد حتى هذا القرار خطراً ورفض التصريح الذى طلب . تبين لنا رسائل تالية (رقم 117 ورقم 118) أنه حتى تجمعات الأشخاص فى مناسبات الزواج أو الاحتفالات الأخرى للأغنياء، التى كانت توزع فيها النقود، بدت لبلينى وتراجان بوصفها خطراً على الدولة. ولكن مؤرخينا يمجدون تراجان باعتباره واحداً من أفضل الأباطرة. وجدت غريزة التنظيم نفسها مضطرة تحت هذه الظروف إلى أن تنخرط فى نشاط سرى. عنى اكتشاف ذلك، على أية حال، عقوبة إعدام للمشاركين. من الواضح أن مجرد التسليات أو حتى الميزات التى تصبح حقاً للفرد فقط، رغم انها قد تضمن تحسيناً فى وضعه الشخصى، لايمكن أن تكون قوية بما يكفى حتى تحمل أى إنسان على أن يخاطر بعنقه. يمكن لمثل هذه التنظيمات أن تحافظ على نفسها وكذلك على هدفها بشئ يتعالى على مجرد الميزة الشخصية، وهو ما سوف يبقى حتى إذا هلك الفرد، غير أن مثل هذه التنظيمات يمكن أن تكتسب قوة فقط، إذا كان هذا الهدف يتوافق مع مصلحة اجتماعية وحاجة قوية ومقدرة بشكل شامل، مصلحة طبقية أو مصلحة عامة، مصلحة تشعر بها على نحو أكثر عمقاً جماهير كبرى، ومن ثم قادرة على حفز أكثر أعضائها حيوية وإيثاراً على المخاطرة بحياتهم حتى يلبوا متطلباتها. بمعنى آخر، فقط مثل هذه التنظيمات يمكن أن تحافظ على نفسها فى الفترة الإمبراطورية لأنها تابعت موضوعاً اجتماعياً بعيد المنال، مثلاً أعلى. ليس مجرد الكفاح من أجل مميزات عملية، أو من أجل الحفاظ على المصالح العرضية، هو الذي يعطى الحياة والقوة لأى تنظيم، وإنما الحماس الأكثر ثورية أو مثالية. ليس هناك مايجمع هذه المثالية مع المثالية الفلسفية. قد تكون متابعة الأهداف الاجتماعية الكبرى نتاج فلسفة مادية أيضاً، وفى الحقيقة فإن الطريقة المادية، التي تؤسس نفسها على التجربة، وعلى دراسة العلاقات الضرورية للسبب والنتيجة فى تجاربنا، قد تؤدي لاقتراح أهداف اجتماعية كبرى خالية من الأوهام. ولكن كانت كل المتطلبات الضرورية لوجود هذه الطريقة مفتقدة فى الفترة الإمبراطورية. أمكن للفرد أن يتجاوز نفسه فقط بواسطة صوفية خاضعة لسلطان القيم الأخلاقية، وهكذا تتحقق رؤية الأهداف التى تتعالى على الصالح الشخصى والعرضى، بمعنى آخر بواسطة هذا النمط من التفكير الذى يعرف باعتباره دينياً فقط. بقيت فقط الجمعيات الدينية فى الفترة الإمبراطورية. ولكن سيكون لدينا فهم خاطئ لها إذا ما كان شكلها الدينى، وصوفيتها الخاضعة لسلطان القيم الأخلاقية، جعلنا نغفل المضمون الاجتماعى الكامن فى كل هذه التنظيمات، الذى أعطاها قوتها: التوق لإيقاف الظروف المحزنة القائمة، التطلع لأشكال اجتماعية أعلى، ومن أجل تعاون أوثق وعون متبادل لهؤلاء الأفراد الكثيرين الآن بلا مأوى عقلى، الذين استنبطوا شجاعة جديدة ومرحاً من التجمع معاً من أجل إنجازات عليا. ولكن تضمنت هذه التنظيمات الدينية خطاً جديداً للإنقسام فى المجتمع، فى ذات اللحظة التى كان يتوسع فيها مفهوم القومية، على الأقل بقدر ما تعلق الأمر ببلدان البحر الأبيض المتوسط، نحو ذلك الذى يخص الإنسانية. لم تضعف التنظيمات الاقتصادية البحتة التى هدفت لمساعدة الفرد فقط فى جانب أو آخر، من ارتباط الفرد بالمجتمع القائم ولم تعطه اهتماماً جديداً بالحياة. ولكن كان الأمر مختلفاً مع الجمعيات الدينية، التى تابعت مثالاً اجتماعياً أعلى تحت زى دينى. كان هذا المثال متعارضاً تماماً مع النظام القائم للمجتمع، ليس فى مسألة واحدة فقط، ولكن فى كل الجوانب الممكنة. تحدث المدافعون عن هذا المثال نفس اللغة مثل بيئتهم، ومع ذلك لم يُفهموا من قبلهم، وفى كل خطوة واجه العالمين، القديم والجديد، كل منهما الآخر بطريقة عدائية، بالرغم من أن كليهما عاش على نفس الأرض. وهكذا نشأت معارضة جديدة بين البشر. فى ذات اللحظة التى بدأ فيها الغالى والسورى، الرومانى والمصرى، الإسبانى والإغريقى، يفقد فيها هويته القومية، ظهر هناك الاختلاف الكبير بين المؤمنين وغير المؤمنين - القديسون والخطاة، المسيحيون والوثنيون، الذى سرعان ما قسم العالم كما لو كان بهاوية. كلما أصبح هذا التضاد أَحَدُ، كلما بات الصراع أكثر تشديداً، وتزايد أيضاً عدم التسامح والتعصب، وهو ملازم ضرورى لأى صراع مؤلفاً مثل الصراع نفسه، عنصراً ضرورياً للتقدم والتطور، إذا أعطى قوة وحيوية لقوى التقدم. ولكن دع القارئ يلاحظ أننا نستعمل كلمة "عدم التسامح" ليس باعتبارها تعنى قمعاً قهرياً لكل الآراء غير الملائمة، ولكن رفضاً حيوياً ونقداً لكل وجهات النظر المختلفة، مصحوبة بدفاع حيوى عن وجهات نظر المرء الخاصة. يمكن للجبن والتراخي فقط أن "يتسامح" بهذا المعنى، حيث تكون مسائل الحياة العظمى والشاملة على المحك. مما لاريب فيه، فإن هذه المصالح تخضع لتغير دائم، فمسألة حياة أو موت أمس، ربما تكون اليوم مسألة لاأهمية لها، من الصعب أن تكون جديرة بالقتال من أجلها. من ثم فإن دفاعاً تعصبياً عن مثل هذه النقطة كان مازال ضرورة أمس ربما يكون اليوم مناسبة لطاقة مُبَددة، وعلى ذلك له تأثيرات غاية فى سوء الحظ. وهكذا فإن عدم التسامح الدينى والتعصب الدينى لكثير من الطوائف المسيحية التى كانت تحرز قوة فى هذا الوقت شَكَّل واحداً من القوى التى سَرَّعت التطور الاجتماعى، مادامت الأهداف الاجتماعية كانت فى متناول الجماهير حين ترتدى رداء دينياً فقط، بمعنى آخر، من العصر الإمبراطورى حتى عصر الإصلاح. ولكن هذه الصفات أصبحت رجعية، وشكلت وسائل لإعاقة التقدم، حين أبطلت مناهج العلم الحديث نمط التفكير الدينى، انتهينا إلى أن من يتعلق به هي الطبقات والفئات المتخلفة من السكان أو الأقاليم المتخلفة فقط، وربما لايستمر بأى طريقة فى أن يخدم كغلاف لأهداف اجتماعية جديدة. كان عدم التسامح الدينى سمة جديدة تماماً فى نمط تفكير المجتمع القديم. وأيا ما كان عدم تسامح الأخير من وجهة نظر قومية، حيث قليلاً ما كان يحترم الغرباء، فضلاً عن الأجانب الذين استعبدهم أو قتلهم، بالرغم من أنهم ربما لم يقاتلوا كجنود، فإن المجتمع القديم مع ذلك لم يحلم باحتقار أحد بسبب قناعاته الدينية. هذه الحالات التى ربما تعد اضطهاداً دينياً، مثل، محاكمة سقراط على سبيل المثال، يمكن أن تفسر كنتيجة للاتهامات السياسية التى لم تكن دينية فى طابعها. كان النمط الجديد فى التفكير الناشئ فى العصر الإمبراطورى أول من حمل معه عدم التسامح الدينى، وقد فعل ذلك على كلا الجانبين، المسيحى وكذلك الوثنى، على الجانب الوثنى، لم يتضمن عدم التسامح كل الديانات الأجنبية بالطبع ، ولكن فقط تلك التى كانت تبشر بمثال اجتماعى جديد تحت غطاء دينى، مثال، يتعارض على نحو مطلق مع نظام المجتمع القائم. استبقى الوثنيون فى كل الحالات الأخرى، التسامح الدينى الذى مارسوه سابقاً، فى الواقع، لقد كان تحديداً فى هذه الأزمنة الإمبراطورية من الاتصال الدولى أن تأسست أممية معينة للعبادات، حيث أخذ التجار الأجانب والرحالة الآخرين دائماً آلهتهم معهم أينما ذهبوا، وكانت الآلهة الغريبة عندئذ تقدر عالياً أكثر من الآلهة المحلية، لأن الأخيرة لم تكن ذات نفع كبير، لأنها أظهرت عجزها. قاد نفس شعور اليأس الذى نتج عن التفسخ العام أيضاً إلى فقدان الإيمان فى الآلهة القديمة دافعاً كثيراً من النفوس الاشجع والأكثر استقلالاً أن تتجه إلى الإلحاد والشكية، نحو شكوك فى كل إله، وحتى فى كل فلسفة بينما توجهت العناصر الأكثر جبناً، وضعفاً، على أية حال، للبحث عن مخلص جديد، الذى يمكن أن تجد فيه دعماً وأملاً كما رأينا. ظن كثيرون أنهم وجدوا هذه الصفة فى القياصرة، الذين جُعلوا آلهة. ظن آخرون أنه من الأحكم التوجه نحو الآلهة التى وُقرت لزمن طويل باعتبارها كذلك، ولكنها لم تجرب بعد فى بلدها المختار. كانت النتيجة أن الديانات الأجنبية أصبحت شعبية. فى هذه المنافسة الدولية بين الآلهة، على أى حال، هزم الشرق الغرب، جزئياً بسبب أن الديانات الشرقية كانت أقل سذاجة، وأكثر تشبعاً بالفلسفة الغنية للمدن الكبرى، لأسباب سوف نعلمها فيما بعد، ولكن جزئياً أيضاً بسبب أن الشرق كان يهزم الغرب فى المجال الصناعى. كانت حضارة الشرق القديم أرفع جداً من حضارة الغرب عندما نهبها أولاً المقدونيون وفيما بعد الرومان. ربما يظن القارئ أن التسوية الدولية التى كانت قد بدأت آنئذ قد انطوت أيضاً على مساواة صناعية، رافعة الغرب بالضرورة لمستوى الشرق، ولكن العكس هو ما نتج بالفعل. لقد رأينا أنه بدء من نقطة معينة هناك عملية عامة من التفسخ فى العالم القديم، عاقبة جزئياً لهيمنة العمل الإجبارى على العمل الحر، وجزئياً لنهب الولايات من قبل رأس المال الربوى. ولكن ينطلق هذا الانحلال على نحو أكثر سرعة فى الغرب منه فى الشرق، انتهاءاً إلى نتيجة أن رقى الأخير الثقافى لقرون عديدة، بدءاً من القرن الثانى من عصرنا، وحتى حوالى 1000 ب.م لايتناقص بل يتزايد. يجرى الفقر، البربرية، نقص السكان بخطوات أسرع فى الغرب منها فى الشرق. يوجد سبب هذه الظاهرة فوق كل شيء فى الرقى الصناعى للشرق والزيادة الدائمة لاستغلال الطبقات العاملة عبر الإمبراطورية. تدفقت الأرباح الفائضة التى أنتجتها الأخيرة فى قسمها الاعظم إلى روما، مرتكز كل المستغلين الكبار، من كل الولايات الرومانية. ولكن من كل الفائض الذى تراكم فى روما، الذى اتخذ شكل نقود، تدفق نصيب الأسد إلى الشرق. لأن الشرق فقط هو الذى أنتج كل مواد الترف المرغوبة من المستغلين الكبار. لقد كان الشرق هو من قدم الترف، والعبيد، وأيضاً المنتجات الصناعية، مثل الزجاج والأرجوان فى فينيقيا، الكتان والملابس المطرزة فى مصر، الأصواف الجيدة والجلود فى آسيا الصغرى، السجاد فى بابل. وكانت الخصوبة المتناقصة لإيطاليا تجعل مصر مخزن حبوب روما، لأنه، بفضل فيضانات النهر، الذي غطى تربة مصر بطمى خصب جديد كل عام، كانت زراعة وادى النيل لاتنضب. مما لاريب فيه، أن كثيراً مما قدمه الشرق كان يؤخذ بالقوة فى شكل ضرائب وفوائد ربوية، ولكن بقيت كمية معتبرة وجب أن يدفع مقابلها بثمار الاستغلال فى الغرب، الذى كان يتزايد فقره. كانت المواصلات مع الشرق قد بدأت تتوسع ماوراء حدود الإمبراطورية. أصبحت الإسكندرية ثرية، ليس فقط من خلال بيع المنتجات الصناعية المصرية ولكن أيضاً بلعب دور الوسيط فى التجارة مع الجزيرة العربية والهند، بينما بدأ طريق تجارى إلى الصين من سينوب SINOPE على البحر الأسود. قدر بلينى فى مؤلفه التاريخ الطبيعى أن حوالى 100000000 سيسترسس (أكثر من 5000000 جنيه إسترلينى) كانت تنتزع من الإمبراطورية سنوياً لدفع ثمن الحرير الصينى، الجواهر الهندية والتوابل العربية، دون عوض ذو قيمة فى شكل سلع، وأيضاً دون إجبار الاراضى الأجنبية بأى طريقة على أن تدفع جزية أو فائدة. كان ينبغى أن تدفع كل الكمية بالمعدن الثمين. ولكن مع البضاعة الشرقية، جاء التجار الشرقيون أيضاً إلى الغرب، أحضروا أشكال عبادتهم معهم. كانت هذه تلبي تماماً احتياجات الغرب، بسبب حقيقة أن شروطاً اجتماعية مماثلة قد وجدت سلفاً فى الشرق، بالرغم من أنها قد لا تكون قد تطورت بمثل تلك النسب الكارثية التى كانت قد بلغتها الآن عبر الإمبراطورية الرومانية. إن فكرة الخلاص بواسطة إله جرت حيازة نعمة الطيبة بواسطة التخلى عن المسرات الارضية كانت خصوصية بالنسبة لمعظم هذه العبادات التى انتشرت بسرعة الآن خلال الإمبراطورية، خاصة بالنسبة للعبادة المصرية لإيزيس، والعبادة الفارسية لميثرا. "إيزيس بصفة خاصة، التى بدأت عبادتها فى روما فى زمن سولا، ونالت عطفاً إمبراطورياً فى ظل ڤ-;---;-----;---سباسيان، كانت تنتشر الآن إلى أقصى نقطة غرباً، وحازت تدريجياً مغزى ضخماً كلى الانتشار، أولاً كإلاهة للشفاء، خاصة بالمعنى البدنى الضيق.... كانت عبادتها حافلة بالمواكب العظيمة، وأيضاً بالضرب، التكفير، والالتزام الصارم، خاصة فى الأسرار. لقد كان تحديداً التوق الدينى، الأمل فى اغتفار الخطايا، الرغبة فى الكفارات القاسية والأمل فى الحصول على خلود مقدس بالخضوع الكامل لإله، هى التى شجعت انتشار مثل هذه العبادات الغريبة فى الأولمب الإغريقى أو الرومانى، الذى كان سابقاً غير مبال بالأحرى بمثل هذه الاحتفالات الغامضة، والنشوات المبهجة، والممارسات السحرية، نكران الذات، خضوع لاحدود له لإله، نكران زهدى للذات والتكفير كشرط للتطهر والقداسة. كانت مازالت العبادة السرية لميثرا أكثر قوة، التى انتشرت بصفة خاصة بواسطة الجنود، والتى ادعت أيضاً تحقيق الخلاص والأبدية ؛ أصبحت هذه العبادة معروفة أولاً فى زمن طيباريوس" . أصبحت نظرات الهند الشرقية رائجة أيضاً فى الإمبراطورية الرومانية، على سبيل المثال، أبولونيوس من تيانا، الذى كانت لدينا فرصة ذكره آنفاً، قام برحلة خاصة إلى الهند لدراسة المذاهب الفلسفية والدينية المتداولة فى ذلك البلد. لقد سمعنا أيضاً فيما يتعلق بأفلوطين أنه قد رحل إلى فارس حتى يصبح ملماً على نحو أفضل بالحكمة الفارسية والهندية. لم تخفق كل هذه النظرات والعبادات فى أن تترك أثراً بين المسيحيين الذين كانوا يجاهدون من أجل الخلاص والتسامى؛ لقد كانت واحدة من أكثر التأثيرات قوة على عبادة وخرافات المسيحية. "إيسيبيوس، أب الكنيسة، عامل هذه العبادة المصرية باحتقار باعتبارها "حكمة الجعارين"، مع أن أسطورة العذراء مريم هى مجرد صدى لأساطير نشأت على ضفاف النيل. "كان أوزيريس يمثل على الأرض بالعجل أبيس، كما حملت أم أوزيريس به بدون تدخل إله، فقد كان ضرورياً أيضاً لممثله على الأرض أن يحمل به بواسطة بقرة عذراء دون مساعدة ثور. يخبرنا هيرودوت أن أم أبيس قد خصبت بواسطة شعاع شمس، بينما وفقاً لبلوتارخ فقد حملت من شعاع القمر". "مثل أبيس، لم يكن ليسوع أب، فقد حُمل به بواسطة شعاع ضوء من السماء، كان أبيس عجلاً، ولكنه مَثَّل إلها، وكان يسوع إلها مُثِّلَ بحَمَلْ، غير أن أوزيريس نفسه كان يمثل أيضاً باعتبار أن "له رأس كبش" . فى الواقع لاحظ معلق ساخر SCOFFER، ربما فى القرن الثالث، حينما كانت المسيحية قوية تماماً بالفعل، بأنه لم يكن هناك اختلاف عظيم جداً فى مصر بين المسيحيين والوثنيين: "هؤلاء الذين عبدوا سرابيس فى مصر هم أيضاً مسيحيون، وهؤلاء الذين يسمون أنفسهم أساقفة مسيحيين هم أيضاً عبدة سرابيس ؛ كل حبر عظيم من اليهود، كل سامرى، كل كاهن مسيحى فى مصر، كان فى نفس الوقت ساحراً، نبياً، دجالاً (ALIPTES). حتى عندما يأتى البطريرك إلى مصر، يريده البعض أن يصلى لسرابيس بينما يريده البعض الآخر أن يصلى للمسيح " . أضف إلى ذلك، فإن قصة ميلاد المسيح، كما توجد فى إنجيل لوقا لها ملامح بوذية معينة. يشير بفليدرر أنه لم يكن لمؤلف الإنجيل أن يخترع هذه الحكاية من لاشيء، رغم أنها ربما غير تاريخية، فلابد وأنه أخذها من خرافات "وصلت لعلمه بطريقة ما"، يحتمل من خرافات قديمة كانت شائعة عند كل الشعوب الغرب آسيوية. لأننا نجد نفس الخرافات فى بعض الأحيان مع تماثل نفس العلامات المميزة بشكل لافت للنظر، فى قصة طفولة الهندى الشرقى المخلص بوذا (الذى عاش فى القرن الخامس ق.م، ك) وقد ولد هو أيضاً بطريقة عجائبية من العذراء الملكة مايا الذى اخترق بوذا جسدها الطاهر بصفته ضوء من السماء. تظهر فى ميلاده أيضاً، الأرواح السماوية وتترنم بأغنية التمجيد هذه: "بطل رائع، بطل لايضاهى قد ولد. هبة للعالم، ملئ بالرحمة، انشروا اليوم خيريتكم على كل أشياء الفضاء الكونى! دعوا الفرح والرضى يغمران كل الكائنات، حتى تصبح ساكنة، سادة أنفسها وسعيدة". بوذا أيضاً أحضرته أمه عندئذ إلى المعبد حتى تقوم بالعادات الشرعية، هناك وجده الناسك العجوز أسيتا، الذى حثه هاتف على أن ينزل من الهيمالايا؛ ونبوءات أسيتا بأن هذا الطفل سوف يصبح بوذا، المخلص من جميع الشرور، مرشداً للحرية والنور والأبدية..... وأخيراً لدينا تقييم موجز عن كيف يتنامى الطفل الملكى يومياً فى الكمال العقلى والقوة الجسدية والجمال - وهو الذى قيل تحديداً عن الطفل يسوع فى إنجيل لوقا الإصحاح الثانى، 40، 52" . "رويت أيضاً أمثلة عن الحكمة الباكرة للجاوتاما فى طور نموه، من بين قصص أخرى، فقد قيل أنه أثناء احتفال لشعبه، فُقد الصبى، وبعد بحث متلهف، وجد بجانب أبيه فى حلقة الرجال المقدسين المستغرقين فى تأمل ورع، وإذ ذاك "حث أباه المندهش أن يسعى وراء أشياء أعلى" . يشير بفليدرر فى الكتاب المذكور آنفاً، لعناصر إضافية أخذتها المسيحية من أشكال العبادة الأخرى؛ على سبيل المثال، من عبادة ميثرا. لقد اقتبسنا سلفاً إشارة بفليدرر السابقة للعشاء الربانى، الذى كان واحداً من أسرار ميثرا المقدسة (ص 158). من المحتمل أن تكون هناك عناصر وثنية أيضاً فى مذهب البعث. "ربما كان بولس متأثراً بالفكرة الشعبية عن الإله الذى يموت ويعود إلى الحياة، التى هيمنت فى ذلك الوقت فى عبادات أدونيس، أتيس وأوزوريس فى آسيا الدنيا (HITHER) (بأسماء وعادات مختلفة، متشابهة كثيراً فى كل مكان). فى أنطاكية، العاصمة السورية، التى كان بولس نشطاً فيها لفترة يعتد بها، حدث الاحتفال الرئيسى بعيد - أدونيس فى الربيع ؛ فى أول يوم (فى احتفال أوزيريس كان اليوم الثالث بعد الوفاة، بينما فى احتفال أتيس كان فى اليوم الرابع)، كان يحتفل بموت أدونيس "الإله"، بينما فى "اليوم التالى، وسط أناشيد الرثاء العنيفة التى كانت تغنيها النساء، مثلوا دفن جثته (بواسطة صورة)، أما فى اليوم الذي يعقبه، فيجرى الإعلان عن أن الإله يحيا وجعل (صورته) تطير فى الهواء" إلخ . ولكن بفليدرر يشير بصواب إلى أن المسيحية لم تتبنَ هذه العناصر الوثنية فحسب، ولكنها كيفتها لتناسب منظومة اعتقادها الموحدة. لأن المسيحية لم تكن تمنح ملاذا للآلهة الغريبة بدون تحويلها، وقد كان توحيدها وحده كافياً ليمنع مثل هذا الإجراء.
ز – التوحيد ولكن حتى التوحيد، الايمان بإله واحد، لم يكن مميزا للمسيحية فقط. فى هذه الحالة أيضاً لدينا فرصة لأن نكشف الجذور الاقتصادية التى أسست عليها الفكرة. لقد رأينا سلفاً كيف أصبح سكان المدن الكبرى غرباء عن الطبيعة، وكيف أن كل التنظيمات التقليدية التى منحت سابقاً، دعماً أخلاقياً ثابتاً للفرد، قد تحللت ؛ وأخيراً، كيف أن انهماما بالذات أصبح المهمة الرئيسية للفلسفة، التى اتخذت تدريجياً موقعاً جديداً فتحولت من بحث العالم الخارجى إلى إطالة التفكير فى مشاعر الفرد واحتياجاته الذاتية. خدم الآلهة أولاً كتفسير لعمليات الطبيعة التى لم تكن ارتباطاتها السببية قد فهمت بعد. كانت هذه العمليات غاية فى التعدد ومن أشد الأنواع تبايناً، لقد تطلبت من ثم لتفسيرها خلق أكثر أنماط الآلهة تنوعاً واختلافاً، رهيبة ومبهجة، وحشية ورقيقة، ذكراً وانثى. عندئذ، مع التقدم فى معرفة العلاقات السببية فى الطبيعة، أصبحت الآلهة الفردية غير ضرورية أكثر فأكثر، ولكن فى مجرى آلاف الأعوام تجذرت بغاية الرسوخ فى فكر الإنسان، وأصبحت مرتبطة غاية الارتباط باهتماماته اليومية، بينما لم تكن الطبيعة بأى حال كاملة تماماً حتى تزيل الإيمان بالآلهة كلية. وجد الآلهة أنفسهم الآن مبعدين من مجال للفعالية بعد آخر، من كونهم رفقاء دائمين للإنسان، أصبحوا الآن ظواهر عجائبية غير عادية، إذ كانوا ذات مرة سكانا فى الارض، فقد نسبوا الآن لنطاقات فوق الارض، فى السماء، بعد أن كانوا نشيطين، عاملين ذوى طاقة ومحاربين، وأبقوا العالم فى حالة اضطراب بلا كلل، أصبحوا الآن مُرَاقبين، مُتأمِلين للمشهد الكونى. من المحتمل أن التقدم فى العلم الطبيعى كان سيزيلها فى النهاية جميعاً، إذا لم يكن نشوء المدن الكبيرة والتدهور الاقتصادى الذى وصفناه سابقاً لم يثمر غربة عن الطبيعة وتسبب في أن تكون طليعة الفكر مشغولة بصفة رئيسية بدراسة الروح بواسطة الروح، بمعنى آخر، ليس بواسطة دراسة علمية لجملة كل الظواهر العقلية التى خُبِرت، ولكن بدراسة أصبحت فيها روح الفرد مصدر كل الحكمة فيما يخص ذاتها، وجعلوا هذه الحكمة بدورها المفتاح لكل حكمة العالم. ولكن مع أن مشاعر واحتياجات النفس قد تتعدد، فقد افتُرض أن النفس ذاتها وحدة غير منقسمة، وقد جرى تصور نفوس الآخرين بوصفها من نفس النسيج تماماً كنفس الفرد المدرك. أي موقف علمى كان سيخلص إلى الاستنتاج بخضوع كل العمليات العقلية الضرورى لقوانين موحدة. ولكن فى الوقت الذى بدأت فيه الدعامات الاخلاقية تتحلل تماماً، انتهاءاً إلى فقد الإنسان خلفيته السابقة وبدا وقتها أن الإنسان يملك حرية الارادة، بدت عندئد طبيعة الروح المتماثلة فى كل البشر قابلة فقط لتفسير أن هذه الروح كانت فى كل مكان، جزءاً من نفس الروح، من روح مفردة كان فيضها وتشابهها يؤلف الروح الغامضة والمتماثلة فى كل الأفراد. كانت هذه الروح الكونية أيضاً لاحيز لها مثل روح الفرد. ولكن هذه الروح كانت تُتصور باعتبارها حاضرة وفعالة فى كل الاشخاص، بمعنى آخر، باعتبارها كلية الوجود وكلية العلم، ولايمكن أن تخفى عنها أشد الأفكار سرية. الانتباه الأعظم الذى أوليَ للاهتمام الأخلاقى، باعتباره معارضاً للاهتمام بالطبيعة، الذى أدى لظهور الادعاء بهذه الروح الكونية، أضفى أيضاً طابعاً اخلاقياً على الروح الكونية. انتهت الأخيرة إلى تجسيد كل الأفكار الأخلاقية التى كانت تشغل عقول البشر حينئذ. ولكن من أجل امتلاك هذه الحالة، كان على الروح أن تنفصل عن الطبيعة الجسدية الكامنة فى روح الإنسان معمية اخلاقيتها. وهكذا لدينا تطور إله جديد. هذا الإله كان بالضرورة وحدة مفردة، تتصل بوحدة روح الفرد، باعتبارها معارضة للطبيعة المتعددة لآلهة العصور القديمة، التى تتصل بتعقد العمليات الطبيعية التى تجرى حولنا، وهذا الإله الجديد المفرد وقف ماوراء الطبيعة وفوق الطبيعة، لقد وجد قبل الطبيعة، التى كانت إحدى مخلوقاته، بالتعارض مع الآلهة القديمة التى كانت جزءاً من الطبيعة ولم تكسب أية سمو على الطبيعة. ولكن بينما كانت الاهتمامات الروحية الجديدة للبشر نفسية واخلاقية محضة فى طابعها، لم يستطيعوا أن يهملوا الطبيعة تماماً. وحيث أن العلوم الطبيعية كانت تهمل، فقد أصبح مرة أخرى مألوفاً أكثر افتراض تدخل عناصر شخصية مافوق إنسانية من أجل تفسير الأحداث الطبيعية. لم تعد بعد الموجودات العليا التى كانت تمثل الآن باعتبارها تتدخل فى العملية الكونية آلهة ذات سيادة، كما كانت ذات مرة، ولكنها باتت خاضعة للروح الكونية مثلما كانت الطبيعة خاضعة لله، والجسد للروح، وفقاً لمفهوم تلك الأيام. لقد كانت مخلوقات وقفت فى مكان ما بين الله والبشر. تدعمت هذه النظرة للأشياء لمدى أبعد بمجرى الأحداث فى المجال السياسى. فتدمير جمهورية الآلهة فى السماء سار يداً بيد مع سقوط الجمهورية فى روما. أصبح الله قيصراً للآخرة كلى القدرة، ومثل قيصر كان له بلاطه، القديسين والملائكة، وكانت معارضته الجمهورية الشيطان وجموعه. أخيراً ذهب المسيحيون إلى حد تقسيم بيروقراطية الله السماوية، الملائكة، وفقاً للرتبة، إلى فئات تتوافق مع التقسيمات التى عملها القياصرة بين بيروقراطيتهم الأرضية، وبدا الملائكة معرضون لنفس الزهو بالمكانة مثل الموظفين الرسميين لدى الإمبراطور. بدء بقنسطنطين، كانت الحاشية وموظفى الدولة الرسميين مقسمين إلى عدد من المراتب، التى كان لكل منها حق استخدام لقب معين. ونجد الألقاب التالية:1- GLORIOSI، أى الممجدون للغاية، الذين كانوا القناصلة؛ 2- NOBILISSIMI، أو الأكثر نبلاً، هؤلاء كانوا أمراء بالدم، 3- PATRICII، النبلاء. بالإضافة إلى مراتب النبالة هذه كانت هناك أيضاً مراتب بين البيروقراطية العليا؛ 4- ILLUSTRES ، أو اللامعين ؛ 5- SPECTABILES، أو المحترمين؛ 6- CLARISSIMI، أو المشهورين؛ وتحت هؤلاء لدينا: 7- PERFECTISSIMI، أو الأكثر كمالاً؛ 8- EGREGII، أو المبرزين؛ 9- COMITES، أو المستشارين الخصوصين. إن لاهوتيينا سوف يؤيدوننى حين أقول إن البلاط السماوى منظم تماماً بنفس الطريقة. وهكذا على سبيل المثال، فإن معجم الكنيسة للاهوت الكاثوليكى (الذى أصدره ڤ-;---;-----;---يتسر وڤ-;---;-----;---لته، فريبورج فى برايسجاو، 1894) يذكر فى مقالته "الملاك" العدد الضخم للملائكة ويواصل القول: "اتباعاً لسابقة القديس أمبروزيوس، اعتقد كثير من المعلمين أن النسبة بين عدد الملائكة وعدد البشر 99 إلى 1؛ على سبيل المثال، الخروف الضائع فى حكاية الراعى الطيب (لوقا، الاصحاح الثانى عشر،32) يمثل الجنس البشرى، بينما الـ 99 خروفاً الذين لم يضيعوا يمثلون الملائكة. ملائكة هذا الجمع الذى لايحصى مصنفين فى عدد من الفئات، والكنيسة - معارضة حتى رأى أوريجن، الذي رأى أن كل الأرواح يشبه كل منها الآخر فيما يتعلق بالجوهر، القوة، إلى آخره - أعلنت بصراحة تحبيذها للتمييز بين الملائكة، فى المجمع الثانى فى القنسطنطينية فى 553 ب.م. تعترف الكنيسة بتسع طبقات من الملائكة، الذين صنفوا فى مجموعات كل منها من ثلاث طبقات من الملائكة. هذه المراتب التسعة هى: 1- السيرافيم، 2- الشيروبيم، 3- ملائكة العرش THRONI، 4- الحكام DOMINATIONES، 5- الفضلاء VIRTUTES، 6- العتاة POTESTATES، 7- الأمراء PRINCIPATUS، 8- رئيس ملائكة ARCHANGELI، 9-الملاك ANGELI (الملائكة العاديون) . يبدو بما لايدع مجالاً للشك أن الملائكة يتألفون بالمعنى الضيق للكلمة من الطبقة الأدنى الأكثر عدداً، بينما السيرافيم هى الطبقة الأعلى والأقل عدداً. الأشياء على الأرض ليست مختلفة كثيراً: ليس هناك كثير من الموظفين الرسمين ذوى ألقاب عليا، وإنما لدينا عدد كبير من سعاة البريد العاديين. تحتوى المقالة المذكورة أيضاً على المعلومات التالية: "يعيش الملائكة فى صلة حميمة وشخصية مع الله وعلاقاتهم بالله من ثم هى (علاقة) عبادة لامتناهية، خضوع متواضع، عاطفة لاتكل وهي التى تنكر كل حب بخلاف حب الله، من إستسلام تام مبهج بكامل كينونتهم، ولاء راسخ، من طاعة لاتردد فيها، احترام عميق، وامتنان لانهاية له، صلاة قانته، وكذلك تمجيد لايتوقف، من تعظيم دائم، من ثناء هائل، من تهلل مقدس، من فرح جذل ". كان الأباطرة يطلبون خضوعاً بهيجاً مماثلاً من حاشيتهم وموظفيهم الرسميين. كان هذا نموذج البيزنطية. من الواضح ان صورة الاله الواحد كما نمت فى المسيحية لم تكن نتاجاً أقل للاستبداد الإمبراطورى منها للفلسفة، التى اتجهت منذ ايام افلاطون أكثر فأكثر نحو التوحيد. كانت هذه الفلسفة فى توافق كبير مع الشعور العام والاحتياجات العامة التى سرعان ما اصبحت جزءاً من الوعى الشعبى. هكذا على سبيل المثال، فإننا نجد عند بلوتوس وهو كاتب مهازل، عاش فى القرن الثالث ق.م، والذى حملت افكاره فلسفة شعبية رخيصة، مقاطع مثل هذا التصريح التالى لعبد، يسأل صنيعاً: "فى النهاية هناك إله، يسمع ويرى ما نفعله نحن البشر، وهو سوف يعامل ابنك كما عاملتنى انت هنا. وهو سوف يكافئ على الأعمال الطيبة ويجازى أيضاً على أعمال الشر". (أسرى الحرب، الفصل الثانى، المشهد الثانى). نحن بالفعل أمام مفهوم لله مسيحى تماماً. ولكن هذا التوحيد كان ساذجاً للغاية، بلا تفكير يسمح للآلهة القديمة بالاستمرار فى الوجود بجانبة. ولم يخطر للمسيحين أنفسهم أن يناقشوا وجود الآلهة القديمة، ماداموا قد قبلوا كثيراً من المعجزات الوثنية بلا مناقشة. ولكن الإله المسيحى لم يحتمل جانبه آلهة غيره، سوف يكون حاكماً منفرداً. إذا لم تخضع الآلهة الوثنية له وتقر بالدخول ضمن بلاطه، فلم يكن هناك دور يترك لهم عدا الدور الذى لعبته المعارضة الجمهورية فى ظل الأباطرة الأوائل، الذى كان فى القسم الأعظم منه دوراً مؤسفاً. لقد كمن فحسب فى جهود عرضية لممارسة بعض الخدع على الرب العظيم، لتحريض رعاياه الفاضلين ضده، بلا أى أمل أبداً فى الإطاحه بالسيد، ولكن بتوقع وحيد هو إثارته عرضاً. ولكن حتى هذا التوحيد غير المتسامح، الواثق من انتصاره، الذى لم يشك لحظة فى سموه وقدرة إلهه الكلية، كان قائماً بالفعل حين ظهرت المسيحية فى المشهد. مما لاريب فيه، ليس بين الوثنيين، ولكن بين أمة صغيرة ذات طابع خاص، اليهود، الذين طوروا الاعتقاد فى مخلص، والإلزام بالمساعدة المتبادلة، وبتضامن حازم، إلى مدى أبعد كثيراً، الذين لبوا على نحو أفضل كثيراً الحاجة القوية التى استشعرت فى هذا الوقت لمثل هذه المذاهب، أكثر مما فعلت أى أمة أو طبقة فى المجتمع فى هذا العصر. أضفى اليهود، من ثم، زخماً قوياً على المذهب الجديد الناشئ عن هذه الاحتياجات، وأسهموا فيه ببعض من عناصره الأكثر أهمية. حتى نكشف بشكل كامل عن كل هذه الجذور التى نمت منها المسيحية، يجب أن نضيف لدراستنا العامة عن العصر الهيلينى الرومانى، فى ظل العهد الإمبراطورى، دراسة خاصة عن الشعب اليهودى. *****
#سعيد_العليمى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فى الاصول التاريخية والاسطورية للشعب اليهودى - كارل كاوتسكى
-
بين معركتين ( مقتطف ) ف . إ . لينين
-
رسالة الى مستشرق فرنسى عن ترجمة بعض مؤلفات عالم الاجتماع بيي
...
-
لاهوت التحرر الآسيوى بين الماركسية والمسيحية والثورة
-
فى ذكرى ثورة ادسا الفليبنية ( 22 - 25 فبراير 1986 )
-
حل العقدة فى متناول يدنا ( مقتطف ) ف . إ . لينين
-
تريبوف فى السلطة ( مقتطف ) - ف .إ . لينين
-
سفسطة سياسية ( مقتطف ) ف. إ . لينين
-
موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضايا الثورة الافريقية ( 1
...
-
موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من دعاوى القومية اليهودية ( 1
...
-
موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من انقلاب السادات على مراكز ا
...
-
حزب العمال الشيوعى المصرى ومطالب الحريات الديموقراطية فى مصر
...
-
حزب العمال الشيوعى المصرى وطبيعة الثورة المقبلة ( 1971 )
-
حزب العمال الشيوعى المصرى وقضية التحالف الطبقى والجبهة المتح
...
-
حزب العمال الشيوعى المصرى وقضية التحالف الطبقى والجبهة المتح
...
-
موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من سلطة البيروقراطية البورجوا
...
-
حزب العمال الشيوعى المصرى والصراع الحزبى الداخلى - الازمة وا
...
-
حزب العمال الشيوعى المصرى والصراع الحزبى الداخلى - قضية التو
...
-
حزب العمال الشيوعى المصرى والصراع الحزبى الداخلى - قضية التو
...
-
حزب العمال الشيوعى المصرى والصراع الحزبى الداخلى - تكتيكات ا
...
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|