|
الخط العربي .. فن يتحدى الزمن
منير ابراهيم تايه
الحوار المتمدن-العدد: 5093 - 2016 / 3 / 4 - 10:08
المحور:
الادب والفن
الخاطرة بنت اللحظة، والخاطرة تلد الخاطرة والنادرة تقود إلى النادرة ، فإن امسكتها وأخذت بيديها فهي لك، وإن سوفت أو توانيت فلن تعود، وإن عادت.. تعود مكرهة تجذبها فلا تنجذب، فاظفر ببنات أفكارك كلما عَنَّ لك خاطرة أو عرضت لك نادرة فكل فعل يطلب فعلا، كما أنَّ الحسنة تلد الحسنة... والخط العربي أحد الفنون التي ابتدعتها الحضارة العربية الإسلامية وقد انتشر هذا الفن في كل الأقطار العربية الإسلامية حيث أن العرب أعطوا الخط الجميل عناية خاصة عند كتابة القرآن الكريم منطلقين من قول سيدنا علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه " الخط الجميل يزيد الحق وضوحا". إن أهمية الخط و الحرف بالنسبة للكتابة كأهمية الدم بالنسبة لجسم الانسان من أجل تغذية قلبه و عروقه و دماغه... ولقد اكتسب فن الخط العربي هذه الروحانية لأنه الصورة المكتوبة للغة العربية في مقابل الصورة الشفوية لهذه اللغة التي نزل بها القرآن الكريم . فهو يمثل ذلك الإناء أو الصندوق الذي تحفظ به اللغة العربية، وهي اللغة التي يحفظ بها القران الكريم عن ظهر قلب وفي المخطوط فيبقى ذكر الذكر على الألسن وفي الصدور.. والخط علم وفن وفلسفة يقول افلاطون " الخط عقال العقل" ويقول اقليدس "الخط هندسة روحانية ظهرت بآلة جسمانية" اما ابراهيم بن محمد الشيباني فيقول "الخط لسان اليد وبهجة الضمير وسفير العقول ووحي الفكر وسلاح المعرفة وأنس الاخوان عند الفرقة ومحادثتهم على بعد المسافة ومستودع السر وديوان الامور".. و لما كان الخط و الحرف لهما ميزة و خصيصة في اللغة العربية لا توجد في أي لغة اخرى، و اللغة العربية لغة القران الكريم ، فقد تجند الباحثون و الدارسون لبحث ودراسة الخط و الحرف العربيين و محاولة معرفة تاريخهما و أوضاعهما و أشكالهما وطريقة ضبطهما، وقد ذكر النويري في كتابه «نهاية الأرب في فنون الأدب»: سئل بعض الكتّاب عن الخطّ، متى يستحق الخط أن يوصف بالجودة، فقال: إذا اعتدلت أقسامه، وطالت ألفه ولامه، واستقامت سطوره، وضاهى صعوده حدوره، وتفتحت عيونه، ولم تشتبه راؤه ونونه، وتساوت أطنابه، واستدارت أهدابه، وصغرت نواجذه، وانفتحت محاجره، وقام لكاتبه مقام النسبة والحلية، وخُيّلَ إليه أنه يتحرك وهو ساكن وربما كنت في غفوة أو صحوة.. حين برقت لي بارقة سرت بنورها أتبصر هذا الحرف، فالحرف بمفرده علم، وهو علم بمركبه، وعلم برسمه والخط الجميل موازيا في أهميته للتجويد في القرآن ونظرا لقداسة الحرف العربي أصبحت الكتابة لها معنى رمزيا حيث أن القرآن الكريم نبه إلى ما للحروف العربية من قيم معنوية ودلالات رمزية اتخذت عند بعض المفسرين مدلولا قدسيا يحمل أسرار غيبية تكشف المستقبل خاصة عند فواتح السور مثل "يس، نون كاف هاء ياء ، عين صاد". كما أن المسلمين استخدموا الحروف كقيم عددية لمعرفة طالع الانسان و كشف مستقبله عن طريق تحديد طبيعته ومزاجه وهو ما يعرف بحساب الجمَّل التي تحكي مقادير معينة من الأرقام لكل حرف من حروف العربية، فالألف في حساب الجمَّل عبارة عن واحد، والباء اثنان، والجيم ثلاثة، وهكذا، ثم الياء عشرة والكاف عشرون، وهكذا، ثم الراء مائتان والشين ثلاثمائة وهكذا حتى تصل ألف، وقد جمعت – مرتبة على هذا النسق الحسابي - في قولهم : (أبْجَد هَوَّز حِطِّي كَلَمُن سَعْفَص قُرِشَت ثَخَذٌ ضَظَغٌ) . ويقال إنَّ هذا كان ترتيبها عند الساميين قبل أن يرتبها نصر بن عاصم الليثي الترتيب الهجائي التي هي عليه اليوم من الألف إلى الياء. وأما الحروف المركبة فهي ما تجده في كلماتك، وتكونه في كتاباتك، فتضع حرفا على حرف لتكوِّن كلمة ثم جملة ثم مقال، وهذا ما يسمى لغة ثم بلاغة ثم إبداع، والمعنى أنَّ هذا التركيب سر بل أسرار منها وبها خرج الأدباء والبلغاء والخطباء والشعراء والمبدعون، والمؤلفون والفلاسفة وعلماء الصوتيات والمنطق وغيرهم أما علم رسمِ الحروف وما فيه من روحانية وحياة فلا يخفى على من منحه الله ملكة حسنِ الخط وفن الإبداع فعلم الخط او رسم الحروف بحث فني جمالي يهتم بتحسين صور واشكال الحروف. ومهما بقيْت تخط بريشتك فلن تأتي على جميع صور الحروف وتشكلاتها، فالثعبانية والناعمة والحانية والحزينة والمحتبية والمتقرْفصة والمنعطفة والمختجلة والرقيقة والأنيقة والدقيقة والرشيقة، وكأنها باستمرارك في توليد الحروف واستمرارها في توليد الصور أشبه ما تكون في وجوه الناس، فعلى كثرة ما يلدون لا تجد انسانا يشبه آخر، وهكذا الخط والريشة. فلو كتب الحرف مئات المرات لما شابه أحدها الآخر، وكلها غاية في الروعة والحسن والجمال. فالحرف أكبر مما تتصوره، وأوسع في معناه ومبناه مما تفهمه وتراه، وأشبه ما يكون الحرف بجزيء روح أو طاقة، ولكن الغالب من الناس لا يعرف عن الحروف إلا تركيب بعضها إلى بعض لتكوين كلمة تحمل معنى معينا بغية إيصاله إلى آخر، وكأن الحروف لديهم وسيلة تواصل أو أوعية نقل فقط، فنلاحظ في الخط العربي حروف منفصلة أو مبهمة كانت هي ذاتها اساس أو موضوعا للوحة فنية ففي لوحة "لا غالب إلا الله" التي تكررت الاف المرات في جميع تفاصيل الخط العربي نرى في "لا" معنى الاستسلام و الخضوع وهي حرف واحد. كما جاء في الحديث الشريف " لام الف حرف واحد أنزله على آدم في صحيفة واحدة...الخ". ومن هنا شبه الشاعر التركي آصف حالت شلبي في كتابه " لام ألف " الحرف بالانسان الذي يرفع يديه إلى السماء مستعينا مستغيثا بالله.. ولقد اعتنى الخطاطون و المسلمون عبر الزمن عناية كبرى في نسخهم المصاحف فهم فضلا عن اظهار المصاحف بمظاهر النقش و التزويق و الزخرفة في فواصل الآيات و السور و احاطة النص القرآني بصفائح الذهب و الفضة و النقوش الاسلامية المتنوعة الشكل بما يليق بعظمة و قدسية كتاب الله تعالى في نفوس عباده تقربا إليه عز وجل وطاعة وتضرع كذلك عملوا على اتقان الحروف وتنسيق الكلمات و الأسطر في وحدات هندسة رائعة تدل على مقدرتهم و ابداعهم. وبعد ذلك فان السؤال هو: ما الذي منح الخط العربي تلك الجماليات التي ارتقت به إلى هذه المنزلة؟ وما الذي جعله أخّاذا إلى هذا الحدّ لان يعتبر واحدا من أرقى الفنون التي تحظى بمكانة رفيعة في وجدان الثقافة العربية والإسلامية؟و ما الذي جعل الخط العربي فنا فنا حديثا أيضا وليس فنا موروثا وحسب؟ إن الخط العربي بدأ فنا منذ أقدم المخطوطات، اي منذ تلك الرسائل التي كُتبت بخط عربي وأُرسلت إلى سائر ملوك الأرض ليدعوا إلى الدين الإسلامي مع انطلاقة الشرارة الأولى للحضارة العربية والإسلامية في المنطقة والعالم. وهي بحسب ما اتفقت عليه المصادر التاريخية في أصلها تسع رسائل ارسلت كالتالي: المقوقس حاكم مصر وهرقل عظيم الروم وكسرى ملك فارس والمنذر بن ساوى أمير البحرين وهوذة الحنفي أمير اليمامة وملكا عمان والحارث الحميري حاكم اليمن والحارث الغساني أمير الغساسنة والنجاشي ملك الحبشة. ثم بعد ذلك مع جمع القرآن الكريم وتدوين السنة النبوية بعد ذلك... وقد دافع الفنان الفرنسي المسلم الفونس إيتان دينييه عن الكتابة بالحروف العربية، مصورا خطيئة الذين أرادوا إبدال خط آخر بها قائلاً: "الكتابة العربية هي أرقى نوع فني عرفه الإنسان، وأجمل خطّ يستطيع المرء أن يقول فيه من غير مبالغة: إن له روحًا ملائمة للصوت البشري، موافقة للألحان الموسيقية". كما وصف الكتابة العربية بأنها "عبارة عن مفتاح يكشف عن ألغاز الحركات القلبية الدقيقة، وكأنَّ حروفها خاضعة لقوة روح سارية، فتراها تارة تلتف مع بعضها على أشكال هندسية بديعة مع محافظتها على جميع الأسرار المودعة فيها، وطورًا تراها تنطلق وتقف بغتة كأنها معجبة بنفسها، وتارة تراها تنطلق جارية تتعانق، وتارة تتفرق". ويضيف: "كلَّما تأملت في أشكالها الجذابة أخذت أفكاري إلى أحلام بعيدة، ولا يلزمني أن أكون مستعربا ولا ساحرا لأتمتع بجمالها الساحر الفريد، بل كل إنسان توجد فيه روح الفن تأسر قلبه هذه الكتابة". ويؤكد أن الخط العربي يمتاز على سائر الخطوط بكتابته من اليمين إلى اليسار إتباعا لحركة اليد الطبيعية، فنجد الكتابة أسهل وأسرع من الكتابات التي تكتب من الشمال إلى اليمين... وبعد فلا يوجد في العالم خط يماثل الخط العربي في تراثه الذي يشعرك انك لم تغادر موطنك سواء ذهبت الى بغداد او دمشق او القاهرة او المغرب او حتى وصلت الى اندونيسيا في جنوب شرق اسيا، وان سنة الحياة هي التطور والخط العربي خط متطور عبر الزمن منذ الفينيقيين والكنعانيين الذين وضعوا "22" حرفا هي اصول الحروف اللاتينية واليونانية والعربية الى يومنا الحاضر وقد روى ابن النديم في كتابه "الفهرست" ان أول من كتب بالعربية ثلاثة رجال من بولان وهي قبيلة سكنوا الأنبار وأنهم اجتمعوا فوضعوا حروفا مقطعة وموصولة وهم مرار بن مرة وأسلم بن سدرة وعامر بن جدرة ويقال مروة وجدلة فأما مرامر فوضع الصور وأما أسلم ففصل ووصل وأما عامر فوضع الإعجام وسئل أهل الحيرة ممن أخذتم العربي فقالوا من أهل الأنبار.... وبعد فان ما جاءت به الحضارة الإنسانية من إبداعات خلاقة إلى يومنا هذا تعود إلى العمل الدائب والمستمر الذي مارسه الإنسان منذ وجوده على الكرة الأرضية فكل ما أنتجه هو مطلب وكل ما حصل عليه من قيم حضارية ومكتشفات جاءت من خلال مواصلة العمل ولولا العمل لما استطاع أن يصل إلى هذا المستوى الحضاري الذي وصل إليه في عصرنا الحاضر . فقد لعبت الفنون على اختلافها دورا في المجتمعات الإنسانية فهي لم تكن المرآة التي عكست ظروف مجتمعاتها فحسب وإنما كانت ولا زالت كعامل تربوي مهم في تربية الإنسان والرفع من مستواه الفكري والثقافي . والفن بالمعنى العام هو جملة من القواعد المتبعة لتحصيل غاية معينة، جمالا كانت أو خيرا، أو منفعة، فإذا كانت هذه الغاية هي تحقيق الجمال سمي بالفن الجميل، وإذا كانت تحقيق الخير سمي بفن الأخلاق، وإذا كانت تحقيق المنفعة سمي الفن بفن الصناعة. والتشكيل العربي للفنون حالة ثقافية تتضمن الموروث الاجتماعي والديني والقومي في إشارات رمزية ومضامين هائلة تستوعب جميع فئات المجتمع وهي على جانب كبير من الأهمية لأنها النواة التي منها تنطلق الفعاليات الثقافية والفنية في إعطاء زخم هائل للبناء الثقافي والحضاري للأمة ،فالفن ذاكرة الأجيال وهي الحاملة لعبق الحياة من خلال ما تبوح به من ذواتنا ، والتعرف على حقيقة مشاعرنا ، فهي أشبه ما تكون بمرآة حقيقية للنفس ، تنعكس على صفحتها كل أهوائنا وعواطفنا وانفعالاتنا وأفكارنا .و هو ترجمة حقيقية للمشاعر والوجدان التي يتم سردها إلى الآخر بصورة تتداخل فيها الكم الهائل من الأبجديات التي تكوّن مادة هامة من مواد التخاطب والتفاعل والبناء .
#منير_ابراهيم_تايه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الناس كما هم / قصص قصيرة
-
قصص قصيرة بجدم راحة اليد 5
-
1984 لجورج اورويل.. مقاومة الديكتاتورية بالادب
-
حجي جابر في رواية -سمراويت-.. وازمة البحث عن هوية
-
قصص قصيرة بحجم راحة اليد 4
-
قصص قصيرة بحجم راحة اليد 3
-
للخيال جماله ولذته وسحره -رسالة التوابع والزوابع- لابن شهيد
-
قصص قصيرة بحجم راحة اليد (2)
-
قصص قصيرة بحجم راحة اليد
-
فرنسا تنعى انسانيتها
-
انا وظلي
-
انا وظلي/ اقاصيص صغيرة
-
ماسح الاحذية/ وقصص اخرى قصيرة
-
اسرائيل التي تخاف
-
الصدفة والضرورة/ قصص قصيرة
-
شاي بالنعناع/ قصص قصيرة
-
حياة اخرى وقصص اخرى قصيرة
-
محطات في فكر مالك بن نبي
-
الكواكبي.. ومئة عام من الديكتاتورية
-
شوق الدراويش ل -حمور زيادة- رواية تتكىء على التاريخ
المزيد.....
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|