|
تاريخ موجز لتنظيم داعش
آدم هنية
الحوار المتمدن-العدد: 5077 - 2016 / 2 / 17 - 07:44
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
ترجمه الى العربية: وليد ضو المصدر: المنشور عقب هجمات 13 تشرين الثاني/نوفمبر في باريس، ربط جزء كبير من اليسار بين صعود داعش وبين تعميق العنف الامبريالي في الشرق الأوسط. الحرب والامبريالية، من جهة، والتأثير المتنامي للإرهاب الجهادي، من جهة أخرى، عرضا كجزء لا يتجزأ من العنف والدمار اللذين يعززان بعضهما البعض. “البربرية الامبريالية والبربرية الإسلامية يتغذيان من بعضهما”، كتب الحزب الجديد المناهض للرأسمالية في فرنسا بعد وقت قصير من هجمات باريس. من أجل كسر هذا العناق العدمي القاتل، يجب معارضة التدخل الخارجي لوقف العنف الامبريالي ووقف نهب ثروات الشرق الأوسط وأفريقيا وأماكن أخرى من العالم.
المنطق الأساسي لهذه الحجة هو من دون شك متين. ولكن من خلال تفسيره لا يذهب هذا النوع من التحليل بعيدا بما فيه الكفاية. فهو يعاني من تعميم مفرط ومجرد- يخبرنا القليل عن خصوصية هذه اللحظة بالذات أو عن طبيعة داعش كتنظيم. التعريف الذي يقوم على نوع من التلقائية أو يمثل الأمر بمرآة تعكس داعش والامبريالية، يغيب أهمية السياق والتاريخ اللذين شكلا النمو السريع بشكل ملحوظ لهذا التنظيم.
لماذا ورداً على العدوان الغربي والأوضاع الكارثية في العراق وسوريا وأماكن أخرى في جميع أنحاء المنطقة جعله يأخذ هذا الشكل الأيديولوجي والسياسي المحدد؟ ما الذي يفسر الدعم الذي يلقاه تنظيم داعش على الأرض، في العالم العربي وفي أوروبا؟ باختصار: لماذا الآن؟ ولماذا بهذا الشكل؟
يجب البحث عن الجذور الحقيقية لصعود داعش ضمن مسار الثورات العربية التي اندلعت عام 2011 و2012. مثلت هذه الثورات أملا ضخما. أمل يجب الاستمرار في الدفاع عنه. ثورات تعرضت للقمع وللتقلبات، ولم تتمكن من المضي قدما في أي اتجاه أساسي. في هذه الفجوة ظهرت الجماعات الإسلامية، تعزز وجودها تماما مع كبح الثورات والتطلعات الشعبية بالديمقراطية. وكان ذلك بكل الأحوال لا مفر منه. لكن الصعوبات التي تواجهها الثورات خلقت فراغا، ملأه شيء آخر.
النظرة إلى داعش هي تعبير أيديولوجي لهذا الواقع الجديد. لنكن واضحين، نمو داعش لا يمكن تفسيره ببساطة بأنه نتاج لأيديولوجية أو لدين، كما يعتقد العديد من المعلقين الغربيين. الجذور الاجتماعية والسياسية هي حقيقية جدا وتفسر نمو هذا التنظيم.
ولكن أيضا الأخذ على محمل الجد التعبير الأيديولوجي يساعدنا على فهم عوامل عديدة تتقاطع، الانتشار المدمر للطائفية، والقمع المدمر في سوريا والعراق، وكذلك المصالح في الشرق الأوسط للقوى الإقليمية والعالمية المختلفة، كل ذلك عمل على تغذية نمو داعش.
إنه ديالكتيك التراجع: نمو داعش عززه وغذاه عدم القدرة على تحقيق تطلعات عام 2011، في حين غرقت المنطقة في أزمات متعددة تعمق ذلك. في حين أن الإطار الأيديولوجي لهذه الأزمات الذي يقدمه داعش كاذب، فإنه مع ذلك يظهر للبعض من خلال ارتداد صداها من التجربة المعاشة، وفهم للعالم الذي يفسر الفوضى الظاهرة والدمار. هذه هي الجوانب لهذه العملية التي تعزز بعضها البعض وتجعل الوضع الحالي خطيرا جدا.
شبح عام 2011
الاضطرابات التي بدأت مع المظاهرات في تونس ومصر عامي 2010 و2011، والتي أصابت تردداتها جميع أنحاء المنطقة، وكانت أهم الثورات في الشرق الأوسط منذ خمسة عقود. ومن المهم التذكير بالوعد الأصلي لهذه الحركات، في وقت سارع العديد إلى نعيها منذ البداية – أو حتى أسوأ من ذلك، عندما اعتبروا الحراك الثوري نوعا من المؤامرة أثارها المتآمرون الخارجيون.
هذه المظاهرات، ولأول مرة منذ عدة أجيال، أدخلت إلى النشاط السياسي الملايين من الناس، وهزت بشدة هياكل الدول الراسخة وقبضة الأنظمة القمعية، المتحالفة مع الغرب. الأهم من ذلك، شدد الطابع الإقليمي لهذه الحركات القواسم المشتركة والخبرات المتبادلة للناس في الشرق الأوسط. ويستمر تأثيرها على الوعي السياسي والأشكال التنظيمية في جميع أنحاء العالم.
منذ بداية هذه الانتفاضات، كان من الواضح أن القضية ذهبت إلى أبعد من الكاريكاتور التبسيطي “الديمقراطية ضد الديكتاتورية”، كما اقترح العديد من المعلقين. الأسباب التي دفعت بالناس إلى الشوارع كانت مرتبطة بعمق بأشكال الرأسمالية في المنطقة: عقود على إعادة الهيكلة النيوليبرالية للاقتصاد، وتأثير الأزمات العالمية وكيفية حكم الدول العربية من قبل أنظمة استبدادية، أمنية وعسكرية، بدعم من القوى الغربية.
ينبغي النظر إلى هذه العوامل بمجملها، وليس كأسباب منفصلة أو مجزأة. قد لا يكون المتظاهرون قد اعتبروا بشكل واضح أنه هذه الشمولية هي وراء غضبهم، ولكن الحقيقة الكامنة تعني أن المشاكل العميقة التي يواجهها العالم العربي لن تُحَل عن طريق إزالة الاستبداد لوحده.
لمنع مثل هذا التحدي للبنى السياسية والاقتصادية التي جعلت من النخب، المدعومين من القوى الغربية وحلفائها الإقليميين، يسارعون للتدخل ومحاولة إلغاء إمكانية التغيير. وقد تحقق ذلك بفعل عوامل متنوعة ومجموعة من الفاعلين السياسيين الذين شكلوا سيرورة مناهضة للثورة بشكل مختلف في كل بلد.
على مستوى السياسة الاقتصادية، كان هناك تغييرات، لأن الدائنين الغربيين والمؤسسات المالية الدولية أصروا على استمرار الإصلاحات النيوليبرالية في كل من مصر وتونس والمغرب والأردن. نشر القوانين الجديدة ومراسيم فرض حالات الطوارئ- التي تمنع التظاهرات، والإضرابات والحركات السياسية- اقترنت مع استمرار السياسة الاقتصادية، كانت شرطا أساسيا.
في الوقت عينه، زادت التدخلات السياسية والعسكرية في المنطقة بسرعة. وكان تقسيم ليبيا بسبب التدخل العسكري الغربي المباشر وسحق الانتفاضة في البحرين تحت قيادة السعودية عاملين أساسيين من هذه السيرورة. وكان الانقلاب العسكري في مصر في تموز/يوليو عام 2013 عاملا أساسيا في إعادة بناء أسس الدولة القديمة، مع التأكيد على الدور الخبيث لدول الخليج لصد السيرورة الثورية في مصر. ولعل الأهم من كل ذلك الخراب الاجتماعي والمادي الذي سببه نظام الأسد في سوريا- بما في ذلك وقوع مئات الآلاف من القتلى وملايين المهجرين خارج وداخل سوريا- كل ذلك عزز في جميع أنحاء المنطقة شعورا من اليأس، الذي حل مكان التفاؤل السائد عام 2011.
كان تنظيم داعش وتجسيداته السابقة غائبة عن المراحل الأولى من هذه الانتفاضات- الاحتجاجات الحاشدة والاضرابات وحركات الاحتجاج الإبداعية التي هزت الدول العربية خلال العام 2011. في الواقع، كان تعليق داعش (المسماة وقتها الدولة الاسلامية في العراق) الذي كان ممكنا إثر الإطاحة بالديكتاتور المصري حسني مبارك عبارة عن بيان يناهض العلمانية والديمقراطية والقومية، ناصحا المصريين بعدم “تبديل ما هو جيد بمن هو سيء”.
ولكن عندما تزايدت صعوبة تحقيق التطلعات الأولية بالتغيير الحقيقي، ظهر تنظيم داعش والجماعات الجهادية الأخرى كعارض من أعراض هذا التحول، وكتعبير لتراجع السيرورة الثورية، والإحساس المتنامي بالفوضى. لفهم لماذا حدث هذا، من الضروري إجراء بعض الاستكشاف للأيديولوجيا والنظرة إلى العالم التي يروج لها تنظيم داعش.
أصالة، وحشية، يوتوبيا
غالبا ما تعرف الأصولية الإسلامية بالرغبة في إيجاد الماضي الرائع، المفترض أنه على غرار (في الحالة السنية) الجيل الأول من القادة المسلمين بعد وفاة النبي محمد. تنظيم داعش يدافع عن هذا الهدف ومن خلال الممارسة الاجتماعية والقوانين الدينية التي يدعي بأنه يحكم عبرها.
ولكن حصر داعش بمجرد أنه تعبير عن توسعية القرن السابع سيكون خطأ فادحا. التنظيم أخذ على محمل الجد مشروع بناء الدولة، ويعمل جاهدا لإقامة مختلف البنى المالية والقضائية والإدارية في المناطق التي يسيطر عليها اليوم. على الرغم من أن حدود هذه المناطق تتغير باستمرار، هناك تقديرات مختلفة لوجود نوع من “السيطرة” على نطاق إقليمي واسع يسيطر بحسب بعض التقديرات على أكثر من 10 مليون نسمة.
وكجزء من هذا المشروع الشديد الحداثة، أعطى التنظيم أولوية قصوى لتطوير شبكة متطورة من وسائل الإعلام والدعاية، المتفوقة نوعيا على أمثلة أخرى من هيمنة الإسلاميين، مثل أفغانستان التي تسيطر عليها طالبان، حيث الأشجار مزينة بالتلفزيونات و”اعدامات” الكمبيوتر تبقى الصور الباقية من التسعينيات وأوائل الـ2000ات.
وقد قدر أحد الباحثين بأن المجموعة الإعلامية لداعش تصدر يوميا أربعين تقريرا، من فيديوات وتقارير ومقالات وبرامج صوتية بمختلف اللغات. هذا المستوى من البرمجة يمكن أن يتنافس مع جميع شبكات التلفزة وهو على النقيض من النموذج القديم لتنظيم القاعدة، الذي استند على أشرطة الـ VHS المهربة من جبال أفغانستان إلى قناة الجزيرة، حيث بثها يعتمد على نزوات الصحافيين العدائيين ووكالات الاستخبارات.
الشبكة اللامركزية التي يتم من خلالها بث دعاية تنظيم داعش هي أيضا فريدة من نوعها: حيث يستعمل على مجموعة من الحسابات على التويتر ومواقع مجهولة مثل justpaste.it وarchive.org لنشر إعلامه. الصحافي عبد الباري عطوان الذي أظهر في كتابه طريقة بروز داعش معتمدا على مصادر داخله، زعم أن التنظيم يسيطر على أكثر من مئة ألف حساب على التويتر التي ترسل يوميا وابلا من خمسين ألف تغريدة. عبر هذه الوسائل وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعية هي القنوات التي من خلالها يجند داعش المتطوعين وينشر رسائله.
المنافسة التكنولوجية للتنظيم في هذا المجال معترف بها على نطاق واسع: حيث سماه مؤخرا الرئيس أوباما بـ”مجموعة من القتلة مع وسائل تواصل اجتماعية جيدة”. ولكن استخدام داعش الفعال للتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعية يجب أن ينظر إليه أبعد من مجرد توافر المهارات التكنولوجية عنده أو مجرد رد على الظروف من السرية والمراقبة المستمرة. الأولوية العالية التي يعطيها التنظيم لوسائل التواصل الاجتماعية وإلى التكنولوجيا تشير إلى انشغاله المفرط في الأداء والتعبير عن الذات. في الواقع، من الصعب العثور على كيان سياسي أو ديني في المنطقة يأخذ على محمل الجد مسألة “صفته المميزة” وعرض صورته على العالم بأسره.
في هذا النظام من الرسائل الأيديولوجية يمكن تمييز ثلاث مكونات من خطابه:
- المكون الأول هو ما يميزه بشكل واضح من مجمل الحركة الأصولية: بروز الأصالة الدينية أو ضرورة إعلان وإثبات ولائه بلا هوادة للنص المقدس. في هذا السياق، ما يشكل “أصالته” يجب التأكيد عليه باستمرار وممارسته والدفاع عنه ضد المقاربات المنافسة.
هناك العديد من الأمثلة التي تشير إلى انشغال داعش بهذه المسألة. على سبيل المثال، لاحظ العديد من المعلقين أن التنظيم يولي أهمية غريبة لبلدة دابق الصغيرة الواقعة في شمال سوريا. لا يوجد في دابق أي فائدة عسكرية أو موارد طبيعية. ومع ذلك، فإن مجلة تنظيم داعش الالكترونية تحمل اسم هذا المكان والتنظيم استقبل أعداد كبيرة من المتطوعين عندما أعلن عن معركة الاستيلاء على المدينة. لماذا؟ دابق تشغل مكانة خاصة في علم الأخروية باعتبارها تشكل موقعا للمعركة القادمة مع الجيوش الكافرة معلنة عن بداية نهاية العالم. الاستيلاء على هذه المدينة السورية الصغيرة، يمكِّن تنظيم داعش من أن يسقط نفسه على المسار المتوقع منذ عدة قرون مضت.
وبالمثل، عندما أعلن عن أن مدينة الرقة هي مقره الغربي لقي ذلك صدى قويا عند المسلمين العرب. كانت هذه المدينة مكان إقامة هارون الرشيد، الخليفة العباسي الخامس في السلالة العباسية، الذي يعتبره العديد العصر الذهبي للدين الإسلامي.
- المكون الثاني الأساسي لدعاية داعش هو استخدامه المعروف جدا للفظائع: قطع الرؤوس، والإعدامات وغيرها من المضامين الصادمة التي ميزت التنظيم في كل العالم، على شاشات التلفزيون وأجهزة الكمبيوتر. هذه المواد المروعة تسمح له بالحصول على تغطية إعلامية كاملة وشهرة فورية. قارن/ي ذلك مع تنظيم القاعدة، الذي احتاج إلى عقود وإلى هجمات 11 أيلول للإعلان عن اسمه. لكن الفظاعة هي أكثر من وسيلة لتكون على الصفحة الأولى من الصحف. الفظاعة تستخدم عن عمد لتوليد الخوف.
وقد أثبتت هذه الاستراتيجية فعاليتها بشكل لا يصدق: عندما اقترب التنظيم من مدينة الموصل، في حزيران عام 2014، هرب الجيش العراقي بكل بساطة، تخلى عن ثيابه وعن سلاحه. الأمر الذي سمح للجهاديين بالاستيلاء على عدد لا يحصى من الأسلحة والآليات العسكرية، كما ووفقا لبعض التقارير، على 400 مليون دولار من البنك المركزي العراقي (لا تزال هذه المعلومة غير مؤكدة). وأخيرا، وربما الأهم مما سبق، الاستخدام الواعي للعنف المتزايد هو أحد عناصر التنظيم التي يصفها بأنها استراتيجيته لـ”الاستقطاب” بهدف إشعال حروب طائفية دامية هي أساس توسعه في المنطقة.
- ولكن على عكس الصورة النمطية التي تروجها وسائل الإعلام الغربية، المحتوى الرئيسي لدعاية تنظيم داعش هو أكثر من عادي من العنف الذي سمح له بالتقدم. هذا هو المكون الثالث لدعايته: الموضوع اليوتوبي لتسليط الضوء على المزايا المفترضة لحياة الذين يعيشون في ظل حكم “الخليفة”، وخاصة من خلال اقتصاد مزدهر، ومناظر جميلة وحياة مستقرة.
وقد أظهرت دراسة تحليلا شاملا للانتاج الإعلامي للتنظيم بين منتصف شهري تموز وآب عام 2015 تشير إلى أن أكثر من نصف هذه الانتاجات تركز على هذه المواضيع اليوتوبية. وبالمثل مجلة دابق، السابق ذكرها أعلاه، يغلب عليها هذا الطابع في مواضيعها. هذا العنصر قليل الاستكشاف لفهم كيف يسقط هذا التنظيم نفسه في العالم العربي. وهو من دون شك العنصر الأهم. يبدو أن هذا النهج يتوجه بشكل خاص نحو الجمهور العربي.
وتظهر حسابات التويتر المرتبطة بداعش أهمية الثرثرة التي تبدو في ظاهرها تافهة، ومملة، المتعلقة بالحياة اليومية تحت حكم داعش: إمدادات المياه الجارية، أسواق لمختلف أنواع الخضار والفاكهة، والخبز الطازج، وعيادات الأسنان الجديدة. هذه الملاحظة تؤكد حقيقة لا يمكن إنكارها أن داعش يسوق بشكل واع للمنطقة التي يحكمها بأنها جزيرة سلام واستقرار في وسط عالم عربي يعيش حالة من الفوضى والحرب والاضطرابات.
هذا الأمر مهم لفهم جاذبية داعش لبعض القطاعات من السكان. خلال فترة من الأزمة العميقة، الوعد بتأمين مستوى معين من الأمن هو ما يجعل من داعش تنظيما جذابا (أو على الأقل يجعله يبدو الخيار الأقل سوءا). إذا أردنا أن نفهم كيف تمكن هذا التنظيم من توسيع نطاق عمله خلال العام الماضي، لا بد من دراسة هذا الوعد اليوتوبي، الذي هو مؤشر مهم.
هذا لا يعني أن هيمنة داعش ليست وحشية أو قمعية، خاصة لناحية ضحايا العنف الطائفي، ولكن بدلا من أن هذا ما يظهر بالضبط فراغ وعوده اليوتوبية يمكن العثور على قدر من الأمل.
إدارة “الفوضى المتوحشة”
هذه المكونات الثلاثة لدعاية داعش- الأصالة الدينية والوحشية واليوتوبيا- هي بحد ذاتها انعكاس للأخروية بشكل واسع: تحقيب التاريخ والمستقبل القائم على نهاية وشيكة. هذا هو الفرق الأساسي بين داعش وبقية المجموعات الجهادية، مثل تنظيم القاعدة.
وخلافا لتنظيم القاعدة، يميل داعش إلى التأكيد على متابعة المراحل التاريخية المرتبطة بالحقبة النبوية (دابق واحد من الأمثلة). هذا هو السبب الذي يجعل من مسألة الأصالة مسألة مهمة في دعايته. بطريقة أقل وضوحا، هذه الأخروية تقدم تفسيرا لاستخدام الوحشية واليوتوبيا الواردة أعلاه.
وخير دليل على ذلك يمكن العثور عليه في المرجعية الشعبية للاستراتيجية الجهادية: كتاب “إدارة التوحش. المرحلة التي يمر فيها الإسلام من أجل إقامة الخلافة” الذي نشر لأول مرة على الانترنت باللغة العربية عام 2004 من قبل اسم مستعار هو أبو بكر ناجي. هذا الكتاب لا ينبغي اعتباره (كما هو الحال في بعض التقارير الإعلامية) كسيناريو أو كدليل لاستراتيجيا للمجموعات الجهادية؛ إنما هو نص جاءت شعبيته في هذه الداوئر لأنه يكشف شيء من رؤية للعالم التي ينشرها الفكر الجهادي.
لتلخيصه بسرعة، الهدف الرئيسي من “إدارة التوحش” هو شرح الخطوات التي يجب اتخاذها لوضع حد لهيمنة “القوى العظمى” (في المقام الأول الولايات المتحدة) في المنطقة ولإقامة دولة متوافقة مع مبادئ الشريعة الإسلامية. “إدارة التوحش” يحدد مرحلتين تاريخيتين متميزتين اللتين يجب أن تكتملا قبل التمكن من تأسيس دولة إسلامية.
المرحلة الأولى- “إضعاف المعنويات والاستنزاف”- التي يعتقد الكاتب أنها عملية جارية خلال كتابة كتابه (أوائل الـ2000ات). خلال هذه المرحلة، المهمة تكمن بمضايقة وزعزعة استقرار العدو من خلال “عمليات إضعاف المعنويات”، بما في ذلك الهجمات ضد المراكز السياحية والمناطق ذات الأهمية الاقتصادية (النفط على وجه الخصوص). مثل هذه العمليات تجبر الحكومات العربية على توزيع قوات الأمن الخاصة على مناطق واسعة جدا- عملية مكلفة تجعلهم معرضين حتما لعمليات جديدة. بالإضافة إلى ذلك، القدرة الواضحة للجماعات الجهادية للقيام بمثل هذه العمليات مع إفلاتهم من العقاب سيكون بمثابة دعاية لهم وسيساعدهم ذلك على جذب المزيد من المتطوعين.
الهدف النهائي لهذه العمليات هو خلق حالة من الاضطراب وزعزعة أسس الدولة، التي يصفها الكاتب بمرحلة “الفوضى المتوحشة”. وهي مرحلة لنمو قوي لانعدام الأمن الاجتماعي منه أو الفردي، وغياب الخدمات الاجتماعية الأساسية ونمو مختلف أنواع العنف الاجتماعي. هي مصممة كنتيجة طبيعية لتدمير وانهيار أسس الدولة، التي تتمناها المجموعة الجهادية وتثمنها.
عند الدخول في المرحلة اللاحقة من الفوضى، فإن دور الجهاديين يكون في تولي مسؤولية الوضع “وإدارة والإشراف على التوحش”. وهذا يعني عمليا توفير الخدمات مثل “الغذاء والرعاية الصحية والحفاظ على الأمن والعدل بين الناس الذين يعيشون في مناطق التوحش، وضمان الحدود من الجماعات التي تمنع أي شخص يحاول مهاجمة مناطق التوحش وبناء التحصينات الدفاعية”. “إدارة التوحش” هذه تعكس كيف يرى داعش دوره الحالي في العالم العربي، خاصة في العراق وسوريا، ويساعدنا على فهم لماذا يكتسب موضوع اليوتوبيا أهمية خاصة في دعايته.
بالإضافة إلى ذلك، ضمن مخطط “إدارة التوحش”، فإن دور العنف أمر ضروري أيضا. مرددا صدى استخدام داعش للإرهاب، يقترح كتاب “إدارة التوحش” الاستخدام المفرط والمتعمد والفعال للغاية للعنف، “إذبح العدو وخوفه” يمكن أن يخدم بأن “يفكر الأعداء ألف مرة قبل الهجوم”. وهذا يشمل ما يسمى “تدفيع الثمن” للأفعال، الهادف إلى ردع الهجمات من خلال الخوف من المزيد من الانتقام.
كذلك، تهدف جميع الإجراءات إلى فرض “استقطاب” للمجتمع من خلال استخدام العنف غير المتناسب. كما أشار مؤلف كتاب “إدارة التوحش”: “لجذب الجماهير للنضال الأمر يتطلب المزيد من الإجراءات لتأجيج المعارضة، التي تجبر الناس على المشاركة، الذين، شئنا أم أبينا، عليهم اختيار أحد الجانبين. يجب علينا أن نجعل من هذه المعركة عنيفة جدا، لجهة أن يكون الموت تماما كضربات القلب وأن يدرك الطرفان أن الصراع غالبا ما يؤدي إلى الوفاة”.
هذه الصيغة تفرض الاستنتاج التالي: إن الوضع سيزداد سوءا قبل أن يتحسن. يعترف الكاتب (ويهلل) بهذا المنطق، مشيرا إلى أنه على الرغم من فشل جماعة جهادية في الإدارة المباشرة للتوحش، فإن النتائج لن تكون إلا أفضل: الفشل، يقول، “لا يعني أن تتوقف الأمور هنا، لأن الفشل سيؤدي إلى توحش أكبر”.
هذا يؤكد على الغائية التي لا مفر منها، التي تزدهر في الأوضاع السلبية للغاية، عند وجود دورات من العنف، تتعزز وحتى تتفاقم من بعضها البعض، يصبح ذلك دليلا على صحة هذا المخطط.
العراق بعد الاجتياح والطائفية
هناك صلة واضحة بين رؤية داعش للعالم والانتشار الكارثي للطائفية في كل المنطقة. على الرغم من أن مؤلف كتاب “إدارة التوحش” وقادة الجماعات الجهادية السابقة كانت حريصة على تجنب العقوبات الدينية للعنف بين المسلمين وأدانوا كل استهداف متعمد للمسلمين، كل هذا تغير مع ظهور تنظيم القاعدة في العراق خلال منتصف الـ2000ات. بقيادة الأردني أبو مصعب الزرقاوي، توصل التنظيم إلى استنتاج مفاده أن التفجيرات ضد مناسك الحج والمؤسسات الدينية هو أكثر الأدوات فعالة في الاستقطاب.
في العراق، سعى الزرقاوي بشكل واع لإشعال حرب أهلية بين الشيعة والسنة عبر الشروع بشكل منهجي في سلسلة من الهجمات المدمرة ضد المذهب الشيعي. وقد تسببت هذه الهجمات، إلى جانب نشر شرائط الفيديو للإعدامات المروعة التي أكسبته لقب “شيخ الجزارين”، الأمر الذي سبب غضبا متزايدا من القائدين التاريخيين للقاعدة، أسامة بن لادن وأيمن الظواهري. هذا الأخير كتب رسالة تأنيب، باتت مشهورة، وجهها إلى الزرقاوي عام 2005، حيث اعتبر فيها “مشاهد ذبح الرهائن” والهجمات ضد الشيعة في العراق تكتيكا منفرا للقاعدة الشعبية التي لا غنى عنها لتنظيم القاعدة.
ومع ذلك، وعلى الرغم من احتجاجات الظواهري، فإن مجموعة من العوامل التي لا علاقة لها بالظواهري قد وفرت تربة خصبة للطائفية.
أولا، أدت سياسة “اجتثاث البعث” التي وضعها الاحتلال الأميركي موضع التنفيذ في العراق عام 2003، أدت إلى تهميش عميق لمواطني العراق من المذهب السني. في إطار هذه السياسة، فإن أي شخص كان عضوا في حزب صدام حسين طرد من عمله دون سابق إنذار، ومنع من التوظيف في القطاع العام ومن الحصول على تقاعده.
أشارت العديد من التحليلات في ذلك الوقت، إلى أن ذلك كان وصفة لحصول كارثة. فأغلب الموظفين في القطاع العام كانوا أعضاء في حزب البعث، وبالتالي أدت هذه السياسة إلى طرد الآلاف من المعلمين والأطباء وضباط الشرطة والمسؤولين ذوي الرتب المتدنية. إفراغ الدولة بهذه الطريقة، ضمنت بها الولايات المتحدة انهيار الخدمات الاجتماعية الأساسية- وكان ذلك كارثيا لمجتمع خرج للتو من أكثر من عقدين من العقوبات والحرب.
لم يقتصر تهميش السنة على المجال الاقتصادي. فقد ضاعفت قوات الاحتلال الأميركية هجماتها ضد المدن والقرى التي يقطنها السنة، وألقي بعشرات الآلاف منهم في سجون يديرها الاحتلال، وفيها يمارس العزل والتعذيب “والبيروقراطية التايلورية للاحتجاز” بشكل منتظم.
اقتحم سجن أبو غريب، الأكثر شهرة بين هذه السجون، الوعي الغربي بعد نشر صور تظهر جنودا أميركيين يعذبون سجناء عراقيين. في أعقاب هذه الفضيحة، نقل العديد من السجناء إلى سجن بوكا [جنوب العراق]. في هذا المكان، أنشأ أحد المسجونين، الذي عرف لاحقا باسم أبو بكر البغدادي، علاقة قوية مع زمرة من الضباط البعثيين السابقين الذين وصلوا من سجن أبو غريب.
اليوم، بات البغدادي زعيم داعش ويعمل الضباط السابقون عينهم كمساعدين له وأقرب المستشارين إليه. وبهذه الطريقة، فإن تجربة سجن المعتقلين من قبل الجيش الأميركي لم تعزز فقط الانقسامات الطائفية في البلاد، ولكنها ساهمت أيضا في قيام تنظيم داعش.
واستمرت الانقسامات الطائفية بالتفاقم منذ عام 2006، عندما عقدت الولايات المتحدة اتفاقا ضمنيا مع إيران، وافقت من خلاله على إعطاء طابع مؤسسي للدولة التي يسيطر عليها الشيعة المرتكزة على مجموعة متنوعة من الميليشيات العراقية. وقد تفاقم هذا الوضع أكثر بعد الرحيل الرسمي لقوات الاحتلال الأميركية من العراق عام 2011.
إلى جانب مستوى مرتفع من انعدام الأمن الاجتماعي والاقتصادي، وتهميش السنة، أنتج كل ذلك قاعدة اجتماعية حقيقية جُذِبت إلى داعش بالإضافة إلى عوامل دينية وأيديولوجية. هناك نسبة كبيرة من كوادر داعش كانوا من المسؤولين البعثيين السابقين، وقد جُذِبوا إلى التنظيم جزء من ذلك كان بفعل الحوافز المالية. المصلحة المالية هي أيضا عامل جذب لأولئك الذين هم في أسفل هرمية المنظمة: حيث يقدر أجر المقاتل في التنظيم بين 300-400 دولار بالشهر، أي ضعف أجر مقاتل في الجيش العراقي. كما يهدف السائقون والمهربون الذين ينقلون النفط الذي يستخرجه التنظيم من سوريا إلى العراق، إلى كسب لقمة عيشهم. وما وراء الدوافع الدينية، يقوم مشروع بناء الدولة الاسلامية على أسس جد مادية.
وكتب العديد من المعلقين عن العراق كثيرا أن ما أوصل الأمور إلى هذه النتيجة يعود إلى غباء وغطرسة إدارة بوش والتركة الواضحة من الأخطاء السياسية التي تلت احتلال البلاد. تفترض هذه المقاربة أن الولايات المتحدة طمحت إلى تحقيق عراق مستقر وموحد. ولكن قيام عراق غير طائفي وموحد بقيادة حكومة تتمتع بدعم شعبي مهم كان ليشكل كارثة على المصالح الأميركية في الشرق الأوسط. مثل هذا الاحتمال لم يتم النظر فيه بجدية، وليس من الصعب فهم ذلك، فمنذ البداية كان تفتيت العراق على أسس طائفية النتيجة الأكثر ترجيحا للاحتلال الأميركي (وخاصة لأنه تزامن مع المصالح الإيرانية). إذ لطالما شكلت سياسة “فرق تسد” الوسيلة المفضلة للقوى الاستعمارية.
هذه هي الجذور المادية والسياسية للتحول الطائفي الراهن في المنطقة. وعلى الرغم من ادعاء الدولة الاسلامية، والسعودية وإيران بأن الطائفية ليست نتيجة الانقسامات المذهبية أو العرقية الموجودة في كل مكان، ومنذ أقدم العصور دون تغيير حتى الحقبة الحالية. وكما جادل الشيوعي اللبناني مهدي عامل منذ عقود مضت، لطالما كانت التقنية الحديثة في ممارسة السلطة السياسية، وسيلة من خلالها تحاول الطبقات الحاكمة تأسيس شرعيتها وقاعدتها الاجتماعية، كل ذلك عبر تفتيت أي معارضة شعبية. العراق الخارج من الغزو والصعود اللاحق لتنظيم داعش يقدم تأكيدا مأساويا لهذه الأطروحة.
السعودية، سوريا وداعش
استخدام الدين لدعم القوى الأرضية له، بطبيعة الحال، جذور عميقة في المنطقة. ومن المسلم به اليوم على نطاق واسع أن الجذور التنظيمية للحركات الأصولية الاسلامية (بما في ذلك أسلاف داعش) لها أصول لتحالفات قامت بينها وبين الولايات المتحدة ودول الخليج، وخاصة السعودية، في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
لمواجهة مد الحركات السياسية اليسارية والقومية في المنطقة، نُظِر إلى الاسلام السياسي كقوة موازنة فعالة للوقوف بوجه هذه الحركات التغييرية. وخلال الثمانينات، طبقت هذه السياسة بشكل أكثر اتساقا عبر الدعم الأميركي والسعودي للمحاربين الإسلاميين العرب في أفغانستان. هناك نالت التحضيرات للجهاد المسلح الدعم العملي.
وقد دفع هذا الاستخدام الطويل للأصولية الإسلامية بعض المراقبين إلى القول إن داعش هي أداة دول الخليج. للوهلة الأولى، قد تبدو هذه الحجة سليمة. على الصعيد الأيديولوجي، هناك أوجه شبه وثيقة بين النظام السعودي وداعش. يتقاسم الاثنان تفسيرا متشددا للغاية للعقوبات الاسلامية. في الواقع، إن عمليات قطع الرؤوس وبتر الأطراف التي نفذت في المناطق التي يسيطر عليها داعش لا يمكن العثور على ما يشبهها في أي مكان آخر في المنطقة، ما عدا السعودية. عندما بحث تنظيم داعش عن كتب للمدارس الواقعة تحت سلطته، كانت الإصدارات الوحيدة المتناسبة مع توجهاته تلك الصادرة في السعودية. وكذلك، يمكن ملاحظة أن جزءا من السعوديين يتعاطفون مع داعش، ويتجلى ذلك من خلال مساهمات مالية أو التجند طوعيا في صفوفه.
أكثر من ذلك- وفي حين كانت الأسلحة التي أرسلتها السعودية (وقطر) للجماعات السورية قد وصلت إلى أيدي داعش بفعل الانشقاقات أو الاستيلاء عليها- هناك القليل من الأدلة المقنعة أن داعش قد تلقت تمويلا مباشرا أو سلاحا من السعودية أو أي دولة خليجية أخرى.
على مستوى الخطاب، العلاقة بين الطرفين تقوم على كراهية عميقة وحقد. يعتبر داعش الملكية السعودية أحد أحقر أعدائه وتشكل الإطاحة بحكم آل سعود واحدة من أهداف التنظيم الرئيسية. أما بالنسبة لنظام الحكم في السعودية، الذي لا يتسامح مع أي مرشح آخر لقيادة العالم الإسلامي وهو يخشى مما يمثله تهديد داعش لهيمنته.
إلا أن، صعود قوة داعش له صلة واضحة لقمع نظام الأسد للثورة السورية. بعد مرور بضعة أشهر على بدء الحركة الشعبية، أطلق الأسد سراح المئات من المعتقلين، من ضمنهم جهاديين مدربين تدريبا جيدا، وأصبح أغلبهم قادة ومقاتلين في تنظيمات أصولية إسلامية. وأشار ضباط كبار في المخابرات السورية أن هذه الخطوة كانت محاولة متعمدة من النظام لإذكاء الانقسامات الطائفية وصبغ الانتفاضة بطابع إسلامي.
لحكومة الأسد تاريخ طويل في محاولات التلاعب في هذه المجموعات، بما في ذلك إطلاق سراح المعتقلين خلال الـ2000ات ومساعدة آلاف الجهاديين الذين عبروا الحدود للانضمام إلى تنظيم الزرقاوي في العراق. في الواقع، ولتعميق التعاون مع الولايات المتحدة في مجال الأمن في المنطقة، في شباط/فبراير عام 2010، حاول ضباط مخابرات سوريون التسويق لقدرتهم على التسلل والتلاعب في المجموعات الجهادية.
وليس مستغربا أنه عندما تعرض المتظاهرون السوريون للقصف بالمدفعية والدبابات وبالهجمات الجوية العشوائية لجيش الأسد، تحول جزء منهم إلى المجموعات- الجهادية- الأفضل تدريبا وتسليحا. هذه المجموعات تضم جبهة النصرة، منظمة أنشئت بعد أن أرسلت الدولة الاسلامية في العراق مسلحين إلى سوريا نهاية عام 2011، وكان ظهورها الأول في كانون الثاني/يناير عام 2012.
خلال العام 2013، وفي وقت تفاقمت فيه أعمال العنف والتهجير، تعرضت جبهة النصرة لانشقاق مجموعة أساسية فيها حول مسألة التوجه الاستراتيجي: هل ينبغي أن تركز على الاشتباك مع الجيش السوري، والتقليل من الانقسامات الطائفية، أو إعطاء الأولوية للسيطرة الجغرافية على أساس الشريعة الاسلامية والسعي إلى استراتيجية الاستقطاب ضد كل المجموعات؟، الدولة الاسلامية في العراق اختارت المسار الثاني، معلنة طرد كوادر جبهة النصرة المتمردين في 9 نيسان عام 2013 وتأسيس الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش).
تعكس هذه الأولويات الاستراتيجية- وخلافا للاعتقاد الشائع- أن داعش تجنب إلى حد كبير الاشتباك المباشر مع نظام الأسد.
بدلا من ذلك، استفاد داعش من سيطرته على طرق التهريب والمعابر الحدودية بين العراق وسوريا، سعى داعش قبل كل شيء ضمان توسعه الجغرافي (وهذا ما سمح له بإقامة عمق استراتيجي وآمان ناجم عن رفضه لوجود أي مجموعة مسلحة أخرى غيره). في هذا المسعى، شكل المجلس العسكري للضباط البعثيين السابقين- المجموعة المعتقلة سابقا في سجن بوكا- مفتاح النجاح، وكان التركيز على السيطرة على طرق الإمداد التي تربط المناطق الاستراتيجية، وتأمين حقول النفط والسيطرة على البنى التحتية الأساسية (وخاصة إنتاج المياه والكهرباء)، بدلا من هاجس الحفاظ على نقاط ثابتة في حد ذاتها.
لم تسمح هذه الاستراتيجية فقط بإغناء التنظيم (الذي يسيطر على 9 حقول نفط في سوريا والعراق، وتقدر مبيعات النفط المحتملة في اليوم الواحد 1،5 مليون دولار). إنما جعلت بقية المناطق السورية (سواء تلك الخاضعة لسيطرة النظام أو غير الخاضعة له)، تعتمد بشدة على داعش لتزويدها بالطاقة والكهرباء.
وإذا أضفنا المبالغ الضخمة التي تحصلها بفعل عمليات الخطف والابتزاز وبيع التحف والتهريب والضرائب، باتت الدولة الاسلامية، على العكس من معظم دول الشرق الأوسط، مستقلة بثروتها، ومكتفية ذاتيا من الناحية المالية وتدير أراضيها متعمدة انتهاك الحدود التي فرضتها القوى الاستعمارية في بداية القرن العشرين.
مزيد من التدخلات؟
في هذه الظروف، الدعوات للتدخل العسكري الغربي في المنطقة لن تؤدي إلا إلى تدعيم هذا التنظيم. خاصة لأن الحرب والاحتلال قد وفرا تربة خصبة لنمو الدولة الاسلامية، ومن الواضح جدا أن هذا النوع من الاستجابة ستؤدي إلى تفاقم الوضع. في الواقع، وفقا لاستراتيجية الاستقطاب، فإن هجمات داعش الأخيرة [في باريس] هدفت إلى مثل هذه النتيجة: زيادة التدخلات الغربية في المنطقة بهدف تعميق الشعور بالأزمة والفوضى.
معارضة التدخل الأجنبي يجب أن لا تقتصر على معارضة تدخل الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية.
وعلى الرغم من الادعاءات الرسمية، بدأ القصف الروسي في سوريا في 30 أيلول/سبتمبر الماضي وتجنب إلى حد كبير المناطق التي يسيطر عليها داعش وتركز بدلا من ذلك على تلك التي تتواجد فيها جماعات المعارضة. هذه الهجمات الروسية- المدعومة على الأرض من مقاتلي حزب الله وقوات إيرانية والميليشيات العراقية والجيش السوري- هدفت إلى تعزيز موقف الأسد وتمكينه من أخذ زمام المبادرة فيما يبدو اتفاق يحضر له بين الجهات الأساسية الفاعلة الدولية والإقليمية في سوريا. في هذا السياق، إن وجود داعش يخدم حاليا ادعاء الأسد القائل أنه “يحارب الإرهاب”، وهي وظيفة تتضح لدول غربية عديدة تحولت الآن إلى دعم حكومته على أنها “شر لا بد منه”.
بالطبع يمكن أن يتغير التوجه العسكري الروسي في أعقاب تفجيرات سيناء وبيروت وباريس، ولكن في الحقيقة هناك منذ فترة نوع من الاسترخاء الضمني بين حكومة الأسد وداعش يخدم مصالح الجانبين.
في مثل هذه الحالة، هناك عدد قليل من الأجوبة السهلة لليسار. نعم نحن بحاجة إلى رؤى بديلة، جذرية، مستندة على متطلبات الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، فضلا عن رفض الطائفية. ولكن ثمة ضرورة لإجراء تقييم موضوعي لميزان القوى بالإضافة إلى إجراء نوع من المحاسبة لما جرى من أخطاء خلال السنوات الأخيرة.
يجب أن نكون حذرين من التحليلات التي تربط بشكل تلقائي بين صعود داعش ومؤامرات الحرب والامبريالية. بكل حال من الأحوال هذه النتيجة لا مفر منها. على عكس من انتفاضات عام 2011- وفشلها في تحدي جذور الحكم الاستبدادي- عثر داعش على البيئة التي تسمح له بالنمو والازدهار.
السياسة لا تقبل الفراغ، ومع تراجع التعبئة الشعبية والديمقراطية على مدى السنوات الثلاث الماضية، كان داعش واحدا من القوى التي تمكنت من قطف ثمار التراجع. كطفيلي، استفاد داعش من انفجار العنف الطائفي- الذي كانت [ولا زالت] تغذيه الأنظمة الحاكمة في المنطقة- عثر على موطئ قدم له في العراق في البداية، ومن ثم في سوريا. في هذين البلدين، وجد التنظيم (وساعد على تحققه) واقعا يتناسب مع نمطه المروع لـ”إدارة التوحش”.
ولكن على الرغم من خراب الأوضاع الواضح، هناك أسباب للأمل.
في هذه الظروف الصعبة للغاية، تواجه القوى المحلية داعش- والأهم من ذلك، هو أنها تتألف من الحركات الكردية (التي تتعرض للقمع من الحكومة التركية) ومن مجموعات معارضة سورية. في الوقت عينه، تبرز حركات اجتماعية وسياسية شجاعة في العراق وسوريا ولبنان ومصر وفي كل مكان تستمر في تحدي منطق الطائفية وتدل على أن النضال من أجل بديل تقدمي ما زال حيا.
داعش يمكنه التبشير بمشروع يوتوبي للاستقرار والازدهار، لكنه أبعد من أن يكون واقعيا على الأرض. يجب علينا أن نكون واثقين تماما من أنه سيشهد ثورات داخلية، تماما كتلك التي شهدتها “الدول” الإسلامية.
علاوة على ذلك، إذا فهمنا صعود داعش من خلال عدسة تراجعه، يمكننا أن نكون واثقين إلى حد ما أن التنظيم لا يقدم أي جواب فعال للوضع الحالي في المنطقة. ولا يمثل أبدا أي قوة مواجهة للامبريالية، ولا يشكل مسارا معقولا لشرق أوسط محرر من الهيمنة والقمع، سواء المحلي أو الدولي.
على الرغم من كل النكسات في السنوات الأخيرة، لم يتم تدمير النمو المحتمل لبديل يساري حقيقي، والأهم كل ذلك، الضروري أكثر من أي وقت مضى.
=====================
* نشر النص الأصلي باللغة الإنكليزية في موقع jacobin mag بتاريخ 3 كانون الأول/ ديسمبر عام 2015، تجدونه أيضا باللغة الفرنسية في موقع inprecor والمنشور فيه بشهر كانون الثاني/ يناير عام 2016
#آدم_هنية (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|