|
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 16
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 5076 - 2016 / 2 / 16 - 13:54
المحور:
الادب والفن
2 – فترة الكاتب والمقاتل
بيروت: حركة اجتماعية، سياسية، ثقافية
(أ1) عائد إلى حيفا الأعمى والأطرش لاحظنا أن التطورين الإيديولوجي والسياسي لغسان كنفاني قد رافقا التطورين التاريخي والاجتماعي للقضية الفلسطينية، وبالتالي تطور الموضوعات الرئيسية في أعماله. في هذه المرحلة التي تحددت فيها المعطيات التاريخية للثورة، تأتي موضوعة المقاتل كتعبير موضوعي وحي للواقع التاريخي المعاصر، وتتعدد جوانبها ليأخذ كل جانب قسمًا من إنتاج هذه المرحلة يكمل بعضه البعض، هذه الإنتاجات التي ترتقي صعودًا نحو مفهوم اجتماعي عميق للثورة، فكيف يدرك القارئ هذا المفهوم؟ أولاً وقبل كل شيء، نريد أن نفرق بين المفهوم، أيًا كان المفهوم، والتعبير الأدبي عن المفهوم. من هذه الناحية، ليس المشكل استنباط دوافع الراوي، كما نرى رؤية رولان بارت، ولا الآثار التي يُحْدِثُها الروْيُ على القارئ، وإنما وصف الكود الذي يُبَلَّغان إياه طوال الرواية. في كل مرة يتوقف الراوي فيها عن "التمثيل"، ويأتي بوقائع يعرفها تمام المعرفة، لكن القارئ يجهلها، تنتج عن ذلك إشارة للقارئ، فلا معنى لأن يعطي الراوي لنفسه معلومة يعرفها. على هذا الأساس، المعلومة من الراوي، والإشارة إلى القارئ، تقوم العلاقة بين القارئ والكاتب، فالراوي تحت تعدد أشكاله هو الكاتب في نهاية المطاف، علاقة تتكون حسب معلومات تتعلق برمز هو الكود يتبادلانها، أو برموز هي الكودات، وهي خمسة: تفسيرية، دلالية، رمزية، لقطاتية، ثقافية، فيتحول الأدب من كونه وصفًا إلى كونه عملاً متعديًا، عمل يتعدى إلى شيءٍ خارجٍ مؤثرًا فيه. هذه هي كل العلاقة القائمة بين كنفاني وقارئه، علاقة متعدية، فأدبه عامةً عمل متعدٍ، يعتمد النُّطق حتى في أكثر حالاته وصفًا، وروايته "عائد إلى حيفا" خاصةً، المكتوبة عام 1969، تعتمد النُّطق، كذلك روايته "الأعمى والأطرش" المكتوبة عام 1972، هاتان الروايتان اللتان تنتميان إلى هذه الفترة رغم صدورهما في تاريخين متباعدين. في الرواية الأولى، يذهب البطل، بعد هزيمة 1967، بصحبة زوجته إلى حيفا بحثًا عن ابنه الذي تركه رغمًا منه في المهد صغيرًا، وهاجر عام 1948. عندما يصل بيته، يجد فيه عجوزًا إسرائيلية أشرفت على تربية الطفل، فنشأ وترعرع في كنفها، ولم يقبل دونها أمًا، ولا دون زوجها أبًا، وصار جنديًا في الجيش الإسرائيلي. الأهم من كل شيء هنا فعل التعدي للكودات في رموزها السابقة، القائم بين الكاتب والقارئ، على شكل معلومات يجهلها هذا الأخير، وتبعًا لفعل التعدي تبين أبواب مدينة حيفا المفتوحة للمهزومين كصورة فنية. لكننا نريد أن نلح على صفة المنطوق لأعمال كنفاني، وبالتالي على "شعبيتها" -أنا لا أرى في شعبيتها امتداحًا بوصفها تنتمي إلى الابتداع لا الإبداع- عندما نعلم أن البطل، وهو في طريقه إلى حيفا، كان يتحدث طوال الوقت عن بيته وابنه والبحر، عن الماضي الذي فتحت النكسة بابه على مصراعيه، والذي يجد البطل نفسه مكرهًا على الدخول فيه. لكن العودة إلى الماضي بشكل حقيقي فعلي لا حُلمي، ستنكشف دونها الحقيقة، عندما نسمع الراوي يقول: "كنت أتساءل فقط، أفتش عن فلسطين الحقيقية، فلسطين التي هي أكثر من ذاكرة، أكثر من ريشة طاووس، أكثر من ولد..." (72) فلسطين المنطوقة، ففي النُّطق، في الكلام، يحاول الناطق (لِنُذَكِّر من ناحية أخرى أن كنفاني الناطق الرسمي للجبهة الشعبية) أن يصنع حاضرًا "ثوريًا" يتطابق فيه كل الخطاب والفعل المحرر إياه، عندما يتمنى أن يكون ابنه الثاني قد انخرط في حركة المقاومة، وأصبح فدائيًا. إن دافع الانخراط في صفوف الثورة لهو جانب من جوانب موضوعة المقاتل، وهو تأكيد على عدم تكرار خطأ 48، إنه يقيم الفرق بين الهزيمتين، هزيمة 48 وهزيمة 67، ليقول إن الماضي المكبِّل انتهى دون رجعة، وإن الحاضر المحرِّر مليء بالأمل، والهزيمة هزيمة للهزيمة، فلا رحيل جديد، ولا شتات آخر، بل تنظيم واستعداد، ما كانت تفترضه ظروف حركة المقاومة آنذاك، التي هي ظروف غش واحتيال، إلى آخر نظام النُّطق، فكل المستوى السردي، كما نرى رؤية رولان بارت، مشغول بإشارات عملية السرد، وكل الرموز التي ترجع إلى الوظائف والأفعال في التوصيل السردي تتركز على الكاتب وقارئه. وفي الوقت الذي يحصل فيه الطلاق النُّطقي (طالق بالثلاثة!) بين الفلسطيني والماضي الوهمي الذي أنتجته النكبة، يجتاز الفلسطيني، بدافع كودات أدب شفهي من صيغ ابتدائية وبروتوكولات تقليدية للتمثيل الأدبي، يجتاز بؤس المخيم واغترابه المتمثل بالعمى والطرش. في رواية "الأعمى والأطرش"، لا يعبر كنفاني عن نفسه بصفته كاتبًا لأجمل الحكايات والقصص، ولكن بصفته أفضل من يتحكم بالكود الذي يتقاسم استعماله مع قرائه، كما نرى رؤية رولان بارت. فالأعمى كود، والأطرش كود، يطمعان في الشفاء على يد أحد الأولياء الدجالين، ويكتشفان أن ذلك وهم بوهم، عند لحظة حادة من الشعور بالوعي، وأن كل ما هو غيبي لا صلة له بالواقع، كما أن الخيار الوحيد هو الثورة. المستوى السردي هنا واضح بقوانينه "التعسفية"، لكنه أدب النُّطق، من الصعب أن نفهمه بلا إشارات كودية للرواية. لهذا نرى أن صورة الليل والصمت تحت كود العمى وكود الطرش تحتوي ضمنيًا على صورة النهار والصراخ اللذين يعنيان الحياة الجديدة والغضب المفجر لروح الحياة، كتأويل "براني" يكمن فيه الدافع المسيطر لتدخلات الكاتب، في كَوْدَدَة لبداية روايته ونهايتها. وهكذا فقد: 1 – تحددت الحركة الاجتماعية على مستوى السرد بإدراك الشروط الفردية لحالة البؤس، نحو إدراك جماعي عندما نقرأ: "نستطيع مثلاً أن نذهب، فنحطم قبر الولي... نستطيع أن نذهب، فنضرب مصطفى (مدير مكتب الإغاثة)، ونرغمه على الزواج من زينة (التي اعتدى عليها)، نستطيع أن نلقي خطابًا في جموع اللاجئين... نستطيع أن نفعل ذلك وأكثر، نستطيع أن نعود إلى الطيرة (في إسرائيل) أَلا نستطيع؟" (73) سؤال كهذا لا يشكك في كل تلك الأفعال فحسب، بل ويطرح مسألة كتابة هذه الرواية بمجموعها وبكل أدوارها وليس فقط بدور الإبلاغ. 2 – تحددت الحركة السياسية على مستوى السرد بالمقاومة المعقودة باستراتيجية الحرب: "تستطيعان البقاء مؤقتًا في بيتنا، فذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب... أرجو أن يكون خالد قد ذهب ليشارك في العمل الفدائي." (74) رجاء كهذا لا يتجاوز مضامين الرواية وأشكالها السردية فحسب، بل ويذهب بتحليلنا تحليل رولان بارت إلى أقصى كود سردي نستطيع الوصول إليه. 3 – تحددت الحركة الثقافية على مستوى السرد بوضع حد للمعايير الغيبية، وبالحقيقة الكامنة في جمع الإرادة والاستعداد في اللحظة التي نقرأ فيها: "ورأيت بعين الحقيقة ما رأيته ليلة أمس مائة مرة بعين الحُلم، إنهم يجمعون إرادتهم في أكتافهم وراء هذا الباب. يكورون قبضاتهم، فتصبح مثل الصخور في صفد، ويستعدون." (75) استعداد كهذا لا يجعل السرد قادرًا على استقبال معناه من العالم الذي ينهل منه فحسب، بل وما وراء المستوى السردي يبدأ العالم، بمعنى –يقول العالم اللساني الفرنسي- أنظمة أخرى (اقتصادية، اجتماعية، إيديولوجية...)، حدودها لم تعد فقط الرواية، وإنما عناصر من نوع آخر (وقائع تاريخية، تحديدات، سلوكات، إلى آخره).
المراجع (76) غسان كنفاني: عائد إلى حيفا، المجلد الأول، دار الطليعة، بيروت 1972، ص 411. (77) غسان كنفاني: الأعمى والأطرش، المجلد الأول، دار الطليعة، بيروت 1972، ص 544. (78) غسان كنفاني: الأعمى والأطرش، ص 531.
يتبع (أ2) العاشق برقوق نيسان
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 15
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 14
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 13
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 12
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 10
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 9
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 8
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 7
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 6
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 5
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 4
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 3
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 2
-
الحداثة الزرقاء دراسة في أدب غسان كنفاني 1
-
رعب - المشاهد الكاملة
-
رعب - المشهد العاشر
-
رعب - المشهد التاسع
-
رعب - المشهد الثامن
-
رعب - المشهد السابع
-
رعب - المشهد السادس
المزيد.....
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|