|
الأزمة في الماركسية وظيفة وأداة - حوار مع جورج لابيكا
حسان خالد شاتيلا
الحوار المتمدن-العدد: 5076 - 2016 / 2 / 16 - 23:47
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
خامسا: الأزمــة فــي الماركســـية وظـــيفة وأداة حوار مع جورج لابيكا حسان خالد شاتيلا أولاً -الانحراف الإصلاحي لدى الماركسيين: في الديمقراطية والثورة 1/ الشيوعية والماركسية زوجان يفترقان أحيانا، إن لم يكن في كثير من الأحيان، بل وإنهما في حالة طلاق أكثر من مرة. *** هذه المسألة موروثة عن الماضي البعيد. إذ أن الحركات الشيوعية السابقة لماركس، وكانت تسمي نفسها شيوعية، ومنها الاشتراكيين الطوباويين. ولقد اعترف البيان الشيوعي بهم. وإذا ما عدنا إلى الماضي البعيد فإننا نلقى شكلا من الشيوعية في جمهورية أفلاطون. والبيان الشيوعي ينوِّه بذلك. من جهة أخرى، لمَّا كان ماركس وإنجلز شابين كانا يعتقدان أن "العصبة الشيوعية" la Ligue communiste انحرفت وضلت طريقها. وبوجه خاص بسبب انحراف فايتلينك Veitlingوالاشتراكية الدينية، حيث أن الحب برأيهم هو المقولة الأساسية التي توحِّد الناس. وكان ماركس يَعتَبر هؤلاء غير شيوعيين. ولم يكن يريد أن يُقيم معهم أية علاقة. وعندما انتقد ماركس العصبة الشيوعية، وجرَّ وراءه إنجلز، فقد رد الاعتبار لمصطلح الشيوعية، فأصبحت الماركسية على هذا النحو تعني ما نحن نسمِّيه اليوم الشيوعية العلمية مقابل الشيوعية الطوباوية. إن الماركسية قرينة للشيوعية بدون انفصال، وإن كانت الشيوعية سابقة من حيث التاريخ على الماركسية. فالماركسية شكل من أشكال الشيوعية. الشكل العلمي الذي يَستَند إلى المادية التاريخية، والتي تَفرض نفسها بوصفها قطيعة مع ما سبقها من أشكال وأفكار شيوعية. وأقرب هذه الحالات من الشيوعية إلى ماركس هي تلك التي كان ينادي بها إتيين كابيه Etienne Cabet في فرنسا، وفايتلينغ فيلهيلم Weitling Wilhelm في ألمانيا اللذين يعتقدان أن الشيوعية شكل ديني. وكانت "عصبة الشيوعيين" عَرِفَت في مطلع تأسيسها أشكالا من الشيوعية قريبة من المسيحية إلى حد كبير. وكانت تنادي بتعاليم المحبة والتضامن. الأمر الذي كان يَحمل ماركس في حينه على رفض تسمية نفسه بالشيوعي. لكن ماركس برفقة إنجلز حَوَّل في ما بعد "عصبة الشيوعيين" عبر "البيان الشيوعي" الذي وَضَع البروليتاريا، وصراع الطبقات، ومكسب الديمقراطية في مقدمة الساحة على أنها مقومات للشيوعية. 2- أخَذَت الأزمة في الماركسية منذ بدايتها منحى داخليا وثيق الصلة بإستراتيجية الثورة / الديمقراطية. *** تعود بنا هذه الأزمة إلى الإصلاحية. إن الأممية الثانية ، أيا كانت المفاهيم التي سادت فيها، وأيا كانت الدوافع وراء تأسيسها، فإن الأحزاب هي التي أسَّستها وليس الحركات القومية كل في وطنه. ها هنا توجد نقطة الانطلاق في الأممية الثانية نحو الدوغمائية التي انحرفت بالماركسية أحيانا في منحى وثوقي. حيث تكاثرت المطولات والموجزات ومؤلفات الدليل في الماركسية. وأصبحت الأحزاب كلها تتصرف الواحدة كالأخرى، صورة طبق الأصل عن غيرها من أحزاب الأممية الثانية، وعلى رأس هذه الأحزاب ثمة قيادة هي أقوى التكوينات السياسية، ألا وهي الاشتراكية الديمقراطية الألمانية يتقدّمهم كاوتسكي والآخرون. ولما كانت ألمانيا أكثر تقدُّما من الناحية الصناعية من غيرها، وكانت البنى السياسية الفوقية أحرزَت تقدُّما على طريق الاقتراع الانتخابي العام، فإن الاشتراكية الديمقراطية تخلَّت عن الثورة، أي أنها تبنَّت الإصلاحية. الأمر الذي قاد لينين والبلاشفة إلى الرد مُعْتَبرين أن مواقف الأممية الثانية إصلاحية ورجعية. وفي هذا السياق يأتي كل ما جاء به كاوتسكي إلى الأممية الثانية. في هذه المواجهة قراءة مزدوجة للتاريخ. فتاريخ ألمانيا هنا ذو قراءتين. الأولى إصلاحية، والثانية ثورية. فالأولى تقول إن تراكم الإصلاحات يودي إلى الثورة. وهي أُطروحات من ابتكار وتأليف مُنَظِّرين في فرنسا وألمانيا. والقراءة الثانية تقول إن أي إصلاح لن يقود – حسب رأي البلاشفة - إلى الانتقال الكيفي نحو الثورة. وإن هاتين القراءتين تتكرران بصورة مستدمية. ففي فرنسا ظهر دعاة الممكن Les Possibilistes و les Guédiste)، وفي روسيا البلاشفة والمناشفة. وهذه ثابتة مستمرة تراها اليوم مع الشيوعيين والاشتراكيين، وإن كان الشيوعيون اليوم لا يختلفون كثيرا عن الاشتراكيين. وتأخذ الإصلاحية شكلا ديمقراطيا طالما هي تعتقد أن الديمقراطية مؤاتيه للانتقال الكيفي. هاهنا تصبح الديمقراطية مثالا أعلى لا يمت للسياسة والتاريخ بصلة. وهو الأمرالذي جعل من بعض الأحزاب الشيوعية أحزابا إصلاحية طالما هي تتمسك بمثل هذا المثل الأعلى. 3- ثمة أزمة ملازمة للماركسية منذ نشأتها الأولى من جراء الانحراف الإصلاحي، فهل عَرَفت الماركسية أزمات غير تلك التي تعود إلى استراتيجية الديمقراطية والثورة؟ *** تَصعب العودة إلى تاريخ الأمميات بالتفصيل. وفي ما يتعلق بالأممية الثانية، وبالمقارنة مع سابقتها الأممية الأولى، تتميَّز بخاصِّيتين. الأولى تتعلق بطبيعتها. فإذا كانت الأممية الأولى جَمَعَت بين جماعات وقوميات كانت تتوفر لديها العزيمة الكافية من أجل تشييد قوانين وأنظمة داخلية للأممية العمالية، وكان بالإمكان أن يُمَثِّلَ بلد واحد عددا من الجمعيات والجماعات، فإن الأممية الثانية أَخَذَت بقاعدة تَمنَح لكل بلد ممثِّلا واحدا فقط، أو حزبا اشتراكيا واحدا عن كل بلد. وإن مثل هذا التنظيم مَنَحَ الأممية الثانية شكلا ما. ولما كان توازن القوى بين هذه الأحزاب مختلا، طالما هذه الأحزاب غير متساوية من حيث قوِّتها وأهمِّيتها، فإن الأحزاب الكبرى، وفي مقدمتها الاشتراكية الديمقراطية الألمانية، مارست هيمنة على الأحزاب الصغيرة، وعلى الأمم الثانية. وكان الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا أقوى هذه الأحزاب على الإطلاق. وكان كارل كاوتسكي هو منفِّذ الوصيَّة التي كان ماركس وإنجلز عهدا بها إليه في ما يتعلق بالأممية الثانية، وبهذا شكَّل الوجه البارز في تمثيل الأممية الثانية. والخاصية الثانية للأممية الثانية بالمقارنة مع الأممية الأولى هي موقعها في سياق تاريخي يتميَّز بتطور الرأسمالية والديمقراطية البورجوازية. فبخلاف الأممية الأولى، التي كانت وثيقة الصلة بالصراع الطبقي والنزاعات المجتمعية والسياسية، وفي مقدِّمتها كومونة باريس التي قَتَلَت الأممية الأولى، فإن الأممية الثانية تأتي في سياق أوروبي يَشهَد بوجه خاص في ألمانيا انتخاب عدد من ممثلي الاشتراكية الديمقرطية إلى البرلمان الألماني. الأمر الذي فَتَح الآفاق أمام سياسة الطريق السلمي إلى الاشتراكية عبر البرلمان. وقد اختلط هذان الأمران في ما بينهما، الطريق السلمي والبرلمان كممر نحو الاشتراكية، حتى أن إنجلز تحت ضغط قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي اضطر إلى تحرير نص يدافع فيه عن فكرة مؤدَّاها أن زمن الحواجز الذي كان ظَهَرَ في العام 1848 في فرنسا قد انتهى، وأن المطلوب اليوم أن تَستَلم الاشتراكية الديمقراطية السلطة في ألمانيا بفضل الديمقراطية البرلمانية. وكان ماركس في حينه قد توفي، في ما كان إنجلز عندما كتب هذا النص يشرف بنفسه على الأممية الثانية. إدوارد برلشتاين، وكارل كاوتسكي هما في مقدِّمة أُولئك الذين بلوروا هذا الطريق السلمي، الديمقراطي والبرلماني، إلى الاشتراكية. وقد بيَّن الأول أن زمن الثورات قد انتهى، وأن من الضروري مراجعة النظرية الماركسية في ضوء نهاية العنف الثوري. وبرنشتاين يُسَجِّل هنا بداية التحريفية والمراجعة بالمعنى القدحي للكلمة، طالما أنه يدعو إلى مراجعة أعمال ماركس والعدول عنها. ثم أصبح هذا التفسير التحريفي سائداً في الأممية الثانية. وقاد إلى انقسامات في الحركة العمالية. وَقَعَت هذه الانقسامات تحت تأثير الانتماء القومي لمختلف الحالات الديمقراطية في العالم. ففي ألمانيا، على سبيل المثال، كان السائد هو مستقبل استلام السلطة عن طريق البرلمان. إلا أن مثل هذا الطريق لم يكن متوفِّرا في روسيا أو فرنسا أو إيطاليا. وما أن اندلعت الحرب العالمية الأولى حتى تعمَّقَت الخلافات والانقسامات ما بين أحزاب الأممية الثانية. فقد بيَّنَت الحرب العالمية الأولى أن الطبقة العاملة في بلدانها، كل على حدة، أصبحت تحت تأثير الرأسمالية معادية بعضها للبعض الآخر. إلى أن انتهى الأمر بالأممية الثانية إلى الانقسام بمبادرة من البلاشفة في مؤتمر Zimmerwald، حيث دعا هؤلاء إلى التنديد بالحروب الرأسمالية. وبمعنى آخر فإن نهاية الأممية الثانية تؤكد مجدَّدا على الصراع الطبقي الذي كان التحريفيُّون فقدوا كل أثر له طالما أنهم كانوا يدعون إلى تحالفات مع البورجوازية. ثانيا: الأزمــة جــزء لا يتجــزأ مــن الماركســـية 1/ الأزمة جزء لا يتجزأ من النمط الوظيفي للعمل الماركسي، ولنتذكر أن مصطلح الماركسية نفسه كان مثار جدل، علما أن المصطلح يَحمل معه تناقضاته ما دامت الفيزياء لم تُسمِّ النيوتينية أو الأينشتانية. *** هذه بالفعل هي أول أزمة نظرية وسياسية تجتاز الماركسية، علما أن الأزمة جزء لا يتجزأ من النمط الوظيفي للعمل الماركسي. وكانت الفترة التي عاصرت ماركس عرفت أزمات. ولنذكر أن مصطلح الماركسية نفسه كان مثار جدل لأن التسمية هي من ابتكار أعداء الماركسية وليس أنصارها. وكما يقول لينين إن أتباع ماركس اَخَذوا بمصطلح الماركسية من أجل الإشارة إلى النظرية، وذلك لغياب أي مصطلح آخر يحمل هذه الدلالة. علما أن المصطلح يَحمل معه تناقضاته ما دامت الفيزياء لم تُسمِّ النيوتينية أو الأينشتانية، كما أسلفنا سابقا لدى الحديث عن الماركسية من حيث هي علم. لكن الأزمات أسهمت دوما في إحياء الماركسية، لأن هذه الأخيرة مسار علمي مُثْقَل بالصراع الطبقي، أي أنه لا يملك بيده مصيره، وذلك على النقيض من النظرية الفلسفية، من حيث هي مذهب ونظام أفكار. فعندما رأى ماركس أن الرهانات والخلافات تدور حول مصطلح "الماركسية" و "الماركسي"، أعلن بنفسه أنه ليس ماركسيا، ما دامت الحالة على هذه الدرجة من الخلافات. إن هذا المصطلح استولى عليه كما هو معروف لدى بعض دارسي الماركسية. وتَعرِفُ الماركسية منذ البدء حالات من الأزمة في فترات معيَّنة. ومنها حالة الاشتراكية الديمقراطية كما أسلفنا، والتي تنادي بالطريق السلمي إلى الاشتراكية عبر الديمقراطية البرلمانية. كما عرِفَت الماركسية غير هذه من الأزمات. فالتحريفيُّون فرضوا قراءة جديدة لمختلف أوجه الماركسية، من الفلسفة إلى المنهج، فالمسألة المادية، والمثالية والديالكتيك. إنهم، وعلى رأسهم كاوتسكي، فرضوا نظرية أَرسَت أُسس النظرية الميكانيكية، والدوغمائية، والاقتصادوية. وكانت قراءة هؤلاء لأعمال ماركس تأخذ حرفيا بالأطروحة التي تقول إن الاقتصاد هو العامل المحدِّد أو المُقرِّر الأعلى للحتمية في التاريخ والمجتمع، وإن التحولات الاقتصادية ما أن تحدُث حتى يلحق بها كل ما عداها في المجتمع، من سياسة، وثقافة، إلخ. الأمر الذي حَمَل لينين خلال السنوات الأخيرة من حياته على التوكيد بأن ما تنساه الاقتصادوية هو أولا أن فعل الحتمية الاقتصادية في حالة ما يختلف عن مبدأ العلِّية الحتمية الصرفة حسب ما نراها في علوم الطبيعة، وأن الاقتصادوية ثانيا تنفي بصورة كاملة الديالكتيك من حيث أن أول مَظْهَر له تراه مجسَّدا في الواقع الملموس عبر صراع الطبقات. وإن مثل هذا النسيان برأي إنجلز يعادل نسيان صراع الطبقات. وكما قلت قبل قليل، فإن الأزمات تُحيِّي الماركسية دوما لأن هذه الأخيرة مسار مادي مُثْقَل بصراع الطبقات. وقد أَعطت هذه الحالات من تحريف النظرية أشكالا مختلفة من الانحرافات، ومنها الماركسية بصيغة الجمع، أو الماركسيات. وأنا أرى كما أسلفنا سابقا أن الماركسية واحدة طالما هي مقترنة بالتاريخ من حيث هو مادة وعلم، تاريخ من موازين القوى وصراع الطبقات. بيد أن صيغة الجمع مشروعة إذا ما تحدَّثنا عن الشيوعية والاشتراكية اللتين تقترنان بتاريخ النشأة الوطنية أو القومية للبلد الذي نشأت فيه، أو من حيث خصوصيتها الوطنية. فالماركسية لم تهبط من السماء أو بالمظلَّة، وهي واحدة في كل مكان. إنما هي مُطَّعَمَةٌ بالتاريخ وصراع الطبقات حسب كل تكوين قومي. فهناك تطعيمٌ إيطالي، وآخر فرنسي، وثالث ألماني، وهكذا دواليك.. ومن الطبيعي أن يَترك السياق القومي في كل بلد أثره على الماركسية والشيوعية باختلاف هذه البلدان بعضها عن البعض الآخر من حيث خصوصية كل منها. وإن كل محاولة لفرض الماركسية بطريقة دوغمائية انتهت إلى الفشل. هذا ما حدث على سبيل المثال في البلدان العربية بإيعاز من الأممية الثالثة. بهذه التحوُّلات التي طرأت على "عصبة الشيوعيين"، بفعل "البيان الشيوعي"، أَخَذَت الشيوعية شكلا علميا. لذا كتب إنجلز في ما بعد "الاشتراكية العلمية والاشتراكية الطوباوية" كي يُبيِّن أن ما تحمله شيوعية ماركس من جديد، هو الاعتماد على قواعد علمية، وذلك بخلاف الاشتراكية التي كان ينادي بها مفكِّرون ألمان وفرنسيون وبريطانيون. وكان "البيان الشيوعي" صَنَّف هؤلاء في ملف الشيوعية الطوباوية والسابقة على الشيوعية العلمية. وقد كَتَب إنجلز كرَّاسا صغيرا تناول فيه هذه الموضوعات تحت عنوان "انتقال الشيوعية من الطوباوية إلى العلم". وقد ترجم بول لافارغ هذا الكراس إلى الفرنسية تحت عنوان "الشيوعية العلمية والشيوعية الطوباوية". ولنلاحظ هنا في ما يتعلق بالترجمة الفرنسية بيد لافارغ لكراس إنجلز أن ما كان لدى إنجلز يندرج في سياق تاريخي بمنظار المادية التاريخية، من حيث كونه حالة انتقالية حسب ما يتبيَّن من عنوان الكرَّاس، أصبح حسب ترجمة لافارغ له قراءة ثنائية بالمعنى الفلسفي للثنائية، أو تعارضا، فإما العلم، وإما الطوباوية. وهو الأمر الذي يُدلِّل على الدوغمائية والاقتصادوية في الماركسية الفرنسية منذ عهد لافارغ. وكان ماركس وإنجلز بيَّنا في "البيان الشيوعي" أن الشيوعية العلمية صَفَّت حساباتها مع سابقاتها من أشكال شيوعية، من شارل فورييه Charles Fourier ، إلى سان سيمون والشارتيين في بريطانيا. لقد بيَّنا أن مسألة العلم أم الطوباوية ليست خياراً ما بين مذهبين، بل إن التاريخ في فترة ما من مساره هو الذي مكَّن من التفكير علميا بالشيوعية عبر صراع الطبقات، في ما كان مثل هذا التفكير متعذِّرا إبان العهد التاريخي لسان سيمون وفورييه كابيه و بيير لورو Pierre Leroux. إن هؤلاء طوباويُّون رغما عنهم إن صح التعبير. طوباويُّون طالما أن التاريخ لم يتِح لهم رؤية المجتمع بصورة علمية. 2/ كيف أنتَ تعرِّف الاشتراكية الديمقراطية؟ *** الاشتراكية الديمقراطية مصطلح متعدِّد المعاني عبر التاريخ. والعودة إلى الأصول مفيدة لأنها تُلقي الأضواء على الموضوع. وكان أول حزب اشتراكي ديمقراطي تأسَّس غداة ثورة 1848. وكان ممثلا في البرلمان. ويُعَرِّفها ماركس في "18 برومير لويس بونارت" بوصفها "ائتلاف ما بين بورجوازيين صغار". ويوضح ذلك بقوله: "إنهم يحذفون من المطالب المجتمعية للبروليتاريا حدَّها الثوري ويعطونها هيئة ديمقراطية. ويحذفون من المطالب الديمقراطية للبورجوازية الصغيرة شكلها السياسي الصرف، ثم يُبْرِزُون حدَّها الاشتراكي. وعلى هذا النحو تأسَّت الاشتراكية الديمقراطية". وفي وقت لاحق، أُدخلت المرجعية الماركسية، تارة بالرجوع إلى هذا المضمون، وتارة أخرى بالرجوع إلى ذاك المضمون، أو حتى الاكتفاء بالاسم فقط. وما بين مؤتمر غوتا في العام 1875 الذي يُسَجِّل لولادة الاشتراكية الديمقراطية في ألمانيا، وصولا إلى التحريفية الرجعية لبرنشتاين، وكتيب روزا لوكسمبورغ "الإصلاح الاجتماعي أم الثورة" الصادر في العام 1899، تتكاثر الالتباسات. حتى إذا ما جاء لينين، فإن الفصل ما بين الاشتراكية الديمقراطية والشيوعية يصبح على يديه حاسما، قاطعا، مع ولادة الحزب الشيوعي الروسي. الاشتراكية الديمقراطية إذن اسم يطلق على الحركة الاشتراكية الدولية، وبوجه خاص الأممية الثانية التي تأسَّست في العام 1889 بمبادرة من فريدريك إنجلز. فهي إذن، من حيث الأصل، حركة ماركسية. لكن الأصل يعود إلى ثورة 1848 التي شهدت تحالفا ما بين البورجوازية الصغيرة والعمال. فالاشتراكية الديمقراطية وليدة لهذا التحالف الذي حمل معه، كما قلت للتو، التبادل السياسي والإيديولوجي ما بين الطرفين حسب ما يبيِّن ماركس في "18 برومير..". وعندما صدر "البيان الشيوعي" في وقت واحد مع ثورة 1848، كانت الاشتراكية تضم في حينه تيارات مختلفة، منها الفوضوية بقيادة بيير جوزيف برودون. وكانت ظَهَرَت مناقشات ضمن الاشتراكية الديمقراطية في نهاية القرن التاسع عشر، عندما اقترح بعض الاشتراكيين الديمقراطيين، ومنهم بوجه خاص إدوارد برنشتاين، مراجعة للماركسية من أجل توجيهها في اتجاه إصلاحي. إلا أن هؤلاء هُزِموا في مؤتمر إرفورت Erfurt في العام 1899. وأَعلن قائد الاشتراكية الديمقراطية أُوغست بابل August Babel: "إني لن أوافق على تحطيم العمود الفقري للاشتراكية الديمقراطية، وأن يضعوا، محل مبدئها القائل بالصراع الطبقي ضد الطبقات المالكة وضد سلطة الدولة، تكتيكا أعرجا، وأن يعملوا بصورة حصرية من أجل أهداف يَزعمون أنها عملية". كما كرَّست كما قلت روزا لوكسمبورغ عملها "الإصلاح الاجتماعي أم الثورة" لدحض هذا التيار. إلا أن تيار التحريف، وإن كان عرف في بدايته الفشل على الفور، إلا أنه أرسى الأسس لما سيُعرَف في القرن العشرين بالتيار الاشتراكي الديمقراطي. وأصبحت الأممية الثانية، بعدما اجتازت حالات عديدة من إعادة البناء، تُعْرَف بالاشتراكية الدولية. وتخلَّت كما قلت بصورة تدريجية عن قسم من مرجعيتها الماركسية. واعتبارا من ذلك تتلاحق حسب السياق الوطني لكل بلد والتكوينات السياسية، تنويعات ما بين التسميات: "اشتراكية ديمقراطية"، واشتراكية". وقد اجتازت الاشتراكية الديمقراطية الطريق من التشدد إلى الميوعة، أو من اليسار إلى اليمين، عبر الانقسامات في الحركة العمالية، والتحالفات الطبقية. أما الاشتراكية فقد غَرَفَت من القائمة العريضة لروادها: البرودونية المحدثة، واللاسالية نسبة ل/فرديناند لاسالFerdinand Lassalle ، والإمكانية، والغيدية نسبة ل/جول غيدJusles Guesde )والبروسية نسبة لبول بروسPaul Brousse )، مقتبسة كل أشكال الإصلاحية تحت أسماء مختلفة حتى يومنا هذا. 3/ ما بعد الحرب العالمية الثانية عَرِفَت الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا رواجا غير مسبوق، وتسلم عدد من أحزابها الحكم، تارة بالتحالف مع الشيوعيين، وتارة أخرى بدون هؤلاء. *** ما استجد ما بعد الحرب العالمية الثانية هو انتعاش أفكار برنشتاين في ظروف ملائمة بصورة أفضل لما كانت عليه لدى ظهورها قبل عقود عديدة. ويعود ذلك إلى عدد من العوامل. أولها أن الرأسمالية، وكانت ما بعد الحرب العالمية الثانية أبعد ما تكون عن الموت، عَرِفَت انطلاقة جديدة، واستجابت بالتالي لعدد من مطالب العمال والطبقات الوسطى، ووَفَّرت في الوقت نفسه بفضل المعادلة حرية/ ديمقراطية/ سوق، وفَّرت أشكالا من إعادة توزيع الثروات بصورة واسعة، من جهة، وتقدما مجتمعيا من جهة ثانية. وذلك، فيما كانت، بالمقابل، سياسة التخطيط في البلدان "الاشتراكية" تعزَّز من الطابع السلطوي للأنظمة. هذه هي، في أوروبا الغربية، مرحلة ازدهار الدولة، والتأميم، والاقتصاد المختَلَط، والتعاون عبر المؤسسات الدستورية مع الدولة، والنقابات، وظهور إمكانية أمام طريق ثالث ما بين رأسمالية السوق بعدما أُعيد ترتيبها، والتعاونية البيروقراطية. وكانت الأحزاب الاشتراكية في الغرب (ألمانيا، وبريطانيا، وبلجيكا، والبلدان الإسكندنافية) هي حملة الطريق الثالث. فقد انبرى برونو كرايسكي في النمسا للدفاع عن "الشراكة الاجتماعية" Sozialpartnershaft . وشهد "النمط السويدي" رواجا. حتى أن الأحزاب الشيوعية في البلدان المتطورة انساقت وراء هذه الحركة. وعندما أخذ الشيوعيون في هذه البلدان مسافة مع الاتحاد السوفياتي عثروا على حداثتهم في الشيوعية الأوروبية Eurocommunisme. وإذا كانت الشيوعية الأوروبية اتَّسعت لتيارات يمينية، ويسارية، ومن الوسط، فإن تيارات متنازعة اجتازت الأحزاب الاشتراكية. وكان نشاط الأجنحة اليسارية التي تشكِّل أقلية ضمن الأحزاب الاشتراكية يتراوح ما بين الضعيف والأقل ضعفا حسب الظروف. وإذا كانت المرجعية الماركسية لم تختفِ أثناء هذه المرحلة، إلا أن الرجوع إليها يكون بالقطَّارة. هنا، تخلُّت هذه الأحزاب عن إلغاء الملكية الفردية، وهناك، عن صراع الطبقات، أو ديكتاتورية البروليتاريا والأممية. وانتهى بها الأمر إلى التخلي عن الماركسية كّلاً وتفصيلاً، حسب ما يتبيَّن من مؤتمر باد- غوديزبرغ Bad-Godsbergالمنعقد في العام 1959. وإذا كانت هذه الأحزاب تبنَّت سياسات تحويل العلاقات المجتمعية عبر تراكم الإصلاحات، فإن الطريق الثوري اختفى وحل محلَّه الاندماج بالسياسة البورجوازية ونمط الإنتاج الرأسمالي. وما يسترعي الانتباه بوجه خاص هو ارتباطات الاشتراكية الديمقراطية بالدولة، والمؤسسات، والمنظمات الاجتماعية، والسياسات الاقتصادية الرأسمالية، والعلاقات الدولية الراهنة، والمتغيِّرات التي طرأت على أشكال التنظيم الداخلي لأحزاب الاشتراكية الدولية. واجتازت تيارات مختلفة ومتضاربة هذه الأحزاب، من الشيوعية، إلى الاشتراكية، إلى مزيج ما بينهما، إلى الصراع والنزاع، على غرار مؤتمر تورTours الذي شهد في العام 1920 انقسام الفرع الفرنسي للاشتراكية العماليةSFIO، وتأسيس الحزب الشيوعي الفرنسي، إلى الاشتراكية الديمقراطية التي تُعْتَبَر انحرافا عن الاشتراكية والشيوعية، والتي أصبحت بمثابة مصدر عدوى يلوِّث الشيوعية والاشتراكية معا. واليوم، وتحت تأثير العولمة، تسود، منذ سقوط حائط برلين، الاشتراكية الديمقراطية بدون منافس. 4/ هل يجوز أن تُوْصَف كل أحزاب الاشتراكية الدولية بالاشتراكية الديمقراطية، من حيث تنظيمها، ومشاريعها السياسية، وممارستها في الحكم؟ *** إن السؤال يعود بنا إلى مسألة تعريف الاشتراكية الديمقراطية، حسب الصيغة الألمانية، أو الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي انبثق في العام 1920 عن الفرع الفرنسي للاشتراكية العمالية SFIO. إن الاشتراكية الدولية Internationale Socialiste تتَّسع لكل الاتجاهات. وكان أُعيد تنظيم هذه الأخيرة في مؤتمر فرانكفورت في العام 1951، في ظل الحرب الباردة، أو الإصلاحية المعادية للشيوعية، والتي جَمَعَت تشكيلات اشتراكية ديمقراطية من شمال غرب أوروبا، كما الأحزاب الاشتراكية في بلدان جنوب أوروبا. هنا، ثمة تباينات ملموسة ما بين بنيات هذين النمطين من الأحزاب، وبوجه خاص في ما يتعلق بالقاعدة العمالية والعلاقة مع النقابات. وفي السبعينات عَرِفَت الاشتراكية الدولية ازدهارا مع طلبات الانتساب التي وردت إليها من الحزب الشيوعي الإيطالي بقيادة أوشيتو Ochetto، والجبهة الساندينية في نيكارغوا، وعدد من الأحزاب الإصلاحية والتقدمية في العالم الثالث. وشهدت الثمانينات استلام الأحزاب الاشتراكية الحكم في كل من فرنسا وأسبانيا، واليونان، وإيطاليا، والبرتغال، في ما فقدت الاشتراكية الديمقراطية الحكم في كل من ألمانيا وبريطانيا. وبوجه الإجمال، فقد سيطر اتجاهان: اتجاه الاشتراكية الديمقراطية التقليدية التي تتمسك بالحركات الاجتماعية، ومنها أنصار البيئة، والاجتماعية الليبرالية، وهاتان الأخيرتان متعايشتان تحت سقف الاشتراكية الدولية التي تفتقد إلى البرنامج، بل وأنها تفتقد إلى المقترحات ذات البعد الأممي، وتقتصر نشاطاتها على ممارسة الطقوس، وتنفيذ دور النادي. وتختلف مسألة التنظيم عن مسألة الاتجاهات السياسية من حيث طبيعتها. هنا، لابد من العودة إلى التراث ونحن نتذكَّر أن كاوتسكي كان نظَّم الاشتراكية الديمقراطية الماركسية بشكل البنية الهرمية، على أسس من احترام شديد للمراتب، والبيروقراطية، والمطوّلات أو الموجزات التي تعرض للعقيدة بأسلوب بيداغوجي. والحال، أن الأحزاب الاشتراكية، على غرار الأحزاب الشيوعية، أعادت إنتاج أجهزة الدولة البورجوازية في تنظيماتها الحزبية. 5/ إذا كانت منظَّمات الاشتراكية الديمقراطية تقوم على أسس من المشاركة في السياسات الوطنية، كل حزب في بلاده، أتراها مؤهلة للحياة في إطار أممي يتجاوز حدودها الوطنية؟ *** إنها تستمر في الحياة في الأزمات وبفضلها، أزمات الدول- الأمم التي لا توفر جهدا من أجل الحفاظ على مصالحها الخاصة، كل منها ضمن تجمُّعات ما بين عدد من البلدان، وهي متنافسة في ما بينها. وفي هذه الأثناء، فإن هذه الأحزاب تخلَّت عن الأممية سواء كانت بروليتارية أم لا. والتخلي عن الأممية لم يَقتصر على أحزاب الاشتراكية الدولية. وكانت الأممية الشيوعية انحلَّت في العام 1943، في ما عَرِفَت الأممية الرابعة نفوذا محدودا. ويعود تاريخ انعقاد آخر مؤتمر للأحزاب الشيوعية إلى العام 1969. وإذا اكتفينا بأوروبا وحدها، فإن منظمات اليسار، أحزابا ونقابات، تبدو عاجزة عن تنظيم رد هجومي مشترك ضد الجبهة الموحَّدة للبورجوازية، بالرغم من أن مرحلة الشيوعية الأوروبية شهدت محاولات خجولة في هذا السياق. 6/ ما هي التطورات التي طرأت على إيديولوجية الاشتراكية الديمقراطية، بما في ذلك الاشتراكية وتلك التي كانت شيوعية، منذ انهيار الاشتراكية الواقعية؟ *** حاول غورباتشيف أن يتجاوز الانقسام ما بين الشيوعيين والاشتراكيين الديمقراطيين، والذي يعود تاريخه إلى العام 1919، بالدعوة إلى التقارب ما بينهما لصالح إصلاحية جديدة تعدُّدية، تحت سقف ما كان يسميه "البيت المشترك". وكان تحويل الأحزاب التي كانت شيوعية في بلدان المعسكر الاشتراكي (سابقا) إلى أحزاب ديمقراطية اشتراكية هو المخرج الوحيد السالك. إنها تندرج على هذا النحو في المنطق نفسه الذي كانت الأحزاب الاشتراكية الغربية الحاكمة سبقتها إليه، وبرفقتها الأحزاب الشيوعية الكبرى في أوروبا الغربية التي بعدما انتهت من الشيوعية الأوروبية (الأوروكومونزم) التحقت، أحيانا علانية كما هو الحال في إيطاليا، وأحيانا أخرى مع الإنكار والنفي كما هو الحال في فرنسا، بالمسار الجديد للاشتراكية الديمقراطية الذي يَقْبَل بالعلاقات السياسية والإيديولوجية المسيطِرَة. 7/ ما هي الانتقادات الرئيسة التي توَجَّه برأيك إلى الاشتراكية الديمقراطية في الوقت الراهن؟ *** لقد وصل مسار الاشتراكية الديمقراطية، والذي كنت أتحدث عنه قبل قليل، إلى الاستنفاد، ولم يعد لديه ما يعطيه. لقد رَفَع رويدا رويداً عن نفسه ورقة التوت التي كانت تستر انغماسه في إدارة المجتمع الرأسمالي. إنه رضي بكل مقومات المجتمع البورجوازي: قدرية "قوانين" السوق، وهو تَستَّر على فشلها، وتبعية الاقتصاد للسياسة، والدولة للسلطات ما فوق الوطنية، والمقاولة الدولية تحت قيادة الولايات المتحدة، وبوجه خاص في حال النزاعات المسلَّحة، والإيديولوجية النيوليبرالية والنيوإمبريالية. ناهيكم والقائمة الطويلة من البطالة عن العمل، إلى النبذ العرقي والطبقي، والفقر، والهامشية، والهجرة، وكراهية الأجانب، والفساد، واتساع الهوة ما بين الطبقات. وبالإضافة إلى ذلك، لقد تعايشت الاشتراكية الديمقراطية مع تخدير النقابات وحركات الجماهير. ونحن اليوم في معركة للدفاع عن آخر المكتسبات المجتمعية، ولمقاومة الخصخصة، وذلك في ما الحزب الاشتراكي مستقيل من هذه المعركة، بعدما نام باطمئنان على وعود بحقن الدستور الأوروبي بجرعة صغيرة من المطالب المجتمعية، وبمساعدات ضئيلة لإفريقيا المنهوبة. 8/ هل تفسح الرأسمالية، سواء من حيث تطورها أم من حيث أزمتها، مجالا جديدا أمام الاشتراكية الديمقراطية؟ هل ثمة مستقبل للاشتراكية الديمقراطية في ضوء ذلك؟ *** الاشتراكية الديمقراطية هي هي نفسها لا تتغير طالما أنها تكتفي بالإجراءات الصغيرة والجزئية والوعود. إن سياساتها تنتهي دوما إلى الوفاق الطبقي. وماهي قاعدتها المجتمعية؟ كان زعيم الحزب الاشتراكي الفرنسي فرانسوا ميتيران انتُخِب في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية للعام 1981. إن 72 بالمائة من أصوات العمال، و62 بالمائة من أصوات الموظفين والإداريين من الفئة الوسطى صوتت في الجولة الثانية لليسار. وكان الحزب الاشتراكي يُعتبر في حينه "أول حزب عمالي في فرنسا". إلا أن الأرقام تشير إلى أن 74.3 بالمائة من ممثليه في البرلمان كانوا من أصحاب المهن الحرة وشرائح من الطبقات العليا، بما في ذلك أرباب العمل. 9/ إن أزمة الحركة العمالية تدحض في ضوء أجوبتك مصداقية إستراتيجية الاشتراكية الديمقراطية، والإستراتيجية الراديكالية على حد سواء. وفي مثل هذا السياق كيف تميِّز ما بين الإستراتيجية الإصلاحية وإستراتيجية القطيعة النهائية مع الرأسمالية؟ *** تحتاج أزمة الحركة العمالية إلى بحث مطول. بيد أني مقتنع بأن هذه الأزمة إذا كانت تصطدم بعجز الاشتراكية الديمقراطية، فإن الإستراتيجية الراديكالية أقل اصطداما بالأزمة من سابقتها. لأن هذه الأخيرة، بصرف النظر عن برامجها وأشكالها، فإنها تجد لنفسها بحكم الضرورة مرتعا للحركة عبر الأزمة. والمشكلة هي أن أجهزة الأحزاب تنفر دوما من الاستغناء عن المفارقة ما بين وظيفتها الحزبية من حيث هي ممثل سياسي ومجتمعي، وقواعدها المجتمعية. فالأحكام المسبقة والمكتسبة والتي تعمل بموجب رد الفعل الانعكاسي هي التي تتدخل عندما تظهر الدعوة إلى توحيد اليسار، فيما تتناسى هذه الأحزاب قواعدها التي تطالب، لاعتبارات ضرورية وبالرغم من تفرُّقها وتعبها، بتوحيد اليسار. هذه الحالات من المنعكس الشرطي هي التي تفسِّر ما يَلحق من فشل بالمحاولات الرامية إلى توحيد اليسار الراديكالي. فكلٌ حزب من هذه الأحزاب يريد الانفتاح نحو اليسار، إلى أن كلا منها على حدة يريد لمواقفه أن تكون هي مركز الانفتاح نحو غيره من الأحزاب. حتى أن هذا المركز يتحول إلى غربال يقاوم مرور كل ما يبدعه المجتمع المدني من حركات مجتمعية خلاقة وديناميكية، من حركات سلام، وأخرى مناهضة للعرقية والقنبلة النووية، وحركات للشباب والنساء، ولجان للتنسيق، إلخ، والتي تنتهي إلى النبذ السياسي، أو إلى اعتبارها "احتجاجية"، حسب التعبير السياسي الشائع للإيديولوجية السائدة التي تصنَّف اليسار الراديكالي تحت هذه البطاقة. فلنفترض أنها توحَّدَت بالفعل، وأن التوافق أصبح واقعا. إن مسألة القطيعة مع الرأسمالية أو حتى الإصلاح الجذري، والتي لم تجد في الماضي أمامها سوى فرصا محدودة للنجاح، ستتوفر، في مثل هذه الحالة، أمامها فرصا أفضل وأوسع. لاسيما وأن النظام السائد، نظام العولمة والنيوليبرالية، لا يسمح بإصلاحات تحررية من داخله. وهو الأمر الذي يَفرض نوعا من الاحتجاج معد خصِّيصا لمناهضة النيوليبرالية والعولمة، قوامه البديل الراديكالي. أنا من جهتي على ثقة بأن العقلانية الحديثة ستجد طريقها إلى الواقع، وأن الجولة الاجتماعية، ما بعد الجولة الانتخابية، قادمة لا محالة. ولكل منا دوره المتواضع في صناعة هذا الحدث. دور يشبه حد النفي في الجدل الهيجلي. إن الأمل لدى المسيطَر عليهم، سواء كان مكبوتا أم مجروحا، هو وحده الذي لا يُخَرَّب. 10/ هل تعاني الشيوعية من حالة ضعف، أو وهن عبر التاريخ، كانت وما تزال ترافقها منذ سقوط كومونة باريس لغاية سقوط حائط برلين مرورا بكل الثورات التي اندثرت وفي مقدمتها كومونة باريس وجمهورية روزا لوكسمبورغ؟ *** هذا الضعف لا محل له من الإعراب، لأن الشيوعية داخل الماركسية هي – إن صحَّ التعبير – روحها الطوباوية. فبقدر ما تعمل الماركسية على تحليل الصراع الطبقي خلال فترة بعينها، بقدر ما تبقى الشيوعية، من حيث هي التطلع إلى مجتمع تسوده علاقات الانسجام ما بين أفراده – إن علاقات كهذه ما تزال غائية كل مجتمع يتوق إلى الانسجام - حاضرة من حيث طوباويتها العلمية. فالماركسية تذكِّرنا بـأن المسار يتَّجه، بصرف النظر عن المعارك الرابحة وخلافها الخاسرة، نحو مجتمع منسجم مع نفسه، أو مجتمع يستعيد حالة الوفاق مع نفسه، هذا المجتمع هو المجتمع الشيوعي. من وجهة النظر هذه يَعتقد إرنست بلوخ Ernest Bloch أن الطوباوية ليست فقط العنصر الأعلى في تعريف الماركسية، وإنما، علاوة على ذلك، تندرج في سياق النضال من أجل هدف، وتمارس أيضا دورا في إحياء الماركسية. إنه دورٌ ديناميكيٌ. إن هذا العنصر الطوباوي في الشيوعية هو الذي سَمَحَ للشيوعيين في فترات الكسوف والانحسار تجاوز لحظات اليأس. 11- بعدما شهدت الشيوعية العلمية هذا المسلسل الطويل من الانحسار فإن استمرارها على قيد الحياة يُشبه المعجزة، أليس كذلك؟! *** الشيوعية خّرَجَت حيَّة من كل هذه التقلُّبات. وإن أبسط ما يقال في هذا المعرض إن الشيوعية اليوم تحافظ على قيمتها شأنها شأن الماركسية، لأن المجتمع السائد في وقتنا الراهن هو نفسه المجتمع الذي كان سائدا عندما شخَّصه ماركس وأطلق عليه تسمية المجتمع الرأسمالي. صحيح أن هذا المجتمع خَضع للتغيير، وأن العلاقات الرأسمالية اليوم ليست هي نفسها في القرن التاسع عشر لسببين اثنين بأقل تقدير. الأول يعود إلى التغيير الذي لحق بالعلاقات الرأسمالية التي أصبحت تسيطر على العالم بأسره، وذلك على غرار ما نراه اليوم في عصر العولمة. فقد امتدَّت العلاقات الرأسمالية واتَّسعت لتشمل العالم بعدما قَضَت على أشكال من الإنتاج كانت سائدة سابقا قبل أن تحل محلَّها. ومع انهيار الاتحاد السوفياتي فإن الرأسمالية اختطفت – إن صح التعبير – مئات ملايين العمال من الاتحاد السوفياتي وبلدان المعسكر الاشتراكي وضمّتهم في سياق تطورها الخاص بها. والثاني وثيق الصلة بالصراع ما بين الطبقة العاملة ورأس المال. فإذا كان للرأسمالية تاريخ منذ كتابة ماركس لـ"رأس المال" قبل نحو 150 سنة وحتى اليوم، فإن هذا التاريخ ليس عبارة عن حياة مجرَّدة لا علاقة لها بواقع ملموس. إن تاريخ العلاقات الرأسمالية يَندرج في صراع الطبقات، ويتداخل مع تاريخ الحركة العمالية، أو إنه، بعبارة أخرى، ذو صلة بتاريخ الماركسية. فثمة تنضُّح أو ترشُّح للرأسمالية عبر صراعها مع الشيوعية. فالشيوعية أَرغمت الرأسمالية في نظامها نفسه على القبول بمطالب يحملها العمال. وهو ما يُعرف بالمكاسب المجتمعية التي قُيِّدَت للعمال عبر صراع الطبقات. وهذه المكاسب ليست هدية مُقدَّمة من الرأسمالية. وهذا يصحُّ أيضا في ما يتعلق بمكتسبات الديمقراطية السياسية وتلاشي الأنظمة الديكتاتورية. إن انتشار الديمقراطية يدلِّل بأن الرأسمالية قدَّمت تنازلات على الصعيد السياسي. علما أن الديمقراطية تقع تحت إشراف الرأسمالية ورقابتها. ويأخذ هذا التداخل أو الرشحان والنضح ما بين الرأسمالية والشيوعية مظهر العدوى إن صح التعبير. فقد انتقلت المطالب العمالية إلى آلية الرأسمالية ووظائف عملها. بيد أن الضد صحيح أيضا. فقد نَشَرت الرأسمالية الوهم القائل إن استلام السلطة بالطرق السلمية وعبر الديمقراطية البرلمانية ممكن، حسب ما تنادي به الأحزاب الإصلاحية ممثَّلة بأحزاب الديمقراطية الاشتراكية. ثم إن للرأسمالية مظهراً آخر ذو صلة بالثقافة والسياسية، وذلك خلافاً لما كان يُعْتَقَد أثناء الأممية الثانية، وفي أوساط أوائل الماركسيين الفرنسيين. فالرأسمالية ليست نظاما آليا ميكانيكيا يدور بموجب سلسلة من العلية المستديمة على مسار خط مستقيم من الخطط الاقتصادية. كلا إن الرأسمالية كما يقول لوكاش تحمل أثارا اقتصادية، إلا أن الفصل ما بين الاقتصاد الرأسمالي وأثاره الثقافية والسياسية ضرب من المستحيل. فأثر الرأسمالية طغى على السياسة لأن أشكالها وأنماطها ووظائفها قيست بمقياس الرأسمالية، أو على قدِّها وقديدها. فالرأسمالية رَشَحَت إلى السياسة حتى جعلت منها نظاما مطابقا لها ولمصالحها، دون أن تأخذ بعين الاعتبار المطالب العمالية. أضف إلى ذلك أن للعوامل الثقافية دوراً هاماً في النظام الرأسمالي، حتى وإن كانت الثقافة تنضح بالصراع الطبقي، وذلك على غرار ما كان يقول لينين في ما يتعلق بالفلسفة. // إذن لم تمت الماركسية والشيوعية بفعل معجزة، وإنما لأن التطور يقع في سياق من علاقات الإنتاج الرأسمالية. وكان ماركس مقيما في علاقات الإنتاج. ونحن بدورنا مقيمون حيث كان مقيما. والحيز الهام للماركسية اليوم هو نفسه تاريخ علاقات الإنتاج الرأسمالية وما يرافقها من صراع طيقي. هذا التاريخ، من حيث هو، قَلَب العلاقات ما بين رأس المال والعمل رأسا على عقب. وهذا الانقلاب الذي يَضعنا اليوم وجها لوجه أمام علاقات للقوى أصعب مما كانت عليه في الماضي، طالما يجتاز العالم العمالي مرحلة دفاعية بعدما فَقَدَ مواقعه الهجومية. والعالم العمالي مطالب اليوم بأن يستعيد نضاله الإيجابي. لقد اجتازت الماركسية ثلاثة قرون، وهي ما تزال حية، كما أن السياق التاريخي للرأسمالية هو نفسه دوما. ثالثا - الديمقـراطــية والثـورة السـلطات الـثلاث تقســيم أيديولوجي 1/ نحن ما زلنا خلال حوارنا في قلب الديمقراطية حسب مفهوم الأممية الثانية لها، وما يرافق ويَتبَع ذلك من أحزاب شيوعية تسبح في الإصلاحية والديمقراطية بمعناها البورجوازي الضيق الذي يتقيَّد بتقسيم السلطات الثلاث، ولم تعد هي تطالب بالديمقراطية الموسّعة. وبمعنى آخر فإن ديكتاتورية البروليتاريا من حيث هي ديمقراطية الطبقة العاملة قد سَقطَت من البرامج السياسية والوثائق الفكرية لكثير من الأحزاب الشيوعية. وهنا يأتي تسرُّب استلاب جديد للإنسان من خلال هذا الامتداد لأثر الإصلاحية الشيوعية التي كانت بدأت مع الأممية الثانية، واستمرت بعد ذلك من خلال الديمقراطية. أنا اقصد أننا أمام استلاب الديمقراطية السائدة من حيث هي الوجه الآخر لاستلاب الإنسان الحر. *** لاخلاف في ذلك، فلقد بدأت هذه الحالة مع الأممية الثانية. وكان إنجلز يردِّد حينذاك أن زمان الحواجز قد انتهى، وجاء زمن استلام السلطة عبر البرلمان. إلا أن المأساة ما لبثت أن وقعت عندما تبيَّن بصورة ملموسة أن استلام السلطة بفضل الانتخابات البرلمانية ضرب من المستحيل. وإن أفضل مثال على ذلك هو السبارتاكيستيُّون Sparta الذين أُبيدوا، ليس بيد الرجعيين وإنما بأيدي الاشتراكيين الديمقراطيين، أو قائد المتطوعين الذين قمعوا الثورة الألمانية 1918-1919 غوستاف نوسكي. واعتبارا من الثورة الألمانية، فإن العنف نُحي جانبا ما إن ظهرت شروط الديمقراطية البورجوازية التقليدية، التي تَحمل معها درجة عالية من التطور الاقتصادي، من جهة، وهذا الشكل السياسي المتقدِّم الذي يُعرَف بتسمية الديمقراطية. وأصبح على هذا النحو استلام السلطة مرتبطا بالديمقراطية بعدما نحيَ العنف جانبا. بيد أنهم سلَّموا بأن العودة إلى العنف ممكن في البلدان التي لم تَعرف درجة متقدِّمة من التطور الاقتصادي، أي روسيا وكل البلدان الزراعية، والصين، وأمريكا اللاتينية، وآسيا. لكن التجربة السياسية في البلدان المتأخرة، مع ما تحمله من تناقضات، قد قادت إلى تعزيز الفكرة القائلة إن الديمقراطية بدون استخدام العنف هي الطريق الوحيد الممكن لاستلام السلطة، لأن العنف في بلدان المعسكر الاشتراكي، وهي خير مثال على البلدان المتخلفة في العام 1917 وما بعد، باء بالفشل. في مواجهة هذا الحدث، فإن الأحزاب الشيوعية اليوم لا توفِّر جهدا من أجل التوكيد على شخصيتها. لذا فإنها تبتعد عن أحزاب الاشتراكية الديمقراطية، والتيارات الإصلاحية الليبرالية المنتشرة في اليسار، والتي تنزلق أكثر فأكثر نحو مواقف يمينية، أو بالأحرى نحو الاندماج في المجتمع البورجوازي. إن إدانة الديمقراطية ليست هي الرد الموفَّق، وكما كان لينين يقول، فن الدفاع عن الديمقراطية لازم. إلا أن مثل هذا الدفاع يجب أن يَستجيب لمصالح العمال، وليس لمصالح رأس المال والملكية الخاصة. إن أعمال لينين كلها تمجِّد الديمقراطية، وذلك على نقيض من تهمة الديكتاتورية الموجَّهة إليه. ديمقراطية لينين لا تمت بصلة إلى الديمقراطية المزيَّفة الني نَعرفها اليوم، والتي شَبَكت حبالها وخيوطها بصورة محكمة، حتى بات استلام العمال للسلطة مستحيلا. فهي لا تَفتح أبوابها إلا أمام الخاضعين المستَسلمين للهيمنة البورجوازية، والذين لن يُعيدوا النظر في تكون السلطة ووظائفها. ها هنا يَظهر الاختلال بين التناوب الذي يُتيح التتابع على قيادة السلطة في كيان سياسي يُكرِّس لبناه المجتمعية، وبين البديل الذي يَهدف إلى تغيير هذه البنية المجتمعية. 2/ ما الذي يتبقى اليوم من لينين؟ *** يَندرج موقع لينين في هذا السياق من التناوب والبديل، على نحو ما يرشح من خلال مجابهته لأنصار كارل كاوتسكي Karl Kautsky ، وإدوارد برنشتاين Eduard Bernstein اللذين سيطرا على الأممية الثانية. فقد أكّد لينين أن الشروط الثورية متوفِّرة من حيث الإمكان، وأن النضال من أجل استلام السلطة ممكن. وقد قال ذلك في بداية الحرب العالمية الأولى، في ما كانت الرأسمالية قَفَزَت إلى مقدِّمة الساحة، وهي في أوج قوتها، حتى أنها نَجَحَت في زج الطبقة العاملة في الحرب بعضها ضد البعض الآخر. الأمر الذي قاد لينين إلى بناء طريق إلى الشيوعية وفق الظروف المحيطة بروسيا، واستبدال الأممية الثانية التي كانت إصلاحية، وآلية ميكاينيكية، بأممية ثورية، أو الأممية الثالثة. والبلشفة لدى لينين هي هذه القطيعة الحاسمة مع الأحزاب الاشتراكية التي تتبنى الماركسية. وقد انتقل هذا الانقسام إلى فرنسا. وكان مؤتمر تور بفرنسا Tours، عَرِفَ انقسام الاشتراكيين إلى حزبين اثنين. حزب الأكثرية، وهو الحزب الشيوعي. واعتبارا من هذا الحدث، فإن تاريخ الحركات العمالية في فرنسا يأخذ موقعه ضمن الصراعات ما بين الشيوعيين والاشتراكيين. واليوم فإن الأيديولوجيا السائدة تريد أن تدفن لينين، وذلك حسب ما يتبيَّن من التجاهل شبه الكامل للاحتفالات بالذكرى الثمانين لثورة أكتوبر 1917، بما في ذلك في صفوف اليسار الشيوعي الذي لم يشارك في هذه الاحتفالات إلا بصورة خجولة. ويَنصَب النقد على لينين اليوم باعتباره المصدر الأول للستالينية. ويعتقد منتقدوه هؤلاء أن صلة ما بين لينين والستالينية كافية بحد ذاتها كي يُحكم على لينين بالدفن إلى الأبد. ثم تأتي المساعي الرامية إلى إلحاق الخزي بثورة أكتوبر من أجل النيل من سمعة لينين. وتتبلور هذه المساعي بصورة واضحة بمناسبة الاحتفالات بالذكرى المائتين على ثورة 1879، حيث عارضت مدرستان تاريخيتان إحداهما الأُخرى. الأولى ممثَّلة ب/ ميشيل فوفيل Michel Vovel الذي يَنتمي للمدرسة الماركسية، والثانية ب/فرانسوا فوريهFrançois Furet الذي ينتمي إلى المدرسة الرجعية التحريفية. وقد انبرت هذه الأخيرة للدفاع عن فكرة مؤدَّاها أن ثورة 1917 ليست ثورة، وإنما هي انقلاب عسكري بقيادة البلاشفة الذين فرضوا أنفسهم في ما بعد عن طريق العنف، وبفضل تدمير الحزب الاشتراكي، وفرض قوانينهم في الريف، وفي عموم روسيا. وإن هذا الانقلاب إذ يُعلن انتسابه إلى الثورة الفرنسية، فذلك لأنه وسِّع من حالة الرعب بصورة هائلة، في ما بعد، مع بناء الاتحاد السوفياتي. وحالة الرعب هذه برأي فوريه هي الغولاك Goulag (معسكرات السجون في سيبيريا السوفياتية) . وقد أَوجز فوريه ثورة أكتوبر بالعبارات التالية: الغولاك هو الرعب، وستالين هو روبسبيير. وما الهدف من وراء مقارنة وتشبيه من هذا القبيل سوى تحطيم كل صلة ما بين ثورة أكتوبر 1917 والثورة الفرنسية 1789 ، وما يليها من ثورات، ثورة 1848 ، وكومونة باريس، وثورة 1905 في روسيا. إن ما يغيب عن إدراك هؤلاء أمر رئيس لا يستهان به من حيث أهميته، وقد أَوجزه جون ريد في كتابه "عشرة أيام هزَّت العالم". ذلك أن ما حدث في 17 أكتوبر 1917، وما لا يَقبَل الجدل هو ما يقوله ريد في عنوان كتابه هذا، "عشرة أيام هزّت العالم". وقد رأى هذا الصحفي الأمريكي الذي عايش الأيام الأولى للثورة، كيف أن أقلية فاعلة، وهي البلاشفة، فَرَضَت نفسها. لكن آمال الشعب في روسيا كانت تتجمّع من حول هذه الأقلية الفاعلة. فلقد التف من حولها ملايين وملايين الفلاحين الذين كانوا يريدون التخلُّص من استبداد القيصر، واستثمار الأرض بأنفسهم، وامتلاكها بالقضاء على النظام الإقطاعي الذي كان سائدا؛ هذا من جهة، ومن جهة ثانية، كانت الطبقة العاملة تتميَّز بقلة عددها، إلا أنها كثيفة للغاية في المدن الكبرى، كموسكو ولينينغراد، والتي قاتلت أيضا بدون هوادة. ولنذكر هنا أن الحلقات الماركسية كانت في ذاك العهد ضعيفة النفوذ في البلدان الصناعية المتطورة، بينما كانت قوية للغاية في أوساط المثقفين الروس. الأمر الذي قاد إلى انتشار الثقافة الماركسية، والتربية النظرية، في أوساط الطبقة العاملة في روسيا بصورة تفوق تلك التي كانت سائدة في البلدان الأخرى، مادام تأثير الاشتراكية الديمقراطية في البلدان الصناعية الكبرى، قويا. إلى لينين يعود الفضل في إدراك أن موازين القوى، التي كانت سائدة في روسيا في العام 1917، تتيح الثورة. وهو وحده من أدرك هذا الواقع. وهو ما يُعرَف بأطروحات نيسان/ أبريل. وكان من بين الأقلية البلشفية التي أدركت أن قلب حالة الحرب رأسا على عقب إلى حالة ثورية ممكن أملاً في أن يكون هذا الانقلاب معديا، ويصل مداه إلى ألمانيا، بحيث تصبح الثورة عالمية. وكان لينين يردِّد في العديد من المناسبات قائلاً إن الثورة بقدر تيسر إنجازها في روسيا من حيث الانطلاق، بقدر ما يصعب استمرارها فيها ما لم تصبح عالمية. وهذا ما حدث بالفعل، لأن الثورة ما لبثت أن فشلت مع قدوم العقيدة الستالينية للدولة. إن الشخصية البارزة للينين في تاريخ الماركسية ذات أهمية قصوى، لا لشيء إلا لأن لينين كان أول من يُنجز ثورة. فقد كانت الثورة لدى ماركس وإنجلز فكرة أو موضعا للتفكير، وهما تابعا ولاحظا وسجَّلا ظواهر ثورية، 1848، وكومونة باريس، واستنتجا الدروس والتحليل النظري من هذه وتلك. بيد أنهما لم ينجزا الثورة بالصورة الملموسة. كان ماركس شارك إلى حد ما في ثورتي 1848 والكومونة والحركة الثورية لعمال ألمانيا، أما لينين فإنه أول منظَّر ماركسي يُنَفِّذ ثورة. أي أنه أول من وضع موضع المواجهة كل الإرث النظري الذي وصل إليه ماركس، لكنه يتبناه بمنطق الواقع الملموس والشخصي لروسيا. هنا تبرز مفارقة هامة. إذ أن أوضاع روسيا كانت أبعد ما تكون عن تحليل ماركس من جراء تأخرِّها الاقتصادي والسياسي. إلا أن أعمال لينين التي تتبنى الماركسية انتهت إلى إنجاز التغيير الثوري في روسيا بتسوية الماركسية وفق المقاييس الخصوصية لعلاقات وموازين القوى في روسيا، وفي ضوء خصوصيتها، حسب ما يتبيَّن بوجه خاص في أعمال لينين: "تطور الرأسمالية في روسيا" من الناحية الاقتصادية، و "ما العمل" في المجال السياسي. قلتُ للتو إن لينين انتهى إلى إنجاز الثورة بتسوية للنظرية وفق المقاييس الخصوصية لعلاقات القوى في روسيا، ومن حيث الواقع الملموس. والثورة تستمر بالعودة دوما إلى المقاييس الخصوصية. فتسوية النظرية ما أن تنتهي حتى تبدأ من جديد إذا ما أردنا أن ننجز الثورة. وإذا كانت أحكامنا تتباين في ما بينها حيال هذه البداية الجديدة للتسوية من النمط اللينيني، فإنها تتباين من حيث خصوصيتها، وذلك حسب ما نراه لدى كل من ماوتسي تونغ، وهو شي منه، وكاسترو، إلخ..إلخ. إلا أن هذه التسوية هي نفسها في جميع هذه الحالات. ونحن اليوم، إذا كنَّا نتبنى القضاء على علاقات الإنتاج الرأسمالية، فإن المجال يتَّسع أمام لينين أكثر من غيره كي يحدِّثنا عن خبرته في التسوية ما بين النظرية والمقاييس الخصوصية لعلاقات القوى، دون أن يعني ذلك أن تطبيق مبادىء الماركسية اللينينة على كل الأوضاع متشابهة في ما بينها كما تذهب إلى ذلك الستالينية. فالأوضاع الثورية الملموسة ليست متشابهة في ما بينها، ولكل منها خصوصيته. وكان لينين يخاطب الجمهوريات الواقعة إلى جنوب روسيا بقوله: إن ابتكار ثوراتها هو من شأنها وحدها، وهي لن تنجز ثورتها بتقليد الأنماط التي ظهرت في موسكو ولينينغراد. 3/ هل تعتقد أن ثمة طريقاً ديمقراطياً إلى الاشتراكية؟ وهل ترضى البورجوازية بمثل هذا الانتقال؟ أليست هي أول من يتخلَّى عن الديمقراطية من أجل الحفاظ على سلطتها عندما تراها مهدَّدة، وذلك على غرار ما حدث في ألمانيا النازية، وإيطاليا الفاشية، وأسبانيا الفرانكية، والبرتغال في عهد سالازرت، واليونان وتركيا تحت حكم العسكريتاريا، إلخ؟ *** من الناحية النظرية، والنظرية فقط، فإن مثل هذا الانتقال يبدو ممكنا. أما في الواقع الملموس فإن الجواب يكون بالنفي. فمن الوجهة النظرية، نحن نستطيع أن نردِّد دوما أن نضال العمال في الأنظمة الديمقراطية سوف يُرغم البورجوازية رويدا رويدا على احترام أعظم للانتخابات ومسألة تمثيل الطبقة العاملة في البرلمان. أما الجواب التاريخي، فإنه قاطع وحاسم: كلا. ذلك أن البورجوازية كانت تتخلَّى عن الديمقراطية كلما كفَّت هذه الأخيرة عن خدمة مصالح البورجوازية الحاكمة. وألمانيا النازية خير مثال على ذلك. كلا مرة ثانية، لأن الأنظمة الديمقراطية في أيامنا الراهنة صيغت دستوريا للحفاظ على السلطة البورجوازية. هذا هو حال دستور الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، وغيرهما من الجمهوريات في أوروبا الشرقية التي استَلهَمَت دستور الجمهورية الخامسة لبناء نظام يضع السلطة التنفيذية على الهامش، ويَجعل من مجلس النواب غرفة لتسجيل الصادر والوارد، ويضع بالتالي يده على السلطة القضائية. 4/ أليس تقسيم السلطات الثلاث واختصاصات كل منها ترجمة سياسية لتقسيم العمل، هذا التقسيم الذي يُعْتَبَر أيدلوجيا بامتياز؟ *** نعم، إن النظام الديمقراطي، أيا كانت الدرجة التي ارتقى إليها نحو الأفضل، فإنه يبقى غرفة محجوزة لعدد مختار من المواطنين إلى حد إلغاء شكل الدولة، حتى في المجتمع الاشتراكي. أما الشيوعية، فإنها تلغي هذا التقسيم الأيديولوجي للسلطات. إذ أن المثال الأعلى للدولة، أو للطوباوية والشيوعية ضمن الماركسية، هو سلطة العمال المتَّحدين، أو التسيير الذاتي الذي يتَّسع ليشمل أيضا المجال السياسي. وهذا المثال الأعلى ليس في متناول الخيال بيسر. إنها السلطة المثالية كما كان يقول لينين. إن البورجوازية تتخلَّى عن الديمقراطية ما إن يكف النظام الديمقراطي عن توفير امتيازاتها وأمنها للاحتفاظ بالسلطة المسيطِرَة. 5/ ماهي العلاقة ما بين تقسيم العمل من حيث هو أيديولوجيا بامتياز، والفصل ما بين السلطات الثلاث للدولة من حيث هي أيضاً أيديولوجيا بامتياز، طالما كانت السلطات الثلاث إياها هي سلطات الدولة وليس المجتمع؟ إن الديمقراطية الحقيقية هي التي تَمنَح سلطات للمجتمع أوسع من سلطات الدولة، وبحيث يراقِب المجتمع عن كثب سلطات الدولة. أما في الديمقراطية البورجوازية فإن السلطات الثلاث هي الحيز الخاص بالدولة؛ بل إن الدولة هي نفسها التي تُقَسِّم على انفراد السلطة ما بين ثلاثة أجهزة، ثم تتقاسم هذه السلطات. ما رأيك؟ *** إن السؤال يلمس نقطة رئيسة مؤسِّسَة. إن الثورة لا تأتي بين ليلة وضحاها. والثنائية بين المجتمع الاستغلالي من جهة، وبين الثورة من جهة ثانية تنعدم في سياق النضال المجتمعي. وتبقى الثورة أثناء ذلك، وخلال مرحلة طويلة من النضال، كامنة ومستمرة، قبل أن يتيح النضال انتقال المجتمع الاستغلالي إلى الثورة. وأثناء مرحلة النضال هذه يَظهر موقف قديم للغاية كان ماركس أشار إليه في "كتابات 1848" مفاده تسعير أسلحة الخصم لطعنه بها. فالبورجوازية إذ هي تَرفع شعارات الحرية، والمساواة، والإخاء، فإن تقيُّدها بهذه الشعارات على أرض الواقع يبقى بعيد المنال. وبالمقابل، فإن المعركة تتطلب من العمال أن يُطالبوا بتنفيذ هذه الشعارات. وكان مونتسكيو Montesquieu اقترح تقسيم السلطات في الدولة إلى ثلاث: التنفيذية، والتشريعية، والقضائية. بيد أن البورجوازية، وكل البورجوازيات، أبعد ما تكون عن احترام الفصل ما بين السلطات. فالسلطة التنفيذية في أعلب الأحيان تتسلط وتسيطر على السلطتين الأخريين، في ما يقف المجتمع المدني عاجزا. ففي فرنسا على سبيل المثال، عندما يطالب القضاة والمحامون اليوم بعدالة واحدة متساوية بين كل المواطنين، فإنهم يدافعون على هذا النحو عن السلطة القضائية. واليوم أيضا، فإن أنصار المساواة بين الرجل والمرأة يرفعون شعار المساواة بين الجنسين في العمل، ولاسيما في ما يتعلق بالأجور وساعات العمل. رابعا - الـمــجـتمـــع الـمـــدنـي: "إذا كـان المــجتمع لا يلــيق بالـدولـة غــيِّروا الشـــعب إِذَنْ!" 1/ لماذا تخلَّى ماركس عن مفهوم المجتمع المدني بعدما كان استعان به، ثم اكتفى بالمجتمع بدون إضافة؟ *** تطَوَّرت فكرة المجتمع المدني لدى ماركس. وكان أخذ هذا المفهوم عن هيجل في مؤلَّفه "مبادىء فلسفة القانون". حيث يبيِّن هيجل هنا أن المجتمع المدني يُنْتِج عددا من السلطات التي تتوسَّط ما بين المجتمع والدولة، ومنها الأسرة من حيث هي سلطة من سلطات المجتمع المدني موجودة إلى جانب الجماعات المجتمعية، كالطوائف، وغيرها. وهذه الأخيرة هي بمثابة طرقٌ لا بد من المرور عبرها للوصول إلى الدولة. أي أن الدولة انبثاق لمكوِّنات المجتمع المدني وسلطاته وهيئاته. وما يثير الاهتمام في نظرية هيجل أن المجتمع المدني نقيض للسلطة الطبيعية التي تُمْنَح بصورة اعتباطية. والسؤال عند هيجل قوامه كيف يجري الانتقال مما هو فردي ذو جذور في الأسرة والجماعات إلى ما هو جماعي، أو الدولة التي ستدير وتقود المجتمع المدني بمجمله، وذلك بفضل تشييدها لخدم الدولة، من موظَّفين يَخْدُمون الدولة ويُوَجِّهون المجتمع المدني. كان ماركس في مطلع الأمر يرى أن أطروحة هيجل هذه موضع للانتقاد لأن الدولة، شأنها شأن الله عند فويرباخ، هي الأُقنوم الذي يصادر قوى المجتمع المدني ليقلبها ضده. أي أن الدولة تجريد في خدمة طبقة لفرض البيروقراطية على المجتمع المدني. لذا فإن ماركس يَفهم الثورة في هذه المرحلة من عمله، ليس من حيث هي مجتمعية حسب ما ستؤول إليه في مرحلة لاحقة من عمله، وإنما بوصفها استعادة المجتمع لكل القوى التي كانت الدولة صادرتها منه. فالمجتمع المدني، هنا، يَسْتَرجِع الأشكال التي كان تنازل عنها تحت تأثير استلاب الدولة، أو وهم الدولة للجميع بالعدل والتساوي. لكن ماركس في مرحلة لاحقة من عمله يُميِّز بين "إنسان المجتمع المدني"، أو المجتمع المدني البورجوازي، وبين الدولة. وهذا التمييز هو نفسه التمييز ما بين فردين اثنين. ثمة فرد في المجتمع المدني البورجوازي، كالحدّاد، والأستاذ، والمحامي، والطبيب. إنه فرد مجسَّدٌ وملموسٌ يَخَضع لمصالح الطبقة، ويَحْمِل أيديولوجية. وثمة فرد آخر هو الفرد في الدولة، أو المواطن. وأمام الدولة يكون جميع الأفراد متساوين. وهذا زيف كاذب ومفهوم تجريدي يساوي الاستلاب. وعلى هذا النحو يَنْتَقد ماركس حقوق الإنسان. فالإنسان هو الفرد في المجتمع المدني، أما المواطن فإنه الإنسان التجريدي للدولة. والإنسان في المجتمع المدني يعادل المساواة المفقودة ما بين الحدَّاد وكاتب العدل، ويعادل إنسان الدولة، أو المواطن المساوي لغيره بصورة تجريدية. الأمر الذي حَمَل ماركس على التخلِّي عن المجتمع المدني والاكتفاء بالمجتمع بدون زيادة ومضاف إليه. وفي هذه المرحلة من أعماله، فإن الثورة في المجتمع، التي كانت في مرحلة سابقة تشكِّل استعادة المجتمع لقواه من الدولة، تتحوَّل إلى ثورة مجتمعية داخل المجتمع ما بين قوى غير متساوية، وليست تحويلا تجريديا لأفكار الدولة. وحينئذ يتعارض أيضا المجتمع من حيث هو مادة ملموسة متجدِّدة ومتناقضة، مع الدولة من حيث هي تجريد واستلاب لصراع الطبقات، ما دامت الدولة مجلس إدارة للطبقة السائدة. واليوم يضع الكتَّاب السياسيين المجتمعَ ضد الدولة متغافلين عن هذه الأرضية وبصورة سطحية. وعلى سبيل المثال يميِّزون ما بين الطبقة السياسية والناس العاديين. والطبقة السياسية في هذا المثال هم موظفو الدولة وبيروقراطيُّوها بالمعنى الهيجلي، وهم الذين يديرون الدولة. والطبقة السياسية تتَّسع لتشمل سلطات الدولة الثلاث. وهنا يَمَّحي التمييز ما بين اليمين واليسار، وما بين الأحزاب ورجالها من اشتراكيين ويمينيين، وموظفي الدولة الذين يسهرون عليها ويُسيِّرون أمورها بدون تمييز بين مواطن وآخر بالمعنى الهيجلي المجرد لإنسان غير موجود في أي حيز من الواقع. أما المجتمع المدني، فإنه يُخْتَصَر إلى اقتطاع أفراد منه، أو عَيِّنات، وإدخالها إلى الطبقة السياسية دون أن ينتموا إليها، كما حكومة تضم وزيرا للصحة، وهو طبيب غير سياسي. وغالبا ما تفشل المحاولة، لأن هذا الأخير ليس رجل دولة. الأمر الذي يؤكِّد أن الدولة والمجتمع منفصلان. تلكم هي الحفرة التي يَقَع فيها الجميع، ماركس وغرامشي وهيجل. إذ أن التوفيق ما بين المجتمع والدولة غير متيسّر طالما يبقى التعارض طبقيا بين المجتمع وبين الدولة، ويعكس أيضا تقسيم الطبقات في المجتمع. بمعنى إن الطبقة الحاكمة تستولي على وظائف الدولة، أو زمام أمورها وقيادتها. 2/ إن كل فصل إذن ما بين الدولة والمجتمع يُغْفِل الصراع الطبقي طالما المجتمع غير متجانس ومحكوم بتقسيم العمل وتقسيم الطبقات. *** إن القاسم المشترك الأعظم ما بين هذه النظريات التي تخلط ما بين الدولة والمجتمع هو أنها تقول إن الدولة نتاج المجتمع وليس نقيض ذلك، أو المناهضة له. هذا النقيض هو ما كان يقول به بريخت: "إذا كان المجتمع لا يليق بالدولة غيِّروا الشعب إذن". فالمطلوب في مثل هذه الحالة تغيير الشعب وليس الدولة. فإذا كانت الدولة نِتاج المجتمع، فإن ذلك لا يستقيم إلا بفضل خدعة الانتخابات الديمقراطية التي تقوم على أسس من إقناع الشعب بأن الدولة هي من صنعه، والأحرى به - لما كان الأمر كذلك – أن يُلغي القطيعة ما بين الدولة والمجتمع عبر إنابة السلطات لبعض أفراد من المجتمع كي يديروا الدولة. وما الطبقة السياسية إلا استيلاءٌ لطبقة أو فئة من السكان المسيطرين اقتصاديا على زمام الدولة، السياسية والعسكرية والاقتصادية. 3/ الدولة إذن تَنبَثق عن المجتمع، إلا أنها ما إن تتكوَّن حتى تضع نفسها فوقه أو أعلى منه، إن لم تنقض عليه. * * هذا هو أقنوم فويرباخ عندما يقول: إن الله ما هو إلا نقل لقيم الإنسان كي ما يقلبها ضده. 4/ هل يمكن تشييد سلطة مجتمعية مضادة للدولة؟ *** إن مكسب المجتمع الديمقراطي مقابل المجتمع الإقطاعي والمَلَكي، إلخ، حتى لو كانت الديمقراطية محدودة، يكمن في مهمَّتها الأساس ألا وهي إتاحة بناء سلطات حقيقية مضادة، أو أحزاب معارضة، ونقابات، وجمعيات أحياء، وجمعيات إنسانية، إلخ. إن ذلك كله يُشكِّل سلطات مضادة. صحيح أن السلطات المضادة لا تُغيِّر من معطيات وأدوار العلاقة ما بين الدولة والمجتمع من حيث هي انفصال، إلا أنها تستطيع أن ترغم الطبقة التي تستولي على الدولة على القبول بعدد من الإجراءات والتدابير رغما عنها. فالمكتسبات المجتمعية هي حصاد لما أنجَزَته السلطات المضادة وانتزعته من الدولة. وفي المرحلة الراهنة من سيطرة الليبرالية الجديدة تريد الطبقة المسَيطِرَة أن تَستَعيد المكاسب المجتمعية التي كانت الدولة أرغمت على التنازل عنها طالما أن هذه المكتسبات الشعبية والعمالية تُعرقِل تحرير الاقتصاد الليبرالي من القيود. خامساً- رد الاعــتبار لديكــتاتوريـة البرولـــيتاريـا لأن الغــاية منها ذوبـان الدولــة وليـس تكريـســها ويجد الانتقال الاشتراكي نفسه مضطرا إلى الخلط ما بين السلطات الثلاث. أما السلطة عندما تبدأ الدولة بالذوبان – حسب ما يراه إنجلز – فإنها غير ذلك. ويأتي هذا الخلط في المرحلة الانتقالية نتيجة الصراع الطبقي، وقيادة الدولة له في المعركة ما بين المُلاك الجدد، ومنزوعي الملكية، من جهة ثانية، الذين يقاومون الانتقال إلى الاشتراكية. وتجد هنا السلطة نفسها مرغمة على إقرار تدابير وإجراءات كانت موضع نقد مٌوَجَّه إلى لينين من قِبَل روزا لوكسمبرغ ( التي كانت تدعو إلى استفتاء عام تَرْجُح فيه الكفَّة لصالح العمال على حساب الملاكين. 1/ هل كان ماركس موفقا في ابتكار مصطلح "ديكتاتورية البروليتاريا"؟ ألم يكن من الأفضل أن يبتكر عبارات غير تلك، مثل ديمقراطية الشعب، أو الديمقراطية الموسَّعة، أو الديمقراطية الاجتماعية. *** اختار ماركس في عصره أفضل عبارة طالما كانت عبارة "ديكتاتورية البروليتاريا هي التي تخاطب المخيِّلة، حيث أن الناس كانوا يرون في في الأنظمة السياسية التي كانت سائدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في أوروبا كما في العالم، أنظمة ديكتاتورية، سواء أكان نظام القياصرة أم الأمبراطوريات أو الأمراء أو حتى رؤساء من شاكلة لويس نابليون في فرنسا. والحال إن ديكتاتورية البروليتاريا مع تشديد المعنى على البروليتاريا، مقابل الملاكين، وهي ليست ديكتاتورية الأكثرية أو الأقلية. وكانت ديكتاتورية البروليتاريا تخاطب الناس، وتبعث فيهم الحيوية والحركة. إنها ديكتاتورية البروليتاريا ليس غير، بدون إضافات ومساحيق فكرية للتجميل، لأنها تبدِّد سلفا أي وهم بأن الأمور ستسير على أحسن وجه ما أن تتسلَّم البروليتاريا السلطة. كلا إن الأمور لن تسير على أحسن وجه. وكان ماركس يشير إلى أن العمال ما إن يستلموا السلطة عن طريق العنف أو بالوسائل السلمية حتى تصبح الديكتاتورية لا مناص منها لقمع من يرفض تغيير علاقات الإنتاج ونظام الملكية، إلخ. ولابد حينئذ من ممارسة ديكتاتورية البروليتاريا، ليس بدافع الانتقام، وإنما للحؤول دون أن يعود من طرِد َمن السلطة إلى الاستيلاء عليها. إن مجتمعاتنا تنبذ هذه العبارة من جراء ما علق بأذهان الناس من صور عن الديكتاتوريات الفاشية والنازية والستالينية وغيرها، في ما تسود الديمقراطية. إن مفهوم "ديكتاتورية البروليتاريا" أصبح لا يطاق وقد فقد صداه القديم لدى الجماهير، الأمر الذي حمل الأحزاب الشيوعية على التخلص منه. إلا أن هذه الأحزاب لم ترتد عن صوت الكلمة المدّوية ووقعها في النفوس، ألا وهي الثورة. إن معنى ديكتاتورية البروليتاريا هو في المقام الأول سلطة الشعب من حيث هي سلطة العمال. وهذا يعني من جهة ثانية – ولينين يلح على ذلك في "الدولة والثورة" – أن مرحلة جديدة انتقالية تبدأ مع ظهور ديكتاتورية البروليتاريا، وإن هذه المرحلة الانتقالية التي تسير جنبا إلى جنب مع ديكتاتورية البروليتاريا، تتطور على مسارٍ من الذوبان النهائي للدولة. الأمر الذي يَحمل لينين في توصيفه لهذا الانتقال استخدام عبارات مثل "دولة بسعر متهاون"، و"نصف دولة"، أو بعبارة أخرى: دولة هي نفسها لم تعد دولة. هذا هو المقصود من وراء ديكتاتورية البروليتاريا. إنها فترة انتقالية لا مفر منها. واليوم، إذا نحن تخلينا عن ديكتاتورية البروليتاريا، فإننا نقصي هذه الصيرورة الانتقالية، ونلغي في الوقت نفسه الواقع الملموس طالما أننا نَفقَد، على هذا النحو، البعد الثوري للماركسية، ونَقَع في فخ الإصلاحية، على غرار ما يحدث لكل الأحزاب الشيوعية التي ما إن تتخلى عن ديكتاتورية البروليتاريا حتى تتخلى عن الأممية البروليتارية وتنصرف عن تشييد الأممية. 2/ إنك تلمس هنا أمراً جوهريا عندما تقول إن الغاية من ديكتاتورية البرولياريا ذوبان الدولة، إذ أن ستالين فعل نقيض ذلك، فهو لجأ إلى ديكتاتورية البروليتاريا من أجل تكريس الدولة. *** إن ديكتاتورية البروليتاريا تَفترض تدمير الدولة البورجوازية. وإن مثل هذا التدمير لا يتأتى بأمر إداري، كما أنه لا يتأتى ما بين ليلة وضحاها، لأن التناقضات كثيرة، والمقاومة واسعة، ولاسيما أن الدولة التي نشأت عبر القرون قد اكتسبت قوة صلبة للغاية، قوة القمع والأجهزة العسكرية والبوليسية. بل إنها علاوة على ذلك تحمل معها قوة الأيديولوجيا من حيث هي قوة الاتهام، ومن حيث هي تجتمع مع القمع لتبرَّر ممارسة الدولة له. 3/ كيف يتأتى تغيير العالم عبر نمط الدولة البورجوازية أو بفضل تطوير أفضل للسلطات الثلاث؟ *** تَذَكَّر بأن المطلوب هو الحفاظ على الفصل ما بين السلطات الثلاث لأن انعدام الفصل هو الاستبداد نفسه، أو السلطة الأحادية. إن زوال الفصل ما بين السلطات الثلاث يقود إلى الديكتاتورية. 4/ أعود إلى سؤال سابق حول مفهوم الفصل ما بين السلطات الثلاث من حيث هو تعبير عن تقسيم العمل الذي يُعتبر أيديولوجيا بامتياز، وبوجه خاص في مجال القانون، حيث يَعتبر المشرِّع الذي وضع القانون أن ما وَضَعه يعلو فوق الإنسان والصراع المجتمعي، يعلو فوق أية قيمة أو معيار آخر غيره، مع أنه من صنع البشر، ولن تلبث أحداث التاريخ والمجتمع أن تغيَّره أو تعدِّل فيه. هذا، ويَعْتِبر القانوني نفسه فوق كل ما عداه من البشر في ما يتعلق بقضايا القانون، مع أنه بشر مثل غيره لا يتميز عنهم في شيء. *** إن معنى ديكتاتورية البروليتاريا هو سلطة الأكثرية. ومعناها يختلف عن المعنى الشائع عنها. وكان ماركس يشير إلى أن سلطة البورجوازية في المجتمع الرأسمالي هي سلطة ديكتاتورية. وهو الأمر الذي يَسمح للبورجوازية أن تلفِّق الانتخابات وتشبعها تشويها. إنها تخلط ما بين السلطات. ومقابل ديكتاتورية البورجوازية تَظهر ديكتاتورية البروليتاريا. وما بين هاتين الحالتين من الديكتاتورية ثمة اختلاف هائل. فالأولى ديكتاتورية الأقلية، في ما الثانية ديكتاتورية الأكثرية. والاختلاف الثاني يتأتى من طبيعة الهدف من السلطة. فالبورجوازية تعزِّز سلطتها، سلطة الدولة، والدولة، من حيث هي بنية عليا، هي دولتها. أما الهدف من ديكتاتورية البروليتاريا، فإنه إلغاء الدولة والقضاء عليها بصورة كاملة ونهائية، بحيث تصبح الطاهية رئيسة دولة. ما من شك في أن الأمر ينطوي على طوباوية. وأما إذا فصلنا ما بين الثورة واستلام السلطة السياسية، فإن العالم سيبقى على حاله دونما أي تغيير. 5/ هل تقود ديكتاتورية البروليتاريا إلى الستالينية، أو كيف تحوِّلت ديكتاتورية البروليتاريا إلى استبداد من النمط الستاليني؟ *** كان لينين في "الدولة والثورة" أوضحَ أن ديكتاتورية البروليتاريا فترة انتقالية تزول ما أن تُنَفَّذ مهمتها. إنها تُوفِّر الظروف لزوال الدولة. فماذا فعل ستالين؟ في الثلاثينات أَعدَّ ستالين – من جهة - دستورا تقدميا لا يضاهيه أي دستور تقدمي في التاريخ. إلا أن هذا الدستور بقي في الخزائن، ولم يطبَّق أي بند منه. بالمقابل بلور ستالين– من جهة ثانية – الفكرة القائلة بأن الصراع الطبقي في روسيا بدل أن يناله الضعف تراه يشتد بصورة خطيرة في ظل ديكتاتورية البروليتاريا، وإن الضرورة تستدعي تصحيح ما قاله لينين حول زوال الدولة، أو تصحيح لينين من أجل تعزيز الدولة وتمتينها. وهنا كانت النهاية. فقد تخلَّى ستالين عن أطروحة ذوبان الدولة، واستبدلها بتقوية الدولة حتى أصبحت هذه الدولة اشتراكية بورجوازية، أو بورجوازية اشتراكية. ثم أَلغى الحريات كلها، وخلط السلطة القضائية بالسلطة التنفيذية. وإذ ألغى ستالين المفهوم اللينيني لديكتاتورية البروليتاريا، من حيث أنها توفِّر الظروف لاضمحلال دور الدولة وصولا إلى ذوبانها، فإنه تخلَّص من اللينينية. واعتبارا من ذلك فإن الدولة الستالينية لم تكتف بتشييد بناها بصورة مشابهة للدولة البورجوازية، بل رمَت بالديمقراطية أيضاً إلى سلة المهملات، فأصبح الاتحاد السوفياتي محروما في وقت واحد من الديمقراطية ومن ديكتاتورية البروليتاريا. ومن ديكتاتورية البروليتاريا لم يَحتفظ ستالين إلا بالديكتاتورية فقط. لقد عزَّز الدولة والديكتاتورية في آن واحد. 6/ وعلى هذا النحو نصل رويدا رويدا إلى سقوط الاتحاد السوفياتي. *** السقوط يعود إلى أسباب من نمط آخر. فقد تراكمت السلطات الممنوحة للدولة. فالتطوير الصناعي لازَم َحالة من الروتين مادام الاقتصاد السوفياتي يعتمد على نظام الاكتفاء الذاتي، حتى أن هذا النظام لم يرَ أمام ناظريه كيف كانت الشروط الصناعية تتحول في العالم الرأسمالي، بما تحمله من مناهج حديثة، وطاقات بديلة ومتنوعة، وثورة في مجالات المعلوماتية. وعلى الصعيد الثقافي فإن النظرية الستالينية للثقافة، التي تَعْتَبر التحليل النفساني وعلم الاجتماع علوما بورجوازية محظورة، قد بَترت نفسها بصورة خطيرة عن الثقافة والعلوم الإنسانية. وكان من نتائج هذه السياسة الصناعية أن السلطات رَجَّحَت وسائل أصبحت قديمة لاغية، وعززت الإنتاج الصناعي، وبوجه خاص الثقيل منه، على حساب الاستهلاك دون أن تحاول التوفيق ما بين التصنيع والاستهلاك. وكانت الحرب الباردة قد ضاعفت - ما في ذلك شك - من ترجيح التصنيع. وقد ساهمت الحرب الباردة بقسط وافر لا يُستهان به في ما يتعلق بالصعوبات التي كانت تواجه الاتحاد السوفياتي. وكان النظام الرأسمالي في تصديه للاشتراكية دَفَعَ – بين تدابير غيرها كثيرة - بالاتحاد السوفياتي نحو سباق التسلح. الأمر الذي مارس دور العامل الأعلى الحتمي والمقرِّر. فسباق التسلُّح في مجال الأسلحة التقليدية، ثم النووية، بالإضافة إلى غزو الفضاء، أنهك الاقتصاد السوفياتي وحَكَمَ عليه بالتأخُّر، ولاسيما أن هذا الاقتصاد لم يكن انتهى بعد من إنجاز مساره في مجال التراكمات، وكان ما يزال اقتصادا قيد التطور. الأمر الذي حَكَمَ عليه بالانخراط في مسار ليس مساره، بل مسار الرأسمالية العالمية. فما هي الفائدة من الصواريخ المتقدِّمة، ومن هبوط غاغارين قبل غيره على سطح القمر، في ما كان الشعب ما يزال ينتظر أن يأكل الزبدة والطماطم؟! وهنا، فإن الرأسمالية تُسجِّل انتصارا عظيما. 7/ في منتصف السبعينات، وقبل أن يتخلى الحزب الشيوعي الفرنسي بسنوات قليلة عن ديكتاتورية البروليتاريا كان بعض الماركسيين، ومنهم على سبيل المثال جان إيلينشتين Jean Ellenstein، يعتقدون أن أعمال لينين تَحمل في طياتها ستالين، وأن اللينينية هي التي أَنجَبت ستالين، وأنتَ كنت آنذاك تفنِّد هذه الآراء. ما هي النصوص في أعمال لينين التي تتيح لهم مثل هذه القراءة للينينية؟ *** كانوا َيَعتمدون على ما كتبه لينين من نصوص تدافع عن "الرعب الأحمر"، وذلك مقابل "الرعب الأبيض" للأرستقراطية المهزومة. ويشيرون أيضا إلى أن ممارسات ستالين كان بدأ بها لينين عندما قَمَع ثورة نيستور ماخنو Nestor Makhno ، أو عندما ضرب اليسار المتطرف الذي كان عارض بعض إجراءات الحكومة البلشفية. إن هذه الحالة من العنف الأحمر لا علاقة لها بالستالينية، طالما هي تستجيب للظروف القاسية التي وَجَدَت تفهما لها من قِبَل كل من روزا لوكسمبورغ وغرامشي. 8/ كيف تخلى سكرتير عام الحزب الشيوعي الفرنسي جورج مارشيه في العام 1977 عن ديكتاتورية البروليتاريا؟ كيف أنت انتقدت التخلي عنها حسب ما يتبين من قراءة المقدمة التي تحمل اسمك لكراس لينين "الدفتر الأزرق"؟ Le Cahier bleu, le marxisme quand à l’Etat *** لقد تخلى جورج مارشيه عن أحد العناصر الرئيسة في النظرية الماركسية للثورة بالإعلان عن ذلك عبر التلفزيون البورجوازي، وأمام المشاهدين، وليس أمام مناضلي الحزب. وهو برَّر تخليه عن ديكتاتورية البروليتاريا بحجة مفادها أن تعبير الديكتاتورية هذا أصبح يحتمل تأويلات وتفسيرات ملتبسة تحت تأثير الأنظمة الديكتاتورية بصورة عامة. بيد أن هذا التخلي يأتي في حقيقة الأمر ليعبِّر عن انضمام الحزب الشيوعي بقيادة مارشيه إلى مجموعة يسارية أطلقت على نفسها تسمية "البرنامج المشترك" Le Programme commun. ومن بين أعضائها يتميز الحزب الاشتراكي بقيادة فرانسوا ميتيران، مما كان يَستلزم إلغاء الخلافات الوعرة ضمن المجموعة، لأن منطق هذه الأخيرة كان يرفض الاستيلاء على الباستيل والقصر الصيفي والدماء في الشوارع والحرب الأهلية، ويدعو بالمقابل إلى التآخي. أما في الواقع، ومن حيث الوقائع، فإن التخلي عن النظرية جاء دون العودة إلى قيادة الحزب والمناضلين. وما أن أَعلن مارشيه عن هذا الإلغاء عبر التلفزيون حتى انهمكت القيادة في اتخاذ كل التدابير والإجراءات لفرض هذا القرار على القاعدة الحزبية، بما في ذلك إرغام قيادات محلية، كانت تهدِّد بالاستقالة أو الانسحاب من الحزب، بقبول هذا الإلغاء بمنطق الأمر الواقع. ثم أَنزلت القيادات عقوبات بحق القيادات الحزبية التي عارضت القرار، ومنها الفدرالية التي كانت تحت قيادتي. وقد انبرى في حينه فرانسوا هونكير، ولوسيان سيف، وجان ألشتاين، في تبرير القرار بحجة مفادها أن ديكتاتورية البروليتاريا تَشغَل حيزا تافها في النظرية الثورية لماركس. ويساوي هذا التخلي، برأيي أنا، اعتقال الحزب وأعضائه. ولم يحدث هذا التخلي دون معارضة. فقد كتب إتيين باليبارEtienne Balibar"في ديكتاتورية البروليتاريا". وأنا من جهتي نشرت "الدفتر الأزرق" للينين، والذي لم يكن نشر في الفرنسية من قبل، وهو يحتوي على الملاحظات التي سجَّلها لينين في ما يتعلق بديكتاتورية البروليتاريا على هامش قراءاته لماركس وإنجلز، وذلك قبل أن يَكتب لينين "أُطروحات نيسان"، حيث يبيِّن أن ظروف الثورة في روسيا قد نضجت. والدفتر الأزرق بمثابة لغم. والمقدِّمة التي كنت أنا وضعتها لهذا الكراس هي نفسها تقريبا ما كتبته في حينه لتفنيد التخلي عن هذه النظرية. سادساً: لــينين الـراهـــن 1/ ما الذي تعنيه أنت عندما تتحدَّث عن لينين الراهن اليوم؟ وما الذي يتَبَقَّى لنا اليوم من "ما العمل؟" الذي يؤكِّد على الدور القيادي للحزب الشيوعي؟ *** الأمر هنا يختلف إلى حد ما عمَّا هو عليه في ما يتعلق بديكتاتورية البروليتاريا، وما لحق بها من تشويه. إن "ما العمل" كراس صغير الحجم مكرَّس للمعركة التي كانت تجتازها روسيا في سياق ثورة العام 1905. وهم جعلوا من هذا الكراس حجرا مقدسا في المعبد. هم، ستالين والآخرون بدون استثناء. إنه عمل صغير الحجم، ميسور القراءة، وقوي في الوقت نفسه. لقد وجد فيه هؤلاء برنامجا مُلزِما للجميع، ولاسيما أن "مالعمل" يحمل انتقادا للتحريفيين المتراجعين عن خط الثورة، ويؤكِّد أيضا على الموقع الهام للنظرية، ويميِّز بالإضافة إلى ذلك ما بين النظام السياسي وبين الحزب، وبين النقابات، أو تراه يُميِّزٌالمطالب السياسية عن المطالب الاقتصادية، إلخ. وقد جاء هذا النص في بداية صيرورة ثورية، وهو بالتالي وثيق الصلة وبصورة مباشرة بما كانت عليه أوضاع الحزب حينذاك في روسيا، أو من حيث هو أقلية منظَّمة حسب النمط العسكري، في ظروف قمعية قاسية. تنظيم سري، وتقسيم للعمل بين العمال من جهة وبين المثقَّفين من جهة ثانية، في ما تَوَزَّع قادة الحزب المهام والاختصاصات. وكان لينين يقول ويردِّد دوما إننا مجموعة صغيرة. أما اليوم فإن ما هو مقصود من ضرورة الحزب مُخْتَلف عما كان عليه مفهوم الحزب في بداية الصيرورة الثورية في روسيا. فالحزب الشيوعي اليوم مؤسَّسة شيِّدت وفق موازين القوى وصراع الطبقات في بلدان الديمقراطية الغربية، كما في كل مكان آخر، ويأتي ذلك بناءً على توصيات الأممية الثالثة التي كانت قرَّرت تشييد أحزاب عمالية في مواجهة الأحزاب الحاكمة سواء أكانت بورجوازية، أو من يمين الوسط، أو الوسط الراديكالي، أو حتى الاشتراكية الديمقراطية. والحزب الشيوعي بمفهوم الأممية الثالثة هو، من حيث التعريف، حزب الطبقة العاملة. فالمثال الأعلى لهذا الحزب، كما لخطه السياسي، هو نفسه ما كان ماركس تحدَّث عنه في البيان الشيوعي، حيث يشير إلى أن الحزب هو حزب الطبقة العاملة، وليس تشكيلة تفرض نفسها باعتبارها تمثِّل الطبقة العاملة، كما يمثِّل النائب في البرلمان قطاعا من الناس في حي أو مدينة. كلا، إن الحزب هو الطبقة العاملة ويُمثِّل مصالح العمال كلهم. فإذا ما وُجِدَ الحزب تحت النظام القمعي، وكان مرغما في مثل هذه الحالة على العمل كتنظيم سري، فإن الحزب هو نفسه الحزب كما يَظهَر في "ما العمل؟". أما الحزب في الديمقراطية البورجوازية، فإنه تشكيلة تعمل ضمن هذه الأخيرة من أجل توفير الظروف أمام تشييد نظام لا يمت بصلة للنظام الرأسمالي، بل في حالة من القطيعة الكاملة معه. لذا فإن كل النظريات السياسية التي تحدَّثت عن نهاية أو تواري ما كان يسمَّى الحزب من حيث هو تنظيم ذو شكل، فإنها أطروحات مغلوطة، إذ طالما كانت البورجواية، بوصفها الطبقة المسيطرة، حائزة على قوى مُنَظَّمَة قوامها مؤسَّسات الدولة والمجتمع للحفاظ على سلطتها، فإن الطبقة العاملة هي بدورها ملزَمَة بأن تُنَظِّم نفسها في حزب. واليسار في فرنسا اليوم، ما بعد انتخاب نيكولا ساركوزي رئيسا للجمهورية، يتطلَّع إلى تشييد حزب يساري ثوري واسع مؤهَّل لاستلام السلطة. 2/ لقد تحدَّثت مطولا عن لينين من حيث هو حالة راهنة، وبالرغم من ذلك اسمح لي أن أُوجَّه إليك السؤال مجدَّدا، السؤال نفسه: هل يُعْتَبَر لينين حالة راهنة؟ حبذا لو كان الجواب موجزا.*** باختصار شديد أقول: إن تكرار ما كان لينين قام به ضرورة لا مفر منها. لقد حدَّد لينين، ضمن موازين القوى وخصوصية روسيا، الوسائلَ للبدء بصيرورة للدفاع عن مصالح العمال ضد النظام الرأسمالي. هذا ما هو راهن في لينين، أو هذا هو لينين الراهن. وما يصح قوله في لينين كحالة راهنة يصح أيضا في ما يتعلق بروزا لوكسمبورغ، وغرامشي، وفي كل من طرحوا مسألة الثورة، وبحثوا عن الوسائل الكفيلة بتلقيح موازين القوى وصراع الطبقات أو تطعيمها بأفكار تسمح بدورها بإنجاز عملية الانتقال من النظام الرأسمالي إلى النظام الاشتراكي. وبهذا الحد والمقياس يقاس ويُثَمَّن المفكِّر الماركسي. هل كان مفيدا للثورة أم لا. هذا هو المعيار، ليس غير، في مقاربتنا لهذا الماركسي أو ذاك. نقطة على السطر. 3/ أليس مصطلح الماركسية اللينينية ابتكاراً ستالينياً طالما أن ستالين يجعل من لينين أداة أيديولوجية لديكتاتورية ستالينية بمنأى عن البروليتاريا؟ أنت تحدَّثت عن هذا الموضوع مطولا في كتابك "الماركسية اللينينة". *** نعم إن الماركسية اللينينية ابتكار ستاليني. فقد كانت الستالينية – إذا ما توخَّينا الإيجاز لأن الموضوع يطول – في حاجة إلى كفالتين. الكفالة النظرية لماركس الذي يُعْتَبَر المؤسِّس، وكفالة التطبيق والممارسة المًسْتَمَدِّة من لينين. وقد رأي ستالين في إرث الماركسية رواية الكسندر دوما الفرسان الثلاثة. لكن أهم هؤلاء الثلاثة على الإطلاق رابعهم، أي ستالين الذي يحلُّ هنا محل دارتاريان، ما بعد الثلاثة الأوائل، طوس، وبروطس، وأراميس. ويأتي ستالين وهو الرابع في الترتيب أهم الثلاث الأوائل، ماركس، إنجلز، ولينين. 4- ما رأيك بأعمال تروتسكي؟ لاسيما وأن لينين وتروتسكي كانا متعارضين ما قبل ثورة أكتوبر. الأول كتب "ما العمل؟"، والثاني كتب "ماهو برنامجنا؟". وأحدهما يخالف الآخر في قضايا الحزب والديمقراطية.. إلخ، في هذين العملين اللذين كتبا في العام 1905. أنت قلما تحدَّثت عن تروتسكي. لماذا؟ *** هذا يعود إلى الفكرة التي كانت سائدة في الحزب، والتي نَزَعَت عن تروتسكي كل أهمية. وما يستحق الدراسة في العلاقات التي كانت تربط ما بين تروتسكي والبلاشفة هو المسار الشخصي لتروتسكي في علاقته بالبلاشفة، ولينين. كان تروتسكي انضم إلى البلشفية بعدما اجتاز مرحلة من العداء لهم عندما كان إصلاحيا منشفيا. وما يستحق الإشارة إليه أن تروتسكي خلال عهد لينين لم يُؤخذ عليه أصوله اليهودية. صحيح أن لينين خص تروتسكي ما بعد ثورة 1905 بكتاب تحت عنوان "تروتسكي، يهوذا الصغير"، إلا أن المقاربة هنا لا علاقة لها بمعاداة السامية، فقد وَصَف لينين تروتسكي بيهوذا الصغير لأنه خان ثورة 1905. لكن تروتسكي مارس بعد ثورة 1917 دورا في غاية الأهمية عندما كان مفوض الشعب المكلَّف بالتنظيم العسكري. وهو مؤسِّس الجيش الأحمر وروحه. بالمقابل لم تتسلم التروتسكية السلطة أبدا. باختصار، كان تروتسكي من مريدي لينين. وقد ألهمه لينين. وكان تروتسكي حتى غاية ثورة اكتوبر 1917 منشفيا، إلا أن وعي الواقع حمله على اللحاق بلينين. سابعاً - لـينين: تحليل الظروف هو أهم ما جاء به ماركس/إنجلز 1/ في ما يتعلق بالعلاقة ما بين الممارسة والنظرية، أو العمل والفكر، تأخذ الممارسة في أعمال ماركس وإنجلز، ولدى لينين بوجه خاص، وفي أعمالك أيضا، بخلاف كل الفلسفات السياسية والأكاديمية ونظريات المعرفة، إلخ، حيِّزا مركزيا هو من السعة والأهمية حتى أنه يفوق، من حيث أولويته، النظرية، يتقدم ويعلو عليها من حيث وظيفته الأبستمولوجية والسياسية الاستراتيجية؛ الممارسة حسب ما تتجلى في الصراع الطبقي المتجدِّد، وموازين القوى، والحركات الاجتماعية، والحزب، إلخ. وأعمال لينين، وحياته، ومنجزاته، تدلِّل بقوة على هذه الأهمية المعرفية للممارسة، أليس كذلك؟ إن ما يميِّز الماركسية من حيث ثورتها في عالم المعرفة والسياسة والفكر هو كشفها عن أهمية الممارسة في تغيير الفكر والعالم، أليس كذلك؟ *** إن المادية كما يراها لينين لدى ماركس، هي رؤية إنجلز لها، أي فكرة إنجلز القائلة: إن ماركس هو الوحيد الذي أخذ المادية على محمل الجد. ويضيف لينين متابعا على مسار من تحليل إنجلز: إن المادية لدى ماركس قد اكتملت، إنها بلغت غايتها ومنتهاها، طالما أن هذه المادية، على نقيض من مادية فويرباخ والماديين الفرنسيين في القرن السابع عشر، لا تتوقف عند التاريخ والممارسة، لكنها تضمُّهما وتشملهما. إنها تشملهما إلى حد أن التحليل المادي يعني هنا أننا سنعود أو نستند إلى التاريخ، وعلاقات القوى، وندمج الممارسة بالتأمل السياسي. أي أننا "لن نكون مثاليين عندما يتعلق الأمر بالتاريخ والسياسة، ونكون ماديين، ليس غير، عندما يتعلق الأمر بالفلسفة". هذا هو معنى المسعى اللينيني. حتى ان الموضوع المركزي في أعمال لينين هو مفهوم الظروف. إن نظرية مفهوم الظروف لدى لينين تظهر في مسعاه، كالنسيج منذ كتاباته الأولى، وبوجه خاص في "أصدقاء الشعب"، مادام لينين يشير هنا إلى أن المفهوم الأساسي الذي يتمخَّض عن أعمال ماركس هو مفهوم التكوُّن الاقتصادي للمجتمع، أو التكوُّن الاقتصادي المجتمعي. إن العمل بموجب التكوُّن الاقتصادي المجتمعي لحالة بعينها هو الذي يسمح الإحاطة بأطروحات ماركس، ومنها بوجه خاص الأطروحة الحادية عشرة التي تقول إنه لا يكفي تفسير العالم، بل يجب تغييره. إلا أن تغيير العالم ليس رؤية شمولية، وإنما هو توجيه للعمل في وضع بعينه. لذا، فإني غالبا ما أقول مبتغيا التبسيط إن الماركسية تُختصر بكلمتين هما تاريخ التكون الاقتصادي المجتمعي. وما يقال أحيانا حول مفهوم الظروف، يعود ويلتقي بفكرة التطبيق. ومن الخطأ بمكان أن يقال، كما يذهب البعض، إن ماركس يمثِّل النظرية، في ما يمثِّل لينين الممارسة. وهذا خطأ عظيم لسببين اثنين. أولا، لأن أعمال ماركس وإنجلز تنصب على الظروف، أو هي ظرفية. ومن الخطأ القول إن أعمال ماركس غير مكتملة، إذ كيف لها أن تَكتمل وهي نفسها تعمل في ضوء الظروف، وتخضع بالتالي بصورة مستديمة للتعديل، وهي باستمرار قيد الإنجاز. ولم يعمل ماركس بصورة نظرية إلا انطلاقا من تحليلات للظروف. والأمثلة على ذلك كثيرة. فإذا أخذنا على سبيل المثال "صراع الطبقات في فرنسا"، فإنك تَلقى أن هذا النص إنتاجٌ كان يراد منه بلوغ أهداف ظرفية متنوعة تمتد لمدة خمسين سنة. وهذا النص مصنوع بكل معنى الكلمة. وإن فكرة العمل الظرفي لدى ماركس منتشرة في كل أعماله، منذ البدء حتى غاية "رأس المال"، طالما أن موضوع "رأس المال" هو الإنتاج الرأسمالي. وإذا كانت معالجته هنا جاءت بطريقة تجريدية، إلا أن نمط الإنتاج الرأسمالي نفسه مسجَّل ومندرِج في ظرف يمتد عبر زمان طويل. وهذا يصح أيضا على الأعمال التي تُعرَف بأنها تاريخية، بالإضافة إلى انتقاد برودون، إلخ.. أي أن لينين في نهاية المطاف يتابع ما كان بدأ به ماركس بإعادة ما كان أنتجه، أي أنه – بتعبير أدق - يستعيد مسعاه. ثانيا، لأن ما يميز لينين من جهة، عن ماركس وإنجلز من جهة ثانية، لا يمت بصلة إلى الطِباع، وهو ليس وليد الظروف فقط، وإنما يرجع إلى أن لينين هو أول ماركسي ينجز ثورة. وقد أنجز لينين ما لم ينجزه ماركس وإنجلز. لقد أسَسَّ حزبا، وكان رئيسا للحزب، ورئيس دولة. وهذا الفارق ينطوي على أهمية بالغة مادام لينين انخرط أكثر من سابقَيْه الاثنين في مسار من التحوُّلات الملموسة والفعلية. وكان كل من ماركس وإنجلز، بالرغم من الأول كالثاني لم يكن ليعدم من تصميم على التدخُّل في الثورات والحركات في كل من ألمانيا وفرنسا، إلا أن الظروف حَكَمَت عليهما بمراقبة الثورات. وقد استنتجا منها دروسا ثورية. لقد درسا ثورة العام 1848، وكومونة باريس التي قادته إلى تعديل وتوسيع عدد من أفكاره. أي أن لينين وجد نفسه على متن مسعى من البراهين قوامها النظرية والممارسة على حد سواء، أي الثورة، وإنجاز الثورة بالاستناد إلى مكتسبات نظرية، منها نقد الفوضوية، ونقد الاقتصادوية.، إلخ. وهو الأمر الذي من أجله نرى أن أعمال لينين تكشف أمامنا كيف هو عمل على العجينة التاريخية، وهو عمل من نمط نظري، ومن نمط سياسي. واعتبارا من ذلك يتكشف لنا أن إنتاج لينين كله هو متابعة ومرافقة للعمل السياسي انطلاقا من العمل على سياق من الظروف. 2/ لقد عَلَقَت بالماركسية، أو بالأحرى الشيوعية، فكرة مؤداها أن السياسة تطبيق للنظرية. وغابت اعتبارا من ذلك أهمية الممارسة والفعل من حيث أن الممارسة مصدر للتجديد سواء من حيث الحدث التاريخي وما يحمله من معطيات كانت مجهولة عن الوعي والنظرية، أم من حيث تجديد النظرية السياسية. وفي هذا السياق من الممارسة والفعل تتجدَّد النظرية والوعي بالممارسة وعبرها، ثم تتجدّدَ عبر الممارسة وما يحمله التاريخ من جدَّة غير مسبوقة في النظرية، مفاهيم الحزب، عقل الحزب، وديكتاتورية البروليتاريا. إن أعمال لينين ما بعد ماركس وإنجلز توضِّح علاقة الاتصال ما بين المعرفة المادية والطبقة العاملة، الطبقة العاملة بوصفها التاريخ. وهو الأمر الذي يلقى رفضا في عالم الفلسفة والسياسة الليبرالية. فالطبقة من حيث هي مصدر للمعرفة والوعي، شأنها شأن التاريخ، غير مستساغ في الفلسفة. إن المسعى لدى لينين كما كان لدى ماركس وإنجلز سياسي مادي بصورة جوهرية، أي صراع الطبقات في التاريخ، وليس مسعى نظريا كما تريد الفلسفة؛ أليس كذلك؟ *** لينين يشير منذ البدء أن نظرية ماركس لا يجوز اعتبارها في أي حال من الأحوال وكأنها كتابٌ للصلوات، أو مستودعٌ للوصفات الجاهزة. ولم يرَ أي ماركسي في نظرية ماركس مخطَّطاً شاملا مُلزِما لفلسفة التاريخ كلها. إنها تفسير لحالة ما من التكوُّن الاقتصادي المجتمعي، والتي تحتاج، بالتالي، إلى مراجعتها كلما يلزم، وباختلاف الحالات، من حيث هي تكوينات اقتصادية مجتمعية بعينها. وهذا هو ما يقوله لينين منذ بدء أعماله في ما يتعلق بفرنسا وألمانيا وروسيا، من حيث هي حالات مختلفة بعضها عن البعض الآخر. وهذا هو ما يردِّده على مسامع الوفود التي جاءت إليه من رحاب الإمبراطورية المنقضية للقيصر تسأل البلاشفة كيف لها أن تُنجِز الثورة. وكان جواب لينين، على السؤال الموجَّه إليه من مناضلين بلاشفة في جمهوريات آسيا، هو نفسه دوما: لا تكرِّروا ما فعلناه، بل وافعلوا ما يجب عليكم فعله على الصعيد الثوري في شروط هي شروطكم أنتم. ومن هنا يأتي إلحاح لينين على الفكرة القائلة إن الماركسية دليل للعمل، ومن هنا تظهر أيضا فكرة اللحظة الراهنة، وفكرة الظرف التي تنفي مقولة التطبيق نفيا قاطعا لتأخذ بفكرة الإنتاج والابتكار. إن الممارسة السياسية من وجهة النظر هذه ليست حيزا بين غيره أو إلى جانب حيز آخر، وإنما هي الأساس لكل هذه الأنماط من التدخُّل. وهذا التحليل هو تحليل مادي. وأنا أعتقد أنه ها هنا يكمن القلب، ففكر لينين عَبْر الثورة البلشفية أصبح هو نفسه قوة مادية، قوة للتغيير. وهذا المفهوم للظروف والممارسة والعلاقة ما بينهما في اللحظة الراهنة هو الذي يقود لينين في كتاباته التي تُعرف بالكتابات الفلسفية، وهي أبعد ما تكون عن الفلسفة، إلى أن يُسَجِّل في "الدفتر في هيجل" إن قراءته لهيجل تقوده إلى النتيجة التالية: إن الممارسة تفوق مكانة النظرية لأنها لا تحوز على كرامة الشمولي فقط، وإنما لأنها تحوز أيضا على كرامة الواقعي المباشر. وإن هذا الاتصال ما بين ما هو شمولي وما هو واقعي مباشر، هو الذي يُوضِّح الأسباب التي كان من أجلها ما نجده في قلب اللينينية هو الممارسة السياسية مستَنِدَة إلى المادية. إن نظرية اللحظة الراهنة تتَّضح لدى لينين في ضوء فكرة التطعيم أو الاندماج. وبوسعنا في الواقع أن نقيس تاريخ الحركات العمالية والأحزاب الشيوعية على اختلافها حسب طريقة كل منها في معالجتها هذا الاندماج. أي كيف نجح الاندماج في سياق بعينه، في تكوُّن اقتصادي بعينه، في تاريخه، وفي شرائحه الثقافية، وممارساته السياسية. وحينئذ نستطيع أن نقيس مدى ما أحرزه كل منها من نجاح، وسندرك في ضوء دراستنا للفوارق لماذا فشل آخرون. ما هي العملية النظرية التي تفعل فعلها لدى لينين، والتي تمنحه المقدرة على التدخل في كل وضع بسرعة فكرية فائقة؟ إنها ما أُسمِّيه الصراع المثنَّى لدى لينين، وهو ما أخذه عن ماركس. فلقد أخذ عنه ما هو ماثل كخلفية لرأس المال، أي رأس المال من جهة، والعمل المأجور من جهة ثانية، وبتعبير آخر التضاد ثنائي القطب ما بين البورجوازية والبروليتاريا. وهذا يعني، من وجهة النظر هذه، أن المقصود هنا هو الاتصال ما بين الموقف المادي، ووجهة نظر الطبقة. وهو الأمر الذي يثير مشاعر المفاجأة لدى الفلاسفة التقليديين. وكان ماركس عرض له بصورة كافية، ثم استعاده لينين. فماركس في مطلع عمله "العمل المأجور ورأس المال" يشير إلى أن المسعى الذي اتَّبَعَه ليس مسعى نظريا بالمعنى التقليدي للمصطلح. وإن لينين يقول: إن متابعةَ صراع الطبقات عبر التاريخ كل يوم هي ترداد لصدى صيغة تعود لماركس الشاب كان بلورها في وقت واحد مع صديقه... . هذا هو ما يأخذه لينين. 3/ الحزب الشيوعي ينشأ عن علاقة الاتصال هذه ما بين المعرفة المادية ومواقف الطبقة العاملة. فللطبقة عقل، والحزب الشيوعي هو عقل الطبقة العاملة ما دام هو نفسه حزبها. إن المعرفة على هذا النحو تنحاز في المكان فتغادر حيز المعرفة الشمولية التجريدية لتدخل إلى الحيز الواقعي للطبقة. *** إن ما يأخذه لينين، وما سيفيد منه في قراءته للظروف، وقراءته للحظة الراهنة، هي هذه الفكرة عن الصراع المثنَّى. هذه الفكرة عن الصراع المثنَّى محمولة على مفهوم، وما لم يتوفّر هذا المفهوم فإن التنوع والجدول العريض لمداخلات لينين معدومان أو مستعصٍيان عن الفهم. هذا المفهوم هو مفهوم عقل الحزب. فإذا كان مفهوم عقل الحزب يبدو اليوم - لمن كان يريد ذلك - غير مستساغ، فإني اُذَكِّر بأن هذا المفهوم يحتل حيزا مركزيا في مسعى ماركس وإنجلز، وبأخذه لينين بإلحاح شديد عندما يقول: إن ماركس وإنجلز وهبا حياتهما للحزب. وهذا هو أيضا ما يقوله بدورهما كل من ماركس وإنجلز في ما يتعلق ببعض العارفين من أصدقائهم، كشارل مور Charles Meur وآخرين. فما هو معنى عقل الحزب؟ فلنحذر طالما أن هذا المفهوم شوِّه وانحرف وعَرِف حالات شاذة. ما هو عقل الحزب؟ إن عقل الحزب يعنى بوجه الدقة الشديدة، حسب ما جاء في "البيان الشيوعي"، عقل الطبقة. ثم أصبح يعنى بعد ذلك الحزب من حيث هو منظَّمة بوصفها مؤسَّسة. وهو مفهوم غريب عن ماركس ولينين. وإن كان الانزلاق عن المعنى الأصلي نحو تحريفه وإفساده يبدأ مع لينين، من حيث أن الحزب وقد تأسَّس وأخذ لدى لينين معنى الطليعة، فإن عقل الطبقة أصبح أكثر فأكثر يعنى عقل الحزب من حيث هو مؤسِّسة. ثم أخذ هذا المعنى قيمة ما بعدها قيمة مع الستالينية التي صادرت المعنى الأصلي لدى تأسيس الأحزاب العمالية. واعتبارا من هذا التاريخ تَلْقى الحزب منتشرا في كل مكان، وفي كل المجالات، وهو مالك الحقيقة والمستحوذ عليها، وهو المحق دوما. وفي مثل هذه الظروف أصبح الحزب هو صاحب القرار، ليس في المجال السياسي فحسب، وإنما علاوة على ذلك في مجال العلم والثقافة. لكن معنى الصراع المثنَّى والحزب مختلفان اختلافا كاملا. إن الطبقة هي المقصودة بهذا المفهوم. إنه يدل بصورة أعم على ما نسميه اليوم المسيطَر عليهم. إن عقل الحزب، أو ما أُسمِّيه العملية النظرية لدى لينين هي التي تسمح لنا باستيعاب أسس مسعاه في مختلف أوجهه، وهو ما يمكن توضيحه عبر ما يمكن تسميته أسباباً تحليلية. تنقسم مجالات التدخُّل لدى لينين إلى أربعة مجالات، وهي: نمط الإنتاج والتكوُّن الاقتصادي المجتمعي، والثورة، ونظرية الدولة، والثقافة والإيديولوجية. وهذا التقسيم بيداغوجي بغرض التحليل، ما دامت هذه المجالات متداخلة. إن لينين في هذه المجالات كلها يتابع عمل ماركس. هل لينين أهم من ماركس؟ لقد وضع ماركس حجر الأساس، وأعماله كما قلت قبل قليل غير مكتملة، طالما أن الواقع متجدِّد ومتنوع في جميع المجالات. فنظرية نمط الإنتاج الرأسمالي غير مكتملة لدى ماركس، إذ إن نظرية الإمبريالية في أعماله غائبة، وهي من إعداد لينين. ونظرية الثورة لدى ماركس غائبة، شأنها شأن نظرية الدولة، ولينين في هذين المجالات أَحرَزَ تقدما. وهو أحرز مثل هذا التقدُّم لأن تفكيره مسجَّل في ظروف كانت تملي عليه أن يعالِج هذا المجال وذاك، وأن يمنح كل منهما أولوية، وأن تكون المعالجة بعيدة من حيث شكلها عن الطوباوية والنُبوَّة لأنها كانت ملزَمَة بإيجاد الحلول السريعة لمشكلات ملموسة. فلينين عندما يكتب "الدولة والثورة"، فإنه لا يفعل حبا في التأمل، كلا، أنه يكتب لأن الظرف تفرض عليه مسألة الدولة والثورة، وهو يتوقف عن كتابة هذا العمل عندما تبدأ الثورة. إن "الدولة والثورة"، على هذا النحو، عمل غير مكتمل. وإن أداء هذه العملية النظرية، وهي عقل الحزب، منتشرة عبر أعمال لينين في كل المجالات. تراها موجودة في أول أعماله، والتي كُرِّسَت لأوضاع روسيا الاقتصادية، حيث يَفحَص لينين إمكانية مزدوجة لتطور من نمط رأسمالي، وما يمكن أن يكون عليه حال الانتقال إلى الاشتراكية. هذا الانتقال الذي يظهر في آخر مقدمة ل/"البيان الشيوعي" بقلم ماركس، وإن كانت أعمال ماركس تخلو من نظرية للانتقال، وكان لينين صاغ نظرية للانتقال، وكانت نظريته، علاوة على ذلك، فعالة. 4/ كيف تندرج ديكتاتورية البروليتاريا، والتحالفات الطبقية، وتطبيق النظرية، في ما تسمِّيه أنت الاستراتيجية السياسية في العملية النظرية لدى لينين؟ *** إذا ما أخذنا عملا مثل "ما العمل؟، تُرى ما هي الحُجَّة التي تَحمِل هذا العمل؟ إنها الشَق المفتوح ما بين الإيديولوجية البورجوازية، والإيديولوجية البروليتارية. وإذا ما أخذنا "الدولة والثورة"، فإنك تلقى النمط نفسه من البنية. فلينين يُميِّز ما بين الدولة البورجوازية والدولة البروليتارية. وكانت هذه القضايا تكتسي في حينه أهمية قصوى، وإن كانت اليوم تبدو اعتيادية. فلنأخذ ديكتاتورية البروليتاريا التي تحتل حيِّزا مركزيا في مسعاه الديمقراطي. هذا المسعى الديمقراطي لا مثيل له في التاريخ باستثناء إبداع الديمقراطية لدى روبسبيير. وإذا نظرنا إلى تاريخ ديكتاتورية البروليتاريا، فإن لينين لم يدرك منذ البدء، ومرة واحدة، ما طبيعة العلاقة ما بين تفكُّك الدولة، حيث تبدو الدولة باعتبارها نصف دولة كما كان يقول ماركس، وإمكانية البدء بمسار ثوري. وكان تروتسكي يقول لكي نعالج ديكتاتورية البروليتاريا لدى لينين، لا بد من كتابة كتاب من مجلَّدين، وقد أدرك تروتسكي إن ديكتاتورية البروليتاريا هي في قلب النظرية. وفي ضوء ذلك يظهر أمام ناظرينا إلى أي حد من الاستهتار بلغت إليه الأحزاب الشيوعية عندما تخلَّت عن ديكتاتورية البروليتاريا، أي عن نظرية للديمقراطية غير ليبرالية ؟!! إن التركيب البنيوي للصراع المُثَنَّى بعيد كل البعد عن التكرار المستمر لحالة واحدة، طالما أننا لا نستطيع أن نتدخل إلا انطلاقا من هذا التركيب البنيوي للصراع المثنى، أي للتناقض ذي القطبين في نمط الإنتاج الرأسمالي. وكيف يكون ذلك؟ لأن أي مجتمع لا يَمْثُل عبر التاريخ من حيث هو الصراع ما بين الحائزين على رأس المال، والحائزين على قوة العمل، وحسب. كلا، إننا نعرف اليوم أفضل مما كان يعرفه ماركس إلى أي مدى تحتل الشرائح المتوسِّطَة حيزا هاما. وهو الأمر الذي حَمَل لينين على ابتكار مفاهيم أساسية في كل القطاعات والمجالات، منها مفهوم تحالف الطبقات. وكان زينوفيف Zinoviev يقول: إن وضع الثورة في روسيا يفرض الفلاحين. وما يصح عن الطبقات والتحالف الطبقي يصح أيضا في ما يتعلق بنمط الإنتاج. إذ إننا لا نلقى في أي مجتمع من المجتمعات نمط إنتاج في حالته الصرفة. وإن الصراع الثنائي، بالتالي، هو وحده الذي يتيح تحليلا دقيقا للوضع. ولهذا السبب أيضا، فإن العمل الواضح للينين حول الظروف لم يجد حقه من الفهم والعناية من قبل المنظِّرين اللاحقين الذين حوَّلوا لينين إلى صلاة مقروءة، أو قراءة دينية. وهذه القراءة لا تمت بصلة إلى لينين واللينينية. إن اللينينية هي معرفة كيف كان لينين يعمل من أجل محاكاته، أي لمتابع ة عمله. كيف كان لينين يعمل في مواجهة الظروف؟ على سبيل المثال: في العام 1905، كان لينين في البدء يؤيِّد انسحاب النواب الثوريين من الدوما، وهو الأمر الذي قاد إلى انقسام البلاشفة على أنفسهم. وبعد مضي أشهر قليلة من ذلك، تراه يرفع شعار المشاركة في الدوما ما بعد الثورة المضادة، بالرغم من أن هذه الدوما رجعية. لماذا؟ لأن هذه المرحلة التي تتميَّز بالتراجع وانسحاق الثورة، في ما أطر الحزب مغيَّبين في المنفى أو في السجون، هي التي تَحمل لينين على الاعتقاد بأن الدوما، وإن كانت من الرجعية بمكان، إلا أنها تشكِّل منبرا يتيح للبلاشفة أن يَنقلوا عبره سياستهم. وإن المرحلة الغنية أكثر من غيرها بمعانيها، والتي تفصلنا عن التطبيق سنوات ضوئية، هي مرحلة ما بعد الثورة، وبالأحرى آخر سنتين اثنتين من حياة لينين. حيث لا يستعير لينين وصفات جاهزة من ماركس، ليس من أجل إنجاز الثورة، طالما أنها حَدَثَت وكان أحد الداعين إليها، وإنما من أجل توفير التدابير والمراسم التي تضمن استمرارها. ها هنا لينين يبتكر كل ما هو جديد. إنه يبتكر لأن الظرف يملي عليه ذلك. وهنا يدرك لينين على خير وجه أن ما دَرِسَه في "الدولة والثورة" غير قابل للنقل إلى الوضع الحالي. لذا، تراه يمدح الرأسمالية، وضرورة التعلُّم من الرأسمالية، وهو الأمر الذي يقوده إلى إعادة مراجعة أفكاره حول الدولة تحت تأثير انتقادات يسار البلاشفة، والتي كانت تقول إن مفهومه حول الدولة قد تراجع. وهذا يصح أيضا على التعاونيات. وها هنا يبتكر لينين بصورة حقيقية، وهو يردِّد ذلك: إن ما نقوم به حاليا غير موجود في أي كتاب، والمقصود من وراء ذلك بصورة خفية أنه غير موجود في كتبه أيضا، لأن الظرف يملي الابتكار والتجديد. وهذه هي النقطة الهامة في تعاليم لينين إذا ما أخذنا تحاليله في تلك الفترة، أي عندما كان يطرح منذ نهاية العام 1921 السؤال التالي: من الذي سينتصر؟ من الذي سينتصر من أمرين اثنين: الرأسمالية أم الاشتراكية؟ ولعلنا نستطيع أن نؤكد أن لينين في نهاية حياته كان مقتنعا عن يقين بأن الانتصار لن يُكتَب للاشتراكية، وذلك من جراء الظرف بوجه التحديد. وهذه المسألة يطول الحديث فيها. أعود لأقول أن الدرس المستقى اليوم من لينين هو بوجه الدقة الدرس التالي: إنها فكرة الصراع المُثَنَّى، هذه الفكرة عن الصراع، وهي أقوى اليوم منها عما كانت عليه في عهد ماركس. وعندما يُقال إن رأس المال عَمل يعود زمانه إلى القرن التاسع عشر، وكان مؤاتيا على خير وجه للقرن ما قبل الماضي، وأن الحاضر قد تجاوزه وتخطاه بما في ذلك الطبقات، وأننا نجتاز مرحلة ما بعد الرأسمالية؛ فماذا ترانا نعاين أمامنا؟ إن التناقض الأساسي يزداد خطورة، ولم تكف خطورته عن الاشتداد حتى أننا نرى اليوم على خير وجه أن الاستقطاب، استقطاب المسَيطر عليهم، واستقطاب المسيطِرين، لم يبلغ في الماضي مثل هذه الدرجة من القوة التي تؤكِّد نفسها اليوم. هذا الاستقطاب ضمن الصراع المثنَّى هو الذي يُعْتَبَر اليوم العملية النظرية السياسية التي كانت لدى لينين بمثابة النسيج في أعماله، والتي ظهرت عبر الصراع المُثَنَّى، ومن خلال عمله على الظروف، وفي متن عقل الحزب. كان بريخت يرسم للمثقفين مهاما، وكان مسعاه في ذلك لينينياً على خير وجه، وهي مهام متواضعة لأن المثقفين لا يصنعون التاريخ، بل إن الجماهير هي التي تصنعه.. كان بريخت يقول للمثقفين: أنا أتمنى لكم حظا جيدا. ثامناً - لــينين والــثورة: الماركســية ليســت وصــفة جـاهـزة، فالثـورة ســياق من الظــروف وليـست مســارا من الأفكــار 1/ الثورة الفرنسية 1789، وثورة أكتوبر 1917 ، ما العلاقة بينهما، وما هو تأثير الأولى على الثانية؟ *** لقد صنع لينين ثورة. لذا فإن أصحاب الأملاك في العالم يكنُّون له اليوم مشاعر الكراهية. وفي تاريخنا مثال آخر هو روبسبيير الذي أنجز يدوره ثورة، وهو ما يزال يَدفع ثمن ذلك غاليا. وكانت جمعية تطلق على نفسها اسم "أصدقاء روبسبيير" طالبت بدون جدوى في عهد الرئيس "الاشتراكي" فرانسوا ميتيران أن يُطلَق اسمه على شارع، أو حتى زقاق بدون منفذ في باريس. كما رَفض الرئيس ميتيران أن تُتقل رفاته إلى مقبرة العظماء في باريس (بانتيون). وهم آثروا عليه كوندورسيه الذي مات في منتصف طريق الثورة، ولم يَسفك دماء أحد. أما روبسبيير فإن اللعنة حلَّت عليه. وكان صادف أن فرنسا احتَفَلت بالذكرى المئوية الثانية للثورة الفرنسية في ما كان الاتحاد السوفياتي، وبلدان ما كان يسمى بالاشتراكية الواقعية، تنهار. تراهم احتفلوا لتخليد من؟ وأي أفكار؟ إن ثورة 1789 تُمَثِّل إعلان حقوق الإنسان، ما في ذلك شك، ويُجمع الكل على ذلك. أما ما يأتي بعد ذلك في تاريخ الثورة الفرنسية، فإنه مثار للاستنكار في أوساط البورجوازية ومثقَّفيها. ذلك إن ما يلي العام 89 يَحمل إلى التاريخ التناقضات الطبقية، وكومونة باريس، وروبسبيير، والرعب. وها هنا أتذَكَّر حكاية غنية بالمعاني. فقد سأل صحفي أمريكي ماوتسي تونغ في الخمسينات عن رأيه في نتائج الثورة الفرنسية، وكان جواب ماوتسي تونغ على النحو التالي: من السابق لأوانه معرفة ذلك! هذه المقاربة ما بين الثورتين ليست وليدة الصدفة. فالاحتفالات بالذكرى المئوية الثانية شهدت صداما ما بين مدرستين اثنتين. مدرسة ميشيل فوفيل Michel Vovel، التي تَضم مؤرخين كثر، منهم على سبيل المثال ألبرت سوبول Albert Soboul ، وجورج لوفيفر Georges Lefebvre، والتي قدَّمت الثورة الفرنسية من حيث هي تغيير في طبيعة السلطة قاد إلى دخول فرنسا إلى المعاصرة. وهذه المدرسة تحيِّي أبطال الثورة من أمثال جان بول ماراJean Paul Marat ، ومكسميليان روبسبييرMaximilien Rabespierre ، ولويس أنطوان دو سان جوست Louis Antoine de Saint Just. ومقابل هذه المدرسة، فإن مدرسة فرانسوا فوري François Furet تنفي الثورة الفرنسية نفيا كاملا، وتزعم أن الثورة لم تحدث. فالثورة الفرنسية تُختَصَر حسب هذه المدرسة إلى سلسلة من الظواهر العارضة بدون نتائج عظمى. وفي هذا المنحى نفسه من التفسير، تظهر ثورة أكتوبر 1917 التي ظلَّت تُعتَبَر خلال فترة طويلة من الزمان استمرارا للثورة الفرنسية، إلا أنها أصبحت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي انقلابا بقيادة عدد من الشخصيات من بينها لينين. هذا هو التفسير السائد من جراء انهيار البلدان الاشتراكية. ومن هنا تأتي الأقوال واسعة الانتشار: روبسبيير هو ستالين، والرعب هو الغولاغ le Goulag. 2/ الثورة حسب لينين تطبيق للنظرية أم ابتكار وتجديد لها؟ يبدو أن التطبيق هو الغالب لأن إنجاز ثورة في بلد يفتقر إلى بروليتاريا قوية وواسعة شرط لم يكن متوفرا في ثورة اكتوبر، فكأن النظرية تنسينا الواقع. كما أن الممارسة الثورية عبر اندلاع الثورة لأسباب موضوعية وضرورية تحمل معها التجديد في العمل نفسه كما في الوعي والنظرية. فهل يلحق الوعي بالممارسة دوما؟ *** لينين هو الذي أنجز ثورة، والدرس الجوهري المستقى من لينين، وهو الذي يجعل منه واقعا راهنا، وحدث الساعة، ويمدُّه بحضور مستديم، هو، بوجه الدقة، فعل الثورة، هذه الثورة، أكتوبر 1917. وبٌخْبرنا لينين أن من الصعوبة إنجاز ثورة، بمعنى أنها ليست معطى بصورة مسبقة، وأن الابتكار بصورة مستديمة ضرورة لا مفر منها. هذا هو ما نتعلَّمُه من لينين. كان روبسبيير محاميا شابا من شمال فرنسا. ووَجَد نفسه، إن صح القول، نائبا في المجلس التشريعي. وقرأ روسو ومونتسكيو، وآخرين. وعندما توالت الأحداث الثورية حَمَل مسار الثورة معه روبسيير. وحاول أن يعي هذا المسار بما لديه من زاد نظري ضئيل، واضطر إلى الابتكار بصورة مستمرة. ولينين يتمتَّع بميِّزة على روبسبيير لأنه كان يَعرف ماركس، ونظرية الثورة وغايتها، ألا وهو التخلُّص من علاقات الإنتاج الرأسمالية. بيد أن لينين أدرك، على وجه السرعة، أن بالإمكان بفضل هذا الزاد – وهنا يكمن الهدف من مؤلَّفه "ما العمل" – أن تتسلَّح البروليتاريا بسلاح هو منظمتها السياسية، أي الحزب، وأن تَحْمِلَ مهاما هي نفسها مهام الحزب، وأن تتزود بمؤهلات تربوية، ودعاية، ومهام نظرية، إلخ.. . لكن حيِّز المسار الثوري ليس مسارا من الأفكار، وهو غير مُدَوَّن في أي كتاب، ويجب إنجازه بما يتوفر لدينا من معطيات، ومع بلادنا حسب ما هي عليه أحوالها وأوضاعها وظروفها، ومع أهالينا. كما يجب تشغيل هذا المعطيات كلها. لذا، فإن لينين يكتب "تطور الرأسمالية في روسيا" الذي يَسمح له أن يَفهم أن بلاده ذات خصوصية أصيلة إلى حد بعيد، بمعنى أن روسيا ليست بلدا دخل بصورة كاملة في الطريق الرأسمالي للتطور. فهو مقيَّد بأنماط مختلفة من الإنتاج سابقة على نمط الإنتاج الرأسمالي، وهي، في الوقت نفسه، مقيَّدة بتطور صناعي خارق للعادة في مدنها الكبرى. ويدرك أيضا لينين أن روسيا غير حائزة على القوى الثورية بصورة كافية. فالطبقة العاملة فتية. وهي مُنْتَزَعة من الفلاحين ما دام إلغاء الرق يعود تاريخه إلى العام 1860. كما جُرِّدَت طبقة الفلاحين من وسائل استثمار الأرض، وأُلقي بها إلى نظام صناعي يتطور بسرعة شديدة وبصورة قوية للغاية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الطبقة العاملة تفتقر إلى التجربة. وهو الأمر الذي كان يملي تأسيس أندية للدراسات، والمجموعات، والصحف، في بيئة قمعية بصورة شرسة. وعلى هذا النحو، فإن الغالب في أعمال لينين هو إذن الممارسة السياسية، والاتصال ما بين النظرية والممارسة، هذا الاتصال الذي يَضَع الأفكار على محك امتحان التناقضات الواقعية لها. والدليل هو نظرية ماركس، ويجب الحفاظ عليها والدفاع عنها ضد كل الأخطار التي تهدِّدها، وضد كل تسرب ينتقل إليها عبر الإيديولوجية البورجوازية المسيطرة في روسيا، وهي حاضرة لدى الثوريين أنفسهم، كما لدى الشعوبيين الذين كانوا يعتقدون أن قتل القيصر كافٍ لإطلاق المسار الثوري. وللممارسة أهمية مُلِحَّة شأنها شأن الثورة التي تقود دوما إلى ابتكار مراسم وإجراءات وتدابير جديدة من أجل إدراك الثورة، واستيعاب معانيها ومفاهيمها، ولمتابعتها، ولإنجازها بصورة كاملة. وتقود المفاهيم والممارسات إلى أقرب تقدير واقعي لموازين القوى، سواء في داخل البلاد أم على الصعيد الدولي، حسب ما يتبيَّن عبر السنوات ما بعد 1917. فالبلدان الغربية لم توفِّر جهداً، واستخدمت كل الوسائل، من الحرب إلى الدبلوماسية، في محاولة لتدمير السلطة السوفياتية، من الخارج بالاعتماد على التحالف العسكري، ومن الداخل بالاعتماد على الجيش الأبيضكي تلغي السلطة السوفياتية. لما بدأت مسيرة الثورة في العام 1917 انطلقت أيضا وبالضرورة عملية تشييد الدولة الاشتراكية. وإن كتابات لينين توضِّح على خير وجه الصعوبات الكأداء التي كانت تواجه بناء المجتمع الاشتراكي في بلد لم يكن رأسماليا بصورة كافية. وكان ماركس يرى أن الاشتراكية تظهر عندما تَقطَع الرأسمالية مرحلة متقدِّمة من التطور، كما هو الحال في بلدان من أمثال فرنسا وبريطانيا. لذا، فإن الاشتراكية كانت تبدو وكأنها نزوع للرأسمالية، وعنها تظهر. إلا أن انبثاق الاشتراكية لا يأتي من تلقاء نفسه، ولا بد من مساعدته. وهو الأمر الذي يقود ماركس في "البيان الشيوعي" إلى التوكيد على ضرورة تشييد حزب شيوعي، ومنظَّمَة، وحالات من الصراع مُوَجَّهة كما ينبغي. ويلح لينين، من جهته، على واقعة مؤداها أنه من السهولة بمكان أن تبدأ الثورة في روسيا، إلا أن من الصعوبة بمكان تشييد دولة العمال فيها. وكان لينين يعوِّل في المقام الأول على امتداد المثال الروسي إلى ما وراء حدوده، وبوجه خاص إلى ألمانيا، وما يمدُّها هذا الامتداد من أسباب القوة. فالثورة الروسية لن تُنجِز مهمتها ما لم تَلحَق بها ثورات غيرها. وكانت محاولات إنجاز ثورات في كل من ألمانيا، وهنغاريا، وإيطاليا، فشلت. فوجد الاتحاد السوفياتي نفسه وحيدا. وواجه لينين حتى اللحظات الأخيرة من حياته في العام 1924 صعوبات جمَّة في تشييد ديمقراطية اشتراكية للعمال، من جراء افتقار روسيا للوسائل التي تسمح لها بمثل هذا الإنجاز. وكان كتب هذه العبارات التراجيدية: "القد اختَفَت البروليتاريا". ذلك أن البروليتاريا في روسيا كانت قليلة من حيث تعدادها، وكان بناء جهاز الدولة والحزب قد امتصَّها، حتى إذا ما حان وقت الثورة في عالم العمل لم تلقَ الثورة سوى الفراغ. فكيف للثورة أن تستمر في مثل هذه الحالة؟ وكما تساءل لينين في العام 1902 "ما العمل"، فإنه تساءل في ختام حياته "من هو المنتصر، الاشتراكية أم الديمقراطية؟". وكانت العقبات من الأهمية بمكان، وهي مثار للمناقشات والجدل ، ومصدر لتوتر ضمن الحزب البلشفي. وكانت النتيجة أنهم ابتكروا صيغة تزعم لنفسها أنها توفِّق ما بين الرأسمالية والاشتراكية، وهذه الصيغة هي السياسة الاقتصادية الجديدةNEP . وكان لينين يعرف أن هذه الصيغة تشكِّل تراجعا ملموسا. وهذا التراجع غني بالعبر. بيد أن الوقت لا يتسع هنا للرجوع إليه بصورة موسَّعة. وأكتفي بالإشارة إلى أن هذا التراجع قد انتهى إلى تكوين بيروقراطية، أي جهاز قوي للغاية يصادر السلطة، ويحرم بالتالي البروليتاريا منها. ولينين في ختام حياته يعرف من هو المنتصر. الاشتراكية لم تنتصر. الستالينية هي التي انتصرت. الستالينية نظام هجين (ابن زانية) يأخذ عن الرأسمالية تعزيز الدولة بدل أن يزيلها، وذلك بالإضافة إلى مختلف إجراءات القهر التي ترافق هذا التعزيز. ما بعد وفاة لينين قال قدامى أصدقاء لينين من البلاشفة: إننا صنعنا الثورة في بلد متأخر من حيث تطوره، وفي ظروف مقيتة، ومع طبقة من الفلاحين قوية، وبروليتاريا صغيرة، وسياق دولي معاد بصورة شديدة، وإنها بالتالي ثورة من نوع خاص بصورة مُغْرِقَة. ثم جَرَت تصفية حملة هذه الأفكار. وانتصر خطاب من نمط آخر. خطاب ستالين الذي كان يؤكِّد أن الثورة التي يتحدَّث عنها ماركس، الثورة الاشتراكية هي التي انتصرت، وأنها تنشر رسالة للعالم أجمع. وقد فَرَضَ هذا الخطاب نفسه على الأممية والأحزاب الشيوعية كافة. وكان مصدرا للكثير من الأخطاء، إن لم يكن الكوارث. ففي روسيا نشأت دولة ليست دولة العمال، وليست ديكتاتورية البروليتاريا، وإنما الديكتاتورية المفروضة على العمال، بالرغم من بعض الإيجابيات. وكانت التوجيهات التي فُرِضت على كافة الأحزاب الشيوعية في جميع أنحاء العالم واحدة في كل مكان، وهي لا تمت بصلة إلى الواقع. بل، وإنها قادت إلى طريق مسدود اجتماعيا وسياسيا. ها هنا كانوا يُتجاهلون دور الفلاحين، وهناك دور الدين، حتى أن هذه الشمولية التجريدية تمخَّضت في كل مكان عن نتائج ضالَّة وشاذة. هذا الوضع بقي لمدة طويلة بعيدا عن متناول وعي كثير من الثوريين، لأن الاتحاد السوفياتي و"المعسكر الاشتراكي" كانا يعبِّران عن الآمال العظيمة للعمال في العالم أجمع، وكانا طوال عقود من الزمان مرجعا لا بديل عنه لنضالهم. والحال، أن المسيرة الثورية تتميَّز بصورة مستديمة بخصوصيتها. وهذه الخصوصية تَفْرُضُ عملا دائما قوامه الابتكار. ها هنا تكمن عبقرية لينين. هاهنا تظهر أعمال لينين، وما تحمله معها من تصحيح وتعديل وتسوية للمفاهيم وضبطها في ضوء واقع متجدِّد وخصوصي، سواء في ما يتعلق بموازين القوى، أم صراع الطبقات، وتعريف السلطة وتحديدها، ودور الحزب، والنقابات، والجماهير، والإيديولوجية، والبنى العليا، إلخ.. . هاهنا يكمن الدرس الدياليكتيكي من حيث هو الرقابة الذاتية للواقع من قِبَل النظرية. إن الماركسية لا صلة لها بوصفة جاهزة قابلة للتطبيق كقالب الجص بالنسبة لقدم من خشب. تاسعاً - الإمـبريالـية والـديمـقراطــية الـيوم عـلى مـســـار لــينين 1/ أنت تفضِّل تعبير الإمبريالية على العولمة، وتُؤثِر الأممية من حيث هي البروليتاريا المنظَّمَة في العالم على الأندية الاجتماعية لحركة العولمة الأخرى، وتنادي بديكتاتورية البروليتاريا لأن الثورة هي الديمقراطية وقد فَتَحَت أبوابها أمام كل المحرومين سياسيا واقتصاديا، أو لأن الثورة والديمقراطية الواسعة لا ينفصلان. هل لك أن توضِّح ذلك؟ *** إن السمات المُمّيِّزة لعالمنا الراهن لا تضيف شيئا جديدا إلى ما كنا نعرفه في الماضي. ففي مطلع "البيان الشيوعي"، يبيِّن كلٌ من ماركس وإنجلز أن من طبيعة الرأسمالية أن تمتد لتشمل العالم أجمع، وأن تتعولم، وأن تَفرض على الكرة الأرضية علاقاتها الإنتاجية مدمِّرَة الأشكال السابقة للإنتاج. وإننا نعيش اليوم، وقد سيطر رأس المال المالي، حالة موصّفَة من إكمال ما كانت الرأسمالية بدأت به، وهو رأس مال المضاربة، وصورته الحية هي البورصة. وكان الجزء الثالث من "رأس المال" لماركس تحدَّث عن الرأسمالية عندما تُتْبِع الإنتاج لرأس المال المالي. ففي مثل هذه الحالة من الرأسمالية، تتغيَّر المعادلة من: مال- بضاعة- مال، عندما تتقلَّص الرأسمالية إلى العلاقة ما بين المال والمال، أو "المال الذي يَصنع المال كشجرة الأجاص التي تحمل أجاصا". وإذا كانت مثل هذه الحالة متعذَّرة في القرن التاسع عشر، إلا أنها في زماننا تظهر للعيان أمامك كل يوم في حالتها الملموسة. (للتذكير: هذا الحوار يعود تاريخه للعام 2007-2008، أي قبل انتشار الأزمة الرأسمالية السائدة حاليا). هذه الحالة من الرأسمالية مُصْطَنَعَة، سطحية وعابرة، ما دام الاقتصاد من حيث هو مُنْتِج للثروات هو الفاعل الرئيس. وكان لينين شرح على خير وجه ما بلغت إليه الرأسمالية من مراحل التطور، بيد أنه لم يُطلِق عليها العولمة، وإنما عرَّفها بوصفها الإمبريالية. لا مفر إذن من العودة إلى لينين، وذلك بالرغم من أن الأوضاع الحالية ليست هي نفسها التي كانت سائدة في العام 1902 عندما كتب لينين "ما العمل؟". وفرنسا ليست روسيا. وقد بلغ العمال اليوم درجة من الوعي السياسي تفوق بكثير ما كان وعيهم عليه في الماضي. وكان لينين يقول: إن المثقَّفين إذا هم لم يَنقلوا علم الثورة إلى العمال، فإن هؤلاء سيبقون سجناء الاهتمامات التعاونية، ولن يتجاوزوا مرحلة التعاضد والتنسيق. هذا كله انتهى عهده. وللتصدي للإمبريالية يحمل الجواب اسما بسيطا هو مناهضة العولمة. فإذا كان تعبير العولمة حلَّ محل الإمبريالية، فإن مناهضة العولمة هي الجواب الطبيعي. وهنا يظهر مصطلح العولمة الأخرى، وعالم من نمط آخر. فأي عالم هذا الذي تتحدث عنه حركة العولمة الأخرى؟ نعم، إن حركة العولمة الأخرى مسوغة، وهي موضع للقبول بها طالما أنها تناهض الاحتكارات، والحرب، وسياسات الاستغلال والسيطرة الأمريكية. إلا أن ما تنادي به من عالم من نمط آخر يفتقد للوضوح، ويتَّسع لما هب ودب من تفسيرات وانتماءات سياسية وإيديولوجية، ويلتقي تحت سقفها كل من الاشتراكيين الديمقراطيين الذين يزعمون بمناسبة انعقاد المنتديات الاجتماعية أنهم معادون لليبرالية، واليمين الاجتماعي (الديغولي) الذي يدعو إلى "عولمة إنسانية". لذا كان الحذر والتيقظ مطلوبين أمام هكذا ظواهر. أنا أُسمِّي العولمة باسمها، وهو الإمبريالية. فمن هو نقيضها؟ الأممية ليس غير. ونحن مدينون هنا للينين مرة ثانية. فإذا كانت الأممية هي نواة حركة العولمة امن نمط آخر، فإن مخاوفنا حيال هذه الأخيرة لن يكون لها محل، لأن العولمة من نمط آخر في مثل هذه الحالة ستكون تجمُّعا للقوى التقدمية المهيَّأة لتغيير العالم، ولن تقتصر أيضا قاعدتها المجتمعية على شرائح من الطبقة الوسطى. وكان ماركس وخلفه نادوا بالتحالف ما بين الطبقة العاملة وشرائح من الطبقة الوسطى. والحال أن تطوُّر الرأسمالية، وظهور ما يسمَّى بالعولمة، قد أضرَّ بالطبقات الوسطى، وليس بالعمال وحدهم دون غيرهم. فالأرجنتين، على سبيل المثال، كانت أفضل تلميذ مجتهد في مدرسة صندوق النقد الدولي، والمنظمة العالمية للتجارة. وهي وافرة الغنى والثروات. وتبلغ مساحتها خمسة أضعاف مساحة فرنسا. ويصل عدد سكانها إلى 35 مليون نسمة. وهي غنية بثروتها الحيوانية، إذا إن عدد مواشيها لا يقل عن 40 مليون رأس، وذلك بالإضافة إلى مصادر للثروة غيرها. وبالرغم من ذلك، فإن الأرجنتين انهارت ما عدا قبضة من المسيطِرين السائدين الذين نهبوها. وانهارت معها مكوِّناتها المجتمعية. إلا أنها عبَّرت حيال مأساتها عن أشكال أصيلة من التضامن المجتمعي. وإذا كنت أُدعو إلى التيقظ حيال شرائح من الطبقة الوسطى مناهضة للعولمة، فلأن الإيديولوجية غالبا ما تعكس بصورة أمينة مسالك الطبقة التي أنتجتها. فجوزي بوفي José Bové يدعو إلى الإصلاحات، ويرفض الثورة، ويقول إنها فكرة يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر، وهي لاغٍ وقد مضى زمانها وولَّى. فهل ننسى ما آل إليه الإصلاح بعد إدوارد برنشتاين Eduard Bernstein، وتجارب أحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا الغربية؟ ويذهب الرئيس السابق لجمعية آتاك المناهضة للعولمة جاك نيكونوف Jacques Nikonoff في منحى مشابه عندما يرفض بدوره الثورة. ولا تختلف عن ذلك كثيرا الأحزاب الشيوعية عندما تتخلَّى عن ديكتاتورية البروليتاريا. فقد حلَّت، بعد ذلك، محل الثورة مفاهيم وقيم الحوار، واللقاءات، والوفاق. واستُبدِلت الطبقة بعلاقات الشراكة المجتمعية مابين العمال والدولة وأرباب العمل. وفي ما يتعلق بتغيِّيب الطبقة العاملة من الخطاب السياسي السائد، بالرغم من أن ثقل هذه الطبقة على الصعيد العالمي ما انفك يزداد أهمية خلال السنوات الأخيرة، يرى بعض علماء الاجتماع أن العمال العاطلين عن العمل والمسرَّحين منهم لمختلف الأسباب، ويعدُّ هؤلاء بعشرات الملايين، يشكِّلون اليوم صنفا أو فئة من الناس يُطلقون عليها اسم "الفقر الجديد". صحيح أن ماركس ولينين لم يتحدَّثا عن الفقر الجديد. وكان ماركس يشير إلى هؤلاء تحت اسم "الجيش الاحتياطي". فحياة العمال مرهونة بالظرف المجتمعي. ذلك إن العمال مرشَّحون لنبذهم من المسار المجتمعي الاقتصادي للعمل، والحكم عليهم بالبطالة. أما في فترة اقتصادية أفضل، فإنهم يجدون العمل. وعلى هذا النحو يبدو الفقر والبطالة عن العمل من حيث هما ظاهرتان مرتبطان بالظروف. ونحن نرى أن هذه الظواهر بنيوية طالما أنها من نتاج بنى نمط الإنتاج الرأسمالي. ولنلتفت من جديد إلى مسألة الثورة. وهي لدى لينين تعنى ديكتاتورية البرولتاريا. أي سلطة الأكثرية التي تعارض ديكتاتورية الأقلية وتحل محلها بديلا عنها. وإن ما يسمَّى اليوم بالديمقراطيات ما هو إلا ديكتاتوريات للبورجوازية، وإن كانت طبيعتها مموَّهة بصورة أفضل مما كانت عليه في الماضي البعيد، ما دامت النضالات المجتمعية، بفضل الماركسية واللينيين في المقام الأول، قد أعادت قولبتها. وإن ممارسة البورجوازية للسلطة عبر ديمقراطياتها يدلِّل على استمرار هذه الديكتاتورية. وبالمقابل فإن ديكتاتورية البروليتاريا لا غنى عنها لأنها تمثِّل الديمقراطية الواسعة والحقيقية، والتي تخلَّصَت من حالات الاستلاب، وأشكال الاستغلال، والقهر. ولم يركن لينين إلى السكوت عن هذه القضية، بالرغم من أن ستار الصمت يُسْدَل بعناية، وهو طبقي وإن كان يأتي أيضا من اليسار، على دفاعه ما بعد ماركس عن أطروحة ذات أهمية أساسية، وهي القائلة بأن الثورة والديمقراطية لا ينفصلان. فالثورة هي التفتُّح الكامل للديمقراطية. إنها تؤرِّخ لدخول المنبوذين كلهم إلى الديمقراطية التي كانوا محرومين منها. دخولهم إليها عن طريق القوة أو بالأمر الواقع، هم العمال أو من لا أملاك لهم. عاشرا - ســقوط الاتحـاد الســوفياتي : ثـورة أكـتوبر ولـدت فــي ظــروف مــقــيتة، والشيوعية التي انهارت هي تلك "الروسية"، لكن الشــيوعـية الماركسية تبقــى حــية. 1/ إن انهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، وخروج الأحزاب الشيوعية ما بعد الانهيار في هذه البلدان وهي في حال من الهلهلة الكاملة، يعود بنا بقوة إلى أزمة الماركسية. والمشكلة الأولى أمام هذا الحدث التاريخي هي أن أكثرية من اليساريين يَستنتجون من هذا الانهيار أن الماركسية انتهت، وأن انتقال هذه البلدان إلى اقتصاد السوق والديمقراطية من النمط الغربي يُؤذن بنهاية الشيوعية. أنت تَعتقد أن هذه الأفكار هي استنتاجات متسرِّعة، وأن مثل هذه الأحكام المبسَّطَة لا تقوى على المقاومة أمام التاريخ المعقَّد للانهيار، وأصوله الضاربة في القِدَم منذ الأيام الأولى لثورة أكتوبر 1917، من جهة، وأمام تاريخ الماركسية من جهة ثانية. *** أنا أنطلق من معاينة الوقائع. إن الظواهر التي ترافق هذا الانهيار تجعل مما يسمُّونه "أزمة الماركسية"، أزمةً ذات طبيعة سياسية واضحة. وحري بنا أن نتحدَّث عن أزمات ماركسية بصيغة الجمع طالما أن الماركسية ما انفكت تختلط بأزماتها. وكان أول من استخدم هذا المصطلح توماس ماساريك T.G. Masaryk في نهاية القرن التاسع عشر (1898). إن الماركسية، كونها تطمح إلى تغيير العالم وليس تفسيره كما تقول الأطروحة الحادية عشرة لفويرباخ، أي التدخل بصورة مباشرة وبالممارسة في شؤون المدينة، فإنها تشكِّل حالة فريدة في التقليد الفلسفي مادامت قبلت بصورة مسبقة وجوهرية، أو من حيث طبيعتها، أن تكون صيرورة العالم، وأن تتحمَّل مسؤولية كل الوجوه التاريخية التي تزعم أنها سليلة ماركس والماركسية، وأن تَقبَل أيضا بمصائبها وكوارثها كلها. الماركسية تعمل بالأزمة. والأزمة وظيفتها وأداؤها. وأزمة الماركسية هي بالضرورة أزمة الأشكال التاريخية لوجودها. ومما لاشك فيه، أن الماركسية منذ الأعمال الأخيرة لإنجلز، ومع أوائل اللاحقين، ك/لابريولا أوبليخانوف، قد أثارت مناقشات نظرية ذات صلة وثيقة بوظيفتها النقدية من جهة، وافتقادها للكمال من جهة ثانية، وما يرافقها من غموض وتناقضات من جهة ثالثة، وفوق هذا وذاك من جراء مظهرها وثيق الصلة بالظروف والشروط الموضوعية، وكونها تركبب جدلي للنظرية والممارسة، وبسبب حالات كثر من التحليل (من أوضاع الطبقة العاملة في بربطانيا، إلى نقد برنامجي غوتا وإرفوت)، إن لم نقل الأعمال كلها بما في ذلك "رأس المال". ومنذ وقت مبَّكر، فقد أصبحت السياسة منذ بدء التحريف بيد برنشتاين، وتحت تأثير التطورات المستجدَّة لرأس المال، وما يرافق ذلك من مناقشات كاوتسكي ولوكسمبورغ. وكانت الخطوات التنظيمية الأولى لصالح الطبقة العاملة قد ظهرت لتوها من برامج، واستراتيجيات، ومنظَّمات، وتأهيل المناضلين، إلخ. وكانت هذه الأخيرة، من الناحية النظرية، هي الأقوى، وليس الأفكار، مما عداها.. أصبحت السياسة في ضوء ذلك كله هي الرهان الحقيقي لمختلف الخطوط العقائدية. إلا أنه رهان دراماتيكي بمكان، طالما أن مؤسسات قوية قوامها جمعٌ لا انفصام فيه ما بين عقائديات جامدة وبدع، هي التي كانت تتحكم بالرهان، وهي التي استمرت على إعادة إنتاج هذا الوضع نفسه. وهل كان الأمر يختلف في ما يتعلق بالرهان السياسي للعقيدة في الأربعينات، عندما كان ماركس وإنجلز يتجادلان مع إخوانهم الأعداء من اشتراكيين وأعضاء في العصبة الشيوعية؟ فما بالنا اليوم وقد انهارت ماركسية الدولة المثقلة بسبعين عاماً من وجود صاخب عالميا. لذا، تبدو الأزمة اليوم واضحة للعيان أكثر مما يلزم. 2/ الأزمة الراهنة التي لحقت بانهيار الاتحاد السوفياتي ليست إذن غريبة عن الماركسية التي تتعامل معها كجزء لا يتجزأ منها؟ *** إن النظرية السياسية هي النتاج الأضعف أو بالأحرى الأكثر انفتاحا في أعمال ماركس وإنجلز. فنظرية السلطة في أعمالهما يقتصر جلها على توجُّه نقدي ترافقه بعض الرؤى للمستقبل، وهي أبعد ما تكون عن لوحة مكتملة لمجتمع شيوعي في المستقبل، طالما أن الشيوعية هنا ليست سوى ميل مُسَجَّل ضمن العلاقات الرأسمالية للإنتاج، وهي "الحركة الواقعية التي تلغي الحالة الراهنة"، حسب ما جاء في "الإيديولوجية الألمانية". وإذا كان نقد الدولة الهيجلية، وما بعدها كلاً من النظامين الفرنسي والألماني في عهدهما، يفكِّك ويدمِّر بصورة قوية هذا وذاك من أنظمة الدولة مستعينا بمفاهيم الطبقات وعلاقات القوى، ويَكشف عن الميل لدى الطبقات المسيطِرَة إلى توظيف أجهزة السلطة في خدمة مصالحها، فإن هذا النقد لا يُشكِّل رؤية استراتيجية منتهية. إنه يكتفي بتقديم مبادئ ذات توجُّهات، كحكومة العمال، وضرورة اجتياز مرحلة من القسر أو الإلزام (مرحة ديكتاتورية)، ومنح امتيازات لل"المجتمع المدني"، وتشييد ديمقراطية ليست هي نفسها الديمقراطية الشكلية للبورجوازية. وكان "رأس المال" كما هو معروف، والذي لم يَكتمل بسبب وفاة مؤلَّفه ماركس، قد أفرد صفحة واحدة فقط للطبقات. وإن التحالفات الطبقية التي تُعْتبر شرطا ضروريا للمسار الثوري تحظى بمقاربات متنوعة، وإن كانت مختلفة بعضها عن البعض الآخر بصورة ضئيلة. فتارة يكون التحالف الطبقي مع البورجوازية الصغيرة، وتارة مع الفلاحين، أو حتى مع البورجوازية نفسها. وهذا الانفتاح النظري يشمل أيضا البروليتاريا أو الطبقة العاملة بوصفها نظاما بين غيرها من الأنظمة المجتمعية ذات وضع خاص بها – والمفهومان غير مطابقين أحدهما للآخر طباقا كاملا – لا يخلو من صعوبات في ما يتعلق بتعريفها، وصلة هذا التعريف والنظام بعلاقات الإنتاج، ومن وجهة نظر"الوعي"، فضلا عن وظيفتها، بوصفها عامل انبجاس من داخل الرأسمالية أم من خارجها. والأمر لا يختلف كثيرا في ما يتعلق بالحزب. وكان كل من ماركس وإنجلز، في ما عدا مرحلة العصبة الشيوعية، غير منتمَين لحزب. ولم تكن الأممية الأولى والثانية حزبا. بل، وإنهما، على النقيض من ذلك، لم يوفر كل منهما انتقاداته تجاه المنظَّمات التي كانت تتأسَّس تحت رعايتهما. فقد انتصب ماركس لرفض صفة "الماركسي". وَسَخِر مما انتهى إليه صهره من قناعة في هذا الشأن. ففي رسالة موجَّهة من ماركس إلى إنجلز في 11 نوفمبر 1882 تراه يكتب ما يلي: "لونغيه آخر البرودينيين، ولافارج (صهره) أخر الباكونيين! فليأخذهما الشيطان!". ويتماهى في "البيان الشيوعي "كل من الطبقة والحزب، فالحزب هو الطبقة، والشيوعيون مطالبون بدعم "كل الحركات ضد النظام القائم". وليس من الصعب في ضوء هذه الوقائع أن نفهم لماذا كان قادة الحركة النقابية والمنظِّرين الذين كانوا غاطسين، على مرور المسارات التاريخية، في الظروف والشروط وحالات النضال، يسألون النصوص ويراجعونها بعناد لا يضاهيه عناد، ومهما كان ثمن المنازعات.. لماذا كانوا يسألون النصوص التي هي نتاج التاريخ المباشر، بالرغم من أن هذه النصوص والتوجيهات مُودَعَة من الماضي ومستعادة منه، وهي من حيث الأصل مرتبطة بظروف موضوعية، وقد خضعت مرارا للتعديل والتصحيح حسب الظروف. إن النظرية السياسية، وبوجه خاص عندما تتحول بصورة مُلزِمة إلى مؤسسات فاعلة، من النقابة إلى الحزب فالدولة، ومن التربية إلى الإيديولوجية، ومن الآداب إلى القانون.. إن النظرية السياسية تَفرض نفسها كالفكرة الرائعة كما هي موجودة متن شروح أصحاب النظريات، وكما وَرَدَت في مسودَّات المؤسِّسين وصفحاتهم البيضاء. 3/ هذا يقودنا إلى أن "الانتقال " في نمط الإنتاج الاقتصادي في روسيا أكتوبر 1917 مسألة في غاية التعقيد، وعن هذا التعقيد تأتي المشكلات اللاحقة التي كانت تجتاز الاتحاد السوفياتي، ثم انتهت في نهاية المطاف إلى سقوطه *** من قلب هذا النظام من الممارسة التاريخية والفكر التاريخي تنبثق مسألة أساسية تمتد إلى كل ما سواها من مسائل، ألا وهي المسألة الانتقالية، أو العبور من مجتمع قديم إلى آخر شيوعي. فالانتقال هو الذي يُحدِّد الشروط والوسائل التي ترافق الاستيلاء على السلطة، والذي يرسم مسبقا البرامج؛ طرق وأشكال السلطة وبناها. والحال، أن الخيارات هنا تبقى مفتوحة. فماركس وإنجلز يشيران إلى طريقين اثنين للانتقال. الطريقة الأولى، وهي "العظمى"، تَعْتَبر أن أعلى مراحل الرأسمالية التي تُنجز في البلدان المتقدِّمة في الغرب، إذا ما توفرت عوامل ثلاث هي: قوى الإنتاج، والديمقراطية السياسية، والوعي الجماهيري، فإن الظروف تكون في مثل هذا الحال متوفرة لظهور مجتمع من نمط أعلى من مختلف النواحي. وإن الثورة البورجوازية تَسبُق الثورة البروليتارية. وإن فرنسا، حيث "مضى صراع الطبقات فيها إلى نهاية الطريق" تَمثُل كنموذج. ولما كان هذا المسار الانتقالي ليس تنفيذا لأوامر صادرة عن قاعدة مرسومة بصورة مُسبقة، فإن انتقاله إلى حيز التنفيذ يمكن له أن يأتي بطريقة عنيفة، على غرار ما حدث في الماضي، وكما يتوقَّع "البيان الشيوعي". ويمكن له أن يأخذ مسارا سلميا، بل وحتى برلمانيا، حسب ما كانت توحي به الأمثلة الألمانية، والفرنسية والأمريكية. والطريق الثاني، وهو الأقل نضجا، ويبدو بوصفه منحرفا بالمقارنة مع كلاسيكية الطريق الأولى، قد جاءت صياغته بيد ماركس في اللحظة الأخيرة، وكافتراض، وذلك بالانطلاق من الحالة الروسية، وذلك في آخر مقدمة كتبها ل/ "البيان الشيوعي"، ثم أوضحها إنجلز بصورة أوسع في مراسلاته مع الاقتصاديين وأوائل الماركسيين في روسيا، إيفا إيفانوفا زاسوليتش V. Zassoulitch ، وغييوركي بليخانوف G.Plekhanov. حيث تَظهر هنا فكرة مؤداها أن من الممكن الانتقال إلى الشيوعية، وإن لم يُنجَز ذلك عبر المرور بالمرحلة الرأسمالية، وذلك بالاستناد إلى الجماعة القروية obchtchina أوبشتشينا. ثم صِيغَت هذه الفكرة في نظرية أثناء الثورة الصينية. كما َوَجدَت طريقا لها عبر حالات من النضال والصراع في العالم الثالث باسم "الطريق غير الرأسمالي للتطور". ونحن نعلم أن القرن العشرين حَمَلَ معه مفارقة عندما جعل من الطريق غير الناضج يَنتصر على الطريق العظيم، بما في ذلك في الاتحاد السوفياتي وفي مؤسسات "البناء الاشتراكي". ثم جَرَت محاولات ملتوية ومُثْقَلَة بالنتائج للجمع بين الطريقين أو بالأحرى لصياغة هذا الجمع الملتوي في نظرية. حتى الاستثناء تمخض عن قاعدة. وكانت حدود الفصل ما بين الطريقين بارزة بما فيه الكفاية وغير قابلة للتقليص. فقد أَخذ حد الفصل هذا أسماء "المسألة الزراعية"، و "المسألة القومية". وكان هذا الجمع يَعتقد بصورة واسعة أن الطريق العظيم لا مفر منه. وإنجلز برهان على ذلك في مؤلَّفه المسالة الفلاحية، حيث يقتصر الأمر على تحالف مع الفلاحين، وإن كانوا في حينه يشكِّلون أكثرية واسعة في أوروبا الشرقية. ولم تتخل الأممية الثانية عن الأنبوب الذي تمر منه مراحل التطور الرأسمالية/ الاشتراكية/ الشيوعية. وهي كانت تستقرىْ على هذا النحو استراتيجيات غريبة للغاية عن المادية التاريخية. وكانت إسبانيا تشكِّل أفضل مثال واضح على ذلك. وكان أحد أوائل الماركسيين الأسبان أ. ج. كيخيدوس كتب في العام 1901: "إننا نعلم أن الشروط المجتمعية للثورة الاقتصادية في المستقبل لن تتوفر ما لم يَجتز النظام الراهن دورته الكاملة من التطور. وإن أقل ما يمكن لنا أن نطلبه من الرأسماليين هو أن يسلكوا مسلك الرأسماليين، وأن يُنجزوا على خير وجه مهمَّتهم التاريخية: تطوير مبدأ الملكية الفردية للثروة من أجل فتح الطريق الأمثل أمام الملكية المجتمعية". وعلى هذا النحو، فقد نَسي الحزب طوال ثلاثين سنة المسألة الزراعية والمسائل القومية والدينية. أما فيما يتعلق ب/"الرسالة" أو "المهمة" الملقاة على الرأسمالية وديمومتها اللامتناهية، فإنها ليست أمرا آخراً غير الداروينية الاجتماعية- الاقتصادية التي كانت منتشرة بصورة واسعة في ذلك العصر. إن الطريق الثاني للانتقال، وهو الذي كان ثانويا لكنه أصبح هو الغالب، يَضع المسألة الفلاحية في مركز الاهتمامات. لكنه، إذ هو يُخضعها لمقاربات متباينة حسب السياقات، الاتحاد السوفياتي، الصين، فيِّتنام، كوبا، فإنه في الوقت نفسه يَفرض عليها تكييفا ومواءمة نظرية حسب الحالات، وذلك من باب الإخلاص للأرثوذكسية التي تتمسك بصورة ملزِمَة بالحفاظ على القيادة السياسية للطبقة العاملة. وهي من أجل ذلك تنضب من الكتاب الثالث ل/"رأس المال"، وتأخذ بماركسية خلو من النزعة الغربية، وهي معادية للإمبريالية، وحريصة الحرص كله على الاندماج بالتقاليد الثقافية القومية، وذلك على غرار ما نراه على سبيل المثال في أمريكا اللاتينية مع خوزي كارلوس مارياتيغي Jose Carlos Mariatégui ، ونظرية التحرر الوطني. إنها نظرية "التطعيم" حسب ما يقول لينين بين العمال (الفلاحين) والماركسية، والتي تتمخض عن حالات من الماركسية الواقعية، والتي تَربط برباط وثيق ما بين صياغة المفاهيم والممارسات في هويات لا انفصام بينها. 4/ هذا كله يعود بنا، كما أنت تقول، إلى أن أزمة الماركسية والشيوعية ذات طبيعة سياسية. *** نعم إن السياسة، ليس بمعناها القدحي واليومي الدارج، وإنما من حيث هي نظرية لتنظيم المجتمع والدولة أو المدينة، الحزب، التحالفات، الانتقال.. نعم، إن السياسة، أو الفكر السياسي، أو النظرية السياسية، إذ هي تشكِّل حيِّزا لقراءة الأزمات التي تُعبِّر عن أنماط من الماركسية، وتَسْرد مصيرها، فإنها تقضي بمقاربة سياسية لها؛ علما أن الأزمة هي كما أسلفنا أداء للماركسية ومن وظائفها. وبمعنى آخر، إن الضرورة هنا تَقضي، بالرغم من هذا الصخب والغضب الذي يرافق الانهيار في أيامنا الراهنة، أن نعلِّق هذه العودة إلى ماضي ثورة أكتوبر بصورة متسرعة، وأن نأخذ بمنعطف طويل يقودنا إلى نقطة البداية التاريخية، أي العودة إلى لينين المتأخِّر. والسبب وراء منعطف كهذا هو أن لينين كان أول ماركسي يُنجز ثورة. وكان ماركس وإنجلز وآخرون ما قبل لينين، رسموا مشاريع من أجل هذه الثورة، ووَضعوا بعض الشروط من أجل إنجازها، واقترحوا وسائل وأهداف لها، بيد أنهم لم يكونوا سوى مشاهِدين لمقدِّمات الثورة، والتي عبّرت عن نفسها عبر ثورتي 1848 و1871، في ما كانت الحركة العمالية ومنظماته تُوْلَد لتوِّها. أما لينين فإنه مؤسِّس لدولة استمرت سبعة عقود، وتمخَّض عنها دول، في أوروبا وآسيا وأمريكا وأفريقيا، أيا كانت سماتها وألوانها فقد كانت تتطلع إلى محاكاة ثورة أكتوبر. ولينين، على هذا النحو، أخذ على عاتقه مع البلاشفة مسؤولية الانتقال من عقيدة منفتحة وغير مكتملة إلى مؤسَّسة هي نفسها مؤسسة الانتقال والإشكاليات التي تلازمها، وهي: تحديد وتعريف منظَّمات الدولة ودورها، والحزب (الأحزاب)، والنقابات، والتحالفات، والإيديولوجية، والإمكانيات الاقتصادية، والسياسة الدولية، إلخ.. 5- هل هذا يعني أن لينين لم يَنجح في سد ثغرات الواقع المجتمعي والسياسي والثقافي والاقتصادي والتي منها تمر الأزمة؟ لينين، حسب منطق الشامتين، لم يَنجح في العثور على وصفة طبية لمعالجة كل الآلام، بما في ذلك – حسب هذا المنطق – علاج لتهدئة آلام الحجارة. *** لقد ساد لمدة طويلة، بما في ذلك لدى ماركسيين من أمثال غرامشي، اعتقاد مؤدّاه أن لينين قد طَبَّق الماركسية في روسيا مطابقة أمينة وكاملة. إن هذه الفكرة تَنظُر إلى لينين قائد الثورة نظرة افتراضية ملؤها فرضيات لم تجد لنفسها في جميع الحالات معادلا موضوعيا. فالتطبيق يستدعي تقنية، وعلم أثبت نفسه، والمهارة المكتسبة عن خبرة في مجالي التقنية والعلم. وهذه كلها مزايا شخصية كان لينين حائزا عليها. إلا أن مثل هذا الطباق يضعنا في خضم علم الصيدلة أو فن الطبخ، حيث ما أن تُكتَب الوصفة حتى تُنٌقَل إلى حيز التنفيذ بنجاح. فإذا كانت فعالية التنفيذ غير مضمونة بصورة مستديمة، فإنه في مثل هذه الحالة يكفي الرجوع إلى وصفة سيدة فاضلة، أو وصفة من أجل قالب من الجص لمعالجة كسر عظمي. لكن أمثال هذه الخطة المُبَسَّطة لا تلبث أن تُدحض على محك الواقع، عندما يحين وقت تثمين ما أُنجز من عمل، ليس لأن الماركسية تتحوَّل أو تتبدل لتصبح ماركسية لينينية، فترتفع بالماركسية إلى مستواها النظري، أو تعيد إليها كرامتها النظرية، وإنما لأن التطبيق يكرِّس نفسه كنمط، يعاد نقله وإنتاجه بصورة مباركة وقد اختلط فيه الطريقان، العظيم والصغير، اختلاطا لا تميِّز فيه. كلا، إن لينين بوصفه يعرف الماركسية بصورة متقنة وبامتياز، قد وضع المبادئ على محك الواقع الملموس، ولم يطبقها بصورة عمياء. كان لينين علاوة على ذلك يتقن تحليل الحالة الروسية. ومؤلَّفه "الدولة والثورة" يلقي الأضواء على هذا الموضوع. إنه يَجمع النصوص كلها لماركس وإنجلز حول الانتقال باستثناء ما مكان منها ذات صلة بالطريق السلمي، ويربط ما بينها، ويقيسها حسب مختلف التفسيرات التي كانت سائدة حينذاك، من فوضوية، واشتراكية ديمقراطية، ويسارية متطرفة، ويستنطق في المقام الأول ديكتاتورية البروليتاريا، وضرورتها، وشكلها، ووظيفتها، ومدتها المحتملة، ويرسم مخططا لمراحل الانتقال، مدركا أن الوقت يضيق ما يستدعي العمل بسرعة فائقة لأن الشروط اللازمة لاستلام السلطة قد نضجت وأصبحت متوفِّرة، ويترك في الوقت نفسه عمله غير مكتمل في اللحظة نفسها التي تستدعي الانتقال إلى الفعل. وما أن تُنجَز الثورة، وفي مواجهة ما تُلزم به الثورة بصورة قسرية، وأمام المهام الجديدة غير المسبوقة والتي تفرضها الثورة، فإن لينين يبتكر. إن آخر سنتين اثنتين من حياة لينين مشيِّد الدولة (1921-1923) تنير إلى حد عظيم هذا الابتكار. وكان لينين ما قبل السياسة الاقتصادية الجديدة NEP قد وضع سؤالا: "أيهما ستنتصر، الرأسمالية أم الاشتراكية؟". وكان لينين عشية موته، وبعدما خاض معارك طويلة مع الصراعات المجتمعية، والحزب، والدولة أو البيروقراطية، والتي حَمَلَته على تصحيح وتعديل في هذه الموضوعات، قد جاءه الجواب اليقيني: ليست الاشتراكية هي التي ستنتصر. فالتطعيم لم يفعل فعله في روسيا. والرهان الذي لم يُكسَب بصورة مُسبقَة انتهى إلى خسارة. هذا حكم يحظى بالإجماع من أي جهة جاء، ولا يقتصر على لينين وحده. إنه يؤَيِّد، على محك الواقع، وما بعد الحدث المُنجَز، ما كان إنجلز حذَّر منه في مقدمته ل/"المشكلات المجتمعية الروسية"(1894): "إن من المستحيل تاريخيا على مجتمع يجتاز مرحلة دنيا من التطور الاقتصادي أن يحلَّ الألغاز والنزاعات التي كانت ظهرت، والتي كان من المفترض أن لا تظهر إلا في مرحلة أعلى من سابقتها بكثير". 6/ السياسية الاقتصادية الجديدة انتصارٌ للرأسمالية على الاشتراكية؟ *** إن منعطف السياسة الاقتصادية الجديدة NEP والتي حَظِيَت بتأييد واسع لدى القيادة السوفياتية، وبالرغم من معارضة شرائح من اليسار لها، فلقد لقيت ترحيبا، وإن كان لا يخلو من مكر، من قِبَل اليمين والمناشفة والاشتراكيين الديمقراطيين والأممية الثانية، والثانية والنصف (التي كانت تأسَّسَت في فيينا في العام 1921 من قِبَل جماعات من الوسط، والتي كانت انشقَّت عن الأممية الثانية ثم انحلَّت في العام 1923). وكان لينين هاجم بوجه خاص أوتو باور، أحد رواد الماركسية النمساوية، الذي بارك هذا التراجع إلى الرأسمالية، ورحَّب بالطبيعة البورجوازية للثورة. وينبِّه لينين أوتو باور بأنه يريد للثورة البورجوازية أن تنجح، ويهدِّد بإعدام كل الذين يريدون أن تتحوَّل المسيرة إلى تراجع كامل. // والحال، أن التراجع في حينه لم يكن ليخفى أمره على أحد. وكانت الديمقراطية الاجتماعية وفي مقدِّمتها كاوتسكي تؤكِّد، في تحليل لها للوضع، بأن طبقة اجتماعية بيروقراطية قد ولِدَت، وهي تَجْمَع ما بين مصالح رأس المال والدولة. وكان كاوتسكي طوَّر هذه الفكرة بوجه خاص في مؤلَّفيه "الإرهاب والشيوعية" (1921)، و"البلشفيه أمام الطريق المسدود" (1930). وكانت البورجوازية الدولية تجد أن الفرصة متاحة أمام استئنافٍ لمزيد من التبادل التجاري مع جمهورية السوفييتات. وكان لليود جورج Lloyd George الذي وجّه الدعوة إلى لينين للمشاركة في مؤتمر جنوه المنعَقِد في العام 1922 حول مسألة التوازن الاقتصادي في أوروبا، أعلن: "إن لينين فهم في ختام المطاف أن من المستحيل تسخين القاطرات بعقائد ماركس". وكان جول غوويد Jules Guesde مؤسِّس حزب عمال فرنسا Parti Ouvrier de France المتوفَّى في العام 1922، أعرب عن دهشته لدى الإعلان عن ثورة شيوعية بلشفية لأن أيا من شروط الثورة غير متوفِّرة. ويُلِحّ أنطون بانِّكويك Anton Pannekoek، صاحب نظرية المجالس، على الطبيعة البورجوازية، بالمعنى الدقيق للمصطلح، للثورة، مشيرا إلى أن "طبقة مسيطِرَة جديدة واستغلالية قد فَرَضَت سلطتها على الطبقة العاملة". و"نحن لا نستطيع أن نأخذ على البلشفية الروسية تخلِّيها عن طريق ماركس لأنها لم تتبعه أبدا". وكَتَبَ في العام نفسه الفيلسوف نيكولا بيرديائيف Nicolas Berdiaev في مؤلف له بعنوان "مصادر ومعنى الشيوعية الروسية"إ ن الثورة الشيوعية تُنجَز في روسيا بصورة متناقضة مع غالبية ما كان ماركس يؤكِّده في ما يتعلق بتطور المجتمع". ويلاحظ فيرناند بروديل: "إن ما يستدعي الإشارة إليه هو أن الثورة الاشتراكية بدأت في حينه بصورة عارضة في البلد الكبير الأقل تصنيعا في أوروبا. لذا، فإن مجريات الثورة ما كان لها أن تَتَّبع الطريق الماركسي لاستيلاء البروليتاريا على السلطة. إن الحزب الشيوعي أمسك بالسلطة بالرغم من أنه يمثِّل أقلية صغيرة". إن قائمة ما كُتب بهذا المعنى تطول. وإني أَتوقَّف عند تحليلين اثنين هامين، لأن الأول كالثاني يصدر عن الإشكالية اللينينية نفسها. تحليل روزا لوكسمبورغ، وتحليل أنطونيو غرامشي، والتحليلان معاصران للثورة السوفياتية، ويُعْتَبران نقديَّان. لقد أفردت روزا لوكسمبورغ عددا من المقالات لتحليل ثورة 1917، بالإضافة إلى مجموعة ملاحظات كان بول ليفي Paul lévi نشرها بعد وفاتها في العام 1922، تحت عنوان "الثورة الروسية". إن المحور الرئيس لأفكارها يدور حول ضرورة التحاق الثورة في بلدان أوروبا الغربية بالثورة البلشفية، وذلك لِمَ للاشتراكية الديمقراطية في ألمانيا، من وزن وتجربة ونفوذ. فالأولى محكوم عليها بالموت إذا لم تَلْحق بها الثانية. "إن شَرَفَ العمال في هذه البلدان يُملي عليهم أن يحموا الثورة الروسية وأن يَفرضوا السلام باللجوء إلى هجوم ثوري ضد الطبقات الحاكمة في بلدانهم". والحال أن البروليتاريا الألمانية لم تدرِك أن الثورة الروسية – على حد قولها - هي نفسها قضيتها الخاصة، وأن قضية البروليتاريا الدولية لا تنقسم، وأن المعركة الأولى للنزاع التاريخي العالمي ضد هيمنة الطبقة الرأسمالية تبدأ هنا مع الثورة الروسية. إلا أن هذا التضامن لم يفعل فعله. وقد بقيت روسيا معزولة. "وباستثناء بعض الجهود الشجاعة للبروليتاريا الإيطالية، فإن بروليتاريا البلدان كلها – حسب ما تقوله - أخلَّت بالتزاماتها للثورة الروسية... ولما كانت هذه الثورة دوليةً من حيث طبيعتها وجوهرها العميق، فإن إنجازاً سياسيا لطبقة البروليتاريا (تشييد سياسة للطبقة العاملة) لا يكون إلا على الصعيد الدولي. فإذا ما هي اقتصرت على بلد واحد، في ما يُمارِس عمال البلدان الأخرى سياسة بورجوازية، فإن فعل الطليعة الثورية يتيه عبر نتائج ما كانت أنجزته لتوها". وعلى هذا النحو، تَنقسم أفكار روزا لوكسمبورغ في ما يتعلق بالثورة الروسية إلى مقاربتين اثنتين. // إنها، من جهة، تؤيِّد بحماس البلاشفة. إنهم – حسب ما تقوله – يتابعون إنجاز ثورة 1905-1907، ويتمتَّعون بمزايا تسمح لهم بأن يِمنحوا الجماهير منظَّمة مؤاتية. "إنهم، على وجه التحديد، قدّموا الدليل الواضح على ذكائهم السياسي، ومبادئهم الثابتة، وسياستهم الجريئة". وإن عملهم ليس ذا صلة فقط بالخطة المتطورة للثورتين العظميين، الثورة الإنجليزية والفرنسية.. وإنما يعبِّر عن "القانون الحيوي" لكل ثورة عظمى. وتقف أيضا روزا لوكسمبورغ في مواجهة كاوتسكي والمناشفة الذين لا يرون في ثورة أكتوبر غير الثورة البورجوازية، ويُفَنِّدون حتى إمكان نشوء ثورة اجتماعية في روسيا. فتكتب: "إلا أن الثورة الروسية، وهي ثمرة لتطور دولي وللمسألة الفلاحية، يتعذَّر إنجازها في حدود المجتمع البورجوازي". وفي ما يتعلق باشتعال الثورة، فإن الشك لا يتسلل إليها. لقد كتبت: "إن متانة لينين وأصدقاءه مدَّتهم بالقوة الكافية كي يُطْلِقوا في اللحظة الحاسمة الشعار الوحيد القادر على التعبئة، وهو: كل السلطات بين أيدي البروليتاريا والفلاحين. ولقد جَعلت هذه المتانة في ليلة واحدة تقريبا من هذه الأقلية المضْطَهَدَة، المفتري عليها، غير المعترف بها أمام القانون، في ما كان قادتها من أمثال ماراتMarat مضطرين إلالاختباء في الأقبية، جعلت منها السيد المُطْلَقَ للموقف". وإن الدمج في روسيا ما بين الطريقين، العظيم والصغير، قد فَتَح الباب أما الانتقال. فنحن "قد نكون على وجه الاحتمال أمام أول ثورة بروليتارية للانتقال، وهي ذات مدى تاريخي عالمي". والحال، أنه "كان بوسعنا، أسبوعا واحدا قبل اندلاعها أن نقدِّم مئات الأعذار التي تدلِّل على أن الثورة مستحيلة(...)، وأن الثورة السياسية الحديثة ذات الأهداف الواضحة، والأفكار القائدة، ليست موضعا حتى للتفكير بها". // وروزا لوكسبمورغ تشير، من جهة ثانية، إلى أن الورثة التاريخيين لليفيلرز البريطانيين Levellers (de l anglais to level واليعقوبيين الفرنسيين ما أن ينتهوا من إنجاز العمل في مطلعه حتى يلاقوا مهمة لا تقارن، من حيث تعقيدها، بالمهام التي كان سابقوهم لاقوها. وهي لا تكف عن الترداد: إن الظروف التي ترافق الثورة الروسية غير اعتيادية، ووضع البلاشفة قاتل. إن تشييد ديكتاتورية البروليتاريا، وإنجاز الانقلاب الاشتراكي في بلد واحد مطوَّق بالهيمنة المتحجِّرة للرجعية الإمبريالية، ومُهاجَم من حرب عالمية هي الأكثر دموية في تاريخ الإنسانية، أمرٌ مستحيل. أي أن الفشل لا مفر منه. وهي تقول: إننا لا نستطيع انتظار الاشتراكية والديمقراطية، "وإنما ننتظر، فقط ليس غير، العناصر الأوَّلية والكاريكاتورية العاجزة لهذه وتلك". ومما لاشك فيه أن روزا لوكسمبورغ لم يكن بحوزتها وصفات تضمن لثورة أكتوبر النجاح. وهي لا توفِّر انتقاداتها للسياسة التي كان البلاشفة ينتهجونها في ما يتعلق بمجالات في غاية الأهمية. ففي ما يتعلق بالمسألة الفلاحية، وهي، وإن كانت تُسَلِّم بصَّحة شعار شهر نوفمبر/تشرين الثاني "الأرض للفلاحين" بصورة فورية، إلا أنها كانت تنتقد فعاليته ونتائجه. ذلك أن تفكيك الإقطاعية وانضمام الفلاحين إلى السلطة العمالية باهظ الثمن. وإن تملَّك قطع صغيرة من الأرض ليس من شأنه إلا أن يعيد إنتاج الذهنية القديمة المرتبطة بالأرض. إن هذا التمليك يتضمن مجازفة في ما هو، في الوقت نفسه وفي آن واحد، يُحرِّر الفلاحين. مجازفة انضمام جماهير غفيرة من الملاكين الجدد إلى الثورة، والتي تزيد – ولاسيما في أوقات القحط - بصورة خطيرة من عمق الخندق الذي يفصل ما بين المدينة والريف. وبالإضافة إلى ذلك، فإن تقاسم الأراضي، علما أن أغنياء الفلاحين والمرابين هم أوائل المستفيدين، هو أبعد ما يكون مقدرة على تقليص قوتهم. بل، وإنه "يزيد من عدم المساواة المجتمعية والاقتصادية ضمن الفلاحين، فضلا عن حالات العداء ما بين الطبقات". والإصلاح الزراعي، ليس فقط أبعد ما يكون عن وصفه بالإجراء الاشتراكي، وإنما هو فضلا عن ذلك يُنتِج في الريف شريحة جديدة وقوية من أعداء الاشتراكية، والتي ستقاوِم بصورة أخطر بكثير وأشرس مما كانت عليه مقاومة ارستقراطية الأرض وشراستها. وإن التوصيات بتشكيل لجان غير كافية على وجه الإطلاق. وكان حري بالثورة أن تفضِّل على هذه الإجراءات المُبَلْبَلة نقل حق الملكية إلى الأمة أو الدولة دون المساس بملكية الأرض الصغيرة، وذلك بمقتضى الفائدة المزدوجة من وراء التمهيد للانتقال إلى المجمع التعاوني، ومن ثم إلى الاستثمار الجماعي. وكان الحري بالثورة أن تعالِج المسألة الزراعية على غرار النمط الصناعي استعداداً للتوحيد ما بين التعاوني والجماعي. وماذا هم يأخذون على البلاشفة؟ هل يأخذون عليهم أنهم لم يحترموا برامجهم، وأنهم لم يعرفوا كيف "يعثرون على الحلول أو حتى يعالجون بحزم إحدى المشكلات الأكثر تعقيدا، والتي تتمخض عن الانقلاب الاشتراكي"، وذلك في إشارة إلى المسألة الزراعية. بالتوكيد، كلا. فهل كان بمقدورهم أن يتحاشوا ما هم فيه عندما نصبوا أمامهم مثل هذه العقبات التي تعترض في المستقبل التحويل الاشتراكي لعلاقات الإنتاج؟ // إن روزا لوكسمبورغ تلمس المسألة على أحسن وجه، إلا أنها تبقى سجينة الحلقة التي تقول بأن التاريخ في المستقبل هو الذي سيؤكد ما هي الإجابة الصحيحة: هل قادت ليلة 4 آب/أغسطس التي تؤرِّخ لتوزيع الأراضي إلى اهتداء الفلاح إلى البونابرتية التي تحوِّله إلى خادم ، أم إلى الجماعية المفروضة بالقوة، والتي تسخِّره من جديد وتسلبه حيوية العمل بصورة كاملة؟ والمسألة المعقَّدة الثانية: ما هي طبيعة السلطة السياسية؟ إن هاتين المسألتين كانتا موضع بحث منذ حُلَّ المجلس الدستوري في تشرين الثاني/نوفمبر 1917، بحجة أنه غير قادر على التعبير عن الوضع الجديد، والذي حلَّ محله، بعد تقليص حق الانتخاب على المنتِجين وحدهم، سلطة السوفييتات التي انتهت على وجه السرعة إلى مصادرتها مِن قِبَل الحزب البلشفي. ديكتاتورية أم ديمقراطية؟ إن روزا ترفض هذا الخيار ما بين بديلين. وتأخذ على لينين وتروتسكي، على حد سواء، أنهما يلتقيان بوجهة نظر كاوتسكي. فبمقابل الخطأ الذي يقع فيه كاوتسكي عندما يعتقد أن الديمقراطية تمتزج بالديمقراطية البورجوازية، يأتي الجواب الخاطئ للينين وتروتسكي "اللذين يدافعان عن الديكتاتورية مقابل الديمقراطية، وهما بذلك يدافعان عن ديكتاتورية يمارسها عدد قليل من الناس، أي ديكتاتورية من النمط البورجوازي. إنها ترى ضرورة تشكيل مجلس دستوري جديد يحل محل سابقه، ومُنتَخَب بالتصويت العام، وبفضل صراع حر بين الآراء. ثم تأتي على ذكر أمثلة تاريخية، من البرلمان الإنجليزي للعام 1642، إلى مجالس الدولة الفرنسية، إلى الدوما الروسية الرابعة للعام 1909، لتبيِّن مدى إيجابية دياليكتيك المؤسَّسات التمثيلية المُنتَخَبة، وللآراء، وبوجه خاص عندما تكون هذه المؤسَّسات منخرطة في مسار ثوري. إنها "المسؤولية-الذاتية للجماهير". إنها على نقيضٍ من "حق التصويت الذي يَحْرُم شرائح واسعة من المجتمع من الحقوق كلها، وينبذهم سياسيا من الإطار المجتمعي، دون أن يكون بمقدوره أن يعثر لهم على مكان داخل الإطار الاقتصادي نفسه لهذا المجتمع". وإن حق التصويت هذا "ليس ضروريا للديكتاتورية، وإنما هو ارتجال مكتوب عليه بالفشل". وروزا تدافع عن حرية الصحافة، والاجتماع، وتشكيل الجمعيات. ف/"الحرية إذا ما اقتصرت على أنصار الحكومة، وكانت وقفا على أعضاء الحزب وحدهم دون غيرهم مهما كان عددهم كبيرا، ليست هي الحرية. إن الحرية هي دوما، وأقل ما يقال، حرية الآخر الذي يخالف غيره من حيث الأفكار". 7- الديمقراطية البورجوازية، برأي روزا لوكسمبورغ، هي نفسها ديكتاتورية البروليتاريا، من حيث أن الديمقراطية الأولى كالديمقراطية الثانية تَمنح السلطات السياسية والمجتمعية والاقتصادية لأكثريتها المزعومة، بعدما تكون كَسَّرت القشرة الخارجية أو الشكلية لحريات موهومة ومُسْتَلَبَة. ألم تنته ثورة أكتوبر إلى استيلاء البيروقراطية على السياسة والاقتصاد، وفرضت نظاما سياسيا، لا هو بالديمقراطية البورجوازية، ولا هو بديكتاتورية البروليتاريا، وإنما هو ديكتاتورية الطبقة الحاكمة، أو ديكتاتورية البيروقراطية؟ *** إن إلغاء البلاشفة للديمقراطية برأي لوكمسبورغ ليس هو أبداً الرد الصحيح على أضرار الديمقراطية البورجوازية والشكلية. "إن هذا الإلغاء يشكل علاجا أكثر ضررا من شرٍ كان من المفترض أن يَشْفَى بفضل هذا العلاج". إن هذا الإلغاء يُشوِّه الرعب الذي كان من المفترض أن يأتي عن وجه حق وبحكم الضرورة، والذي يَنزِل بالأعداء حسب ما بيَّنه لينين بخير وجه، وذلك فيما "تبقى البيروقراطية هي وحدها العنصر الفعال" في واقع الحال بفضل هذا الإلغاء. وهذا يعني أن إلغاء الديمقراطية ليس بمقدوره أن يزعم لنفسه أنه يعبِّر عن ديكتاتورية البروليتاريا. "إننا لم نكن أبدا عباداً وثنيين للديمقراطية البورجوازية... ونحن نميِّز دوما ما بين النواة المجتمعية والشكل السياسي للديمقراطية البورجوازية، وإننا فصلنا بصورة مستديمة النواة الفظَّة لعدم المساواة والخضوع المجتمعي، عن القشرة المزيَّنة للمساواة والحرية الشكلية، ليس من أجل رفض الأمرين، وإنما من أجل استنهاض الطبقة العاملة كي لا تكتفي بالقشرة، ومن أجل أن تكتسب مزيدا من السلطة السياسية، ولملء الحريات السياسية الشكلية بمضمون مجتمعي جديد: إن المهمة التاريخية للبروليتاريا لدى تسلُّمها السلطة هي أن تَستَبدِل الديمقراطية البورجوازية بالديمقراطية الاشتراكية، وليس إلغاء كل ديمقراطية... وتبدأ الديمقراطية الاشتراكية بتدمير الهيمنة الطبقية وبناء الاشتراكية. إنها تبدأ في لحظة استيلاء الحزب الاشتراكي على السلطة. إنها ليس شيئا آخر غير ديكتاتورية البروليتاريا". صحيح أن الاستيلاء على السلطة يستدعي لزوما الديكتاتورية من أجل "اعتماد التدابير الاشتراكية بصورة فورية، تدابير أكثر قوة، قسوة وفظاظة، لكنها ديكتاتورية الطبقة وليس الحزب، أو زمرة، إنها ديكتاتورية طبقة، أي أنها ديكتاتورية تُمَارَس بأوسع طريقة ممكنة، وبمشاركة نشطة للغاية للجماهير الشعبية، وبدون أية عقبة تُنْصَب أمام مشاركتهم، وذلك في ديمقراطية بدون حدود". فهل كانت روزا لوكسمبورغ ضحية للأوهام المثالية، وتتناسى الشروط الصعبة لثورة أكتوبر؟ أم أن أفكارها وليدة لموقعها في الحزب الألماني حيث كانت تتصدى لتحريفات كاوتسكي؟ أم لتقدم ألمانيا الواسع؟ هذا كله ممكن. وإذا كان من المؤكَّد بصورة لا يتسلَّل إليها الشك أن لوكسمبورغ لم تعط لبنية "السلطة المزدوجة" التي بُنيت على يد البلاشفة، ودور السوفييتات، لكل حقه. وهي تقلِّص دور السوفييتات إلى المراقبة فقط، ليس غير، في تشييد الديمقراطية الاشتراكية، فإنها بالرغم من ذلك تُدرِك بقوة أن الحزب انحرف عن الطبقة. هذا الانحراف الذي يَفسح المجال واسعا أمام نشوء بيروقراطية قوية للغاية. // وكان المستقبل اللاحق لأعمالها قد دلِّل بأنها كانت على حق. وليس بوسعنا إلا أن نقول إن الثوريين الروس لم يكن بمقدورهم أن يصنعوا "المعجزات"، ذلك أن "ثورة بروليتارية أنموذجية ومكتملة في بلد معزول، وقد أنهكته الحرب العالمية، وسَحَقته الإمبريالية، وخانته البروليتاريا الدولية، ستكون معجزة". وإن المزيَّة التاريخية للبلشفية – كما كانت لوكسميورغ تقول - هي أن المستقبل أمامها، وأن البلشفية وَضَعَت لأول مرة "مشكلة إنجاز الاشتراكية على أرض الواقع": "وكان لا مفر من ظهور المشكلة في روسيا، وكان من غير الممكن أن تجد حلا لها في روسيا". والمجازفة لم تأت بالنتائج المرجوة. 8/ التحليل الثاني للصعوبات التي كانت تعترض ثورة اكتوبر 1917 نجدها كما قلتَ في أعمال غرامشي، فكيف كان غرامشي يرى البلشفية؟ وهل كان برأيه ثمة مجال أمام نجاح ثورةٍ بروليتارية في روسيا المتخلِّفة، ثورة تمارس ديكتاتورية البروليتاريا، أو الديمقراطية الواسعة، على طريق الانتقال إلى الاشتراكية؟ *** أنطونيو غرامشي المولود في العام 1891 كان لا يزال شابا فتيا ومناضلا شابا في الحزب الاشتراكي الإيطالي عندما تميَّز بين أقرانه بمناسبة اضطرابات مدينة توران التي كانت اندلعت للمطالبة بالخبز والسلام، قبل أن يَنشر في 24 تشرين الثاني /نوفمبر 1917 في آفانتي Avanti (إلى الأمام)، مقالا له تحت عنوان "الثورة ضد الرأسمالية". وكان في وقت سابق وجّه تحية، تحت عنوان "الشيوعيون المتطرفون الروس"، لهؤلاء الشيوعيين المتطرفين. ومن بينهم يأتي غرامشي على ذكر كيرينسكي Kérenski، وتسيريتيليTsérétéli ، وتشرينوف Tchernov . وهو بهؤلاء يحيِّي "الثورة شخصيا". ويهنئ "الاشتراكيين المعتدلين" في السلطة لأنهم لم يَسلكوا مسلك اليعاقبة، ولم يَخصُّوا للطليعة ممثَّلة بلينين المصير نفسه الذي كان لقيه بابوف Babeuf علي يد اليعاقبة. أي، بتعبير آخر، يُحَيِّي امتناعهم عن إيقاف الثورة. فبفضل الاشتراكيين المعتدلين "أصبحت الحياة بكاملها ثورية بصورة حقيقية"، وأصبح كل إنسان يملك مصيره بنفسه. إن هؤلاء يرفضون الاستسلام للزمان بوصفه عاملا للتقدُّم، وضرورة لاكتساب خبرات وسيطة ما بين الاشتراكية وإنجازها. وغرامشي يَستَبعِد أن تكون "أَقلِّيَّة مُستَبِدَّة" قد تشكَّلَت في مثل هذه الظروف. وهو في مؤلَّفه "الثورة ضد رأس المال" يَدرس هذا المديح الموجَّه لحالة الاختراق التي أُنجزت في روسيا، كما لل/"إرادة" السياسية. // للوهلة الأولى، تبدو الثورة البلشفية بوصفها مسألة إيديولوجية أكثر منها وقائع. إنها تَأتي بصورة مناقضة لدروس "رأس المال" لماركس، والتي كانت تَفترض، في ما يتعلق بروسيا، أن من الضروري أن تكوُّن بورجوازية، وأن تَدخل في عصر الرأسمالية، وأن تظهر حضارة من النمط الغربي، قبل أن تستطيع البروليتاريا أن تنتقم لنفسها، وأن تضع في المقدِّمة مطالبها، وأن تُنجِز ثورتها. والحال أن الوقائع انتصرت على الفكرة. فلقد كَذَبَّت أفعال البلاشفة ماركس، وقَلَبَت قوانين المادية التاريخية، ودلَّلت بأنها ليست جامدة غير قابلة للتكيُّف. الأمر الذي يَحمل معه السؤال التالي: هل البلاشفة ماركسيون؟ إنهم ليسوا ماركسيين ما داموا خانوا "رأس المال". لكنهم ماركسيون، في الوقت نفسه، طالما أنهم مخلصون لفكر ماركس الحي، وقد خَلَّصوا أفكاره من حثالة المذهبين الوضعي والطبيعي المترسِّبين فيها، ليدرجوها في سياق من استمرارية "الفكر المثالي الإيطالي والألماني". وغرامشي هنا يختار عن وعي الإنسان و"الإرادة" – العبارة تَظهر ما لا يقل عن ست مرات خلال أسطر قليلة – بوصفها المحرِّك التاريخي، محل "الوقائع الاقتصادية". أي إن هذه " الإرادة" هي التي تَنتَقِص من الإيديولوجية، وترمي بها إلى المرتبة الثانية. وما كان غير متوقع من جانب ماركس هو أنه لم يتوقَّع ما كان من المفترض أن يكون موضعا للتوقُّع، طالما أن الإرادة غابت عن توقُّعاته. وهذا أمر شاذ. وتفسير ذلك بموجب أفكار ماركس، حسب ما يراه غرامشي، أن النزاع ما بين الطبقات في "الحالات الاعتيادية" (تكرَّرَت العبارة أربع مرات)، أو كما يرى ماركس، يحتاج كي ما يتكوَّن إلى فترة من الزمان، لأن الناس بطيؤون، ويعملون على تنظيم أنفسهم، ويتلقَّون الحوافز، وينخرطون في تجارب. ثم إن النزاع ما بين الطبقات يتمخَّض رويدا رويدا عن تدريب على صراع الطبقات كي تُرغم البروليتاريا البورجوازية على تحسين شروط الحياة المجتمعية، وكي يأخذ الوعي الجماهيري بصراع الطبقات طريقه إلى التنفيذ، ويتكوَّن لدى الجماهير وعي بقوَّتهم ومسؤوليتهم. والحالة الطبيعية هي النضج وبلوغ سن الرشد التاريخي. ولا بد في مثل هذه الحالة من انتظار ذوبان السكر. أما في روسيا، فإن الزمان، برأي غرامشي، لم يفعل فعله. فقد سُحِقَ الزمان في روسيا، وادَّغَم تحت وقع الحرب التي حرَّكت بحيوية الإرادات المجتمعية والشعبية ووحَّدَت ما بينها، في البدء بصورة آلية تحت ضغط الجوع والموت الموعود لملايين الرجال، ومن ثم بطريقة فاعلة وثقافية تحت تأثير الدعاية الاشتراكية ما بعد الثورة الأولى في فبراير. إن الدعاية الاشتراكية سارعت في "لحظة واحدة" من تاريخ البروليتاريا، وجعلت البروليتاريا تقفز درجات السلم. ولماذا كانت روسيا مُلزَمة بأن تنتظر رغما عنها أن يعاود التاريخ المسار نفسه للمسار الإنجليزي وأن يكرِّر مراحله، من البورجوازية، إلى صراع الطبقات، إلى الوعي، إلى الثورة؟ إن الفكر، بل وإن "فكر أقلِّية" قد وفَّر على روسيا تطورا من هذا القبيل. وغرامشي يتحدَّث هنا بلهجة النبوءة، فيكتب: "وكما أن أمريكا الشمالية أكثر تقدما من إنجلترا بعدما استمدَّت تقدمها منها، فإن روسيا "ستبدأ تاريخها من المرحلة الأعلى للإنتاج، أو من حيث وصلت إليه إنجلترا اليوم"، لتصل بذلك إلى النظام الجماعي الذي كان تحدَّث عنه ماركس. فكيف سيُنْجَز هذا المسار المتطور؟ إن الثوريين سيوفِّرون الشروط في أقصر وقت ممكن، مستفيدين من انتقادات الاشتراكيين الموجَّهَة ضد الرأسمالية، من اجل تجنُّب الأخطاء. إنهم سيحلُّون محل الرأسمالية والبورجوازية لينفِّذوا في أسرع وقت مهامهم، طالما أن النظام الجماعي سيكون في مطلع الأمر "نظام البؤس والألم". والحال أن الاشتراكية "فورا" في روسيا مبرَّرة، والبلاشفة ليسوا سوى التعبير الضروري بيولوجياً من أجل التجديد. وفي مقاله اللاحق تحت عنوان "النقد"، والذي نُشِر في غريدو ديل بوبولو (صرخة الشعب) Grido del Popolo بتاريخ 12 كانون الثاني/يناير 1918، يعود غرامشي إلى الحديث عن "الإرادة"، ولا يخشى من بناء علاقة من التوازن ما بين فيكو ولينين: إن الإيمان بالعناية الإلهية لدى الرجل الإيطالي يمَارِس في التاريخ بوجه الاحتمال دورا مفيدا للعمل الواعي، و"الإيمان بالحتمية" لدى الرجل الروسي يمارس بوجه الاحتمال الوظيفة نفسها. إن غرامشي يوفِّق ما بين هذه الحتمية، و"لإيمان" ب"العزيمة" الثورية ضد رأس المال. ومن الواضح أننا هنا أمام تفسيرات عارضة تستجيب لظروف متغيِّرَة، والتي تأتي عن غرامشي المناضل في صلب الحدث الساخن بهدف الإقناع، وتقاسم هذه القناعات مع رفاقه، وذلك في ما كانت- علاوة على ذلك - ممارسة السلطة السوفياتية ما بعد الثورة لم تكشف بعد عن دروسها. وكانت خاصية الثورة الروسية، بالرغم من ذلك كله، ثورة "غير اعتيادية"، وفَتحت بالإضافة إلى ذلك ثغرات في النظرية الماركسية. وكانت هذه الخاصية مسألة معترف بها، وموضعاً للدراسة منذ ظهورها. إلا أن غرامشي، من جهة أخرى، يعود عشية انتقال القيادة إليه، إلى مراجعة ما كان كتبه ليعدِّل ما كان صاغه من تبريرات، وذلك على نحو ما يظهر في مقال له بعنوان "ثورتان" نُشِر في شهر تموز/يوليو 1920. إنه، في تقرير له حول حركة مجالس المصانع في منطقة توران مُقدَّم للجنة التنفيذية للأممية الشيوعية، يعرض غرامشي لمفهوم عن الثورة يَعُود بنوعين اثنين من حيثيات الثورة إلى سياقهم من حيث هما ضرورة تاريخية: سياق زمانية المسار، وسياق الوظيفة الاقتصادية. "إن الثورة لا تكون بروليتارية وشيوعية إلا من حيث هي تحرير للقوة المُنتِجَة البروليتارية والشيوعية، والتي كانت نشأت في صلب المجتمع الواقع تحت سيطرة الطبقة الرأسمالية. إنها بروليتارية وشيوعية من حيث هي تَنجَح في ترجيح وتشجيع توسُّع جديد للقوى البروليتارية والشيوعية، وتنظيمها، هذه القوى التي تستطيع أن تبدأ العمل الصبور والمنهجي الضروري لبناء نظام جديد...". لكن غرامشي لا يلبث هنا أن ينتقد ثورة أكتوبر، فيشير إلى إن تدمير جهاز الدولة البورجوازية، وبناء جهاز دولة جديد، غير كاف بحد ذاته لإنجاز الثورة. إذ إن ثورة من هذا القبيل قد "تنتهي إلى تشييد مجرد مجلس دستوري يسعى إلى معالجة الجروح التي كان الجهاز البورجوازي خلَّفها من جراء الغضب الشعبي، وتستطيع أن تصل حتى إلى تأسيس السوفييتات (المجالس)، بل وحتى إلى تنظيم مستقل ذاتيا للبروليتاريا وغيرها من الطبقات المُضطَهَدَة، بيد أنها لا تجرؤ بالرغم من ذلك كله على المضي قُدُما إلى ما هو أبعد من التنظيم، ولا تجرؤ على المساس بالقواعد الاقتصادية. لذا تراها تتقهقر أمام رجعية الطبقات المالكة (...). وهي تستطيع في خاتمة المطاف أن تنجح في بناء سلطة بروليتارية وشيوعية، لكنها تستنفد نفسها وهي تعاود المرة تلو المرة المحاولات اليائسة كي تُنبَثِق عن السلطة الشروط الاقتصادية لاستمرارها وتعزيزها، وذلك كله إلى أن تَنْشُلَها الرجعية الرأسمالية. ففي ألمانيا، والنمسا، وبافاريا، وأوكرانيا، وهنغاريا، ظهرت هذه التطورات التاريخية، والتي كانت أعمال تدمير، لكن الثورة لم تَتْبَع هذا التدمير بإعادة البناء حسب ما هو مفترض بالمعنى الشيوعي. وإن توفُّر الشروط الخارجية: الحزب الشيوعي، وتدمير الدولة البورجوازية، والمنظَّمات النقابية القوية، وتسليح البروليتاريا، لم تكن لتكفي للتعويض عن شرط واحد، وهو: توفُّر القوى المنُتِجَة السائرة نحو التطوُّر والتوسُّع، والحركة الواعية للجماهير البروليتارية التي تَنقُل السلطة الاقتصادية إلى السلطة السياسية، بحيث تكون السلطة الاقتصادية هي جوهر السلطة السياسية، بالإضافة إلى توفُّر الإرادة لدى الجماهير البروليتارية بإشاعة النظام البروليتاري في المعمل، ومن أجل أن تجعل من المصنع خليةَ للدولة الجديدة، وأن تبني الدولة الجديدة بوصفها انعكاسا للقواعد الصناعية لنظام المصنع". وتَمثل التجربة السوفياتية في الحالات التي ظهرت في عدد من البلدان بوصفها خلفية لها، وإن كانت ليست حاضرة فيها. // وتَكشف الرسالة الصادرة عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي في العام 1926 عن شكوك جديدة. الأمر الذي يحمل غرامشي على الدعوة إلى احترام الأممية والحفاظ على وحدة الحزب السوفياتي، ويطلب الامتناع عن اتخاذ أية عقوبات مشدَّدة بحق المعارضة: "إنكم اليوم تدمِّرون إنجازكم". بل، ويذهب إلى ما هو أبعد من ذلك عندما يتساءل ما إذا كانت التحليلات الصحفية في الصحافة الفاشية لا تحتوى على بعض الصدق في ما يتعلق بالوقائع، وما إذا كانت الدولة السوفياتية في ظل السياسة الاقتصادية الجديدة آيلة إلى التحوُّل إلى دولة رأسمالية". والنتيجة: ألم يكن الأجدى انتظار ذوبان السكر؟ ألم ينتهي الرهان برأي غرامشي أيضا إلى خسارة؟ 9/ من الواضح أنك ترى أن أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي تعود إلى الظروف الموضوعية التي رافقت منذ اليوم الأول ثورة أكتوبر، وما تبعها في ما بعد من انحراف ستاليني، ربما يكون هو نفسه وليد هذه الظروف، لتقود هذه الظروف في نهاية المطاف إلى سقوط الاتحاد السوفياتي في ظروف دولية، سياسية واقتصادية وعسكرية، معادية للاشتراكية، وتَحكم على النظام السوفياتي بالانهيار. *** ما هي النتيجة المستخلصة من هذا المسار الذي يَكشف بصورة بديهية عن توافق ما بين أحكام على ثورة أكتوبر وسقوطها، أحكام كلها سلبية إلى حد بعيد؟ إن السؤال الأول يدعو إلى تحقيق ميداني وفكري جديد هو في متناول اليد. فإذا كان من الصحيح أن المحلِّلين الأكثر وضوحا قد رفضوا التسليم بهذا السقوط، ولم يقيسوا ضخامة نتائجة الواقعية، بحجة أن حتميات التخلُّف هي السبب وراء ذلك، وما يرافق التخلّف من قسر محتوم، وتصفيات، بالإضافة إلى إشعاعات تتعلق بأحداث الساعة التي سادت نهاية القرن العشرين، فإن "نهاية الشيوعية" هي نفسها نهاية الشيوعية هذه وليس غيرها، و"التي كانت وُلِدَت ميتة". وإن "انتصار الرأسمالية"، وما يَنتج عن الزوج السوق-الديمقراطية من إغراءات، إن هذا الانتصار الرأسمالي في روسيا السوفياتية ينتمي إلى الاستمرارية، استمرارية للبيروقراطية التي نابت مناب الرأسمالية والبورجوازية، أكثر منه إلى الترميم الذي يتمخَّض عنه بعد مرور ستين سنة هذا التوحيد ما بين نمطين من التطور الرأسمالي، والذي كان إلى ذلك منفصلا، وكان يبدو أيضا في الظاهر متناقضا. وإن "الاشتراكية الموجودة واقعيا" والملقّبة ب/ "الماركسية الواقعية"، ليست، من وجهة النظر هذه، هي هذا المراهق المتمرِّد، وأقل من ذلك الطفل الضال، وإنما هو قريب فقير ومهتدٍ يعود إلى مهد الأسرة. وإن مثل هذه الأطروحة تستدعي لزوما أن تُمَحَّص بعمق لأنها تنتهي بدورها إلى الإشكالية التالية: إذا كان يصح القول إن السلطة في روسيا التي مورست قد نابت مناب البورجوازية، والاقتصاد ناب مناب الرأسمالية، فما هو معنى هذه الإنابة؟ وما هي النتائج المُسْتَخلَصَة؟ وينتج عن النتيجة الأولى بصورة فورية نتيجة ثانية، وتعود بنا إلى النقطة التي كنا انطلقنا منها لدى البدء بالحديث حول أزمة الماركسية والشيوعية، ألا وهي أن الانتقال إذا ما كان إنجازه ممكنا، فإنه ليس موضعا للشروع بتنفيذه إلا على قاعدة من الطريق الذي يوصَف ب/ "العظيم". وهو طريق الغرب أو أوروبا الرأسمالية. وهل هذا هو تفكير غرامشي؟ إن انهيار البلدان الاشتراكية، "الموجودة واقعيا"، والذي جرف معه المواجهة ما بين "المعسكرين"، يقود بنا إلى تصحيح هذا الحكم. إذ ما أن تلاشت المنافسة والسباق، فإننا نجد أنفسنا أمام سيطرة مُوَحَّدَة فَرَضَت على الكوكب بأسره النظام الرأسمالي الذي نرزح تحت سيطرته. ولم يبق بعد ذلك أمامنا إلا موقفين اثنين. الأول هو موقف التسليم الذي يتَّسم حسب أصحاب النوايا الطيبة بسمات ما يُسَمَّى "نهاية التاريخ"، والتخلِّي عن المستقبل، أو "فقدان المعنى". و لا يبقى في مثل هذا الحال أمامنا سوى الدفاع عن التوازن بين الوحوش، أو لا يبقى أمامنا – بتعبير آخر – سوى ضخ حد أدنى من العدالة المجتمعية في الليبرالية بصورة متعايشة مع تطورها. والموقف الثاني هو النضال. وتحتاج طرقه ووسائله إلى تعريف جديد انطلاقا من القراءة الصعبة لعلاقات القوى التي شَرعت ترتسم، وهي ذات أهداف واضحة منذ الآن: تشييد الأشكال الديمقراطية في كل مكان، توسيعها والحفاظ عليها وتعميقها في كل مكان. ويجب أن نفهم الديمقراطية كما هي، ليس من حيث هي معطى، لأن كل ديمقراطية هشة، وليس من حيث هي بالأحرى نموذجا، أي الديمقراطية الغربية التي تمتزج بالأمراض السياسية ولا تعبِّر إلا عن النظام السائد المسيطِر للغالبين. إن الديمقراطية تبقى برأينا هي الرقابة على وسائل الإنتاج مِن قِبَل منتجي الثروات، وهم العدد الأكبر، وهي سلطة العمال. وأنا أكتفي بدعوة المثقفين الغربيين إلى الأخذ بمهمة متواضعة، وهي الامتناع عن التخلي، اليوم وأكثر من أي وقت مضى، عن مهمة متواضعة، وهي "الوظيفة النقدية" التي كان بدأ بها ماركس للنظام المسَيطِر والمُحمَّل بتهديدات ثقيلة تمتد وتتسع لتشمل الكوكب كله. ومن هذا المنظور يأتي اسم الشيوعية بوصفه حتى الآن هو الحل. احد عشر - الشــيوعية ليســت نمطـا أو نظــامـا جــاهــزا للتطــبيق 1- أصبحت الشيوعية بحكم التراكمات التي تلت ثورة أكتوبر 1917 نموذجا واحدا، هو الروسي القابل للتطبيق في كل مكان. وأصبح النموذج أو النمط الروسي هو المثال الوحيد للشيوعية. أنت تعتقد أن الشيوعية غير ذلك. إنها من وجهة نظرك ابتكار مستمر وتجديد بالاعتماد على تحليل علمي لواقع ملموس، ابتكار هو المعادل الموضوعي لواقع متجدِّد. والسؤل بتعبير آخر: ما هي الشيوعية؟ *** إن ماركس محترس حيال مفهوم الشيوعية، وكان ُفَضِّل عليها الاشتراكية للحديث عن مجتمع المستقبل. ولم تكن الشيوعية، في سنين شبابها الأول ما قبل ماركس وإنجلز، تعني سوى مشاريع أو أنظمة تطمح بدرجات متفاوتة إلى الإصلاح الجذري للمجتمع. وكانت طوباوية صرفة ذات أصول أفلاطونية. وعَبَّر عنها مفكِّرون من أمثال إتيين كابيه Etienne Cabet (1)، وجول لورو Jules Leroux، و ويلهمل فايتلينغ WilhelmWeitling ، وتوماس مور Thomas More . وهؤلاء الطوباويون كانوا ينتقدون الأحوال السائدة، ويشكِّل شارل فورنيِّه Charles Fournier على هذا الصعيد خير مثال. وكان فورنيِّه يعاني، بالرغم من أن تحليله للأوضاع كانت على درجة عالية من الجودة، وكان احتجاجه قوياً، كان يعاني من كونه ينتمي إلى عالم الحلم عبر موضوعات نظرية تأمُّلية، مثل الملكية الجماعية، والإنسانية، أو نهاية الاستلاب، والتي يعوَّل عليها من أجل بلوغ "ماهية الإنسان". وكان فورنيِّه في أغلب الأحيان واقعا تحت تأثير التدين، والحنين إلى المسيحية في عهدها الأول المثالي. ماركس نفسه عَرِفَ مرحلة إنسانوية كان خلالها بعيداً عن المثالية والمادية. ف/"البيان الشيوعي" يشير إلى أن استلاب البروليتاريا يُشكِّل مصدر سمتها الثورية. وتحت تأثير أصدقائه، موزيس هيس Moses Hess، وإنجلز الذي كان التزم قبله بالحركة الثورية، بالإضافة إلى مسار من التحوُّل الداخلي لعصبة العادلين La Ligue des Justes والتي أصحبت في ما بعد ‘عصبة الشيوعيين" Ligue des Communistes، وبوجه خاص استبدال الشعار: "كل الناس أخوة"، بالشعار "يا عمال العالم اتحدوا"، والذي رافق تحول هذه العصبة، هذا كله يُقنع ماركس بأن يتبنى بدوره مفهوم "الشيوعية"، وأن يجعل منه مفهومه. بيد أن هذا الانتقال لم يُنجّز إلا لأن مضمون الشيوعية انقلب من الطوباوية إلى العلمية. // هذه الشيوعية بعدما أعيدت صياغتها شكلا ومضمونا سَدَّت النقص والخلل الذي كان يسيطر على المفاهيم القديمة للشيوعية، والتي كانت تحرمها من أية مؤهل لممارسة التغيير والفعل، طالما أنها في صيغتها الجديدة تلتقي التاريخ الذي كان مفقودا في المفهوم القديم للشيوعية، أو بالأحرى تفعيل التاريخ وتشغيله بمقابل التاريخانية. والتاريخ هنا هو الممارسة، أو نقيض ما هو تأملي ونظري. وهو أخيرا، وفي المقام الأول، القوة الواقعية القادرة وحدها على نقل أفعالها إلى حيز التنفيذ الفعلي، أي البروليتاريا. واعتبارا من هذا التحوُّل أصبحت الأفكار قوة مادية تتبنَّاها الطبقة "المحرومة من المِلْكيَّة"، وتَفتح بها الطريق أمام ثورة تضع نهاية لعلاقات الإنتاج الرأسمالية. ومما لاشك فيه أن الأمور لا تتقدَّم من تلقاء نفسها دونما صعوبات. فمفهوم البروليتاريا ذو تاريخ. إذ إن البروليتاريا كانت تُعتَبَر في مطلع الأمر "طبقة شمولية"، وكانت الفلسفة بالنسبة إليها قلبها وعقلها المفكِّر. ثم أَصبحت هذه الفلسفة بالمعنى الألماني هي "مُنَظِّر" البروليتاريا الأوروبية. ثم انتقل مفهوم البروليتاريا من هذا المعنى الفلسفي إلى وضع اجتماعي- اقتصادي لم يكف عن التبلور بصورة أوضح. فقد انتقل من "حِكم الملكية الفردية ضد نفسها"، حسب أفكار بيير بول برودون Proudhon Pierre Paul وغيره من الفوضويين، إلى الصراع ما بين البورجوازية والبروليتاريا، والعلاقة ما بين الحزب والطبقة، والبروليتاريا بوصفها القوة الثورية الوحيدة. واعتبارا من ذلك، اختلطت وامتزجت الشيوعية – حسب ما يشير إليه إنجلز في مراجعته ل"البيان الشيوعي" في العام 1890 - بالحركة العمالية، وذلك مقابل الاشتراكية بوصفها إيديولوجية بورجوازية. وأصبحت الشيوعية علمَ البروليتاريا، ومُعارِضَة أو مناقضة للاقتصاد السياسي بوصفه علم بورجوازي. وتمخَّض عن ذلك برنامج يتعلق بشكل الصراع في حالاته المتعدِّدة، والهدف: نقد الدولة ونهاية الطبقات، والانتقال من "سيادة الضرورة إلى سيادة الحرية"، في إطار من مسيرة ثورية انتقلت أخيرا إلى حيز الواقع وتأسَّست. ولستُ هنا في معرض الحديث عن معنى الشيوعية العلمية ومداها، ولن أتطرق أيضا إلى علاقتها شديدة التعقيد بالطوباوية. كلا. إن الشيوعية النقدية، كما يقول أنطونيو لابريولاAnotonio Labriola ، هي نظرية من أجل قلب النظام القائم بصورة جذرية. هذا الانقلاب المندَرِج في قلب صراعات ملموسة تاريخيا. وإن الصيغة الشهيرة الواردة في "الإيديولوجية الألمانية" ليس لها معنى آخر غير هذا: "إن الشيوعية برأينا ليست دولة يَلزَم بالضرورة تشييدها، وليست أيضا مثالا يقاس الواقع ويُصنَع حسب صورته. إننا نُسَمِّي ما هو شيوعية الحركة الواقعية التي تُلغي الوضع الحالي. وإن شروط هذه الحركة متأتِّية من البدايات أو البواكير المتوفِّرة حاليا". ولنأخذ بعض السمات الهامة التي غالبا ما تُهمل إن لم تكن تُحْجَب عن قصد. إن وضع البروليتاريا في الأعمال الشيوعية، أو حالتها، لا يخلو من التباسات. فهي تُعْتَبَر في وقت واحد خارج المجتمع البورجوازي، حيث أنها تُمَثِّل المبدأ الذي يؤسِّس لانحلال البورجوازية، حسب ما جاء في "البيان الشيوعي". والبروليتاريا، في الوقت نفسه، ومن جهة أخرى، تقع في شرك الرأسمالية، حتى على صعيد نضالاتها، ليس فقط من الناحية الاقتصادية، وإنما أيضا من الناحية السياسية والإيديولوجية، حسب ما جاء في "رأس المال"، ما يترك نتائج على تنظيمها وأحزابها ونقاباتها التي تندرج بدورها في النظام الرأسمالي، وتقع سجينة له. والبروليتاريا، علاوة على ذلك، التي تُحشَد من مختلف شرائح السكان لا تشكل بحد ذاتها طبقة، وإنما هي مدعوة أو مطالبة بأن تكون طبقة. والطبقة لا وجود لها خارج صراعاتها، فإذا ما تقلَّصت إلى "نشيد الموتى" وهي ومتوحدة بنفسها، وإذا لم ترتبط بتحالف مع قطاعات غيرها من الشرائح المجتمعية، وبوجه خاص ما يُسمى البورجوازية الصغيرة، فإنها لن تتكون بوصفها طبقة ذات صراعات. والحزب لا يحل محل الطبقة، ليتحدَّث باسمها، ويقرر بدلا عنها. وقد تصدى كل من ماركس وإنجلز لمثل هذه الحالة برفض قاطع ومستديم. إن الحزب بالنسبة للطبقة امتداد مرافق لها، لاسيما وأن "المنظَّمات – على حد قول غرامشي - عاجزة عن تغطية التكاثر متعدِّد الأشكال للقوى الثورية التي تَصدُر عن رأس مال يولِّد بكثرة هائلة القوى الثورية". إن قيمة ومصداقية هذه الدروس ما تزال راهنة في يومنا هذا. ولنضف إلى القول: إن الشيوعية وإن كانت نِتاج الرأسمالية، فإن انتقالها إلى حيز الواقع كنظام سياسي سائد، لا يمت بصلة إلى أية ضرورة مُلزِمة بصورة قاطعة، أو حتى إلى أزمة "نهائية". ذلك إن قانون التراكم، حسب ما يتبيَّن من التاريخ، يسمح لنمط الإنتاج الرأسمالي أن يعيد تنظيم توازناته، وأن يضمن في شروط جديدة الحفاظ على سيطرته. 2- الشيوعية، من حيث الأصل، بَنَتْ لديمقراطية واسعة لا تقل في منحها للحريات عن الديمقراطية البورجوازية ، وهي تُنجر قطيعة مع الأشكال البورجوازية للديمقراطية. *** الشيوعية من نتاج الرأسمالية، على غرار سواها من الاتجاهات، كالاشتراكية والديمقراطية، والليبرالية، والفاشية. وإن انصباب العمل على التناقض الرئيس للعلاقات المجتمعية، رأس المال، العمل، والمأجورون، هو الذي يرجِّح انتصار اللون الأحمر على الأبيض والأسود والزهر. والشيوعية لم تحدِّد بصورة مسبقة وشاملة شروطا بعينها للثورة، وبالأحرى شروط من شأنها إيقاف الثورة، إلا إذا تحدَّثنا عن هذه الشروط بتفكير مثالي، يرتفع بقوانين مفترضة فوق الواقع ويُخضع الواقع لها. والشيوعية ليست نموذجا أو نمطا يقلَد أو يحتذى به, إنها بعض المؤشِّرات فقط ذات صلة بشكل الانتقال، من أمثال تلك التي كشف عنها ماركس عبر تجربة الكومونة، أو الثورات اللاحقة. إن الهدف من العمل الجماعي للعمال، أو "المُنْتِجون الشركاء" لا علاقة له البتة بمذهب الإنتاج من النمط الستاليني، وبتعزيز بنى الدولة. وكان النمط الستاليني انتهى إلى الفشل، في ما نَتَجَ عن تعزيز بنى الدولة سمات لسياسة بورجوازية. والشيوعية ليس سوى النضال العملي من أجل الديمقراطية، بوصفها سلطة الأكثرية وقد أَنجزت القطيعة مع كل تعبيراتها البورجوازية، أو هي ما يُعرف كلاسيكيا ب/"ديكتاتورية البروليتاريا". ومن الأفكار المُسْبَقة والشائعة في أيامنا هذه أن البروليتاريا لم يعد يُعْثر لها على أثر. إن القبول بمثل هذا النفي للطبقة العاملة ليس فقط استسلاما إلى الإيديولوجية السائدة التي تُرَوِّج لفكرة مؤدّاها أن الإيديولوجيات انتهى عهدها، شأنها شأن الطبقات، أو البطاطا، وإنما هو علاوة على ذلك ترويج لبديهة منتشرة بصورة واسعة تقول بسيطرة الرأسمالية على الكوكب، سيطرة بدون أي بديل معارض لها ومختلف عنها. هذه الرأسمالية التي ما انفكَّت تتجدد بأشكال مختلفة مخلِّفة الأضرار والخراب في كل مكان وفي كل المجالات بدون استثناء، من صراع الطبقات إلى أصحاب رأس المال الغاطسين في الأزمات والكوارث الاقتصادية. والحال، ما هي البروليتاريا اليوم، وماذا تكون إن لم تكن هذه الكتلة من المسيطَر عليهم، وهؤلاء من "معذبي الأرض"، الذين يتزايدون عددا كل يوم؟ وما الشيوعية، إن لم تكن هذه الممارسة الخلاقة والمُبْتًكِرَة التي تُحيِّي المعارك والنظرية اللتين تساعدان البروليتاريا ومعذبو الأرض على التلاقي؟ وبكلمة واحدة: إن سقوط حائط برلين قد حرَّر الماركسية، وأعاد في الوقت نفسه للشيوعية التي تتحرك كالصاروخ ضد الأنظمة القائمة كلها، قوتها الجذرية. وبالرغم من حالات كثر من الارتداد والتخلي والمآتم، فإن الشيوعية لم تقل كلمتها النهائية، وهي ما تزال أمامنا. اثنتي عشرة: نهــايـة الـدولـة الســوفـياتية واســتمـرار الشــيوعـية المتجـدِّدَة 1/ موت الدولة السوفياتية هو نفسه تجديد للشيوعية؟ وهل مات ماركس ثم عاد إلى الظهور مجددا في عصر العولمة النيوليبرالية بعدما كان اختفى عن الوجود؟ *** إنهم يعلنون عن موت الماركسية مند قرن ونيف، بالرغم من أن سقوط حائط برلين من حيث الصورة الحسِّية التي ينقلها يبدو كانهيار عنيف ومفاجئ. إلا أنهم لا يتساءلون أي انهيار هذا الذي حدث؟ ما الذي انهار؟ ومن هو الميِّت؟ إن الموت ليس بجلطة قلبية، و إنما يأتي كنهاية لاحتضار طويل الأمد. وذلك بسبب تضافر ما بين عوامل كثر. منها حالة الجمود التي رافقت عهد بريجنيف، والتي كانت تعبِّر عن عجز العالم السوفياتي عن إنجاز تحوُّلات اقتصادية وسياسية. ومنها أيضا العوامل الخارجية. فقد فُرِض على الاتحاد السوفياتي سباق التسلُّح، وهو باهظ التكاليف. والمسألة لم تأخذ حقها من التفكير من حيث عواقب النفقات المالية، بالإضافة إلى الحملات الإيديولوجية ومناورات الفاتيكان، والتي قادت إلى انحلال تدريجي انتهى إلى التوقُّف بصورة مفاجئة، وسلمية، أو انتهى إلى ما يُعرف ب/"لثورة المخملية". لأن الحفاظ على النظام لم يعد يُرجى منه أية فائدة. ولم يفعل غورباتشيف أكثر من سحب الأجهزة التي كانت تمد المريض بالهواء والتغذية. وإن مثل هذا الموت الاختياري يترك السؤال التقليدي في مثل هذه الحالات كاملا وبدون جواب، ما دام العلاج اللازم لإنقاذ المريض من الموت مجهول. فهل كان العلاج سينقذه؟ وكانت الأحزاب الشيوعية في أوروبا استعدت لمواجهة هذه النهاية عبر اليوروكومونيسم (الشيوعية الأوروبية)، والاهتداء بالاشتراكية الديمقراطية بأمل إنجاز انتصارات بفضل الديمقراطية البورجوازية. وفي فورة مزيج من صرخات الفرح العارم والألم الشديد أمام هذه المتغيِّرات استَقبَل العالم عهداً جديداً كان موضع ترقُّب وانتظار من الجميع، عالمٌ يُؤذِن بنهاية الحرب الباردة، التعايش السلمي، توازن الرعب، وانتصار الديمقراطية (بلا زيادة)، وقد اختلط أمرها بالنيوليبرالية. لكن الفرحة ما لبثت أن تبدَّدت، إذ لم يمض عقد واحد من الزمان حتى تبيَّن أن الطموحات أُحبِطَت في عهد النظام العالمي الجديد. // إن حالة من انعدام المساواة بجميع أشكالها ما انفكت تتعمَّق. والاشتراكية الديمقراطية التي استفادت في مطلع الأمر من الانهيار، واعتراها الأمل بإصلاح النظام الرأسمالي بفضل تدابير وإجراءات تشجِّع الاقتصاد المختلًط، بما يُخفَّف من وتيرة المضاربة، ويضمن حالة من الوفاق المجتمعي، انتهت إلى الفشل الذريع. وتَرَكَت الاشتراكية الديمقراطية، على هذا النحو، المجال مفتوحا ومُمَهَّداً أمام السياسات النيوليبرالية التي عادت بسرعة إلى السيطرة على زمام القيادة. تَرَكت لها الساحة مُمُهَّدَة من اجل تراجعات عن المكاسب المجتمعية على الصعيدين الفرنسي والأوروبي. فشاع شعور بالمرارة وخيبة الأمل في أوساط العاملين والمواطنين عموما، في ما بدت عبارات "الطبقات" والشغِّيلة" غير صالحة للاستخدام. ورافق ذلك ظهور أفكار تقول ب"نهاية التاريخ"، و"موت الإيديولوجيات"، و"الفراغ السياسي والفكري". وكان من الخطأ أن تُعالَج هذه الأفكار بالتعالي حيالها ما دامت تُعبِّر بصورة لا جدال فيها عن حالة واقعية. وهذه الأفكار وثيقة الصلة بافتقاد الرأي العام بصورة عميقة لقيمه ونقاط الاستدلال التي توجِّهه في فكره وممارسته، والتي ضاعت منه وفَقَدَها. ودَخَل الرأي العام في "حالة أزمة"، أو هو أصبح متأزِّما، ووجد لنفسه مهربا أو مخرجا من اليأس بالانغلاق في عصبية الجماعة، الدينية، الطائفية، الأثنية، الجنسية، والمنعطفات السياسية المتطرفة لليمين، بالإضافة إلى الانغلاق الفردي. وهذا هو المعنى المقصود من العبارات الشائعة التي تردَّد "لا اليمين ولا اليسار"، و"كل شيء فاسد". لكن العبارات التي تَزُفُّ لنا أو تريد أن ترشدنا إلى "نهاية الإيديولوجيات" هي نفسها وبوجه الدقة الإيديولوجية الليبرالية. و"انعدام المستقبل" هو نفسه زمان البورصة التي تَفتَقد لمعايير التنبؤ، وعهد يَشهد طغيان رؤوس الأموال المستَثْمَرَة في المضاربة على المدى القصير على غيره من أوجه الاستثمار في الاقتصاد الرأسمالي في عهد العولمة. وهذا هو حصاد العولمة التي تتخفى وراء الدين والعمل الإنساني، لكنها تدكُّ بدون شفقة كل ما يعترض طريقها، من استقلال ذاتي، وخصوصية، وتباين في مجالات الاقتصاد والسياسة والثقافة. ولحقت العولمة النيوليبرالية بحقوق الإنسان. فقد تبجَّحت بها، وراحت تردِّدها على مسامع الناس صباح مساء حتى هَبَطَت بها إلى مستوى إيديولوجي بدون مضمون إنساني. وهذه الإيديولوجية السائدة التي لن تُطعم الجائعين هي الرائجة اليوم، وما تزال أمامها فرصة لمزيد من استغلال العالم. // في هذا السياق تنبثق عناوين بالقلم العريض تُعْلِن عن "عودة ماركس". هذه العودة لا تعدم من أسباب قوية موجِبَة تُبيِّن أن الماركسية ضرورية لفهم عصرنا. والأسباب كثيرة. منها أن الناس تتطلع إلى عالم من نمط آخر تكون فيه الحياة متيسرة بصورة أفضل، ما دام العطب عمَّ العالم ولحق بكل شيء، ما عدا الاستمرار على قيد الحياة يوما وراء يوم، خطوة وراء خطوة، حسب الظروف وشروط الأحوال الجوية. حتى أصبح ما بعد المعاصرة، أو ما بعد الرأسمالية والاشتراكية مقترنا، على وجه التشبيه، بالغابة، أو ما يُعْرَف /ب ما بعد لاشيء. عالم "الشركاء الاجتماعيين" حيث يختلط العامل برب العمل وبالحكومة، حل محل "الطبقات"، ما دام ثلاثتهم يجلسون معا وراء الطاولة للحوار والتفاوض. وكانت حرب الخليج الثانية وغزو العراق، أي عودة الإمبريالية إلى الظهور على السطح. وفي مسعى من الإيديولوجية السائدة للتمويه، اقترنت معاداة أمريكا بمعاداة الصهيونية، وأصبحت معاداة هذه الأخيرة مقترنة بمعاداة السامية. لكن اللعبة لم تفت على الشعوب التي تنهض في كل مكان لمقاومة الهيمنة الحربية للإمبريالية. وفي هذا السياق من عودة ماركس، فقد لحق الفشل بالمذهب الإصلاحي للاشتراكية الديمقراطية في أوروبا، كما سُحِقَت محاولات التطوير غير الرأسمالية. ولم تجد شيئا كل المحاولات التي كانت تتطلع إلى عولمة أقل وحشية، ومنظمة تجارة عالمية أكثر ديمقراطية، ومنظمة أمم متحدة محدَّثَة. وأنا أقول إن ماركس لم يعد إلا بأنظار مَن كانوا فقدوه، لأنه لم بغادر عالمنا أبدا. وأتساءل ما الذي انهار ضمن هذا الانهيار؟ مجموعة من الخبرات المجتمعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي صُنِّفَت في ملف يحمل اسم الماركسية، في بلدان كانت أبعد ما تكون عن الجمع ما بين الشروط الضرورية للثورة الشيوعية. وقد أثارت هذه الثورات من الحماس في العالم بمقدار ما كانت تحمل من آمال وتطلعات لدى الشعوب في العالم أجمع. آمال وتطلعات ما تزال حيّة حتى اليوم. وإذا كانت بهتت فما ذلك إلا تحت تأثير مزيج من خيبة الأمل والدعاية الرأسمالية التي محت في لحظة الانهيار كل الجوانب الإيجابية للأنظمة من النمط السوفياتي. ولم يعدم الماركسيون خلال العقود الماضية من أعمال معمَّقة حول الاتحاد السوفياتي. فقد ظهر لدى ماركسيون كثر، منذ بدء ثورة أكتوبر، ميل إلى رفض الصلة ما بين إسهام ماركس النظري والتطبيقات الستالينية التي كانت تزعم صلتها بالنظرية. وهذا الرفض يجد في ثقافتنا الماركسية شبيها له في ما يتعلق برفض الصلة ما بين المسيحية ومحاكم التفتيش، أو ما بين الإسلام وابن لادن. وبالمحصلة، فإن العلوم الإنسانية والاجتماعية ما كان لها أن تزدهر وتعرف هذه الخصوبة لولا أعمال ماركس. أعمال ماركس وإنجلز وغيرهما هي وحدها القادرة اليوم على تشخيص النظام السائد في عالمنا الراهن. فالنظام الرأسمالي، بالرغم من أن تطورات هامة لحقت به، وقد استطاع أن يستعيد بصورة مستديمة توازنه بالرغم من استمرارية الاختلال في نظامه، إلا أن الرأسمالية من حيث نمط للإنتاج فإنها هي نفسها لم تتغير من حيث الجوهر. فالعولمة بوصفها امتداد متقدِّم لعلاقات الإنتاج الرأسمالية تلقاها في "البيان الشيوعي". وتلقى أيضا سيطرة الرأسمال المالي بوصفه " الصَنَم المعبود المُسَيَّر آليا، حيث المال يُنتِج المال، كشجرة الأجاص التي تثمر أجاصا"، في "رأس المال". والبروليتاريا التي تُعَدُّ بمئات الملايين على الصعيد العالمي، على نقيض من المزاعم التي تزعم نهايتها، ما تزال مقيمة في أحياء عمالية، وهي ليست أحسن حالا بكثير مما كانت عليه في القرن التاسع عشر. أولم يرسي لينين الأسس النظرية للإمبريالية؟ وفي ما تنتصر اليوم السياسات النيوليبرالية، فإن مسائل من أمثال سلطة الدولة، والأمة، والمجتمع المدني، ودور الشعوب، والسيادة القومية، هي التي تستأثر بحيز هام من الموضوعات النظرية. // لقد مضى ما يزيد عن قرن من الأبحاث والدراسات والمناقشات منذ أوائل الاشتراكيين حتى غاية جورج لوكاش، هنري لوفيفر، وإرنست بلوخ، وهي تعلِّمنا الكثير عن عالمنا اليوم. نعم، إن من السهولة بمكان أن يَدفنوا صحبة ستالين تحت أنقاض جدار برلين العتلات الرافعة التي نَفتقد إليها في ساعة نحن بأشد الحاجة إلي هذه العتلات الرافعة وقد تبيَّن، بعد مرور فترة وجيزة على الانهيار، أن كل المحاولات التي تريد صد الهمجية ما بعد المعاصَرَة، وتشييد نظم من البدائل الراديكالية، قد باءت بالفشل. إن الحل ذو اسم واحد لا بديل له، ولا ثانٍ له، هذا الاسم هو الثورة. ومصير الثورة مرتبط بصورة لا تنفصم بالديمقراطية. وهذا هو الدرس المستقى من الانهيار. ويا له من درس مثير للكدر والإزعاج لمن كان يتعامى عن رؤية العلاقة الوثيقة ما بين الثورة والديمقراطية. إن أحدهما يستعصي على الوجود ما لم يرافقه الآخر. درس لمن كان يتعامى أيضا عن قراءة هذه العلاقة المسجَّلَة بأحرف عريضة في الماركسية الحيَّة التي تتسع لأعمال كثيرة، منها أعمال روزا لوكسمبورغ التي تَفرض نفسها في الساحة. // ليس من درس أقوى من تاريخ من الأجيال عبر ما يزيد عن القرن، تاريخنا الذي يريد أن يتخلَّص من أنظمة السيطرة، الشرقية منها والغربية. ولسنا هنا بصدد تلقين الدروس لأحد، أو تقديم وصفات طبية لصناعة المعجزات، أو الترويج لألبسة سياسية جاهزة، وإنما نحن نتلمس عمل الطاهي والترزي الذي يَعمل في المادة، ومنها يَبتَكر. وها هنا ينتصب العائق. إذ إن مفارقة بعينها تعترضنا. فالتصميم على "تغيير العالم" يَفتَرِض، كي ما يُنجَز هذا التغيير، أن تَتَوفَّر، في وقت واحد، المعرفة العلمية بالوضع الموضوعي، والقيادة، والقوى الفاعلة والمنظَّمات. والحال أن تغيير العالم، بالرغم من أن وضع عالمنا حسب ما هو عليه هو حالة العطب، وبالرغم من أن حال الوعي والصبر لدى جماهير المُسَيْطَر عليهم يقترب من حالة الانفجار، بالرغم من هذا وذاك، فإن تعبير "الثورة" الذي كان يلقى رواجا لا مثيل له في عالم الغطرسة والعجرفة، تراه اليوم يخبو أو يمشي كالأعرج. فلنترك، مع ذلك، جانبا الشروح والتفسيرات المستفيضة حول "لحزب". ذلك أن القضية هنا في غاية الأهمية والجدية طالما أن تغيير العالم مرتبط بوسائل هذا التغيير. والمقصود هنا هو "اليسار"، وما آل إليه حال اليسار. إن الاجتماعية الليبرالية تدور حول نفسها بعد ما استنفدت كل المحاولات. والعطب ضمن هذا اليسار لحق بالحزب الشيوعي أكثر مما لحق بغيره. لقد ابتلع الحزب هويته بعدما تخلَّص بضربة واحدة من ديكتاتورية البروليتاريا والأممية البروليتارية، وبالمحصِّلة من الماركسية. لم يُكتَب على التاريخ أن يكون أعرجا إلى الأبد. وكلي ثقة بأن الحركات الكثيرة التي تظهر وتتطور في جميع أنحاء العالم ستَنتَهي، أيا كان تنوعها والتناقض ما بينها، ستنتهي إلى فتح الطرق أمام التحرُّر. والوعي الثوري المتواضع مؤهل لمد يد المساعدة إليها من أجل تغيير العالم.
#حسان_خالد_شاتيلا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في تاريخ الماركسية - حوار مع جورج لابيكا
-
الماركسية الثورية ليست هي نفسها الماركسية الأكاديمية - الفصل
...
-
الماركسية هي الرد الوحيد لتغيير عالمنا اليوم - حوار مع جورج
...
-
جورج لابيكا: نقد البراكسيس
-
جورج لابيكأ، شخصيته السياسية والنظرية - مقدمة ثانية
-
الفصل الأول - مقدمة رابعة جورج لابيكا: تغيير العالم بلا معلّ
...
-
مقدِّمة :في العلم والتاريخ من أجل تغيير العالم - حوار مع جور
...
-
لا واشنطن ولا موسكو، لا الرياض ولا طهران، حرب التحرير الشعبي
...
-
يونان – حزب سيريزا: لمن تقرع الأجراس؟
-
الأزمةُ الثورية منعطفٌ أعرج، مُعوجٌّ ومتعرِّج نحو اليسار، وث
...
-
-برنامج الصراع الطبقي-، لسلامة كيلة
-
الطبيعة المادية في أعمال يوسف عبدلكي
-
ثورة الخامس عشر من آذار: مستقبل حزب الله: ضحية الاستبداد الش
...
-
ثورة الخامس عشر من آذار:هزيمة الثورة المضادة رهنٌ بوحدة اليس
...
-
ثورة الخامس عشر من آذار: التآمرُ سياسةُ الثورة المضادة، حاكم
...
-
ثورة الخامس عشر من آذار: المؤامرات، المتآمرون، والمتآمر عليه
...
-
اليسار في سورية: مهمة واحدة من أجل انتصار الثورة العفوية
-
ميدانية القاهرة (ثورة في ثورة)
-
ثورة الخامس عشر من آذار: الأزمة السياسية للثورة الشعبية مستم
...
-
-دور ومهام اليسار الثوري في سورية- (تتمة وتصويب).
المزيد.....
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء
...
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|