|
رسالة عيسى اليسوع
محمد صالح الطحيني
الحوار المتمدن-العدد: 5070 - 2016 / 2 / 9 - 08:30
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ولما سجن يوحنا أخذ عيسى يقوم بعمل المعمدان ويخطب في الناس مبشراً بملكوت الله، ويقول لوقا إنه "عاد إلى الجليل"، وإنه "كان يعلم في مجامعهم". وليست لدينا صورة مطبوعة في أذهاننا عن ذلك الشاب المثالي وهو يقوم بدوره في قراءة الكتاب المقدس على المجتمعين في الناصرة، ويختار لهم فقرة من سفر اشعيا: "روح الرب عليّ لأن الرب مسحني لأبشر المساكين، أرسلني لأعصب منكسري القلب، لأنادي للمَسبيين بالعتق وللمأسورين بالإطلاق" "والعُمى بالبَصر، وأرسل المنسحقين في الحرية" ، ويضيف لوقا "وجميع الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه، فابتدأ يقول إليهم إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم"، وكان الجميع يشهدون ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فيه. ولما عرف أن يوحنا قد قُتل وأن أتباعه كانوا يبحثون عن زعيم جديد تحمل يسوع العبء وما يستتبعه من خطر، وارتد أولاً في حذر وحيطة إلى القرى الهادئة وصار يتجنب على الدوام الجدل السياسي، ثم أصبح في كل يوم أعظم جرأة في إعلانه إنجيل التوبة، والإيمان، والنجاة، حتى ظن بعض أتباعه أنه هو يوحنا قام من بين الأموات. وإنـا ليصعب علينا أن ننظر إليه نظرة موضوعية مجردة. وليس سبب هذه الصعوبة مقصوراً على أن كل ما نعرفه عنه منقول عن الذين كانوا يعبدونه، بل إن من أكبر أسبابها أن تراثنا الأخلاقي ومُثُلنا العليا وثيقا الصلة به، تكونا على منواله، ولهذا فإنا نحس بما يصيبنا من أذى إذا وجدنا عيباً في أخلاقه. لقد بلغ شعوره الديني من القوة حداً جعله يندد أشد التنديد بمن لا يشاركونه في آرائه، ويعفو عن كل الأغلاط إلا عدم الإيمان. وإن الإنسان ليجد في الأناجيل فقرات قاسية مريرة لا توائم قط ما يقال لنا عن المسيح في مواضع أخرى منها؛ ويبدو أنه قبل دون بحث وتمحيص أقسى ما كان يؤمن به معاصروه عن جهنم السرمدية التي يعذب فيها مَن لا يتوبون من الكفار والمذنبين بالنار التي لا تنطفئ أبداً والديدان التي لا تشبع من نهش أجسامهم. وهو يقول دون أن يحتج عليه أحد إن رجلاً فقيراً في الجنة لم يُسمَح له بأن يترك نقطة واحدة من الماء تسقط على لسان رجل غني في الجحيم. وينصحنا بنبل شرف ألا نحكم حتى لا يُحكم علينا، ولكنه يعلن الناس والمُدن التي لم تؤمن برسالته ويلعن شجرة التين التي لم تكن تحمل ثمراً. ولعله كان قاسياً بعض القسوة على أمه. وكان يتصف بحماسة النبي العبراني المتزمت أكثر من اتصافه بالهدوء الشامل الذي يمتاز به الحكيم اليوناني وكانت عقائده القوية تملأ قلبه؛ كما كان غضبه للحق يطمس من حين إلى حين معالم إنسانيته العميقة؛ ولكن أغلاطه كانت هي الثمن الذي أداه لذلك الأيمان القوي الذي استطاع أن يحرك به العالم. أما فيما عدا هذا فقد كان أحب الناس إلى القلوب. وليست لدينا صورة واحدة له ولم يترك لنا أتباعه وصفاً دقيقاً له، ولكن الذي لا شك فيه أنه كان وسيماً بعض الوسامة، كما كان ذا روح جذّابة، استطاع بفضلهما أن يجمع حوله كثيرات من النساء وكثيرين من الرجال. وفي وسعنا أن نستدل من بعض العبارات المتفرقة. على أنه كان يلبس، كما كان يلبس أهل زمانه، عباءة فوق جلباب، وخفين في قدمه، ولعله كان يضع على رأسه غطاء ينزل على كتفيه ليقيه حر الشمس. وكانت كثيرات من النساء يجدن عنده شيئاً من العطف والحنان يبعث فيهن إخلاصاً عامراً تفيض به قلوبهن. وليس انفراد يوحنا بذكر المرأة التي ضُبطت وهي تزني حجة على كذبها، فليست هذه القصة مما يفيد يوحنا من الناحية الدينية، وهي فوق هذا مما يتفق كل الاتفاق مع أخلاق المسيح . ولا يقل جمالاً عن هذه القصة قصة أخرى ليس في طاقة أتباعه أن يخترعوها، وهي قصة العاهر التي أثَرت في قلبها سرعة قبوله توبة المذنبين، فخرّت راكعة بين يديه، ودهنت قدميه بالطيب الثمين، وغسلتهما بدموعها، وجففتهما بشعر رأسها، وقال عنها عيسى إن خطاياها قد غُفِرت لها "لأنها أحبّت كثيراً". ويروى أن الأمهات كن يأتين إليه بأطفالهن ليمسهم بيديه، وأنه "احتضنهم ووضع يديه عليهم وباركهم". ولم يكن عيسى من النساك الزاهدين كما كان الأنبياء والإسينيون والمعمدان. ويروى عنه أنه قدم كثيراً من الخمر في حفل للزواج، وأنه كان يعيش مع "العشارين والمذنبين"، وأنه قبل عاهراً تائبة ضمن أتباعه. ولم يكن يأنف من مسرات الحياة الساذجة، وإن كان قد قسا قسوة غير طبيعية على رجل كان يشتهي فتاة. وكان في بعض الأحيان يقبل الدعوة إلى الولائم في بيوت الأغنياء، ويبدو أنه كان في العادة يختلط بالفقراء، وإن كانوا من الامحاريين Amhaarez أشبه الناس بالمنبوذين الذين كان الفريسيون والصدوقيون يحتقرونهم ويتجنبونهم. وكان يدرك أن الأغنياء لن يؤمنوا برسالته، فكان لذلك يبني آماله على ما عساه يحدث من انقلاب يدخل الفقراء الوضيعين الأعلين في ملكوت الله. ولم يكن يشبه قيصر إلا في وقوفه إلى جانب الطبقات السفلى وفي اتصافه بالرحمة. أما فيما عدا هذا فما أكبر الفرق بين الرجلين في أخلاقهما، ونظرتهما إلى الحياة، وما يهتمان به فيها. لقد كان قيصر يرجو أن يصلح الناس بتبديل نظمهم وشرائعهم، أما المسيح فكان يرغب في أن يكون تغيير طبائع الناس وسيلة لتبديل النظم والاستغناء عن كثير من الشرائع. وكان قيصر هو الآخر ممن يغضبون أحياناً، ولكن انفعالاته كانت على الدوام تحت سيطرة بصيرته النفاذة، أما عيسى فلم يكن أيضاً غير ذي بصيرة، وكان يجيب عن أسئلة الفريسيين الماكرة بمهارة تكاد تضارع مهارة المحامين. ولكنها لم تكن مهارة خالية من الحكمة، ولم يكن في وسع أحد أن يربكه ولو هدده بالقتل، لكن قواه العقلية لم يكن منشَؤها اتساع عقله أو كثرة معارفه، بل كان مبعثها نفاذ البصيرة، وقوة الشعور، ووحدة الغرض. ولم يكن يدعي العلم بكل شيء، وكثيراً ما كان يفاجأ بالحوادث التي لا ينتظر وقوعها، وكان الذي يحمله على المغالاة في تقدير قواه ومواهبه هو جده وحرصه على الوصول إلى غرضه وتحمسه له، كما حدث في الناصرة وأورشليم، بيد أن قواه كانت غير عادية، ولعل الذي يثبت هذا هو معجزاته. وأكبر الظن أن معظم هذه المعجزات كانت تحدث في أكثر الأحوال بقوة الإيحاء - أي بتأثير روح قوية واثقة من نفسها، في روح قابلة للتأثر. ولقد كان وجوده في حد ذاته يبعث القوة في مَن حوله، فكانت لمسته المبشرة بالخير تشفي المريض وتقوي الضعيف، وليست رواية أمثال هذه القصص عن غيره من الناس في الخرافات والتاريخ دليلاً على أن معجزات المسيح هي الأخرى خرافات وأساطير، فليس منها إلا عدد قليل لا يصدقه العقل، ويمكن مشاهدة أمثالها في كل يوم تقريباً في لورد Lourdes، وما من شك في أنها كانت تحدث أثناء حياة المسيح في إبدورس Epidaurus وغيرها من مراكز العلاج النفسي في العالم القديم؛ وقد شفى الرسل أنفسهم حالات من هذا النوع. وهناك عاملان يدلان على أن هذه المعجزات ظاهرة نفسية، أولهما أن المسيح نفسه كان يعزو شفاء المرضى على يديه إلى "إيمان" مَن يشفيهم؛ وثانيهما عجزه عن القيام بمعجزات في الناصرة، لأن أهلها فيما يظهر كانوا ينظرون إليه على أنه "إبن نجار" ولا يؤمنون بقواه غير العادية؛ ومن ثم كان قولهم إنه "ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته". ويُقال لنا عن مريم المجدلية إن "سبعة شياطين قد أُخرجَت منها، أي أنها كانت تشكو آلاماً ونوبات عصبية، (ويذكرنا هذا باعتقاد البعض أن الشياطين تتقمص أجسام الناس)"؛ والظاهر أن هذه الآلام والنوبات كانت تخف حدتها في حضرة عيسى؛ ومن أجل هذا كانت تحبه لاعتقادها بأنه أعاد إليها الحياة، وأن قربه منها كان أمراً لا غنى عنه لسلامة عقلها. وأما إبنة بايروس فقد قال المسيح عنها في صراحة: إن البنت لم تمت بل كانت نائمة - ولعلها كانت مصابة بالشخوص ، ولم يلجأ حين ناداها بأن تستيقظ إلى لهجته الرقيقة المعتادة بل قال بلهجة الآمر القوية: "طليثا قومي" (أي يا صبية قومي). ولسنا نقصد بهذا أن نقول إن عيسى كان يرى أن معجزاته ظواهر طبيعية محضة؛ فقد كان يحس أنه لا يأتي بهذه المعجزات إلا بمعونة ما فيه من روح قدسية. ولسنا نعرف أنه كان مخطئاً في اعتقاده هذا، كما أننا لا نستطيع حتى الآن أن ندرك حدود ما في تفكير الإنسان وإرادته من إمكانيات وقوى كامنة. ويبدو أن عيسى نفسه كان يحس بخور نفساني بعد أن يقوم بمعجزاته، وأنه كان يحاولها وهو كاره، وينهي أتباعه عن إذاعتها، ويؤنب مَن يطلب غليه "علامة"، ولقد ساءه أن أكبر الأسباب التي دعت الرسل أنفسهم إلى الإيمان به هو ما أتاه من أفعال "عجيبة". ويصعب علينا أن نقول إن أولئك الرسل كانوا من طراز الذين يختارون ليبدلوا أقوال العالم. فالأناجيل تظهر ما بين أخلاقهم من اختلاف واقعي، وتكشف عن عيوبهم كشفاً صريحاً، فهم لا يخفون مطامعهم، ولما أراد عيسى أن يهدئ من هذه المطامع وعدهم بأنهم سيجلسون في يوم الحساب على اثني عشر كرسياً يدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر. ولما أن سجن المعمدان انضم أندرو أحد أتباعه إلى عيسى وجاء معه بأخيه سيمون الذي سماه المسيح باسم كفاس، أي "الصخرة". وترجم اليونان اسمه إلى بطرس، وبطرس هذا شخصية بشرية لحماً ودماً، فهو متهور، جاد، كريم، غيور، هياب يصل به الوجل في بعض الأحيان إلى حد الجبن الذي لا يسع الإنسان إلا أن يعفو عنه. وقد كان هو وأندرو يصيدان السمك في بحيرة الجليل، وكذلك كان ولدا زبدي Zebedee يعقوب ويوحنا. وانتقل هؤلاء الأربعة بأعمالهم وأسرهم وأصبحوا دائرة ضيقة حول المسيح. وكان متّى جابياً في مجينة كبرنوم القائمة على الحدود؛ أي أنه كان يقوم بعمل للدولة، وإذن فقد كان في منصبه هذا يخدم رومة، لهذا كان مكروهاً من كل يهودي يتوق إلى الحرية. وكان يهوذا الكريوثي وحده دون سائر الرسل الذي لم يأتِ من الجليل. وجمع الاثني عشر كلهم جميع ما يملكون وعهدوا إلى يهوذا أن يتولاها نائباً عنهم. وكانوا في طوافهم مع المسيح في رحلاته التبشيرية يعيشون على ما يقدمه لهم القرويون، ويأخذون طعامهم آناً بعد آن مما يمرون به من الحقول، ويقبلون ضيافة أصدقائه ومَن يهتدون بهديهم. وقد أضاف عيسى إلى الاثني عشر اثنين وسبعين من الأتباع، وبعث بأثنين منهم إلى كل بلدة يريد أن يزورها، وقال لهم "لا تحملوا كيساً، ولا مزوداً، ولا أحذية". وانضمت بعض النساء الصالحات الرحيمات إلى أولئك الرسل والاتباع وقدمن لهم المعونة، وأدين لهم تلك الأعمال المنزلية التي لا غنى عنها، والتي هي أعظم سلوى لحياة الرجال. وعلى يد هذه الجماعة الصغيرة غير المتعلمة أرسل المسيح إنجيله إلى العالم.
تابع- الإنجيل
#محمد_صالح_الطحيني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نشأة عيسى المسيح
-
الديانة المسيحية
-
بوذا في أيامه الأخيرة
-
تعاليم بوذا
-
أسطورة بوذا
-
ماهافيرا والجانتيوُّن
-
بوذا
-
فلسفة أسفار يوبانشاد
-
أسفار الفيدا باعتبارها أدباً
-
ديانة أسفار الفيدا
-
ألنفي
-
الفلسفة الأخلاقية في الديانة الزردشتية
-
زردشت
-
أدب التوراة وفلسفتها
-
أهل الكتاب
-
موت أورشليم وبعثها
-
المتطرفون الأولون عند اليهود
-
رب الجنود عند اليهود
-
إله ألخطايا
-
النبي سليمان
المزيد.....
-
بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
-
قائد الثورة الاسلامية آية اللهخامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع
...
-
اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع
...
-
إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش
...
-
مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -أفيفيم- بصلية صا
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -ديشون- بصلية صار
...
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
-
أسعد أولادك…. تردد قناة طيور الجنة التحديث الجديد 2025 على ج
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|