أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - أكرم إبراهيم - قراءة في إعلان دمشق















المزيد.....



قراءة في إعلان دمشق


أكرم إبراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 1377 - 2005 / 11 / 13 - 11:09
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


تحاول هذه القراءة أن تشير إلى بصمات حزب الشعب في الإعلان ، وإلى التقليد والتبعية عند بقية الموقعين . لذلك وجدت أن أمهد لها بهذه المقالة التي تنشرها قاسيون على حلقات ، حيث تناولت بعض ما جاء في القراءة بالتفصيل . عليه يمكن للذين تابعوا هذه المقالة في قاسيون أن يبدؤوا القراءة من القسم الرابع .


الاستقواء بالحضيض ( ج 1)

قيل أن فرانكو جند مخبريه من حثالة المجرمين ، فأي خطاب كان يعتمد لجمع المحازبين ؟ بالتأكيد كان يعتمد خطاباً يستقطب حضيض أصحاب النزعات الضارة ، وهو خطاب غير عقلاني ، يستقوي بالغرائز ويطمس الحقائق ، إذ لكل قضية خطابها ورجالها .هذه محاولة للتعرف على جدلية هذا الثلاثي . لكن يجدر التنبيه قبل البدء إلى أن الالتباس عندما يتكرر لا يمكن إلا أن يكون مقصوداً ، لذا تقضي الغيرة بأخذ أكثر الدلالات خطراً ،لأنه لا يجوز للكلام السياسي أن يشابه النص الأدبي أو الديني من حيث تعدد الدلالة.
في أوقات الأحداث الساخنة في فلسطين ، نسمع أحياناً من يقول في إشارة إلى دور العملاء في تصفية القيادات الميدانية : " دود الخل منه وفيه ". يقال هذا بلهجة إدانة للشعب الفلسطيني وليس الدعوة إلى التحصين ضد العملاء . أي أن المستهدف هم ضحايا العملاء بالذات ؛ فهم لا يستحقون الشفقة لوجود عملاء بينهم .
نفس الشيء يقال في دعوى البعض أن الفلسطينيين باعوا أرضهم . فالمتحدث لا يستثني من الإدانة من شردوا بالقوة ومازالوا منذ أكثر من خمسين عاماً يقاتلون من أجل العودة ، بل المستهدف الحقيقي هم هؤلاء المشردون بالذات ، فالذين باعوا هم أفراد طواهم النسيان والأحداث، لكنهم يستحضرون أوقات المجازر لإدانة ضحاياها.
لحن خطاب المتحدث عن البيع يوحي بأن البيع كان سياسياً عن وعي كامل بطبيعة الكيان الصهيوني في تلك المرحلة ، أي كان بيعاً لفلسطين ، فهنا تضيع الحدود بين بيع قطعة أرض وبين بيع وطن، فهل يشتري المهاجرون اليوم في مواطنهم الجديدة دولة وسيادة على شعوبها ؟!.
1ـ لقد بيعت أراضٍ منذ عام 1860، هو تاريخ إنشاء أول مستوطنة في زمن الأتراك . والملكية في فلسطين قبل عام 1948كانت إقطاعية . والإقطاعي ـ الفلسطيني أو غير الفلسطيني ـ الذي كان يأخذ المرأة من تحت زوجها ليس معنياً بمصير شعبه أو فلاحيه ، كما أن الفلاح الذي لا حول له ولا قوة هنا ، هو بالتأكيد لا يملك أرضاً يبيعها. فكيف ينتظر المنصف من شعب غارق في الجوع والتخلف والظلم الإقطاعي والاستعماري أن يعي أبعاد مشروع في وقت لم تتضح فيه بعد حتى لأصحابه ؟!.
2ـ العمالة ليست سمة لأي لشعب ، فلم يحدث أن خضع شعب للاحتلال إلا ووجد من يتعاون معه ، لكن لحن الخطاب هنا يريد أن يوحي أن العمالة ـ سواء المباشرة أم المفترضة خلف عمليات البيع ـ سمة عامة للفلسطينيين .
الحساسية من الاحتلال لم تكن يوماً على درجة واحدة عند جميع أفراد أي الشعب ؛ الشعب هو كل ما نراه ونسمع به يومياً ؛ فدائماً يوجد أنانيات، ومصالح ، ومكونات نفسية، وملكات فكرية ، وبالتالي استعدادات متفاوتة لمقاومة المحتل أو للتعاون معه ، والنتيجة دعاية وأفكار وقيم ومفاهيم تبرر كل هذا وتنسجم معه . وهؤلاء الذين ليس لديهم الدافع للصراع مع إسرائيل يقولون بالبيع ودود الخل فيلتقطها صنف آخر طلباً للرضا على الذات ؛ فالإنسان مفطور على السعي إلى أن يكون راضياً عن ذاته ، وعندما يكون أنانياً خائفاً من عواقب المواجهة ، غارقاً في العجز المستدام إزاء هذه القضية ، يميل لا شعورياً إلى رجم الفلسطيني ليبرر لذاته قبل الآخرين تقاعسه عن الصراع .
العمليات الاستشهادية تصدم هؤلاء على مختلف دوافعهم ؛ فمن طبيعة الأمور أن المرء لا يبيع طلباً للتشرد والقتال من أجل العودة ، والفداء الذي تمثله يطغى بحضوره على حضور العملاء والبائعين ويزيدهما بشاعة وتنفيراً ، لذا لا بد من تشويه مغزاها. وهكذا وجدنا الحضيض بمختلف مشاربه يشن هجوماً لا هوادة فيه على هذه العمليات باعتبارها عمليات إجرامية.
الحجج التي سقتها ضد البيع ودود الخل بديهية ، لكن هنا لا تنفع الوقائع والحجج ، فحقيقة الأمر ليست في جهل المتحدث أو غبائه بل في مكان آخر ؛ فهذا حزب الشعب يتحدث في موضوعاته عن تحقيق الديمقراطية في مجتمعاتنا كسبيل إلى تحقيق السلام العادل والشامل مع من استقروا بالقوة في بيوت المشردين ، مبرئاً المعتدي حاصراً بذلك المسؤولية في الطرف العربي ، وانسجاماً مع هذا لم يجد ما ينتقد الحكومات العربية به على مدى الصراع إلا أنها " ومنذ البداية أسهمت في تدعيم أسس إسرائيل ، منذ ساعدت على دفع اليهود العرب للهجرة إليها ، ثم عاشت مستقرة سعيدة تحت تهديد الشعوب بالخطر الجاثم على الحدود" . وهذا ما أزعم أنه ليس جهلاً بطبيعة الكيان الصهيوني من حزب زايد كثيراً قبل سنوات طويلة خلت وما زالت في البال!! لكنه اليوم ،علناً وعلى رؤوس الأشهاد ، يتساوق مع المخططات الأمريكية ويقف موقفاً عدائياً من المقاومات العربية .
الحالة النموذجية هنا هي العراق. فلقد هاجر منه إلى إسرائيل 120 ألف يهودي . لكن الحكومة العراقية لم تكن مسؤولة عن تلك الأعمال ـ المحدودة والتي لا تشكل سببا كافيا للهجرة فكيف إلى إسرائيل بالذات؟ ـ فلقد كان في الحكومة العراقية آنذاك ثمانية وزراء يهود. واليهود ـ يعلم المناضلون ـ هاجروا وسيهاجرون بسبب عقيدتهم من أكثر البلدان استقرارا وانفتاحا عليهم ،عربية كانت أم غير عربية . وهناك 300 ألف يهودي مغربي مزدوج الجنسية يتنقل ما بين المغرب وإسرائيل بحرية . ولئن كانت الحكومات عام 1948 غير مكترثة بالخطر الجاثم على الحدود لأنها صنائع استعمارية وبالانتخابات أحياناً ، فإن هذه الأعمال التي ينسبها للحكومات غير مجزوم بصحة نسبتها إلى عرب غير يهود ، فالحركة الصهيونية قد تكون هي التي قامت بأعمال ترويع لليهود العراقيين بقصد تسريع الهجرة ، وهذا ليس غريبا عنها ، خاصة أن الحكومة العراقية كانت قد خيرت يهود العراق بين البقاء وبين الهجرة إلى إسرائيل دون أن تحدث هجرة ملحوظة . كما أن الحكومات لا تتحمل مسؤولية تصرفات مواطنيها إلا في النزوع للابتزاز ؛ فالحكومات قد تكون ضحية مواطنيها بالذات . والصهاينة ، بعد أن أصبحت القضية في أذهان أفضل نخبنا تبتدئ عام 67 ، أخذوا يطالبون بالتعويض عن ممتلكات اليهود الذين هاجروا من البلدان العربية ليقتلعوا الفلسطينيين وينشئوا دولتهم العنصرية ، أسوة باللاجئين الفلسطينيين.
تجاهل الحقائق هنا له وظيفة محددة هي الدعوة للالتفات إلى الاستبداد لئلا نساعده بانشغالنا بالخطر الجاثم على الحدود . فالصراع مع إسرائيل حاجة حيوية للأنظمة المستبدة وليس للديمقراطيين ـ حتى قبل أن يوجد أدعياء ديمقراطية أو إصلاح ـ فعلى حد قول نتنياهو الحكومات المستبدة غير قادرة على صنع السلام . وهذا التغييب للحقائق واللعب على الغرائز والالتفات عن الصراع مع إسرائيل نقطة مشتركة بين المناضلين وبين أصحاب نظرية البيع ودود الخل والإجرام ، تلك النظرية التي تقف خلفها مختلف النزعات الضيقة ، كالأنانية الفردية والطائفية والمذهبية والقبلية الحزبية والقطرية إضافة إلى نزعة الاستسلام والتسوية. بالتالي هذا الخطاب لا بد أن يستقطب أصحاب هذه النزعات قصد أصحابه أم لا ، وهذا ما ستكشف عنه المراقبة العيانية.

قاسيون العدد 256



الاستقواء بالحضيض ( ج 2 )

العمليات الاستشهادية أعادت للناس شيئا من إحساسهم بكرامتهم وذاتهم وجرأتهم وأخذت توقظ الهمم وتحرض على الالتفات إلى إسرائيل . لذا قرأنا في الموضوعات تحت نفس العنوان هذا الكلام الذي يحاول أن يغتصب منا كل هذا : استفردت إسرائيل بالشعب الفلسطيني في الانتفاضة الأولى نتيجة لتدهور الوضع العربي ،الأمر الذي دفع إلى عسكرة الانتفاضة الثانية . في الانتفاضة الأولى عرفنا ثقافة الاستشهاد التي أخذت تتحول إلى ثقافة للموت . وقف التدهور العربي شرط لازم لوقف تعميم ثقافة الموت في صراعنا مع إسرائيل .. لذلك من الطبيعي أن يندفع بعضنا من اليأس إلى الموت والخلاص السهل ، ومن غير الطبيعي ألا تبادر قوى شعوبنا الحية إلى تعميم ثقافة الحياة والسلام.
إذاً الشهداء هم الذين قتلتهم إسرائيل في الانتفاضة الأولى دون قتال ، أما الذين قتلتهم في الثانية فهم موتى ، لم يفتدونا ، بل نفوسهم صغيرة وإرادتهم ضحلة لأنهم لم يصمدوا فاندفعوا من اليأس إلى الموت والخلاص السهل. أي أنه الانتحار بعينه !. والمعروف أن إحساس الناس بالرضا والفخر والسكر بالفداء كان طاغياً ولم يخالطه أي إحساس مبعثه الانتحار، ومعروف أيضا أن خطابهم قبل التنفيذ كان على الأغلب موجه إلينا وليس إلى الحكام ، وأنهم كما يفهم من هذا الخطاب كانوا يشفقون من جبننا وتخاذلنا، وليس هذا إحساس المنتحر تجاه الباقين أحياء.
* أجهزة أمن العدو أعلنت أن الفدائية هنادي جرادات ، بعد أن دخلت المطعم ، تناولت وجبة من طعام تحبه ، وكانت أكثر من طبيعية قبل أن تفتدينا. وهذه ليست صفة المندفع إلى الموت والخلاص السهل بدافع اليأس .
* فنان إسرائيلي من مواليد حيفا ومهاجر من إسرائيل عمل لوحة للفدائية هنادي جرادات التي أحبتنا حتى الموت السهل وكتب عليها " مناضلة من أجل الحرية ضحت بنفسها كانتحارية " . يقول: مناضلة ضحت ، لذا تفقد صفحة انتحارية معناها السلبي . وهذه الصفة كنا نطلقها بإعجاب على الكاميكاز الياباني وعلى استشهاديينا قبل أن ننتبه للمضمون السلبي الذي يحمله قادة العدو لها .
* نائبة بريطانية قالت : لو كنت فلسطينية لفعلت ما يفعلون . في هذا تقدير لفداء الاستشهاديين وتحميل للعدو مسؤولية أفعاله .
كل هذا ومناضلونا يقولون إن هذا اندفاع من اليأس إلى الموت والخلاص السهل ، جبن وضعف إرادة . هذه ليست هفوات بل نتيجة مجاهدة ومكابدة . فلقد فهمنا أن يعارضوا ثقافة الموت بثقافة الحياة لكن لماذا يعارضونها بثقافة السلام ؟! وثقافة من تقول بهذا السلام المطلوب من الضحية ؟! على ما يبدو كل هم المناضلين هو السعي إلى سلام المطرود مع غاصب بيته ، ولولا ثقافة الموت لكانت إسرائيل قد تخلت عن طبيعتها وعشنا بسلام ونبات!. إن الحديث عن السلام يأخذ دلالته باعتبار المتحدث والمتلقي ، فلئن كان شرف اليهود غير الصهيونيين يكمن في الحديث عن السلام ، فإن شرفنا يكمن في الحديث عن المقاومة ، فأين هم من الأوروبيين الذين رأى60% منهم في إسرائيل أعظم تهديد للسلام العالمي رغم العمليات الاستشهادية ؟!. وأين هم من موقف مجلس الأمن الذي رفض بما عليه إدانة العمليات الاستشهادية ؟!.
تقييم جدوى هذا النمط من العمليات مشروع ولا محرمات أمام الفكر . المشكلة في انهماك المناضلين في إدانة سلوك نضالي ـ قد يكون صحيحاً وقد يكون خاطئاً ـ بمنطق العدو نفسه ، أو بنفس نوع الشحنة الانفعالية ، وبلغة الحضيض ، لكن بشيء من المداورة المألوفة في أوساط النخب . والمفارقة أن الموضوعات خضعت للنقاش العام والحزبي وجرت عليها عملية ترقيع دون أن تمس هذه المقاطع ، ما يعني أن البعض انتبه لمدلولها ، فوضع وجهة نظره إلى جانبها إذ لم يتمكن من مسحها .
إنه موقف من المقاومة يزين نفسه أمام العيون الكليلة بالحديث عن ثقافة الاستشهاد التي كشفت عن الوجه الحقيقي لكل من الفلسطينيين وإسرائيل ، وعن تدهور الوضع العربي المسؤول عن ثقافة الموت وعن ضياع الوحدة الوطنية الفلسطينية . يؤيد رأينا الموقف من المقاومة عموماً؛ فمقاومة الفرنسيين في سورية حسب مانديلا ، أدق المعبرين عن روح الموضوعات وافتتاحيات الرأي ، كانت من قلة متطرفة ، والتحرير السليم للعراق اليوم هو التحرير السلمي ، ونار الحرب فيه لفحت وجه النظام السوري ولم تلفح وجههم ، أما في لبنان فيجب " حل الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية " " كجزء من عملية ترتيب المنطقة وفق حاجات النظام الدولي الجديد بقيادة أمريكا " لذا أخرجتهم مظاهرة القوى الحاضنة للمقاومة عن طورهم ، بعد أن احتفلوا كثيراً بثورة الاستقلال والديمقراطية فيه ، فهم لم يروا إلا خسارة السلطة السورية ، ولم يجدوا الديمقراطية والحرص على السيادة إلا عند رجال العائلات والطوائف والمجازر ، ذوي الخطاب الانفعالي ، الأقوياء بالقوى الاستعمارية ، المتقاعسين عن المقاومة .
حقاً لقد عرف الشعب الفلسطيني ظاهرة الانتحار، لكن بعد أوسلو مباشرة ، وذلك بسبب الخيبة الناتجة عن سفح نتائج الانتفاضة الأولى على يد القيادة الفاسدة المستبدة التي أخذت بثقافة الحياة والسلام . وعسكرة الثانية كان لخلق توازن رعب بعد الاستشهاد المجاني الذي تباركه الموضوعات في الأولى ، كذلك طلباً للوحدة الوطنية بعد أن هددت أوسلو بتفتيت المجتمع إذ عرضت المشروع الوطني للخطر ، وبسبب الانتصار العسكري للمقاومة اللبنانية ، ولكي توقف تدهور الوضع العربي إلى مزيد من ثقافة الحياة والسلام .
نزعة الانعزال القطري هي الوحيدة التي قد تتفق مع النزعة الوطنية عند بعض أصحابها ، لذا استحقت أن نقول فيها كلمة : لقد أخفى الميل إلى العزلة دائماً نوايا خطيرة ؛ فلقد أنتجت القيادة الفلسطينية التي استعجلت ركوب قطار التسوية حتى لا يفوتها ـ حسب زعمها ـ فساداً وقمعاً وتفريطاً لا سابق له ، أما القيادة الروسية ـ ورفيقاتها ـ التي زعمت الرغبة في التخلص من عبء الجمهوريات الأخرى ، فلقد أنتجت مافيات وحولت روسيا إلى دولة من دول العالم الثالث ، أما سياسة السادات ، فقد أنتجت المزيد من الفقر والخراب ، ورهنت مصر بالشكل الذي كان قبل ثورة تموز ، فراحت مصر وما عادت سيناء ، وهل نتحدث عن نزعة الانعزال في لبنان ؟!.
لنقارن هذه التجارب مع تجربة فيتنام وكمبوديا ولاوس ؛ هناك قاتلوا معاً ولم تنكشف الخلافات إلى أن انتهوا تماماً من الاحتلال الأمريكي . وهو موقف يمليه العقل والصدق.
هذه المقارنة ضرورية لأن الشيء قد يعرف بنقيضه ، ولأن دعاة ثقافة الحياة والسلام يتحدثون ـ إذا ما تحدثوا ـ عن احتلال الجولان فقط ، بشكل ظاهره المزايدة على سلطتهم ، متناسين استيطان فلسطين من غرباء الوجه واليد واللسان ، متجاهلين في الوقت نفسه طبيعة هذا الكيان التي لن تسمح بالوصول معه في أحسن الأحوال إلا إلى سلام هش .
قسيون العدد257

الاستقواء بالحضيض ( ج3 )
النزعات ما قبل الوطنية بنات لنفس الأم ، وهي على علاقة احتراب مع النزعة الوطنية والديمقراطية والمؤسساتية ؛ فالطائفي مثلاً هو مذهبي قطري مِنطقي عشائري عائلي عياب محب للفتنة لا وطني ولا ديمقراطي ولا مؤسساتي . وهو ما يمكن التعرف عليه بقليل من الملاحظة. والكلام عن الذين يكتوون بنار هذه النزعات لا عن المستفيدين منها. فلنختبر صحة هذا الكلام.
افتتاحيات "الرأي" والرمز الأدق في التعبير عنها وعن الموضوعات ، تحدثوا عن مصالح طائفية وعن حوار مع طوائف لبنان . كما زينوا زعامات لبنانية مغرقة في الطائفية والانعزال والدفاع عن وجهي العملة الفاسدة ؛ عن العملاء الفارين إلى إسرائيل والقرار 1559. الجمع بين هذه الصفات في أشخاص تلك الزعامات يكفي كدليل ، لكن لنحاول أكثر .
مصادر حزب الشعب تلك تستغل ميل الإنسان الطبيعي إلى التغيير فتحتفي كثيراً بالتغيير (الحاف) المجرد من الوصف والإضافة. وهي تشحن هذا الاحتفاء بالدعوة إلى التغيير المستجيب للمصالح الأمريكية صراحة . ومع فرض أن المحتفى به هو التغيير الوطني الديمقراطي نجد تعارضاً بين النزعتين الديمقراطية والوطنية بحاجة إلى تنظير ، هو مشوش وغير عقلاني بالضرورة. لذا نقرأ في العدد 42 من الرأي : لا تتعارض الديمقراطية مع الوطنية ، حين لا تكون هذه هوية وانتماء وأرضاً وحدوداً فقط ، بل أيضاً مواطنة وسيادة قانون وحرية وديمقراطية.
1 ـ من الذي ادعى أن الديمقراطية تتعارض مع الوطنية ؟! إنها تتعارض إذا أردنا لها. وفي هذه الحال تفقد روحها وتبدل موقعها ووظيفتها .
2 ـ كيف تكون الوطنية أرضاً وحدوداً ؟! تتجلى الوطنية بالدفاع عن الحدود والأرض ، لكنهما ليسا الشيء نفسه . وكيف تكون الوطنية مواطنة وسيادة قانون وحرية وديمقراطية ؟! الوطنية شيء وجداني موجود عند الناس بدرجات ، وانتزاعها من الشخص يعود إلى مدى قابليته ، أما المواطنة فيمكن أن تمنح وتغصب ، فهي شيء خارجي كسيادة القانون والحرية والديمقراطية .
3 ـ ما معنى ألا تتعارض الديمقراطية مع الوطنية عندما تكون الوطنية هي الديمقراطية ؟!
4ـ أيتحدث عن وطنية الحكام الاستبداديين فينكرها عليهم؟ أم عن وطنية رعاياهم فينكرها منهم لأنه لا توجد وطنية خارج فضاء المواطنة ؟* بكل بساطة يمكن القول : الموقف الوطني يكون منتجاً أكثر بقدر ما يكون ديمقراطياً وبالعكس ، أو : الوطنية هي جذر الدفاع عن المواطنة وبالعكس ، فهل هذا صعب ؟ الكاتب يغمغم لأنه يرى جواز انفصال وتقديم الديمقراطية عن وعلى الوطنية ما تجلى احتفاء بالانتخابات العراقية اليوم أو السورية زمن الفرنسيين. وهو ما يترجمه "رمز المعارضة" بقوله أن الشعب العراقي لم يدافع عن سلطة كانت تقمعه ولم تكن مقاومة ، والشعب السوري جائع ومقموع ؟ فهم يتسللون من الفاصل الدقيق بين التفسير والتبرير ؛ فنحن يمكن أن نقول : القمع والفساد يدمران مناعة المجتمع ويجعلان مقاومته مريضة بأمراضه ، عندها تكون عيننا على المقاومة ونسمي التقاعس عنها مرضاً ، ويمكن القول : الشعب لا يدافع عن سلطة تقمعه وتجوعه ، فنجعل المقاومة دفاعاً عن سلطة نكرهها، ويتضمن كلامنا دعوة ورفع حرج عن التقاعس.
ومنذ فترة يتجاوز رمز المعارضة التلميح بقبول المساعدة الأمريكية في تغيير النظام إلى التصريح به. فهل أمريكا دولة معادية تتهددنا كمواطنين ؟ فكيف نسمح بدخول قواتها تحت أي وعد أو حجة ، وما معنى دعوة المواطن المنكوب بها إلى قبولها شريكاً محتملاً ؟! وإذا كان الجواب بلا ، فهل يستطيع أن يرى في إسرائيل دولة معادية تتهددنا ؟!. تقول الموضوعات تحت عنوان احتفالي هو "التغيير آتٍ" أنه بعد أحداث الحادي عشر من أيلول أعادت أمريكا النظر في سياستها الشرق أوسطية " لترى انتهاء مصلحتها في دعم الاستبداد العربي الذي استمر حوالي نصف قرن ، ولتبدأ في تشجيع الإصلاحات والانفتاح على المزيد من المشاركة السياسية ، لتجفف البيئة التي ترى فيها منبعاً للتطرف . مثل هذا التغيير يلبي احتياجات السياسة الأمريكية في عصر العولمة ، ويهدف إلى إدخال إسرائيل في بنية المنطقة ، وإعطائها دوراً أكبر في صياغتها والتأثير فيها . لذلك فهو يسعى إلى إيجاد قوى تتلاءم مع الوضع الإقليمي المنشود ، وتقود بلادها على إيقاع الوضع الدولي الجديد ، بالاستجابة للقوى المسيطرة فيه . بذلك فقد النظام متكأً خارجياً كبيراً ، حاول النظام استدامته من طريق التأكيد على ما يجمعه بالسياسة الأمريكية ، حتى الجديد فيها ، وهو نهج الحل الأمني لكل ما يطرأ ، في الداخل أو الخارج" . فما الذي تقوله هذه الفقرة ؟
1ـ قوى الإصلاح والانفتاح على المشاركة السياسية لا تمانع إدخال إسرائيل في بنية المنطقة وإعطائها دوراً أكبر ، ولا تكترث بالخطر الجاثم على الحدود. هنا يوقعنا هذا المعنى المكرر في تناقض فج ؛ فإذا كان الجديد في السياسة الأمريكية هو الحل الأمني لكل ما يطرأ، وإذا كان النظام يحاول استدامة متكأه الخارجي من طريق التأكيد على ما يجمعه بهذا النهج ، فكيف يستقيم هذا مع تشجيع الإصلاحات والانفتاح على المزيد من المشاركة السياسية ؟!. لذا في النسخة الثانية حل التغيير والتبديلات في الأنظمة غير مضافة إلى الاستبداد مكان الإصلاح والمشاركة ، لكن المعنى بقي مضمراً ، فالعملية لا تعدو كونها عملية تهذيب للصياغة.
2ـ أمريكا كانت معنية بدعم استبداد النظام دون تلاؤمه واستجابته ومواقفه منها ومن إسرائيل ، ولكن إذ استجدت مصلحتها " بتصفية ما تسميه السياسة الدولية بقضية الشرق الأوسط " ـ حسب الموضوعات ـ و تجفيف البيئة المولدة للتطرف , أصبحت مهمومة بالاستبداد وبعدم تلاؤم النظام واستجابته , و لذلك بدأت تسعى لإيجاد قوى تتلاءم مع هذه المستجدات . أما الكاتب فلا يعنيه لا من قبل و لا من بعد الموقف من إسرائيل و أمريكا ، أو لا يعنيه أن تأتي أو لا تأتي إلى قيادة البلاد " قوى تتلاءم مع الوضع الإقليمي المنشود وتقود بلادها على إيقاع الوضع الدولي الجديد بالاستجابة للقوى المسيطرة فيه " ؛ فالمهم أن التغيير آت لأن النظام فقد متكأه الخارجي . هو لا يقول إنه لن يتصالح مع نظام استبدادي ولو كان وطنياً فهذا أمر معقول ، بل لا يهمه أن تأتي قوى تتلاءم مع الوضع المنشود إسرائيلياً وأمريكياً . لهذا لا يأتي على أي ذكر لمقاومة هذا الهدف في النسختين ، وهو تجاهل بنفس خطورة الإقرار بوطنية النظام في سياق كهذا. وهو ما يذكرنا بشماتة افتتاحية العدد 33 من الرأي بالنظام الذي لفحت وجهه نار الاحتلال في العراق ، وباعتبارها التلاؤم والاستجابة ضرورة وليست خياراً .
ما قيمة كلام الساعي إلى المتكأ الأمريكي عن محاولة النظام استدامة نفس المتكأ؟! إنه يستنجد بالانفعالات ، يفرحنا بفقد النظام لمتكئه الخارجي ليمرر ما سبق مع فرحنا ومع استنكاره اعتماد النظام الحل الأمني ، ولا يهم بعدها أن يناقض نفسه والواقع فيجعل الحل الأمني مستجداً على سياسة أمريكا. أم أن الفرق بينه وبين النظام هو أنه بخلاف النظام يعلن تلاؤمه واستجابته!!.
وهو يجانب العقل عندما يجعل اهتمام أمريكا بموقف النظام منها ومن إسرائيل أمراً مستجداً ، فمنذ متى كانت الدول غير مهمومة بمقاومة الآخرين لسياستها عداك عن توفير المتكأ لهم ؟!.
مثل هذه الفقرة يفسر كيف يكون المرء غاندي إزاء الاحتلال وهتلر إزاء المجتمع ، فالتحرير السليم هو التحرير السلمي ، والصراع المسلح مع الاستعمار الفرنسي فعل قلة متطرفة ، أما قبول مساعدة أمريكا بكامل عدتها في فرض برنامجه على المجتمع فأمر مشروع.
* بتاريخ 7 آب2004 ، ترددت في منتدى جمال الآتاسي للحوار عدة مرات عبارة " لا توجد وطنية خارج فضاء المواطنة الحقة بصفتها نسيجاً حقوقياً واجتماعياً ".
قاسيون 258



الاستقواء بالحضيض ( ج4 )

هناك فرق بين ألا نتصالح مع نظام وطني لكنه قمعي وفاسد وبين ألا نكترث بتغيير "يلبي احتياجات السياسة الأمريكية في عصر العولمة ، ويهدف إلى إدخال إسرائيل في بنية المنطقة ، وإعطائها دوراً أكبر في صياغتها والتأثير فيها ". في الحالة الأولى يكون مسعانا إلى نظام وطني وديمقراطي في آن واحد ، لأن إنجاز النزعة الوطنية المجافية للديمقراطية أقل من القدرات المتاحة . وفي الحالة الثانية لا يكون الهجوم على الاستبداد إلا لتمرير أفكار خطرة على النزعتين الوطنية والديمقراطية ، فهي استغلال لآلام الناس وسرقة لشعاراتهم يفضحها الخطاب والممارسة والرجال والتحالفات.
ففي العدد 33 من الرأي نأخذ علماً أن التغيير إثر سقوط الاتحاد السوفياتي وتبدل النظام العالمي لم يعد خياراً بل ضرورة موضوعية وأن النظام السوري بدأ"خطوات وئيدة للتلاؤم مع الواقع الجديد عبر انخراطه ضمن التحالف الأمريكي في حرب الخليج الأولى ، واستجابته لعملية السلام في مدريد ، وخطواته المحسوبة مع الأمريكيين ومن خلالهم مع الإسرائيليين على طريق استكمال مشاريع التسوية في المنطقة" . فالتغيير هو نتيجة تغير الظروف الدولية لغير صالحنا ، وهذه الخطوات الوئيدة والمحسوبة مع الأمريكيين ومن خلالهم مع الإسرائيليين لم تعد خياراً بل ضرورة موضوعية . لكنه ما لبث أن عبر عن ولعه العميق بها إذ قال:" وما التغيير المطلوب تغييراً للأشخاص والأهداف المعلنة والشعارات على أهميته .. التغيير الحقيقي ، الذي يستهدف البنية التي قام عليها النظام .. إن تغييراً لا.. ولا يمس الفكر المؤسس لكل من الدولة والمجتمع .. لن يكون جديراً بحمل اسمه" . فهو لم ينكر صدق النظام في شعاراته وأهدافه المعلنة بل تحمس لتغييرها وتغيير الفكر المؤسس لكل من الدولة والمجتمع . فهو لم يعد مضطراً للمزايدة بعد أن أجهزت سياسته مع الفساد والقمع على القيم العامة .
يكرر الكاتب عدة مرات وبصيغ مختلفة عبر افتتاحية العدد 34 أن العلاقة بين الجانبين السوري والأمريكي لم تكن دائما آمنة ومريحة ، وأن الدور الإقليمي لسوريا يتآكل ، وأن النظام السوري في حالة دفاع وتراجع مستمر أمام الضغوط . وهو يفعل ذلك ببرود وحياد وعدم اكتراث ؛ لأننا كمواطنين غير معنيين ولن نحصد ثمار هذا التراجع أو الرضوخ . الأنكى أنه يلجأ منذ الأسطر الأولى إلى هذا الإيحاء بخصوص العلاقة مع إسرائيل عندما يقول : " تعرضت السياسة السورية لقطوعات هامة مثل احتلال بيروت وحرب الجبل واتفاق 17 أيار.. جرى التجديد ل"شرعية" الوصاية السورية على لبنان بعد تآكلها في القطوعات السابقة ، عبر الموافقة الأمريكية على طرد ميشال عون ". فالسياسة السورية في لبنان والوصاية السورية عليه شيء واحد . وهذا الشيء تعرض لقطوعات وتآكل بسبب احتلال بيروت وحرب الجبل واتفاق 17 أيار . الكاتب لا يرى في كل هذا إلا القطوعات ، وهو بهذا الشكل يوحي أن لبنان مهدد من القوتين الإقليميتين سوريا وإسرائيل، وأن حرب الجبل من أجل إسقاط اتفاق 17 أيار كانت مجرد صراع وصاية على لبنان، فتصبح سورية (عبر السلطة) مجرد قوة إقليمية مثلها مثل إسرائيل على الرفاق أن يتعاملوا معهما بنفس الإحساس .
وهو ينكر على السلطة أن يأتي تعديلها للمادة 49 تحدياً للإرادة الدولية التي عبر عنها القرار 1559، ثم يعترف بأن هذا القرار " يدخل كجزء من عملية ترتيب المنطقة وفق حاجات النظام الدولي الجديد بقيادة أمريكا" .
هذه المواقف ليست ثأرية أو تقاطع عابر للمصالح ، بل هي ثابتة مؤسس لها في موضوعات المؤتمر السادس للحزب . ففي هذه الموضوعات كثير من الهجوم على الروح الوطنية تحت ستار الهجوم على الاستبداد ، فهي ـ إضافة إلى ما ذكرـ تعود إلى مرحلة الاحتلال الأوروبي لتأسى وتأسف على قمع الاستعمار لنزعتنا الوطنية ، ففي ص 15نقرأ: "أقرب موقع يمكن للرأسمالية العالمية استثماره وإنهاضه كان في منطقتنا "؛ فالاحتلال الرأسمالي كان استثمارا مولداً للنهوض وليس نهبا . لذا كان من المفترض أن نكون أول المستفيدين من هذه النعمة ، لكن ـ ويا للعجب ـ حدث أن " استمرت أزمة التحديث المستعصية" في حقبة الاستعمار. كيف ؟ " لم تأل البنى الكولونيالية جهدا من أجل إقحام التحديث قسرا على البنى المحلية القديمة، ونجحت في ذلك إلى حد ما ، فيما يخص البنى الحيادية للدولة، في الري والمواصلات والتعليم وتنظيم الدولة وتحديث القوانين المدنية وتشجيع الليبرالية السياسية من طريق القوى الطبقية السائدة ؛ في حين فشلت في مواجهة الوطنية الناشئة التي أسهمت هي بذاتها في بلورة سماتها الجديدة في البداية . قمع هذه الوطنية وحدة الصراعات على الأرض العربية ، جعل من المستحيل نجاح تلك المحاولة القاصرة للتحديث ، ووجه القوى بقوة وإلحاح نحو الاستقلال ، كطريق وحيد ممكن نحو التقدم" ف " كان ذلك تناقضا مصيريا ما زلنا ندفع ثمنه " ص16.
سواء أمل الكاتب باستعمار لا يقمع أم بشعب لا يقاوم فهو يضللنا . لكن ما دامت المقاومة المسلحة فعل قلة متطرفة والتحرير السلمي هو التحرير السليم ، ومادام مولعاً بثقافة الحياة والسلام ، تصبح الدلالة : لولا نزعتنا الوطنية لما قمع الاحتلال هذه النزعة ، لما توجهت قوانا بقوة وإلحاح نحو الاستقلال ، فلا يبقى بعد ذلك سوى إقحام التحديث قسرا ونجاح تلك المحاولة القاصرة للتحديث وترعرع الوطنية الناشئة ، أي كنا أصبحنا اليوم أوربيين بعيون زرق دون ثمن وتناقضات مصيرية. إنه استثمار لما هو شائع بين الجهلة ، فهم لا يدركون لأي سبب كانت هذه المنشآت ؛ فالاحتلال الفرنسي مثلا أنشأ قناة للري في حمص ، لكن العجائز يروون قصصا عن الدرك المختص بمصادرة القمح والشعير من الناس الجائعين ، ليجمعوه من ثم من روث الخيول الفرنسية .أما المواصلات فلسهولة تنقل قواته ومنتجاته وثرواتنا المنهوبة . وأما التعليم فلإنتاج أمثاله ..
في الحديث عن العولمة ، يشير الكاتب إلى بعض المظاهر على أنها حدثت " في زمن تحول الحدود السياسية للدولة – الأمة من الثبات إلى المرونة بفعل ما أطلق عليه عوامل العولمة ص 5".
ويقول : نستطيع قبول تعاريف مفهوم العولمة الأكثر موضوعية و"حيادا". ومنها أنها تزيل الحدود الدولية وخصوصية المكان الجغرافي ، من جهة ، وتزيد الترابط المتبادل والتماسك العالمي كوحدة واحدة ، من جهة أخرى . أو بطريقة أخرى : إنها تناقص أهمية الانتماء القومي تدريجيا .
ويقول : ربما كان المضمون الرئيسي للعولمة كما نعرفها اليوم هو أن المجتمعات البشرية التي كانت تعيش في خصوصياتها أصبحت تشارك في نمط إنتاج واحد وهي تتلقى التأثيرات المادية والمعنوية ذاتها .
وفي فقرة أخرى يقدم لنا العولمة على أنها انفتاح الحدود أمام العدالة من بين أشياء أخرى كثيرة ،والعدالة تتضمن مفهوم القوة .
والعولمة بنظر البعض كما يقول هي "حقيقة واقعية وموضوعية تتقدم بثبات وتدرج غير قابلة للإيقاف أو عكس الاتجاه ص 6". هكذا يقدم لنا الكاتب تغير الحدود ، وتناقص أهمية الانتماء القومي ، وانمحاء الخصوصيات ، وانفتاح الحدود أمام العدالة ( القوة ) ،مع جرعة من تأثيرات مادية ومعنوية واحدة على مستوى الكوكب ،على أنها أمور طبيعية لا راد لها .



الاستقواء بالحضيض ( ج5)
أكرم إبراهيم
كرد فعل على الانتهازية ، يميل الناس عندنا عادة إلى احترام المعارضة بسبب تضحياتها بغض النظر عن قضيتها. وإنه لمن الأمور الخطيرة أن السياسة ، خاصة المعارضة منها بما هي هدم وبناء ، أكثر من أي شيء آخر ، تحتاج إلى النظافة وتوازن الشخصية والثقافة العميقة الواسعة . وهذا ما لا يتوفر بالضرورة في كل معارضة . فقد تسعى المعارضة إلى الأسوأ مستغلة انفعالات الناس فلا تستطيع تبرير سياستها إلا بأخطاء السلطة. هذه المعارضة خطيرة ، بل إن المعارض ـ وإن كان نظيفاً متوازناً ـ ستكون معارضته خطرة ما لم يمتلك الوعي الكافي ، لأنها لن تعدو كونها هدماً عبثياً أو فرصة لتفريغ الشحنة العدوانية لدى أولئك الذين لا يتوازنون إلا إذا تناولوا شخصاً أو قرية أو طائفة أو قوماً إلخ ..
افتتاحية العدد 33 من "الرأي " هي اليتيمة التي تسمح لأصحابها مستقبلاً بالقول : إننا نتحدى المتقولين ، فلقد رفضنا التدخل الأجنبي . فلنحاول حذف الإنشاء والحشو والتكرار الممل عن القمع والتغيير ولنر ماذا يبقى .
1ـ الكل يتغير في المنطقة إلا النظام 2 ـ التغيير ليس خياراً ، إنه فعل ضرورة .. إثر سقوط الاتحاد السوفييتي .. أصبح التغيير في بلادنا ضرورة موضوعية تتطلبها الظروف الدولية الجديدة . فحكم .. والجيش العقائدي، فقدت مبرر وجودها وقدرتها على الاستمرار 3ـ بدأ النظام خطوات وئيدة للتلاؤم مع الواقع الجديد عبر انخراطه ضمن التحالف الأمريكي في حرب الخليج الأولى ، واستجابته لعملية السلام في مدريد ، وخطواته المحسوبة مع الأمريكيين ومن خلالهم مع الإسرائيليين على طريق استكمال مشاريع التسوية في المنطقة ، لكنه اكتشف أن كل ذلك لا يكفي.. وظهر جلياً أن لا بد من عبور جسر التغيير للدخول إلى واقع العالم الجديد 4ـ فعلى الصعيد الاقتصادي صدر القانون رقم (10) لعام 91 الذي يعيد الاعتبار للقطاع الخاص ودوره بعد حوالي ثلاثة عقود من المحاربة والاستبعاد يشجعه ويفتح أمامه أبواب الاستثمار في البلاد ويمنحه إعفاءات واستثناءات كبيرة على أمل أن يلعب دوراً في حل أزمات البلاد ، التي تفاقمت في عقد الثمانينات ويشكل استجابة لمناخات الليبرالية الاقتصادية الجديدة ، واستحقاقات النظام الاقتصادي العالمي والإقليمي . غير أنه بعد كثير من التعديلات على القانون والدعاية الإعلامية والإجرائية له كانت الحصيلة متواضعة ، إذ لا شيء تغير في البنية السياسية الحقوقية في البلاد 5 ـ وعلى الصعيد السياسي فتحت أبواب السجون .. غير أن .. 6ـ في حزيران 2000 لاحت فرصة جديدة للتغيير مع بداية " عهد جديد " . إذ أمل الكثير في الخارج والداخل بالاستفادة من هذه الفرصة لفتح أفق جديد للاصلاح والتغيير أكثر جذرية وأعمق استجابة للضرورة الموضوعية ، التي تعالت الأصوات منادية أن لا سبيل من دونها لإنقاذ البلاد .. لكن سرعان ما أعلنت الأوساط الدولية من مراكز بحث ودراسات ومؤسسات إعلام واقتصاد ودول صديقة عن خيبة أملها في العهد الجديد وأسفها على ضياع الفرصة 7ـ وبعد سقوط بغداد .. دخل التغيير حيز التنفيذ بحوامل خارجية وعسكرية هذه المرة ، بعد أن أعلن الأمريكيون أن "الحرية " ستمتد من (طهران إلى دمشق ) 8 ـ وامتدت الرياح الجديدة لتلفح الوجوه التي ... ولتفرض عليها حركة مذعورة وقلقة تعلن الرغبة ( بالتطوير والتحديث ) و( الإصلاح ) وتبطن هدف الحفاظ على مصالحها ..9ـ ثم جاء اشتداد الضغط على البلاد عبر (قانون محاسبة سورية ) وتطبيق العقوبات الأمريكية ، ليزيد حالة التردد والارتباك ، ويظهر قصور الدولة وإخفاق السلطة .. في عملية إصلاح شاملة ، تعمل على تغيير البنية القائمة والأساليب والوسائل المتبعة .. وتساهم في تحصين البلاد لمواجهة الضغوط والاختراقات 10 ـ وبعد كثرة الحديث عن (الثوابت) و(التطوير من خلال الاستمرار).. كان الواقع أشد عناداً ووضوحاً عندما دفع الخطاب الرسمي إلى التزيي بالزي الديمقراطي .. والانتقال أخيراً إلى الحديث عن التغيير السياسي .. لكن بعد أربع سنوات من تجاهل الواقع ومعاندة التاريخ يظهر النظام استجابته (الطوعية أو الكرهية ) للتلاؤم مع متطلبات الخارج دون أن يقدم استجابة من أي نوع لحاجات البلاد ومطالب الشعب 11ـ وما التغيير المطلوب تغييراً للأشخاص والأهداف المعلنة والشعارات على أهميته ..التغيير الحقيقي ، الذي يستهدف البنية التي قام عليها النظام ..إن تغييراً لا.. ولا يمس الفكر المؤسس لكل من الدولة والمجتمع .. لن يكون جديراً بحمل اسمه ..12ـ بلادنا ما زالت مهددة بالضغوط والتدخلات الخارجية.. يقول أرميتاج : " إن الحكومة السورية لم تتعلم درس العراق وسقوط حزب البعث هناك " ويضيف بول وولفويتز :" لا بد من التغيير " . إن التغيير الذي تقصده الإدارة الأمريكية غير التغيير الذي يطمح إليه شعبنا .. فالتغيير الديمقراطي المنشود يلتمسه شعبنا طريقاً ثالثاً ، لا يقبل استمرار الاستبداد .. ويرفض التدخلات الخارجية ..
ما قيمة الحديث عن " تحصين البلاد لمواجهة الضغوط والاختراقات " إذا كان يريد تغيير الشعارات ، والأهداف المعلنة ، والبنية السياسية الحقوقية للبلاد ، والفكر المؤسس لكل من الدولة والمجتمع ، والجيش العقائدي ؟! الكاتب يريد نفس التغيير الأمريكي ، ويريدنا أن ننجزه بأنفسنا دون ثمن من أمريكا ، وهذا دأب مانديلا وافتتاحيات "الرأي" ؛ فهو يوحي لنا بالتقاعس عن المقاومة وهي تزين لنا الهروب دون التفات أو توقف لالتقاط الأنفاس. ولكي تمر الوصفة يملأ المقال إيحاءات بأن الديمقراطية هي مطلب أمريكا الملح ، وأن السلطة تتراجع أمامها في هذا المجال . بعد هذا لا شيء يمنع أن يصبح الترحيب بأمريكا موضة عند كل هؤلاء الذين يفتقرون إلى ما يقولونه . والكاتب رفع الملامة ، فهو رفض التدخل الأمريكي . لكن ما دامت ريح الحرب الأمريكية قد امتدت لتلفح وجه السلطة فقط ، فإنه يوحي لنا باعتبار الاحتلال برداً وسلاماً عبر الشماتة بها.
كاتبنا يرنو إلى استجابة النظام "للضرورة الموضوعية" مثل حميماتي حشاش ، لكنه لا يريد أن يكون واضحاً لأشباه الأميين. فإذا كان يتحدث عن الواقع العنيد والواضح ، وعن تجاهل الواقع ومعاندة التاريخ ، فلماذا يقول أن النظام أظهر استجابة للتلاؤم مع متطلبات الخارج دون أن يقدم استجابة من أي نوع لحاجات البلاد ومطالب الشعب ، فيفصل بين ما يريده باسم الشعب وبين ما تريد أمريكا؟ وإذا كانت ريح الحرب في العراق لم تلفح وجهه ، فلماذا يقول أنه يرفض التدخل الخارجي ؟!
على مبدأ التطريب في الغناء ، كرر الكاتب كلمة تغيير ثلاثين مرة عدا العبارات التي تفيد معناها ، فلا يكاد يخلو سطر من كلمة تغيير ـ بلا وصف أو إضافة ـ والتغيير مطلوب من الشعب وأمريكا، أما النظام فيتردد في الاستجابة له. إنه تكرار يدعو للنوم على وسادة الضغوط الأمريكية . هذا التكرار التخديري يدغدغ الجانب الانفعالي عند هؤلاء الذين تتدنى السياسة عندهم إلى مجرد وتوتة الجارات على التنور. وهذه سمة من سمات الفكر الاستبدادي الخائف من العقل.
ما الذي يبقى بعد سقوط القناع الديمقراطي ؟ يبقى أن استجابة النظام " مع الأمريكيين ومن خلالهم مع الإسرائيليين " ليست خياراً بل ضرورة لا سبيل من دونها لإنقاذ البلاد ، وأن الرأسمال لم يكتب قراره بالقلم الأخضر بعد إذ أن البنية السياسية الحقوقية لم تتغير، وأن مراكز البحث ومؤسسات الإعلام والاقتصاد والدول الصديقة خاب أملها في العهد الجديد ، وأن الأهداف المعلنة والشعارات والفكر المؤسس للمجتمع يجب تغييرها ، وأن نار الحرب في العراق لم تلفح وجهه ، وأن التغيير الأمريكي مرغوب ومحتوم. وكل هذا معناه أن النظام لم يتعلم درس العراق .
إذا أخذنا بالاعتبار هذه النزعة الاستبدادية المجانبة للشفافية ، نستطيع أن نتصور الكاتب ، إذا ما أعلن برنامجه وأعجبت أمريكا به فوقع الاحتلال، يدعونا إلى الاستفادة من هذه النعمة في نهوضنا ، أو إلى التحرير السلمي السليم وتجنب التطرف والإرهاب .



قراءة في إعلان دمشق
ما أشقانا وما أسعد مانديلا بحزبه وحلفائه إذ ينطبق عليهم ما كان يتندر به الناس عن بعض أعضاء مجلس الشعب؛ فهم يوافقون غافين . فما أن يسمع أحدهم كلمة عن الاستبداد والديمقراطية حتى يطرب ويعمى عما سواها. ودليلنا أن الإعلان إذا ما حذفنا الكلام عن الديمقراطية والاستبداد ، وإذا ما اعتبرنا المسكوت عنه ، وما بين الأسطر، يحمل بصمات حزب الشعب ، ولا يتفق مع ما تطرحه بعض أطراف المعارضة .
1ـ الملاحظة الأولى على الإعلان هي هذه الإطالة والتكرار التطريبي وغزل الفكرة الواحدة بصياغات مختلفة؛ فما جاء بين المقدمة والخاتمة يمكن اختصاره بأسطر قليلة . وهي سمة من سمات افتتاحيات الرأي تسمح بتمرير بعض الأفكار على دفعات مع الحشو والتكرار لكي تستغفل البسطاء وتسمح للطرب أن يفعل مفعوله .
2ـ يبدأ الإعلان بالحديث عن أخطار لم تشهدها سورية من قبل ، لكن سرعان ما يتبين أن العدوانية الأمريكية ليست من جملة هذه الأخطار، بل نلحظ عوضاً عن ذلك ميلاً لحرف النظر عنها بتركيز الهجوم على السلطة ؛ فالنظام وضع البلاد في عزلة خانقة " نتيجة سياساته المدمرة والمغامرة وقصيرة النظر على المستوى العربي والإقليمي وخاصة في لبنان "، أما العدوانية الأمريكية فلا شيء عنها . ما هي هذه السياسات المغامرة وقصيرة النظر ؟ الإعلان لا يسمي سياسات بعينها ، لكننا استناداً على العدد 46 من الرأي ، نعلم بوجود مطالب أمريكية من سورية بخصوص العراق ولبنان وفلسطين قد يتم المساومة عليها إذا ما جرى التسييس المرغوب به من النظام لتقرير ميليس . وما دام لا مشكلة لسورية مع أمريكا إلا بسبب رفضها الغدر بمقاومات هذه الأقطار ، فمن حقنا اعتبار عدم الغدر هو السياسات المغامرة وقصيرة النظر . وهذا هو موقف حزب الشعب كما يفهم من العددين 45 و46 ، ففي العدد 46 تقول "الرأي" أن النظام لا يشبع من "النيل من الأطراف العربية الأخرى من جهة، والشكوى من استبعادها له أو حتى تآمرها عليه من جهة أخرى" ، وفي العدد 45 تتحدث عن دولة ديمقراطية تعيد سورية " إلى موقعها وعلاقاتها السوية مع محيطها العربي ، وتضعها في المكان المناسب داخل العلاقات الدولية" . فنحن لم نسمع عن أنظمة عربية قمعية بعلاقات غير سوية ومكان غير مناسب في العلاقات الدولية ، ولم نسمع عن خلافات بين السلطة وبين سلطات عربية أخرى ، إلا أننا نستطيع أن نقدر تبعية أنظمة القمع والتفريط للقوى الاستعمارية ووجود خلافات مع سلطات فلسطين والعراق ولبنان . وهي نفسها الخلافات التي تضع سورية في المكان غير "المناسب في العلاقات الدولية " ،أي هي سبب مشاكلها مع القوى الاستعمارية . كما أن الإعلان عندما يتحدث عن "رفض التغيير الذي يأتي محمولاً من الخارج ، دون دفع البلاد إلى العزلة والمغامرة والمواقف غير المسؤولة" ، يتماثل مع افتتاحية العدد 33 من الرأي إذ تتحدث عن تحصين البلاد بالاستجابة للضرورة الموضوعية التي اسمهاالتلاؤم " مع الأمريكيين ومن خلالهم مع الإسرائيليين على طريق استكمال مشاريع التسوية في المنطقة " كخطوة "لا سبيل من دونها لإنقاذ البلاد".
وإذ يتحدث الإعلان عن "الالتزام بجميع المعاهدات والمواثيق الدولية وشرعة حقوق الإنسان، والعمل ضمن إطار الأمم المتحدة وبالتعاون مع المجموعة الدولية على بناء نظام عالمي أكثر عدلاً، قائم على مبادىء السلام وتبادل المصالح، وعلى درء العدوان وحق الشعوب في مقاومة الاحتلال، والوقوف ضد جميع أشكال الإرهاب والعنف الموجه ضد المدنيين" ،إذ يفعل هذا يحق لنا أن نتساءل عن ماهية هذه المجموعة الدولية المتمايزة عن الأمم المتحدة ؟! وما هي إمكانية سورية لتلعب هذا الدور في الوقت الذي عجزت عنه أقطاب وأحلاف كبرى سابقاً ويعجز عنه العالم كله اليوم ؟!وأين نقضت سوريا هذه المبادئ؟!ولم لم يسمّ الإعلان من ينقضها؟! وإذ لم نجد مبرراً لهذه الفقرة ، نعتقد أنه كلام يراد له أن يمرر وقوف الإعلان ضد جميع أشكال الإرهاب والعنف الموجه ضد المدنيين الذين استوطنوا في بيوت اللاجئين الفلسطينيين وممتلكاتهم . وهو موقف لحزب الشعب من العمل المقاوم ،خاصة الاستشهادي منه ، سبق له أن سجله في موضوعاته إذ اعتبر ثقافة المقاومة والاستشهاد نقيض ثقافة الحياة والسلام . وهو ما يمكن اعتباره محاولة لتقديم أوراق اعتماد واستجابة للضرورة الموضوعية.
3ـ يقول الإعلان :" إن التحولات المطلوبة تطال مختلف جوانب الحياة ، وتشمل الدولة والسلطة والمجتمع ، وتؤدي إلى تغيير السياسات السورية في الداخل والخارج" .ومع أن أمريكا تطالب بتغيير السياسات السورية في الداخل والخارج فإن الإعلان لا يميز مطالبته عن مطالبتها ، بل يفهم أن مطالب الجهتين واحدة . يعزز هذا الاعتقاد كون هذا التغيير " يخرج البلاد من حالة الضعف والانتظار التي تسم الحياة السياسية الراهنة، ويجنبها مخاطر تلوح بوضوح في الأفق " . وهذا ما سبق للرأي أن عبرت عنه في أكثر من عدد ، ففي العدد 33 تقول الافتتاحية أنه بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أصبح التغيير في بلادنا ضرورة موضوعية تتطلبها الظروف الدولية الجديدة ، وأنه لا سبيل لإنقاذ البلاد من دون الاستجابة لهذه الضرورة ، وأن هذه الاستجابة تتطلب تغييراً للأشخاص، وللأهداف المعلنة، وللشعارات، وللفكر المؤسس لكل من الدولة والمجتمع، وللبنية السياسية الحقوقية في البلاد . وهو ما عبر عنه مانديلا بقوله لنيويورك تايمز بأنه رفض الديماغوجية، العروبة، البعث، الوحدة. وأول ما يلاحظ في الإعلان ومصادر الحزب إرادة نسف كل شيء ،حتى فكر المجتمع. وتغيير المجتمع في هذا السياق أبعد من أن يفهم منه نقل المجتمع نقلة حضارية ، بقرينة أن هذه النقلة هي من جملة أمور تجنب البلد مخاطر تلوح في الأفق،عدا أنه ليس هنا مكان الحديث عن النقلة الحضارية ؛ فالكلام يفهم في سياقه . وهنا يفهم من تغيير الفكر المؤسس للمجتمع استبدال نمط الحياة والثقافة الأمريكية بثقافته حتى لو تطلب الأمر حذف آيات من القرآن. وهو ما عبر عنه بعض السياسيين الأمريكيين .
هذا التغيير موضوع على جدول أعمال القوات الأمريكية في المنطقة. ومع هذا استثناه الإعلان من جملة الأخطار التي لم تشهد سورية مثيلاً لها من قبل. وهو ما يمكن اعتباره رضاً وقبولاً لا يستره"رفض التغيير الذي يأتي محمولاً من الخارج" ،خاصة أنه مقرون بعدم "دفع البلاد إلى العزلة والمغامرة والمواقف غير المسؤولة" ، فلقد سبق لافتتاحية العدد 33 من الرأي أن تحدثت عن رفض التدخل، لكنها دعتنا إلى التمتع بنعمة احتلال العراق إذ لفحت ناره وجه النظام الاستبدادي المذعور في سورية، بل إن مانديلا يقول على سبيل الرأي أننا لن نستفيد إذا ما جاءت لنا أمريكا برجل كجلبي العراق، وأن أمريكا اليوم إزاء العرب كالعرب إزاء الفرس في القرن السابع لذا انتصارها السهل عليهم سيغيرهم ، وأن عليه أن يعرض برنامجه وعلى أمريكا أن تقول رأيها ؛ فلا حرج لديه من قبول مساعدة أمريكا بكامل عدتها . وهذا موقف إقصائي استئصالي وصائي ، ودعوة إلى ممارسة العنف في العمل السياسي ، وإلى التغيير غير السلمي التدريجي . لذلك عندما يرفض الإعلان هذه الأمور ويصمت عن خطر العدوانية الأمريكية فهو يرفضها من جانب واحد ويجيز لنفسه ما لا يجيزه لغيره. فإذا ما جاءنا التغيير محمولاً في بوط أمريكي سيقول الموقعون: لقد حذرنا من السياسة المغامرة وغير المسؤولة ، وسيدعوننا إلى الانخراط في العملية السلمية والتحرير السلمي والسليم ، وسيروعون الناس بتفجيرات الزرقاوي للتنفير من المقاومة .
4ـ في الفقرة التي تتحدث عن الإسلام ، دين لأكثرية وعقيدتها ، الذي شكل حضارتنا" بالتفاعل مع الثقافات التاريخية الوطنية الأخرى في مجتمعنا" .. ينتقل الإعلان من الحديث عن الماضي إلى الحديث عن الحاضر دون قطع ووصل فيقول:" مع الحرص الشديد على احترام عقائد الآخرين وثقافتهم وخصوصيتهم أياً كانت انتماءاتهم الدينية والمذهبية والفكرية والانفتاح على الثقافات الجديدة والمعاصرة " ، ثم يعود إلى الحديث عن"مختلف الفئات السياسية والثقافية والدينية والمذهبية" ، فهو لا يعتقد بوجود ثقافة واحدة منجزة هي مزيج هذه الثقافات التي تفاعلت بل بوجود ثقافات متراصفة. وهذا ينطوي على خطر الانقسام إلى كيانات عدا عن كونه خطأ معرفياً. يعزز هذه المخاوف دعوة الإعلان إلى" ضمان حق العمل السياسي لجميع مكونات الشعب السوري على اختلاف الانتماءات الدينية والقومية والاجتماعية" . وهو ما يحمل في طياته الدعوة إلى تأسيس أحزاب دينية على النمط اللبناني . والأحزاب الدينية كما هو معروف قد تفتح على احتمالات القتال الديني والانقسام إلى معازل . وهو ما تعتبره افتتاحية العدد 46 من الرأي مخاوف "الكثيرين بيننا" ، وتحذرنا من الاستنفار ضده حتى لا يقال أننا خضعنا للابتزاز الإيديولوجي أو رغبنا بوجود قواسم مشتركة بيننا وبين النظام وما إلى ذلك .
وهنا أيضاً نجد بصمات حزب الشعب ؛ فلقد سبق لمانديلا أن قال في مقابلة مع نيويورك تايمز 23 آذار أن "السنة والدروز خرجوا من الحرب الأهلية خاسرين ، ولهذا قبلوا اتفاق الطائف" . وهو موقف حزبي لأن افتتاحيتا الرأي34 و35 في تناولهما للأزمة اللبنانية تحدثتا عن" آثار التعديل السلبية على كل طائفة وفئة" ، وعن خيار الحوار" مع كل الفئات والأحزاب والطوائف اللبنانية ". هذا الخطاب لا يقر بواقع ، بل يدعو إلى الاعتقاد أن ما يفصل بين الطوائف خنادق من العمق والاتساع بحيث لا يجتمع الأفراد من مختلف الأديان والمذاهب على مصلحة طبقية أو وطنية ،أو أنها كتل صماء لا يأتيها الانقسام في المصالح أو الرأي من أي جهة ، أو أن المصالح والعقائد المدنية شيء ثانوي قياساً على الانتماء الطائفي. فإذا ما قلنا " كل طائفة " قلنا كل الشعب، فلماذا استبدال المفاهيم القبْلية بالمفاهيم المدنية ؟ ومن يمثل الطوائف ؟ وكيف يمكن الحوار معها ؟
استناداً إلى ما سبق نفهم أن الإعلان عندما يدعو إلى "العمل على وقف حالة التدهور واحتمالات الانهيار والفوضى ، التي قد تجرها على البلاد عقلية التعصب والثأر والتطرف وممانعة التغيير الديمقراطي" ، عندما يفعل هذا فإنه يقابل عقلية التعصب والثأر والتطرف بممانعة التغيير الديمقراطي ، أي الإيحاء بأن طائفة لها مصلحة بممانعة التغيير الديمقراطي . لهذا لدينا كل الحق بالخوف من الحديث المبالغ فيه عن الاحتقانات ، وتحميل بعض الصدامات ما لا تحمل ؛ فهذه الصدامات كانت موجودة دائماً بتواتر أكبر بين قرى من لون ديني ومذهبي واحد . صحيح أن القليل من الخطأ في مثل ظروفنا كثير جداً ، لكن ما يخشى منه أن هذا التضخيم وتحميل السلطة المسؤولية مسبقاً قد يحمل في طياته نية افتعال مثل هذه الأحداث أو استغلالها على وهم أن الفوضى الخلاقة قد توفر الفرصة لبعض المغامرين من أجل اختطاف البلد وقوادته .
5ـ من البصمات أيضاً حديث الإعلان عن" بناء سورية الحديثة وطناً حراً لكل أبنائها " .
يقول مانديلا في ملحق النهار ، تاريخ 29/4/2000 ، تحت عنوان " أحد عشر مثقفا سوريا أمام استحقاق السلام " أن :" السلطة الوطنية الفلسطينية ما تزال قليلة الخبرة في مجال الديمقراطية وهي تتخبط في هذا المجال" . فالقمع - والفساد والتفريط على ما يبدو- ناتج قلة خبرة . وينتهي بالقول إلى : إقامة سلام مكين بيننا وبين المجتمع اليهودي بعيدا عن العنصرية والصهيونية والاستيطان وبما يضمن أن تصير دولنا لكل مواطنيها .
سلام مكين مع المجتمع اليهودي !. نحن هنا أمام مجتمع يهودي وليس أمام كيان استيطاني إجلائي ، وفوق هذا سيكون سلامنا مكينا معه . في هذا تناقض يصححه بقوله:" بعيدا عن العنصرية والصهيونية " ، وفي هذا تناقض أكبر ؛ فكيف يكون يهوديا وبعيدا عن العنصرية والصهيونية ؟! أن يكون يهوديا فهذا يعني أنه رافض لحقوق اللاجئين، وربما المقيمين أيضا . لكن الأنكى قوله :" بما يضمن أن تصير دولنا لكل مواطنيها" . ليس دولة العدو فقط بل دولنا أيضا ، فكيف يضمن السلام أن تكون دولنا لكل مواطنيها ؟! والعرب يستطيعون إنجاز السلام دون أن تكون دولهم لكل مواطنيها ، أما إسرائيل فلا يكفيها هذا دون عودة اللاجئين.. فلم هذا الشرط ؟! وهل تفقد الشعوب حقوقها ما لم تكن دولها لكل مواطنيها ؟ وهناك مثلبة أخرى ، فكما أن إسرائيل ليست لكل مواطنيها فكذلك البلدان العربية . المناضل لا يقول أن إسرائيل عندما تصبح لكل مواطنيها تخطو خطوة باتجاه التخلي عن طبيعتها ودورها ، بعكس البلدان العربية ، بل يريد جعلها كياناً طبيعياً ، بمعنى آخر يريد تحويل الكلام الانفعالي للناس العاديين إلى عقيدة ؛ فهو يشبه ذلك النوع من الناس الذي يذكرك كلما أشرت إلى ممارسة إسرائيل أن العرب فعلوا في مرحلة ما أكثر مما تفعل هي اليوم.
إنه يقول أن إسرائيل التي وجدت على أنقاض شعب مازالت تهدد بقيته بالطرد ، وتطرح على نفسها سؤال الهوية ؛ هل هي دولة اليهود في العالم ، أم دولة اليهود فيها ، أم دولة مواطنيها ، هي كأي بلد عربي أو كأي بلد في العالم . حقاً لا يوجد بلد لكل مواطنيه بنفس الدرجة ، حتى بلدان الديمقراطية الغربية ، لكن إسرائيل هي الوحيدة التي يشغل نخبَها التخلصُ من مواطنيها الأصليين فتجتمع سنوياً لبحث هذه المسألة . وهو فرق لا يمكن أن يغفل عنه من ندب نفسه لتغيير بلده إيجاباً.
إن استعارة هذا التعبير من الأدب السياسي الإسرائيلي ونقله إلى حيز الاستخدام الداخلي يطمس الخصوصية الإسرائيلية ويضعف حساسيتنا تجاهها . وللأسف شاع استخدام هذا التعبير على الطالعة والنازلة بعد أن استخدمه مانديلا. ومن العجب أن هذه العبارة لا تتردد خارج إسرائيل إلا بلسان الضاد.
من التقليد ونقص القدرة على المحاكمة صدور هذه العبارة عمن لا يقصدون ما تعنيه، فهم يرددونها لتقديسهم من انتقصت مواطنتهم ، الكاملين الذين لا يأتيهم الباطل من أية جهة . والتقليد بما هو استقالة للعقل ، ونقص القدرة على المحاكمة بما هو قصور فيه ، مما لا يغتفر للسياسي ، خاصة إذا ما تبوأ موقعاً مؤثراً ، فالمعول عليه هنا ليس النيات بل النتائج لأنها ستكون من حساب أمن ورفاه أطفالنا ومستقبلهم؛ فالكلمة تفعل فعلها مستقلة عن قائلها ونيته .
النزعة الديمقراطية بدون خطاب واضح تفقد روحها ، تصبح ديمقراطية نخب وأسياد. أما التقليد فدليل إلى استقالة العقل . والتقليد والغمغمة يعكران فرحتنا بالحراك السياسي الحالي ، ويجعلانا نتوجس منه خاصة بسبب الظاهرة العجيبة المتمثلة في كون النزعات القديمة متضخمة على نحو أشد في أوساط المتحدثين بالسياسة ، ما يهيئهم لفورة تسهل اختطاف البلد من بعض القيادات المغامرة المدعومة بالإمكانات الهائلة للقوى الاستعمارية التي وضعت التغيير في منطقتنا على جدول أعمالها . التغيير الذي يلبي احتياجات مصالحها ، ويهدف إلى إدخال إسرائيل في بنية المنطقة وإعطائها دوراً أكبر في صياغتها والتأثير فيها . التغيير الهادف إلى إيجاد قوى تتلاءم مع الوضع الإقليمي المنشود غربياً وإسرائيلياً وتقود بلادها على إيقاعه . والذين يرفضون هذا التغيير ويقودوننا إليه في نفس الوقت لن يجدونا نفعاً بعد أن يقع ، لأنهم سيمارسون السياسة بنفس الجهل الذي يمارسونها به اليوم ، فهم اكتسبوا المعرفة بالسياسة من طول مدة مزاولتها كصبيان المهن ، دون تحصيل معرفي ودون ذكاء أحياناً . وهي إحدى عجائب مجتمعنا .



#أكرم_إبراهيم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ليس خوفاً على السلطة بل خوفاً من حزب الشعب


المزيد.....




- بالصور..هكذا يبدو حفل زفاف سعودي من منظور -عين الطائر-
- فيديو يرصد السرعة الفائقة لحظة ضرب صاروخ MIRV الروسي بأوكران ...
- مسؤول يكشف المقابل الروسي المقدّم لكوريا الشمالية لإرسال جنو ...
- دعوى قضائية ضد الروائي كمال داود.. ماذا جاء فيها؟
- البنتاغون: مركبة صينية متعددة الاستخدام تثير القلق
- ماذا قدمت روسيا لكوريا الشمالية مقابل انخراطها في القتال ضد ...
- بوتين يحيّد القيادة البريطانية بصاروخه الجديد
- مصر.. إصابة العشرات بحادث سير
- مراسل RT: غارات عنيفة تستهدف مدينة صور في جنوب لبنان (فيديو) ...
- الإمارات.. اكتشاف نص سري مخفي تحت طبقة زخرفية ذهيبة في -المص ...


المزيد.....

- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - أكرم إبراهيم - قراءة في إعلان دمشق