|
سؤال المنهج: الحلقة الأولى
رواء محمود حسين
الحوار المتمدن-العدد: 5064 - 2016 / 2 / 3 - 20:19
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
سؤال المنهج: الحلقة الأولى
الإهداء
إلى ذكريات عام 1999 م التي رحلت ولن تعود ...
ملاحظة: كتبت هذه الملاحظات على المنهج في السنة الأخيرة من القرن العشرين الماضي، وتمت إعادت كتابتها مجدداً مع الإبقاء على مضمون كتابتها الأصلي، لأن روحها التي كتبت بها لا تزال كما هي لم تتغير...
في التمثل: النظرية الأساسية (أطروحتي الرئيسية) للمعالجة هنا، في سبيل تحديد منهج (لنظرية الفعل والحداثة) للعقل الديني بوصفها فعلاً هادفاً أو واعياً (من المثالي إلى الواقعي إلى الفعل) صلب النظرية، يمكن أن تعد، وعلى الأقل من وجهة نظر شخصية (أولية)، قبل عدها على أساس خارجي، ومن خلال المقارنة مع نظريات ( الفعل والحداثة) في الفلسفات الحديثة، ليست نظرية عن (منهج) لفعل، بعده منهجاً لذاته، أو من أجله كله، من خلال (تمثله) كلياً، أي اقتباسه، بدون تشذيب، بمعنى ذوبان المتمثل فيما يتمثل، بالمعنى السلبي للكلمة، لا بمعنى القوة للمتمثل فيما يتمثل، في امتلاك موضوع تمثله، وإحالته إلى موضوع لذاته، من غير أن تكون للموضوع القدرة في التعبير عن نفسه من خلال ذاته، باستخدام مصطلحات ادوارد سعيد وأفكاره في طبيعة تمثل الإستشراق للشرق. (ينظر: إدورد سعيد: " الإستشراق: المفاهيم الغربية للشرق"، ترجمة د. محمد عناني، القاهرة، رؤية للنشر والتوزيع، 2008 م، إدورد سعيد: " السلطة والسياسة والثقافة"، تقديم غاوري فسواناثان، ترجمة د. نائلة قلقيلي حجازي، ط1، دار الآداب، بيروت، 2008م. ولمزيد من المتابعة عن ادورد سعيد ينظر له الأعمال الآتية: " تعقيبات على الاستشراق"، ترجمة وتحرير صبحي حديدي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1996 م، " المثقف والسلطة"، رؤية للنشر والتوزيع، مصر، 2006 م. ولمزيد من المتابعة عن الإستشراق، ينظر: نجيب العقيقي: " المستشرقون"، دار المعارف، مصر، بدون تاريخ، د. زينات بيطار: " الاستشراق في الفن الرومانسي الفرنسي"، سلسلة عالم المعرفة ( 157)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يناير / 1992 م، د. فاروق عمر فوزي: " الاستشراق والتاريخ الاسلامي: ( القرون الإسلامية الأولى)، دراسة مقارنة بين وجهة النظر الإسلامية ووجهة النظر الأوربية"، منشورات الأهلية، عمان، 1998 م، يوهان فوك: " تاريخ حركة الاستشراق: الدراسات العربية والإسلامية في أوربا حتى بداية القرن العشرين"، نقله عن الألمانية عمر لطفي العالم، ط2 ، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2001 م). ففي التمثل السلبي الأول المشار، كما تقدم، يتمثل إذابة المتمثل من قبل ذاته فيما يتمثل (موضوع تمثله )، أما من خلال عده لما يتمثل (حقيقة كلية Total Truth )، لايمكن أن تناقش، أو حتى تفسر، من وجهة نظر أخرى أقل انفعالية، بالمعنى الوضوعي للإنفعالية طبعاً، أما على اساس نظرة دوكماتيقية، تتجاوز أساسها الموضوعة من أجله (نظرية الفعل فيها)، أو (لحظة قلب الديالكتيك) كما أسميها، في سبيل تأويلات تحكم المتمثل في عملية تمثله، أو على أساس الإنبهار بموضوع التمثل من قبل المتمثل، أما من خلال بنى لا واعية تحكم تمثله، بقدر ما تؤثر فيه هو، أو حتى بنى الوعي أيضا،ً من خلال شعور بعجز، عن تقديم جديد فاعل ومبتكر، على أساس عد الوعي لذاته عاجزة عن تمثل موضوعه، فيجد نفسه، أي الوعي، على اضطرار، لاقتباس تمثله لموضوعه من خارج ذاته، أو على أساس هوية للمتمثل، سابقة للمتمثل، سابقة للتمثل، في رفض كل شيء لايلائم معتقده، إلا إذا تلائم، على أساس نظرة أولية له، إبتدائية لامعمقة، مع معطاه، أي هويته ومعطياته، بوصفها أصولاً جامدة منكمشة على ذاتها، لا تقبل الجديد لاحتوائه وتقويمه، في ضوء تصور منهجها النقدي للجديد على أساسها، من خلال (انتخاب نقدي) يمكن أن يتقبل أو يرفض، أولاً من خلال المعطى الكلي للمنهج الذي لايمكن تجاوزه، لا بالتجاوز (السلبي) في هذه الحالة، يؤدي إلى إلغاء هذا المنهج، أي الغاء الذات لموضوعها الأصيل في سبيل (موضوع التمثل)، أو حتى إذابتها كلياً أو جزئياً في سبيل التجاوز لموضوع التجاوز فيه، بما يمكن من تجاوز ذلك كله من خلال عقلية واعية (كلية – نقدية)، تجمع المنهج النقدي (معطاها الأساسي)، مع المعطى الجديد في (ديالكتيك واحد)، من خلال نظرية (اكتساب الحكمة) من مصدرها المتعددة، وهو منهج معتمد في ( الآيديولوجيا الدينية). (قارن مع: د. رواء محمود حسين: " نقد الاستشراق: مناقشة حول الكلام والفلسفة"، ط 1، دار ناشري للنشر الاليكتروني، الكويت، 2012 م).
في المنهج: إمتداد المطلق وراهنية النسبي الحديث عن مشكلة المنهج، بوصفه مشكلة أساسية، يتخذ سمة رئيسة هنا وربما تفصيلية، بعده ضرورة، في سبيل تقديم معالجة أولية لمشكلة اكتساب المنهج، من خلال (وعي نقدي)، على أساس (مرجعية أساسية) لتقويم الوعي النقدي، في نقده لموضوعه. (من المناقشات الفلسفية المعروفة عن المنهج في الفلسفة، ينظر: ديكارت: " مقال في المنهج"، ترجمة محمود محمد الخضيري، مراجعة وتقديم الدكتور محمد مصطفى حلمي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 1985 م). التجاوز، السمة الأولى الأساسية للحديث عن مشكلة المنهج. إن الذات هنا تجاوز نفسها إلى موضوعها، الموضوع الجديد بالنسبة لها، من خلال فعل نقدي واعٍ وهادف، لاكتساب خصائص الجديد الرئيسية، لا على أساس تباينها مع الأصول الدينية للذات، بل على أساس امتداد الأصول الدينية، في اتجاه المطلق والشامل، بعده بعداً ممتداً اصلاً، بحيث تعمل الذات على تقبل الجديد في إطار الأصل الاعتقادي، اي اكتسابه، بما يعبر عن مرونة كبيرة في هذا الأصل، من خلال المطلق، اي امتداد النسبي في ظل المطلق، خارج حدوده في زمانه ومكانه النسبي، اذ اختصاص المطلق، أو سمته الأساسية تجاوز النسبي في أبعاده المحدودة، أما النسبي فهو مكان تحقيق المطلق (أي فعله) في مجال النسبي، من خلال فرض أولي أساسي، هو امتداد المطلق قبل وفي وبعد النسبي، باختصار البعد التفسيري، التقليدي للزمان (الماضي، والحاضر، المستقبل)، لأن المطلق بتصور إولي إنما هو مطلق بتجاوزه للنسبي بإطلاقه، إن المطلق يجاوز النسبي في أبعاده في اللامحدود أصلاً، وبالتالي فإن المشكلة الرئيسية المعروضة هنا تخص النسبي لا المطلق، في تحقيق التجاوز، أي تجاوزه هو لذاته من أجل موضوعه، التجاوز المتوازن، ليس على حساب ذاته في سبيل موضوعه، ولا يلغي الأخير من أجل الأول، وهكذا .. في وحدة جدلية واحدة. (أخيراً تمت معالجة مشكلة المنهج: ينظر: د. رواء محمود حسين: " شرعة ومنهاج: أصول المنهج العلمي في علم الحكمة الإسلامية"، ط 1، دار ناشري للنشر الاليكتروني، الكويت، 2014 م).
الذات في الفلسفة البرجوازية: المناقشة إذن لمشكلة المنهج تلافياً للمشكلة التي يتحدث عنها الفيلسوف لوكاش: " يدور الفكر الغربي كله في نطاق تعارض الموضوع والذات. حاول بكل قواه تجاوز تلك المعارضة لكنه أخفق، لأنه تصور الذات والموضوع تصوراً جامداً. إن الموضوع، أي كل إنجازات التاريخ، هو نتيجة للعمل الإنساني، لكنه يظهر للتفكير البرجوازي في شكل شيء جامد غير متطور. لهذا السبب جاء العلم الحديث، علم الطبقة البرجوازية، على نمط المساحة والمقابلة، مبنياً على التجزئة ومقارنة الأجزاء بعضها ببعض، فهو علم وصفي تصنيفي كمي، علم المقادير والكميات، يعطينا صورة رمزية أو رسماً بيانياً لعلاقات الأجزاء ولا يهدينا إلى كنه الطبيعة، بما أنه مجموعة معادلات غير معللة. أما الذات فإنها تظهر للفكر الغربي البرجوازي كمرآة ينعكس فيها الموضوع أو كالشمع الذي يتشكل حسب أشكال القلب. تتأثر الذات بالموضوع ولا تؤثر فيه، تتأمله ولاتصفه، لاعجب إذن إذا حكم كانط على الذات بالعجز عن إدراك كنه الموضوع. فلم يفهم الفكر الغربي العلاقة بين الذات والموضوع إلا في نطاق نظرية الفن التي بقيت دائماً مفصولة عن نظرية المعرفة . إن الفلسفة الغربية البرجوازية تنطلق من الملموس ولا تتعداه أبداً لأنها لا تريد أن تكشف عما وراء الملموس. لا تريد أن تتعرف على التاريخ، حيث أن التاريخ يروي دائماً بداية الظواهر ونهايتها. الإكتفاء بالملموس هو ضمان استمرار الوضع الآني". ( ينظر: د. رمضان محمد غلام : " جورج لوكاش- مسيرة وحياة وفكر "، المنار – مجلة شهرية سياسية فكرية، العدد 50 فبراير/شباط ،1989م، ص 153. لمزيد من المتابعة لفلسفة لوكاش ينظر: " تحطيم العقل: الظاهرة الدولية، تاريخ ألمانيا، شيلنغ"، ترجمة إلياس مرقص، ط2، دار الحقيقة، بيروت، 1403 ه – 1983م، " التاريخ والوعي الطبقي"، ترجمة الدكتور حنا الشاعر، ط2، دار الأندلس، بيروت، 1982 م، " بلزاك والواقعية الفرنسية"، ترجمة د. محمد علي اليوسفي، ط1، المؤسسة العربية للناشرين المتحدين، بيروت، 1985 م، " دراسات في الواقعية"، ترجمة د. نايف بلوز، ط3، المؤسسة الجامعية، بيروت، 1405 ه – 1985 م، " مراسلات جورج لوكاش"، الهيئة السورية العامة للكتاب، وزارة الثقافة، دمشق، 2010 م). وربما كان نيتشة قد عبر عن كلا الاغترابين، في ابيات له، من خلال نفاذه الى سيكولوجية المغترب : " العالم بوابة تفضي الى صحراوات تمتد صامتة من فقد ذات مرة ما فقدته انت، لايجد السكينة في اي مكان ". (ينظر: " الدكتور جون ماكوري : " الوجودية Existentialism "، ترجمة الدكتور امام عبد الفتاح امام، مراجعة فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة(58)، الكويت، 1982م، ص 61 . و (الاغتراب) من المباحث المهمة في الوجودية، يلاحظ نفس المصدر، الفصل العاشر : " التناهي والذنب"، 4 – الذنب والاغتراب ، ص 293 – 296 ). إن المشكلة الأساسية بالنسبة للفكر الغربي، وهي في ضوء لوكاش تعارض موضوع الفكر وذاته، على أساس التصور الجامد لكيلهما، ولم يكن التصور المشار إلا من خلال ذات التصور، بوصفها ذاتاً تملك تصوراً جامداً من خلفها هي، لموضوع ذاتها وموضوع الأخيرة، بافتراض حقيقي وواقعي كون الموضوع حيادي بالنسبة للذات، على اساس تأثر الذات بالموضوع، لاتأثيرها فيه، تأملها في الموضوع، لا صناعتها إياه، وبالتالي عجز الذات عن تصور الموضوع على حد تعبير كانط في ضوء لوكاش، ماينفي كون الذات منتجة لنفسها وموضوعها، لا إنتاجاً بيروقراطياً يحكم الموضوع من الأعلى (من المركز ) بل إنتاج مشاركة من الذات إلى الموضوع ومن الثاني إلى الأول . ( ملاحظة: لمزيد من المتابعة حول أزمة الفكر الغربي، ينظر: د. رواء محمود حسين: " الحداثة المقلوبة – نقد النقد الأوربي حول مفهوم الدين وماهية الفلسفة وإيديولوجيا العلم، ط1، المركز العلمي العراقي، بغداد، دار البصائر، بيروت، 2011. د. رواء محمود حسين: " صيدلية هوسرل: مقدمة في النقد الوحيوي للفلسفة الفنومينولوجية (أزمة الإنسان ومشكل العلم)، ط1، دار ناشري للنشر الاليكتروني، الكويت، 2014 م). إذن مشكلة (المنهج)، بالنسبة للفكر الغربي على اساس معالجة لوكاش، هو منهج الفلسفة البرجوازية، من خلال انطلاقها الملموس لاتجاوزها اياه، على ذلك فمعالجة لوكاش لمشكلة المنهج، يمكن عدها نقيض المنهج المتقدم، لايكون إلا من خلال تجاوز الذات للموضوع، أي تجاوزها لذاتها باتجاه موضوعها ومن أجله، أي تجاوزها للملموس، " لأن الاكتفاء بالملموس هو ضمان استمرار الوضع الراهن"، على حد تعبير لوكاش، وهذا مالا يؤدي إلى إيجاد حل لمشكلة التقابل الحاد بين الموضوع والذات في الفكر الغربي، وبالتالي لايؤدي إلى إيجاد معالجة جذرية لمشكلة المنهج .
الآيديولوجيا المتوسطة: مشكلة المنهج، وفي ضوء التصور المتقدم للتقابل الحاد بين الموضوع والذات، أراها تجاوز نفسها من الفكر الغربي الى (المقابل الحاد الآني) وهو الايديولوجيا المغلقة، بوصفه فكراً يشمل أو يواجه نفس مشكلة المنهج ذاتها، المشارة، مشكلة التقابل الحاد بين الموضوع والذات، مشكلة عدم التصور الكلي للذات لموضوع تجاوزها لذاتها، بالتالي مما يعبر عن (جزئية) التصور الكلي للذات لا شموليتها، في احتواء ذاتها وموضوعها، ممايمكن التقابل الحاد من الإستمرار، فيجعل الذات عاجزة بالكلية عن تصورها لذاتها وموضوعها، اي خلقه، أي إلى " إبقاء الوضع الراهن ". في رأيي، مشكلة التقابل الحاد بين الموضوع والذات في الآيديولوجيا المغلقة، بتطوره التاريخي، انما هي مشكلة الجمع المزدوج للمبادئ بالجديد الطارئ، مما لايعكس، أي الأخير، إندماجه في الأصل المشار، أي (خلاف المبادئ أو الأصول) من خلال النظرة الأولى، من أجل تجاوز التقابل الحاد بينهما، في سبيل فحص الجديد الطارئ، أي تحديد النسبة المئوية رياضياً لمدى تباينه معه، اي المبدأ، بالتالي لجمع نقاط التلاقي، واخراج المتباين في الراهني والنسبي، لكي يتم فهم الجديد الطارئ في إطار الأصل الاعتقادي لا سحب الجديد الطارئ، وادخاله ضمن الأصل الاعتقادي. المشكلة معقدة، لعل معالجتها تكمن من خلال، وعلى أساس أولي، افتراض وجود التصور الكلي في الذات في هذه الحالة، في سبيل ايجاد حل للمشكلة المطروحة للمعالجة، إذ لابد من افتراض وجود التصور المشار، لأن نقيض الافتراض ، يؤكد أولاً قبل كل شيء، عجز الذات عن تصور موضوعها، التصور الكلي المقصود، تصور الذات لذاتها، أولاً قبل تصور الموضوع، والتصور هنا إنما يعني اكتشاف مدى قابلية ذاتها في تحقيق التجاز إلى الموضوع، أي تعيينها هي ذاتها لمدى (كفاءتها) في تحقيق هذا التجاوز. مشاكل كبيرة ومعقدة تقف أولاً في سبيل التصور الخاص بالذات لذاتها تصوراً كلياً، وبالتالي لإيجاد حل أو معالجة لمشكلة المنهج، أي وضع حد نهائي لمشكلة التقابل الحاد بين الموضوع والذات في الفكر المتدين، لعل منها، مشكلة ايجاد تصور كلي لعملية تمثل الذات لموضوعها، في ضوء الأصول. من خلال تمثل المعطى الكلي لهذه الاصول، في سبيل ادراكها لذاتها، ومدى قابلية العقل على فهم الأصول، ومرونته في الاشتغال في إطارها، أي تحقيق امتدادها النسبي في مطلق هذه الأصول، كما تقدم. ـأما من خلال، أي تصور الذات المتدينة لهذه الأصول، تصورها لها تصور فكر بفكر، أي الغاء البعد الميتافيزيقي فيها، وبالتالي يمكن عدها ممكنة الدمج في الفكر النسبي، مما يؤدي إلى تجاوز المطلق فيها، أي إنهاؤه، في سبيل جعل المطلق نسبي، والثاني كالأول، وهذا ما يحدث مشاكل كبيرة في تحقيق التجاوز المطلوب. أو تمثل الذات للأصول تمثلاً (قديماً) أو مستهلكاً، يجاوز زمنها، أي زمن التصور، في سبيل امتداد زماني لتصور، أو تصور زماني، يجاوز زمن تصورها، بقرون، أما لتخلف هذه الذات عن إدراك عصرها، أي تمثله تمثلاً صحيحاً في ضوء أصولها، أو لاغترابها عنه، وبالتالي فهي تبحث عن زمان ومكان لا تشعر بغربتها فيه، في سبيل تجاوز الاغتراب Alienation في حين تبدو الذات الأخرى (المتدينة تخصيصاً)، مغتربة أيضاً، لكنها لا تجاوز لذاتها إلى زمان ومكان خارج ذاتها، بل زمان ومكان عصرها، إلى خارج مكان حدود ذاتها، مما يجعلها في اغتراب يباين غربة الأولى ( حاولنا أن نفهم جوهر المشكل في كتاب لنا، ينظر: رواء محمود: " مشكلة النص والعقل في الفلسفة الإسلامية: دراسات منتخبة"، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 2006 م). يرى ابن رشد أن معنى التأويل: " هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازة من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه " أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عددت، في تعريف أصناف الكلام المجازي، ثم يتحدث عن التوافق بين المعقول والمنق وإذا كأن الفقيه يفعل هذا في كثير من الأحكام الشرعية، فكم بالحري أن يفعل ذلك صاحب علم البرهان، فإن الفقيه إنما عنده قياس ظني، والعارف عنده قياس، يقيني. بل نقول أنه ما من منطوق به في الشرع مخالف بظاهره لما أدى إليه البرهان، إلا إذا اعتبر الشرع وتصفحت سائر أجزائه وجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل أو يقارب أن يشهد. ولهذا المعنى تم الإجماع على أنه ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل. ونحن نقطع قطعاً كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي. وما اعظم ازدياد اليقين بها عند من زاول هذا المعنى وجربه، وقصد هذا المقصد من الجمع بين المعقول والمنقول (أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي الشهير بابن رشد الحفيد (المتوفى: 595هـ): " فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الإتصال"، دراسة وتحقيق: محمد عمارة، ط2، دار المعارف، مصر، بدون تاريخ، ص 32 – 33). ويرى الغزالي أن العلم الذي يتوجه به إلى الآخرة ينقسم إلى علم المعاملة وعلم المكاشفة، ويعني بعلم المكاشفة ما يطلب منه كشف المعلوم فقط، ويعني بعلم المعاملة ما يطلب منه مع الكشف العمل به، ومقصوده في كتاب ( الإحياء) علم المعاملة فقط دون علم المكاشفة التي لا رخصة في إيداعها الكتب، وإن كانت هي غاية مقصد الطالبين، ومطمع نظر الصديقين، وعلم المعاملة طريق إليه ولكن لم يتكلم الأنبياء صلوات الله عليهم مع الخلق إلا في علم الطريق والإرشاد إليه، وأما علم المكاشفة فلم يتكلموا فيه إلا بالرمز والإيماء على سبيل التمثيل والإجمال علماً منهم بقصور أفهام الخلق عن الاحتمال والعلماء ورثة الأنبياء، فما لهم سبيل إلى العدول عن نهج التأسي والاقتداء. ثم إن علم المعاملة ينقسم إلى علم ظاهر يعني العلم بأعمال الجوارح، وإلى علم باطن يعني العلم بأعمال القلوب، والجاري على الجوارح إما عادة وإما عبادة، والوارد على القلوب التي هي بحكم الاحتجاب عن الحواس من عالم الملكوت إما محمود وإما مذموم، فبالواجب انقسم هذا العلم إلى شطرين ظاهر وباطن، والشطر الظاهر المتعلق بالجوارح انقسم إلى عادة وعبادة، والشطر الباطن المتعلق بأحوال القلب وأخلاق النفس انقسم إلى مذموم ومحمود فكان المجموع أربعة أقسام ولا يشذ نظر في علم المعاملة عن هذه الأقسام (أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505هـ): " إحياء علوم الدين"، دار المعرفة – بيروت، بدون تاريخ، 1/ 4). ويبين فخر الدين الرازي الفرق بين العلم والظن في " أن حكم الذهن بأمر على أمر إما أن يكون جازماً أو لا يكون، فإن كان جازماً فإما أن يكون مطابقاً للمحكوم عليه أو لا يكون، فإن كان مطابقاً فإما أن يكون لموجب أو لا يكون فإن كان لموجب فالموجب، إما أن يكون حسياً أو عقلياً أو مركباً منهما فإن كان حسياً فهو العلم الحاصل من الحواس الخمسة، ويقرب منه العلم بالأمور الوجدانية كاللذة والألم وإن كان عقلياً فأما أن يكون الموجب مجرد تصور طرفي القضية أو لا بد من شئ آخر من القضايا فالأول هو البديهيات والثاني النظريات. وأما إن كان الموجب مركباً من الحس والعقل فإما أن يكون من السمع والعقل وهو المتواترات أو من سائر الحواس والعقل وهو التجريبيات والحدسيات، وأما الذي لا يكون لموجب فهو اعتقاد المقلد وأما الجازم غير المطابق فهو الجهل وأما الذي لا يكون جازماً فالتردد بين الطرفين إن كان على السوية فهو الشك وإلا فالراجح ظن والمرجوح وهم" (أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (المتوفى: 606هـ): "المحصول"، دراسة وتحقيق: الدكتور طه جابر فياض العلواني، ط3 ، مؤسسة الرسالة، 1418 هـ - 1997 م، ص 83 – 84). أما الأمر الثاني الذي يتحدث عنه الفخر الرازي في بيان الفرق بين العلم والظن، فهو " أنه ليس يجب أن يكون كل تصور مكتسباً وإلا لزم الدور أو لتسلسل إما في موضوعات متناهية أو غير متناهية وهو يمنع حصول التصور أصلاً بل لا بد من تصور غير مكتسب. وأحق الأمور بذلك ما يجده العاقل من نفسه ويدرك التفرقة بينه وبين غيره بالضرورة ومنها القسم المسمى بالعلم، لأن كل أحد يدرك بالضرورة ألمه ولذته ويدرك بالضرورة كونه عالماً بهذه الأمور، ولولا أن العلم بحقيقة العلم ضروري وإلا لامتنع أن يكون علمه بكونه عالماً بهذه الأمور ضرورياً لما أن التصديق موقوف على التصور وكذا القول في الظن ثم العبارة المحررة أن الظن تغليب لأحد مجوزين ظاهري التجويز. وها هنا دقيقة وهي أن التغليب إما أن يكون في المعتقد أو في الاعتقاد أما الذي يكون في المعتقد فهو أن يكون الشئ ممكن الوجود والعدم إلا أن أحد الطرفين به أولى كالغيم الرطب فإن نزول المطر منه وعدم نزوله ممكنان لكن النزول أولى وأما الذي يكون في الاعتقاد فهو أن يحصل اعتقاد الوقوع واعتقاد اللا وقوع كل واحد مع تجويز النقيض لكن اعتقاد الوقوع يكون أظهر عنده من اعتقاد اللاوقوع فظهر أن اعتقاد رجحان الوقوع مغاير لرجحان اعتقاد اللاوقوع فهذا الثاني هو الظن فان كان مطابقاً للمظنون كان ظناً صادقاً وإلا كان ظناً كاذباً وأما الأول وهو اعتقاد رجحان الوقوع فإن كان مطابقا للمعتقد كان علماً أو تقليداً..." ( الرازي: " المحصول"، ص 84 – 86 ). في حوارية له مع النفس، يشير ابن حزم أنه أطال الفكر في نفسه، بعد تيقنه أنها المدبرة للجسد، الحساسة الحية العاقلة المميزة العالمة، وأن الجسد موات لا حياة له، وجماد لا حركة فيه إلا أن تحركه النفس، وبعد إيقانه أنها صاحبة هذه الفكرة، والمحركة للساني بما تريد إخراجه مما استقر عندها فقالت مخاطبة لنفسها، باحثة عن حقيقة أمرها: يا أيتها النفس المدبرة لهذا الجسد: الست التي قد عرفت صفات جسدك الذي واليت تدبيره، وحققتها وضبطتها. قال: بلى. قال: يا أيتها النفس المدبرة لهذا الجسد: الست التي تجاوزت جسدك المضاف تدبيره إليك، فخلص فهمك وبحثك إلى سائر ما يليك من الأرض والماء والهواء وسائر الأجرام، ثم إلى ما لم يلك من الأجرام، فميزت أجناس كل ذلك وأنواعه وأشخاصه، وحققت صفات كل ذلك: الذاتية والغيرية، وفرقت بين كل ذلك بالفروق الصحيحة، ثم تخطيت كل ذلك إلى الأفلاك البعيدة وما فيها من الأجرام النيرة فعرفت كيفية أدوارها، ووقفت على حقيقة مدارها، البائدة والمماليك الدائرة والأمم الغابرة والوقائع الشنيعة والسير الذميمة والحميدة، ووقفت على أخبارهم وعلومهم فشاهدت كل ذلك بمعرفتك إذ لم تشاهديه بحواسك، قال: بلى (ينظر: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى: 456هـ): " رسائل ابن حزم الأندلسي"، تحقيق إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980 م، 1 / 443 – 444). ويضيف ابن حزم: قال: يا أيتها النفس الغابطة لهذه العظائم المشرفة على هذه الأمور الشنيعة. ألست التي لم يكفك هذا كله حتى تجاوزت العالم بما فيه، وطفرته من جميع نواحيه، فشاهدت الواحد الأول، ووقفت إلى الحق الأول المبدع للعالم بكل ما فيه، فأشرفت على انه هو، وتوهمت إحداثه لكل ما دونه لتوهمك لكل ما شاهدته بحواسك، فأحطت بكل هذا علماً، واحتويت على جميعه فهماً السامية، وتكلفت الارتقاء إلى دار تلك الفلك الشاهقة: تفكري إذ وصلت إلى هذه الرتب، وخرقت تلك الحجب، ورفعت دونك تلك الستور المسبلة، وفتحت لك تلك الأبواب المغلقة المقفلة، وسهل عليك تولج تلك المضايق الهائلة، وتأتى لك تخلل تلك الثنايا البعيدة، هل عرفت مائيتك، وهل دريت كيفيتك، وهل وقفت على أي شيء أنت، وما جوهرك وهل أشرفت على حملك لصفاتك، كيف حملتها قال: لا، ما عرفت شياً من ذلك. قالت: بلى. قال: يا أيتها النفس المشرفة على ذلك كله: ألست التي لم تقنعي بهذا المقدار من العلم على عظمه وطوله، ولا ملأ خزانتك هذا الحظ من الإشراف، على كبر شأنه وهوله، حتى تعديت إلى ما كان قبل حلولك في هذا الجسد وارتباطك به، من أخبار القرون البائدة والمماليك الدائرة والأمم الغابرة والوقائع الشنيعة والسير الذميمة والحميدة، ووقفت على أخبارهم وعلومهم فشاهدت كل ذلك بمعرفتك إذ لم تشاهديه بحواسك. قال: بلى. ( رسائل ابن حزم، 1 / 444 – 445 ). ويختم ابن حزم حواريته بالقول: " قالت: يا أيتها النفس العارفة بغيرها، الجاهلة بذاتها: فهل تعرفين محلك ومن أين أنت، ومن أين تتكلمين، وكيف تحركين هذه الأعضاء المصونة إذا حركتها، الساكنة إذا تركتها قالت: لا. قالت: يا أيتها النفس المعجب شأنها فيما علمت وفيما جهلت: هل تذكرين أين كنت ومن أين أقبلت، وكيف تعلقت بهذا الجسد المظلم الميت الجاهل، وكيف تصريفك له، وكيف بقاؤك فيه بالأسباب الممسكة لك معه، وكيف انفصالك عنه عند الآفات العارضة له قال: لا. قالت: يا أيتها النفس المعترفة بجهل ذاتها، الواقفة على علم ما عداها: ألست أنت المخاطبة والمسؤولة السائلة قالت: بلى. قالت: فما قطع بك عن معرفة ذاتك وصفاتك، ومكانك وبدء شانك، ومحلك وتنقلك، وكيف تعلقت بهذا الجسد وكيف تصريفك له وكيف تنقلك عنه، فتدبرت هذا فأيقنت أنه لو كان علمها ما علمت بقوتها وطبيعتها، دون مادة من غيرها، لكان المعجز لها مما جهلته أسهل عليها من الممكن لها مما علمت. فاعترفت بان لها مدبراً علمها ما علمت من البعيدات فعلمته، وجهلت ما لم يطلعها طلعه من القريبات فجهلته. فيا لك برهاناً على عجز المخلوق ومهانته وضعفه وقلته، نعم وعلى أن النفس لا تفعل ولا تقعد إلا بقوة وإرادة من قبل غيرها لا تتجاوزها ولا تتعداها..." ( رسائل ابن حزم، 1 / 445 – 446 ).
#رواء_محمود_حسين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ماكس فيبر وإقتصاديات الحداثة
-
هل هناك منهج واحد للحداثة؟
-
أطياف جان جاك روسو ( 3 ) في التفاوت بين الناس
-
أطياف جان جاك روسو ( 2 ) في العقد الإجتماعي
-
أطياف جان جاك روسو ( 1 ) مكانة روسو في الأنوار الأوربية
-
في الجدوى الإجتماعية: جدال حول المعيارية
-
تاريخية مفهوم اللذة والطبيعة الإنسانية الكونية
-
نقد فلسفة التحطيم الحداثية
-
السياق الإيديولوجي للعقل الحديث واختلاف البنية الثقافية
-
ما المفهوم الدقيق للحداثة؟
-
لآن تورين ونقد الحداثة: بداية نقدية
-
التواضع بوصفه حلاً من احترام الذات إلى الاستقرار العاطفي ومع
...
-
في الإلحاح الناتج عن القلق
-
في المشاعر والقلق الشعوري
-
مقاربة في السلوكيات
-
تاريخ المشقة ومعالجة الفشل
-
روبرت ليهي من (أسلوب تعطيل الفكر) إلى ( طريقة التمكين الشخصي
...
-
مقدمة في العلاج المعرفي للقلق عند روبرت ليهي
-
كارل بوبر قراءة أولى على طريق الإستكشاف الفلسفي
-
إعادة اكتشاف تراث ابن رشد د. حسن مجيد العبيدي والإستمداد الم
...
المزيد.....
-
تحقيق CNN يكشف ما وجد داخل صواريخ روسية استهدفت أوكرانيا
-
ثعبان سافر مئات الأميال يُفاجئ عمال متجر في هاواي.. شاهد ما
...
-
الصحة اللبنانية تكشف عدد قتلى الغارات الإسرائيلية على وسط بي
...
-
غارة إسرائيلية -ضخمة- وسط بيروت، ووسائل إعلام تشير إلى أن ال
...
-
مصادر لبنانية: غارات إسرائيلية جديدة استهدفت وسط وجنوب بيروت
...
-
بالفيديو.. الغارة الإسرائيلية على البسطة الفوقا خلفت حفرة بع
...
-
مشاهد جديدة توثق الدمار الهائل الذي لحق بمنطقة البسطة الفوقا
...
-
كندا.. مظاهرات حاشدة تزامنا مع انعقاد الدروة الـ70 للجمعية ا
...
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
مصر.. ضبط شبكة دولية للاختراق الإلكتروني والاحتيال
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|