|
دلالات الطباطبائي الفلسفية، الحلقة(15)
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 5064 - 2016 / 2 / 3 - 08:19
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
دلالات الطباطبائي الفلسفية في تفسيره(الميزان)الحلقة(15) المبحث الثالث عشر: تكملة 6 - الوثنيّة البرهميّة: والبرهميّة - على ما تقدّم - من مذاهب الوثنيّة المتأصّلة، ولعلّها أقدمها بين الناس فإنّ المدنيّة الهنديّة من أقدم المدنيّات الإنسانيّة لا يضبط بدء تاريخيّ لها على التحقيق، ولا يضبط بدء تاريخيّ لوثنيّة الهند غير أنّ بعض المورّخين كالمسعوديّ وغيره ذكروا أنّ برهمن اسم أوّل ملوك الهند الّذى عمّر بلادها وأسّس قواعد المدنيّة فيها وبسط العدل بين أهلها. ولعلّ البرهميّة نشأت بعده باسمه فكثيرا مّا كانت الاُمم الماضية يعبدون ملوكهم والأعاظم من أقوامهم لاعتقادهم أنّهم ذووا سلطة غيبيّة وأنّ اللاهوت ظهر فيهم نوع ظهور، ويؤيّده بعض التأييد أنّ الظاهر من (ويدا) وهو كتابهم المقدّس أنّه مجموع من رسائل ومقالات شتّى ألّف كلّ شطر منها بعض رجال الدين في أزمنة مختلفة ورّثوها من بعدهم فجمعت وألّفت كتاباً يشير إلى دين ذى نظام وقد صرّح به علماء سانسكريت ولازم ذلك أن يكون البرهميّة كغيرها من مذاهب الوثنيّة مبتدئة من أفكار عامّيّة غير قيّمة، متطوّرة في مراحل التكامل حتّى بلغت حظّها من الكمال. ذكر البستانىّ في دائرة المعارف ما ملخّصه: برهم (بفتحتين فسكون أو بفتح الباء والهاء وسكون الراء) هو المعبود الأوّل والأكبر عند الهنود، وهو عندهم أصل كلّ الموجودات واحد غير متغيّر وغير مدرك أزلىّ مطلق سابق كلّ مخلوق خلق العالم كلّه بمجرّد ما أراد دفعة واحدة بقوله: أوم أي كن. وحكاية برهم تشبه من كلّ وجه حكاية (أي بوذة) فليس الفرق إلّا في الاسم والصفات وكثيراً مّا يجعلون نفس برهم اسما للأقانيم الثلاثة المؤلّف منها ثالوث الهنود، وهى: (برهما ووشنو وسيوا) ويقال لعبدة برهم: البرهميّون أو البراهمة. وأمّا برهما فهو نفس برهم معبود الهنود بعد أن شرع في أعماله (بدليل زيادة الألف في آخره وهو من اصطلاحاتهم) وهو الاُقنوم الأوّل من الثالوث الهنديّ أي إنّ برهم ينبثق في نفسه في ثلاثة أقانيم كلّ مرّة في اُقنوم فالاُقنوم الأوّل الّذى يظهر به أوّل مرّة هو برهما، والثانى وشنو، والثالث سيوا. فلمّا انبثق برهما لبث مدّة طويلة جالساً على سدرة تسمّى بالهنديّة (كمالا) وبالسنسكريتية بدما، وكان ينظر من كلّ جهة، وكان له أربعة رؤس بثماني أعين فلم ير إلّا فضاء واسعاً مظلماً مملوءً ماءً فارتاع لذلك ولم يقدر أن يدرك سرّ أصله فلبث ساكتا أبكم غارقا في التأمّلات. فمضت على ذلك أجيال وإذا بصوت قد طرق اُذنيه بغتة ونبّهه من سباته وأشار عليه أن يفزع إلى (باغادان) وهو لقب برهم فظهر برهم بصورة رجل له ألف رأس فسجد له برهما وجعل يسبّحه فانشرح صدر باغادان وأبدع النور وكشف الظلمات، وأظهر لعبده حالة كينونته والكائنات بصور جراثيم متخدّرة وأعطاه القوّة لإخراجها من هذا الخمول. فبقى برهما يتأمّل في ذلك مائة سنة إلهيّة وهى عبارة عن ستّة و ثلاثين ألف سنة شمسيّة ثمّ ابتدأ بالعمل فأبدع أوّلا سبع السماوات المسمّاة عندهم (سُوَرغة) وأنارها بالأجرام المسمّاة (ديقانة) ثمّ أبدع (مريثلوكا) أي مقرّ الموت ثمّ الأرض وقمرها، ثمّ المساكن السبعة السفلى المسمّاة بتالة، وأنارها بثمانية جواهر موضوعة على رؤس ثمانى حيّات. فالسماوات السبع والمساكن السفلى السبعة هي العوالم الأربعة عشر في الميثولوجيا الهنديّه. ثمّ خلق الأزواج السبعة لكى تعيّنه في أعماله فامتنع من مساعدته عشرة منها وهى (مونى) والريشة التسعة الّتى منها (ناريدا أو نوردام) واقتصرت على التأمّلات الدنيويّة فتزوّج حينئذ اُخته (ساراسواتى) وأولدها مائة ولد، وكان البكر اسمه (دكشا) فولد لدكشا خمسون بنتا فتزوّجت ثلث عشرة منهنّ (كاسيابا) الّذى يسمّونه أحيانا برهمان الأوّل، وهو الّذى ولد لبرهما ولدا يسمّى (مارتشى). وولدت إحدى البنات المذكورات واسمها (أديتى) الأرواح المنيرة المسمّاة (ديقانة) وهى الّتى تفعل الخير وتسكن السماوات، وأمّا اُختها (ديتي) فولدت جمهورا غفيرا من الأرواح الشريرة المسمّاة (داتينة) أو (اسورة) وهى سكّان الظلام وفاعلة كلّ شرّ في العالم. وكانت الأرض إلى ذلك الوقت خالية من السكّان فقال بعضهم: إنّ برهما أخرج من نفسه (مانوسويامبوقا) الّذى يقول الآخرون: إنّه سابق له وأنّه نفس برهم المعبود الواحد ثمّ إنّ برهما زوّجه (ساتاروبا) وقال لهما أن يكثرا وينميا. وقال آخرون: إنّ برهما ولد أربعة أولاد وهم برهمان وكشتريا وقايسيا وسودارا فالأوّل خرج من فمه، والثانى من ذراعه اليمنى، والثالث من فخذه اليمنى والرابع من رجله اليمنى فكانوا أربع اُرومات لأربع فرق أصليّة. وتزوّج الثلاثة الأخيرون بثلاث نساء منه أيضاً خرجت واحدة من ذراعه اليمنى والثانية من فخذه اليسرى، والثالثة من رجله اليسرى، وسمّين باسم بعولتهنّ بزيادة علامة التأنيث وهى (نى)، وتزوّج برهمان أيضاً زوجة من أبيه، ولكن كانت من نسل الأسورة الشريرة، فهذا ما في الفيداس عن كيفيّة خلق العالم. ثمّ إنّ برهما بعد إن كان الإله الخالق القدير سقط عن رتبة وشنو الاُقنوم الثاني وسيوا الاُقنوم الثالث وذلك أنّه انتفخ بالكبرياء والعجب، وظنّ نفسه نظير العلىّ فسقط في ناراك أي الجحيم، ولم ينل العفو إلّا بشرط أن يتجسّد مرّة في كلّ من الأجيال الأربعة، فتجسّد أوّل مرّة بصورة غراب شاعر اسمه (كاكابوسندا) وفي الثانية بصورة (بارباقلميكى) فكان أوّلا لصّا ثمّ رجلاً عبوساً رزينا نادما ثمّ ترجمانا مشهورا للفيداس ومؤلّفا للراميانا، وفي المرّة الثالثة بصورة (قياسا) وهو شاعر ومؤلّف (المهابارانا) والبغاقة وعدّة بورانات، وفي المرّة الرابعة وهو العصر الحالىّ المسمّى (كالى يوغ) بصورة (كاليداسا) الشاعر التشخيصىّ العظيم ومؤلّف (ساكنتالا) ومنقّح مؤلّفات (قلميكى). ثمّ إنّ برهما ظهر في ثلاث أحوال، ففى الحال الاُولى كان الواحد الصمد والكلّ الأعظم العلىّ، وفي الحال الثانية ظهر منبثقا من الأوّل أي شارعا في العمل وفي الحال الثالثة ظهر متجسّدا بصورة إنسان وحكيم. وليس لبرهما عبادة عامّة في الهند، وله هناك هيكل واحد فقطّ غير أنّ البراهمة يجعلونه موضوع عبادتهم، ويدعونه مساء وصباحا، وهم يرمون الماء ثلاث مرّات براحة أيديهم على الأرض ونحو الشمس، ويجدّدون له عبادتهم وقت الظهر بتقديمهم له زهرة، وفي تقديس النار يقدّمون له سمنا مصفّى كما يقدّمون لإله النار، وهذا التقديس أهمّ وأقدس من كلّ ما سواه. واسمه هوم أو هوما ورغيب. ويمثّل برهما بصورة رجل ذى لحية طويلة بإحدى يديه سلسلة الكائنات وبالاُخرى الإناء الّذى فيه ماء الحياة السماويّ راكباً الهمسا وهو الطير الإلهىّ الّذى يشبه اللقلق والنسر. وأمّا برهمان فهو ابن برهما البكر أخرجه من فيه كما تقدّم، وجعل نصيبه أربعة الكتب المقدّسة المسمّاة (فيداس) كناية عن الكلمات الأربع الّتى نطق بها بأفواهه الأربعة. فلمّا أراد برهمان أن يتزوّج نظير إخوته قال له برهما: إنّك ولدت للدرس والصلاة فيجب أن تبتعد عن العلاقات الجسديّة فلم يقتنع برهمان بقول أبيه فغضب برهما وزوّجه بواحدة من جنّيّات الشرّ المسمّاة أسورة، ومن هذا ولد البراهمة وهم الكهنة المقدّسون الّذين خصّوا بتفسير الفيداس، وكانوا يتولّون أمر كلّ التقدّمات الّتى يقدّمها الهنود للآلهة. وولد كشتريا صنف الحربيّين من البراهمة، وقايسيا صنف أهل الزراعة منهم، وسودرا صنف العبيد، فالبراهمة أربعه أصناف، انتهى ملخّصا من دائرة المعارف للبستانيّ. وذكر غيره أنّ البرهميّة منقسمة إلى طبقات أربع هم البراهمة (علماء المذهب) والحربيّون والزرّاع والتجّار، ولا يعبؤ بغيرهم كالنساء والعبيد، وقد نقلنا في ذيل قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ) الآية، المائدة: 105 في الجزء السادس من الكتاب في بحث علميّ عن كتاب ما للهند من مقولة لأبي ريحان البيرونىّ شيئاً من وظائف البراهمة وعباداتهم، وكذا عن الملل والنحل للشهرستانيّ شطراً من شرائع الصابئين. والمذاهب الوثنيّة الهنديّة وكان الصابئين مثلهم أيضاً مطبقون على القول بالتناسخ وهو أنّ العوالم غير متناهية من ناحيتى الأزل والأبد ولكلّ منها حظّا من البقاء مؤجّلا فإذا انقضى أمد بقائه بطلت صورته وتولّد منه عالم آخر يعيش فيموت فيحدث ثالث وهكذا، والنفوس الإنسانيّة المتعلّقة بالأبدان لا تموت بموت أبدانها بل موت أبدانها مبدء حياة جديدة لها فإنّها تتعلّق بأبدان اُخر تعيش فيها عيشة سعيدة إن كسبت في بدنها السابق فضائل نفسانيّة وعملت عملاً صالحاً، وعيشة شقيّة إن تلبّست بالرذائل واقترفت السيّئات إلّا الكاملون في معرفة البرهم (الله سبحانه) فإنّهم أحياء بحياة الأبد آمنون من التولّد الثاني خارجون عن سلطان التناسخ. 7 - الوثنيّة البوذيّة: وقد اُصلحت الوثنيّة البرهميّة (المصدر: ملخص ما في دائرة المعارف للبستاني.) بالبوذيّة منسوبة إلى بوذا (سقيامونى) المتوفّى سنة خمسمائة وثلاث وأربعين قبل المسيح على ما نقل عن التاريخ السيلانىّ وقيل غير ذلك حتّى أنّ الاختلاف في ذلك ينسحب إلى ألفى سنة، ولذلك ربّما ظنّ أنّه شخص خرافيّ لا حقيقة له لكنّ الحفريّات الأخيرة الّتى وقعت في غايا الحديثة وآثارا اُخرى في بطنة دلّت على صحّة وجوده، وقد انكشفت بها آثار اُخرى من تاريخ حياته وتعاليمه الّتى ألقاها إلى تلامذته وأتباعه. وكان بوذا من بيت الملك ابن ملك يدعى (سوذودانا) فعزفت نفسه الدنيا وشهواتها واعتزل الناس في شبابه ولبث في بعض الغابات الموحشة سنين من عمره مكبّا على التزهّد والارتياض حتّى تنّورت نفسه بالمعرفة فخرج إلى الناس وهو ابن ستّ وثلاثين سنة على ما قيل فدعاهم إلى التخلّص عن الشقاء والآلام والفوز بالراحة الكبرى والحياة السماويّة الأبديّة السرمديّة، ووعظهم وحثّهم على التمسّك بذيل شريعته بالتخلّق بالأخلاق الكريمة ورفض الشهوات واجتناب الرذائل. وكان بوذا - على ما نقل - يقول عن نفسه من دون كبرياء برهميّة: (أنا (أي تصيبني التسويلات والوساوس النفسانيّة وفى كلامه هذا نسخ لحكم الطبقات في الشريعة البرهميّة القاضى بتفاوت الناس في التشرف بالسعادة الدينيّة وتحريم بعضهم كالنساء والصبيان منها.) متسوّل، ولا توجد إلّا شريعة واحدة للجميع، وهى العقاب الشديد للمجرمين والثواب العظيم للصالحين، وشريعتي شريعة نعمة للجميع، وفيها كالسماء مكان للرجال والنساء والصبيان والبنات والأغنياء والفقراء على أنّه يعسر على الغنىّ أن يسلك طريقها). وكان تعليمه على ما عند البوذيّين: أنّ الطبيعة ذات فراغ وأنّها وهميّة خدّاعة وأنّ العدم يوجد في كلّ مكان وكلّ زمان، وهو مملوء من الغشّ، ونفس هذا العدم يزيل كلّ الحواجز بين أصناف الناس وجنسيّاتهم وأحوالهم الدنيويّة، ويجعل أحقر الديدان إخوة للبوذيّين. وهم يعتقدون أنّ آخر عبارة نطق بها سقيامونى هي (كلّ مركّب فان) والغاية القصوى عندهم هي نجاة النفس من كلّ ألم وغرور، وأنّ دور التناسخ الّذى لا نهاية له ينتهى أو ينقطع بمنع النفس أن تولد ثانية، ويتوصّل إلى ذلك بتطهيرها حتّى من رغبة الوجود. فهذه القواعد الأساسيّة للبوذيّة موجودة صريحاً في أقدم تعليمها المدرّج في (الأريانى ستيانس) وهى أربع حقائق سامية تنسب إلى سقيامونى ذكرها في عظته الاُولى الّتى قام بها في غابة تعرف بغابة الغزال بالقرب من بنارس. وتلك الحقائق الأربع تتعلّق بالألم وأصله وملاشاته وبالطريقة المؤدّية إلى الملاشاة فالألم هو الولادة والسنّ والمرض والموت ومصادفة المكروه ومفارقة المحبوب والعجز عمّا يرام، وأسباب الألم الشهوات النفسانيّة والجسديّة والأهواء، وملاشاة جميع هذه الأسباب هي الحقيقة الثالثة، ولطريقة الملاشاة أيضاً ثمانية أقسام وهى: نظر صحيح وحسّ صحيح، ونطق صحيح، وفعل صحيح، ومركز صحيح، وجدّ صحيح وذكر صحيح، وتأمّل صحيح، فهذه صورة الإيمان عندهم وقد وجدت محفورة على أبنية كثيرة ومدّونة في عدّة كتب. وأمّا خلاصة الأدب البوذىّ فهى اجتناب كلّ شئ ردىّ، وعمل كلّ شئ صالح وتهذيب العقل. فهذا هو الّذى سلّموه من تعليم بوذا، وما عداه من العبادات والذبائح والكهنوت والفلسفة والأسرار اُمور اُضيفت إليه بكرور الأيّام ومرور الدهور، وهى تشتمل على أقاويل وآراء عجيبة في خلق العالم ونظمه وغير ذلك. وممّا يقال إنّ بوذا لم يتكلّم عن الإله قطّ، غير أنّ ذلك لم يكن لإعراض منه عن مبدء الوجود ولا لإنكار بل لأنّ الرجل كان يبذل كلّ جهده في تجهيز الناس بالزهد عن زهرة الحياة الدنيا وتنفيرهم عن هذه الدار الغارّة. 8 - وثنيّة العرب. وهم أوّل من عارضهم الإسلام بالدعوة إلى التوحيد من عبدة الأوثان، كان معظم العرب في عهد الجاهليّة بدويّين وأهل الحضارة منهم كاليمن في طبع البداوة يحكم فيهم من السنن والآداب رسوم مختلطة مختلفة مأخوذة من جيرانهم الأقوياء كالفرس والروم ومصر والحبشة والهند، ومنها السنن الدينيّة. وكان أسلافهم الأقدمون وهم العرب العاربة ومنهم عاد إرم وثمود على دين الوثنيّة كما يحكيه الله سبحانه في كتابه عن قوم هود وصالح وعن أصحاب مدين وعن أهل سبأ في قصّة سليمان والهدهد، حتّى أن جاء إبراهيم عليهالسلام بابنه إسماعيل واُمّه هاجر إلى أرض مكّة وهى واد غير ذى زرع وبها قبيلة جرهم، وأسكنهما هناك فنشأ إسماعيل عليهالسلام وبنيت بلدة مكّة، وبنى إبراهيم عليهالسلام الكعبة البيت الحرام ودعا الناس إلى دينه الحنيف وهو الإسلام فاستجيب له في الحجاز وما والاها وشرع لهم الحجّ كما يدلّ على جملة ذلك قول الله تعالى له فيما يحكيه القرآن: ( وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ )، الحجّ: 27 ثمّ تهوّد بعض الأعراب لمعاشرة كانت بينهم وبين اليهود النازلين بالحجاز، وتسربت النصرانيّة إلى بعض أقطار الجزيرة، والمجوسيّة إلى بعضها الآخر. ثمّ وقعت وقائع بين آل إسماعيل وجرهم بمكّة حتّى آل إلى غلبة آل إسماعيل وإجلاء جرهم منها واستولى عمرو بن لّحىّ على مكّة وما والاها. ثمّ إنّه مرض مرضاً شديداً فقيل له: إنّ البلقاء من أرض الشام حمّة لو استحممت بها برئت فقصدها واستحمّ بها فبرئ، ورأى هناك قوما يعبدون الأصنام فسألهم عنها فقالوا: هذه أرباب اتّخذناها على شكل الهياكل العلويّة والأشخاص البشريّة نستنصر بها فننصر ونستسقى بها فنسقى فأعجبه ذلك فطلب منهم صنما من أصنامهم فدفعوا إليه هبل فرجع إلى مكّة ووضعه على الكعبة، وكان معه إساف ونائلة وهما صنمان على شكل زوجين - كما في الملل والنحل - أو شابّين - كما في غيره - فدعا الناس إلى عبادة الأصنام وروّج ذلك بين قومه فعادوا يعبدونها بعد إسلامهم وقد كانوا يسمّون حنفاء لاتّباعهم ملّة إبراهيم عليهالسلام فبقى عليهم الاسم وهجرهم المعنى وصار الحنفاء اسما للوثنيّين (ولعلّ هذا هو الوجه في اصرار القرآن على توصيف إبراهيم بالحنيف والإسلام بالحنيفيّة) منهم. وكان ممّا يقرّبهم إلى الوثنيّة أنّ الكعبة المشرّفة كان يعظّمها اليهود والنصارى والمجوس والوثنيّة جميعاً فكان لا يظعن من مكّة ظاعن إلّا حمل معه شيئاً من حجارة الحرم تبرّكا وصبابة، وحيثما حلّوا وضعوه وطافوا به تيمّنا وحبّا للكعبة والحرم. وعن هذه الأسباب شاعت الوثنيّة بين العرب عاربهم ومستعربهم ولم يبق من أهل التوحيد بينهم إلّا آحاد لا يذكرون، وكان من الأصنام المعروفة بينهم هبل وإساف ونائلة، وهى الّتى أتى بها عمرو بن لُحىّ ودعا إليها الناس، واللّات والعزّى ومناة وودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وقد ذكرت هذه الثمان في القرآن ونسبت الخمس الأواخر منها إلى قوم نوح. وروى في الكافي بإسناده إلى عبد الرحمان بن الأشلّ بيّاع الأنماط عن الصادق عليهالسلام أنّ يغوث كان موضوعاً قبالة باب الكعبة، وكان يعوق عن يمين الكعبة ونسر عن يسارها. وفي الرواية أيضاً أنّ هبل كان على سطح الكعبة وإساف ونائلة على الصفا والمروة. وفي تفسير القمّىّ قال: كانت ودّ لكلب، وكانت سواع لهذيل ويغوث لمراد، وكانت يعوق لهمدان، وكانت نسر لحصين. وكانت في الوثنيّة الّتى عندهم آثار من وثنيّة الصابئة كالغسل من الجنابة وغيره. وفيها آثار من البرهميّة كالقول بالأنواء والقول بالدهر كما تقدّم عن وثنيّة بوذه قال تعالى: ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ) الجاثية: 24 وإن ذكر بعضهم أنّه قول المادّيّين المنكرين لوجود الصانع. وفيها شئ من الدين الحنيف وهو إسلام إبراهيم عليهالسلام كالختنة والحجّ إلّا أنّهم خلطوه بسنن وثنيّة كالتمسّح بالأصنام الّتى حول الكعبة والطواف عريانا، والتلبية بقولهم: لبّيك لبّيك اللّهمّ لبّيك لا شريك لك، إلّا شريك هو لك، تملكه وما ملك. وعندهم اُمور اُخر اختلقوه من عند أنفسهم كالقول بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام والقول بالصدى والهام والأنصاب والأزلام واُمور اُخر مذكورة في التواريخ وقد تقدّم تفسير البحيرة والسائبة والوصيلة والحام في سورة المائدة في ذيل آية 103 وكذا ذكر الأزلام والأنصاب في ذيل آية 3 وآية 90. 9 - دفاع الاسلام عن التوحيد و منازلته الوثنيّة. لم تزل الدعوة الإلهيّة تخاصم الوثنيّة وتقاومه وتندب إلى التوحيد كما ذكره الله في كتابه فيما يقصّه من دعوة الأنبياء والرسل كنوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب وموسى عليهمالسلام، واُشير إلى ذلك في قصص عيسى ولوط ويونس عليهمالسلام. وقد اُجمل القول في ذلك في قوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) الأنبياء: 25. وقد بدأ النبيّ محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم في دعوته العامّة بدعاء الوثنيّين من قومه إلى التوحيد بالحكمة والموعظة والجدال بالّتى هي أحسن فلم يجيبوه إلّا بالاستهزاء والأذى وفتنة من آمن به منهم وتعذيبه أشدّ العذاب حتّى اضطرّ جمع من المسلمين إلى ترك مكّة والهجرة إلى الحبشة، ثمّ مكروا لقتله صلىاللهعليهوآلهوسلم فهاجر إلى المدينة ثمّ هاجر إليها بعده عدّة من المؤمنين. ولم يلبثوا حتّى تعلّقوا به بالقتال، وقاتلوه ببدر واُحد والخندق وفي غزوات اُخرى كثيرة حتّى أظهره الله تعالى عليهم بفتح مكّة فطهّر صلىاللهعليهوآلهوسلم البيت والحرم من أوثانهم، وكسر الأصنام المنصوبة حول الكعبة المشرّفة، وكان هبل منصوبا على سطح الكعبة فأصعد عليّا عليهالسلام إليه فرماه إلى الأرض وكان - على ما يقال - أعظم أصنامهم فدفن - على ما ذكروه - في عتبة باب المسجد. والإسلام شديد العناية بحسم مادّة الوثنيّة وتخلية القلوب عن الخواطر الداعية إليها وصرف النفوس حتّى عن الحومان حولها والإشراف عليها، وذلك مشهود ممّا ندب إليه من المعارف الأصليّة والأخلاق الكريمة والأحكام الشرعيّة فتراه يعدّ الاعتقاد الحقّ أنّه لا إله إلّا الله له الأسماء الحسنى يملك كلّ شئ، له الوجود الأصيل الّذى يستقلّ بذاته وهو الغنىّ عن العالمين، وكلّ ما هو غيره منه يبتدئ واليه يعود، وإليه يفتقر في جميع شؤون ذاته حدوثا وبقاء فمن أسند إلى شئ شيئاً من الاستقلال بالقياس إليه تعالى - لا بالقياس إلى غيره - في شئ من ذاته أو صفاته أو أعماله فهو مشرك بحسبه. وتراه يأمر بالتوكّل على الله، والثقة بالله، والدخول تحت ولآية الله، والحبّ في الله، والبغض في الله، وإخلاص العمل لله، و ينهى عن الاعتماد بغير الله، والركون إلى غيره، والاطمئنان إلى الأسباب الظاهرة ورجاء من دونه، والعجب والكبر إلى غير ذلك ممّا يوجب إعطاء الاستقلال لغيره والشرك به. وتراه ينهى عن السجدة لغيره تعالى، وينهى عن اتّخاذ التماثيل ذوات الأظلال وعن تصوير ذوى الأرواح، وينهى عن طاعة غير الله والإصغاء إليه فيما يأمر وينهى إلّا ما رجع إلى طاعة الله كطاعة الأنبياء وأئمّة الدين، وينهى عن البدعة واتّباعها وعن اتّباع خطوات الشيطان. والأخبار المأثورة عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وعن أئمّة أهل البيت عليهمالسلام متظافرة في أنّ الشرك ينقسم إلى جلىّ وخفىّ، وأنّ الشرك ذو مراتب كثيرة لا يسلم من جميعها إلّا المخلصون، وأنّه أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، وقد روى في الكافي عن الصادق عليهالسلام في قوله تعالى: ( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء: 89، القلب السليم الّذى يلقى ربّه ليس فيه أحد سواه. قال: وكلّ قلب فيه شرك أو شكّ فهو ساقط وإنّما أرادوا بالزهد في الدنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة. وورد أيضاً أنّ عبادته تعالى طمعا في الجنّة عبادة الاجراء، وعبادته خوفاً من النار عبادة العبيد، وحقّ العبادة أن يعبد تعالى حبّاً له وتلك عبادة الكرام، وهذا مقام مكنون لا يمسّه إلّا المطهّرون وقد تقدّمت عدّة من هذه الروايات في بعض الأبحاث السابقة من الكتاب.
#داود_السلمان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دلالات الطباطبائي الفلسفية ،الحلقة(14)
-
دلالات الطباطبائي الفلسفية، الحلقة(13)
-
دلالات الطباطبائي الفلسفية، الحلقة(12)
-
استدلالات الطباطبائي الفلسفية، الحلقة(11)
-
استدلالات الطباطبائي الفلسفية، الحلقة(10)
-
استدلالات الطباطبائي الفلسفية ،الحلقة(9)
-
استدلالات الطباطبائي الفلسفية ،الحلقة(8)
-
استدلالات الطباطبائي الفلسفية؛ الحلقة(7)
-
الجلبي ما قتلوا وما صلبوه ولكن شبه لهم
-
استدلالات الطباطبائي الفلسفية الحلقة(6)
-
استدلالات الطباطبائي الفلسفية ،الحلقة(5)
-
استدلالات الطباطبائي الفلسفية، الحلقة(4)
-
صخم وجهك وكول آني حداد
-
استدلالات الطباطبائي الفلسفية في تفسيره (الميزان)الحلقة(3)
-
حسقيل قوجمان صوت يهودي عراقي مدوي
-
استدلالات الطباطبائي الفلسفية في تفسيره (الميزان) الحلقة(1)
-
استدلالات الطباطبائي الفلسفية في تفسيره (الميزان) الحلقة(2)
-
ميزانية مصابة بالشلل
-
حششوا حتى يأتيكم اليقين
-
الا يتدبرون العراق ام على...؟
المزيد.....
-
تحقيق CNN يكشف ما وجد داخل صواريخ روسية استهدفت أوكرانيا
-
ثعبان سافر مئات الأميال يُفاجئ عمال متجر في هاواي.. شاهد ما
...
-
الصحة اللبنانية تكشف عدد قتلى الغارات الإسرائيلية على وسط بي
...
-
غارة إسرائيلية -ضخمة- وسط بيروت، ووسائل إعلام تشير إلى أن ال
...
-
مصادر لبنانية: غارات إسرائيلية جديدة استهدفت وسط وجنوب بيروت
...
-
بالفيديو.. الغارة الإسرائيلية على البسطة الفوقا خلفت حفرة بع
...
-
مشاهد جديدة توثق الدمار الهائل الذي لحق بمنطقة البسطة الفوقا
...
-
كندا.. مظاهرات حاشدة تزامنا مع انعقاد الدروة الـ70 للجمعية ا
...
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
مصر.. ضبط شبكة دولية للاختراق الإلكتروني والاحتيال
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|