|
تأملات فلسفية 5
جميل حسين عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 5063 - 2016 / 2 / 2 - 23:32
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ومن هنا، فإن الأفكار تنشأ في الذات بطرق كثيرة، وعديدة، لكن اختيارها، وانتقاءها، مما يختلف الناس في إدراكه، وإظهاره، وهم في ذلك أصناف وأنواع وضروب شتى، يتأرجحون بين اليمين، واليسار. ولكل فلكه، وبحره، وغوره، ووسائل ارتشافه من كأس المعرفة، والحقيقة. وقد يكون ذلك مدعاة إلى القبول، أو الرفض، ومظنة للوصول إلى ما حدد في الغايات، والنهايات. ولكن بمقدار ما نتحرك في خضم دوائر الزمن التي نقطع مراحلها بين مدارات الحياة الباذخة بفخرها، ومجدها، فإن ما نستفيده في حالنا، يكون أعمق مما ظنناه معرفة حقيقة، وحسبنا أننا كنا في الدفاع عنها أقرب من الالتزام بواجب الضمير، والمسؤولية. وهذه الحركة، هي التي ترفع أقواما، وتضع آخرين، ويعتلي بها أفذاذ سماء المرتبة، وينتهي بها آخرون إلى أحط دركات الاعتبار، والاستهتار. إلا أن تجربة الأيام التي تطل علينا في كل صباح مفتوح على عوالم غامضة، ربما قد تسير في خط ما مضى، أو ربما قد تصادفنا فيها أشياء لم تخطر لنا على بال، ولم تمر على ديارٍ آنسها ما يأتيها من هبات القدر، سواء كانت خيرا، أو شرا. هكذا تنفتح العين لقوة الزمن، وضغطته، لكي يتحرك الفكر من دائرة إلى دائرة، لعله يصل إلى مرتبة ترتب سياق الوجود في حركية نظام كلي، يجمع كل حركة الإنسان في مركب جمعي. وهذه الحركة في الزمان، والمكان، والأشياء، والحقائق، والمعاني، وسواء أحسسنا بها، أو لم نحس بها، هي قائمة فينا، تنقلنا من حيز إلى حيز، ومن فضاء إلى فضاء، وتحولنا في عالم المعنى من فكر إلى فكر، وفي عالم المبنى من هدف إلى هدف. لكن ما فائدة هذه الحركة إذا لم نكن معها أحرارا.؟ شيء نحس به، وهو يسير ببطء، ويدير لعبة الحياة بمهارة فائقة، وينقش على لوحة الكون حروفا هامسة، إنه الزمن، لكن إحساسنا به، لا يستوجب قيمة، ما لم نكن واقفين على مفترق الطرق، فلا ندري إلى أين تشير أصابع التمثال الذي نصب على مدرجة الطريق، لكي يدل على ما خلده الأقوياء من حقيقة. فالإحساس بقصة الزمن التي نكتب تفاصيلها، هو الذي يمحنا همة تغير ذواتنا من طراوة إلى خشونة، ومن شباب إلى شيخوخة، وهو الأقوى، والمؤثر فينا، وهو الموجه لنا في استكشاف غوامض الذات، وتطلعها، واستشرافها، لأن الإنسان، حين صنع المرآة، وصقلها، لم يكن هدفه إلا محاربة هذا الإحساس الذي يتعب داخله، ويقلق حواسه. فما أن يرى تغيرا جريئا في صوره المنعكسة على صفاء ماء حياته، إلا وشعر بأنه ما زال غضا طريا، أو بأنه قد استحال خشنا، يبسا، وأدرك ما تعكسه المرآة من خصوصياتها عليه، وما توحي به إليه في صمت، وغموض، فيظن أنه قد امتلك قوة على مجاراتها، وهي في الحقيقة قد امتلكته، ما دامت هي العين التي يرى بها ذاته. وحينئذ يحس بوضع الزمن، وفعله، ويحس بالتحول، والتبدل، ويحس بأننا غِلال لمؤامرة اسمها الحياة التي يكتب عليها قلمنا سيرة الإنسان الضحية. هذه الحياة التي نفترض فيها نظاما قوي الصلة بسعادتها، وشقاوتها، لا يمكن لها أن تكون محل حب لنا في يوم من الأيام، ولا موقع أمل في فكرنا الهادر بالتناقضات الضارية، ولا يجوز لنا أن نصل إلى لحظة نتصالح فيها مع صراعاتها، لعلنا نلبس تلك الجبة التي اخترناها لحقائقنا. لأنها ومهما ظنناها في كثير من صبواتنا ملكا لنا، فهي تعاندنا، وتصارمنا، لا لكونها قادرة على إحداث تغيير فينا. وذلك أمر بدهي، ومسلم به. فأثر تغييرها قد صورته المرآة، ولون تعفيرها لوجوهنا بغبار السنين، قد وضحته الحقيقة التي لا نجادل فيها، ولا نماري، بل لكونها مرتبطة بعوامل أخرى، وأعظمها هو طول الزمن الذي ينقل الصبي إلى كهل، ثم يمر بخفقة عبر آلة الزمن إلى أرذل العمر، لكي يكون عبئه سببا في حتف حياته. فهل نتصور أولئك العجزة الذين تغتص بزفراتهم مجاهل البيوت المنكوبة، وهم يشعرون بأنهم قد انتعشوا بالمرآة في زمن مضى.؟ لو درينا بأن الحياة التي نحيى في سجنها، ليست شبيهة بحيوات أخرى، يمر زمنها في خفاء، لأيقنا بأن إحساسنا بالزمن في إدراكنا الواعي ضئيل، وهزيل، لأن الحياة التي نعشق بهجتها نسبية في هذا الجسد، فما يثير فرحها، هو ما يأتي بقرحها، وما يسرنا فيها، هو ما يجر حزننا، لأنها مرتبطة بقيد الزمن المتغير، والمتحرك. وكلُّ ما كانت الحركة سببا في وجوده، وعلة في بقائه، فلا بد أن يتغير أثره من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع. أشياء تتركب منها حقيقتنا، وطبيعتنا، وسواء أحببنا الحياة، أو كرهناها، أو أحسسنا بالزمن، أو لم نحس به، أو ظننا الوجود في المكان، أو لم نظن ذلك فيه، فنحن تتفاعل فينا هذه الحقائق، ولا مهرب نحتمي به من فعلها، وأثرها، ولا مهرع نفر إليه تخلصا من الامتثال لها بالخضوع، والرضوخ. فمقاومتها لا تفيدنا، ولا تنفعنا، إذ قاومها غيرنا منذ زمن سحيق، وعريق، ولمَّا أفلحوا، ونجحوا، بل كانت مقاومتهم علة لضياع جهد كبير في صراعات لا جدوى من ورائها، وسببا لإخفاق الإنسان في تحديد رغبات لا تحدد بحدوده، بل بحدودها. فلو زلنا عنها، لما بقيت خلاء ممن يملأ دروبها، وسككها، لأنها لن تنتهي بنهايتنا، ولا بزوالنا، بل ما وجد فيها من قوة دافعة بها إلى الغد المسترسل في الدوران، يمنعها من التأثر بنا، ويلجمنا عن التأثر بها. فهل سبب هزيمتنا فيها ناتج عن خطأ في التقدير.؟ أم هناك سبب آخر، لا نعيه.؟ إن الزمن كفيل بأن يعلمنا ما خفي بين غده من حقائق ملتبسة بالمجهول، لا نطيق أن نخترق حصنها إلا إذا مَنحنا إذنا بذلك. وأي عقل يحاول تجاوز الزمن في قدرته، وقوته، فقد تزندق في عالم الحقيقة، وتغول بين حياض الطبيعة. لأن العقل الذي يتحنت الإنسان في قدسه، ومهما كان كشَّافا لما هو مكتوب على صفحة الحياة من معان مبتذلة، ومغتصبة، فإنه لا يطيق أن ينقلنا من زمن حاضر إلى زمن قادم، من غير أن يكون ذلك الزمن الذي يغزونا بروائحه، هو الزمن عينه الذي نشمه. فما نحس به من قوانينه، وقوالبه، هو ماضيه، وحاضره، وأما غده، فقد نمتلك أفكارا عنه، ولكننا لا نمتلك حقيقة أقداره. هنا، كانت نصيحة العلماء لنا، ونحن شباب نخب بين التناقض بلا حرص على التبيين، والتمييز: إن الزمن معلِّم ماهر. أجل، كان جلوسنا على فراء الفقر وحصير الجوع دافعا إلى أن نحصل بعض العلوم الآلية، ونبز فيها أقراننا، ولداتنا، ونقفز ببعض الخطوات إلى رحاب المعرفة التي وثناها عن أخلافنا، لأن ظننا غالب في أن ما تعلمناه من معانيها، سيكون همزة تصلنا بواقعنا، وتربطنا بحلمنا، وتوشحنا بوشاح الفخر، وتاج المجد، وإذ ذاك سنتحرر من علة أوجاعنا، وحزن أورامنا. كانت هذه الفكرة بسيطة في طريقة بناء حقيقتها في الذوات التي بنت خبر غدها على رأي ضعيف، لأنها تصور المستقبل هادئا، وآمنا، وتظهر ما نلناه من صولة وقاية لنا من حضيض تدنينا إليه بعد أن صرنا ضحايا لحياة لا تأبه بمبادئنا، وقيمنا. لكن ما الذي حدث.؟ شيء لم يصهر مع الذات، ولم يخطر على البال، فما أقساه، هو الأمل الذي تبخر، وتلوث، فصار ألما، وكدرا، بل هو الملاك الذي عشقنا لمسته الحانية، فإذا به في إهابه وحش كاسر، وغول داعر. تلك هي الحقيقة التي غفلت عنها كثير ممن مسهم طائف اللحظة، فنالوا عز الحظوة، والتووا بين الديار بخبيئة المستكبرين، والمتجبرين، فلم تفر من أيدينا تلك الأشياء التي نحبها.؟ ولم يهجرنا من نود لقياه، وهو مشدود بشطن غيرنا.؟ لا أدري، لكنني أدركت أن الإنسان الذي أراه مستوجبا للصفة الكاملة، لا يصنعه إلا ما يكره من مجاهدات، ومكابدات. ولولا ذلك، لما نزف جرح الحكماء والأدباء على مر العصور، والدهور. فالنجيع الذي يشربه الإنسان من بؤس المطالع، ووجع المرابع، هو الذي يقذف به بين حمم الاستفهام، والسؤال، والقلق، وهو الذي يرسم له طريقا آخر غير التي صنعتها الأوهام السمينة، والثخينة. لكن أنى لنا أن نصل إلى هذه الحقيقة، إن لم نُحمل على آلة الزمن المحدودبة، ونحس بأننا قد تحولنا من مرحلة إلى مرحلة، ومن حقيقة إلى حقيقة. وإذ ذاك سيبدو لنا تافها كل ما نمد إليه أيدينا، مما رسمناه، أو خططناه، أو ودوناه على بياض قلوبنا، وسطوح عقولنا، وسيبرز لنا عالم آخر جديد علينا، لا نسمع فيه تلك الموسيقى التي تعودنا عليها في ماضي أعراسنا، ولا ذلك النوح الذي تندب به مثخنة القلب بالفقد، والثكل، بل غزتنا أصوات صاخبة، وضاجة، تصك آذاننا، وتفسد ذوقنا، وتزيل هدوءنا، وتطوي أحلامنا، وتغرقنا في عتمة سواد رتيب، وكئيب. هكذا نفكر في الحصة التي ورثنا جفاءها، وشقاءها، وهكذا بدأت تنشأ عندنا أوائل معرفة جديدة، تبتلع الماضي، وتتجشأ بزفيرها في الحاضر، وتمتد بحلمها الفضي إلى فضاء الطبيعة، لعلها أن تسيطر على مكمن الرزق، وتستحوذ على مربد العيش، وتساير الزمن في رحلته القصيرة. لكن ما الذي يجعل معرفتنا تنتقل من التبسيط إلى التعقيد.؟ لا أخال كثيرا ممن تعلموا بعض العلم الآلي، يدركون أن ما تعلموه بلا رؤية لما هو كائن، وقلق مما سيكون، لم يكن إلا حجابا عن حقيقة الأشياء التي لا تنال معانيها بكثرة المقروءات، والمزبورات، بل بمعايشة الحياة في أوجهها المتعبة، والمقلقة. لأن ما تعلمناه من دروس نظرية، ولو ورد علينا من موارد عدة، لم يكن إلا مرحلة لصياغة التصورات في الذهن، وبناء بعض المفاهيم كما رسمها عقلنا الفتي في حلل فاتنة، وخادعة. لكن ها هي الصور قد تركبت عندنا، والمفاهيم قد حددت، فهل تكونت معها قناعات تجعل لتلك الصور روحا سيارة بين أمداء الوجود.؟ هنا نخطئ كثيرا حين نثق بالمركبات البسيطة، لأنها نتيجة حتمية لما تبلغه العقول الراكدة، والساكنة، فهي تنفر من الغموض، ومن المخبوء، ثم تعود أدراجها إلى البدهيات، والمسائل الفطرية المغروسة في الإنسان، لأنها تثق بالمتشابهات، ولا تخوض في المتناقضات، لئلا تبحث عن أوجه الاتصال، والانفصال. ولهذا تكون المعارف البسيطة غير مستوجبة للمعرفة الدقيقة بالأشياء، لأنني قد أطيق أن أحمل كتابا كتب في تاريخ باريس، وأن أقرأه، فيدفعني ذلك إلى قراءة حاضر هذه المدينة، والبحث عن أزقتها، وشوارعها، ودورها، وحدائقها، وبساتينها، ودور عبادتها، ولهوها، ومجونها، وسهوها، وحضورها. كل ذلك يمكن لي أن أعرفه من المقروء الذي تحدث عن المدينة في تاريخها، وحضارتها، وفي أمسها، ويومها، وأن أرسم له صورة مجنحة بالخيال الخلاق، لكن لا يمكن لي أن أتصور بأن روح تلك الأماكن التي سافرت إليها الرغبة، تستقبل روحي، وتعانقها، وتصافحها، فأشعر بأنني حقيقة حين أتخيلها موجود في باريس، أشم عبقها اللاتيني، وأتذوق مياهها، وأتنسم عرفها، وأنتعش برياح خفيفة تنعش وجهي على ضفة البحر بهباتها الوديعة. فلو ركبت هذه الصورة من أجمل النعوت، والأوصاف، فهل هي حقيقة ما قرأت، أو سمعت.؟ وهل يمكن أن تكون الصورة هي عينها حين أراها.؟ وكيف حدث الخطأ والغلط في بناء الصورتين.؟ إن ما تركبه المعرفة البسيطة عندنا، لا يماثل الحقيقة في واقعنا، لأن ما تراكم من أبنية فينا، لا يتجاوز بناء التصديقات على تصورات ناقصة في إدراكنا. والأغرب أن ذلك قد حدث لي في أول مرة أزور مكة المكرمة، وأنا أحمل بيدي كتابا مؤلفا في مناسك الحج، لكي أتتبع خطواته فيما ما يجب علي أن أفعله، وفيما لا يجب، لئلا أقع في الخطأ، والغلط، وسوء الفهم، لأن المحل في الرأي الديني، لا يحتمل الخلل في أركانه الكلية، لكنني لم أشعر بأنني لم أعرف تلك الأماكن التي أبحث عنها بأسمائها، وأعيانها، وهي معروفة لي قبل السفر ذهنا، وخيالا، إلا بعد أن أيقنت بأن التصورات التي نبنيها لحقائق الأشياء، لا تعني مماثلة وجودها في الواقع الذي نجزم بمعرفته، ونحن لم نره، ولم نشاهده. ولذا لا يكون الإحساس بالشيء كاملا، إلا إذا اعتمد تصوره على الحواس المواجهة له، وإلا، فإن معرفتي بالأماكن، وتصوري لها، كان كافيا في إحداث تجاوب بيني وبينها. وذلك ما لم يحدث، بل دهشت، وذهلت، فلم أفق من غفوتي إلا حين دعس أحد الأفغانيين رجلي، فسقط الكتاب على وجه الأرض المبلط بالرخام، ولكن لم يسقط القلب عن الملكوت المجلل بالسلام، وإن بقيت العين مركزة على إبهام رجلي النازف بالدماء. كانت الدماء نذرا، وقربانا، وكان سقوط الكتاب دليلا على إخفاق علم الرسوم والنقوش في صناعة الحقيقة. هنا، تحولت المعرفة من طور إلى طور، لكي تلبس لباسا جديدا، وتكتسب صفات أخرى، لأن هدف المعرفة، هو تحويل ما نعيشه بلا وعي إلى مرتبة القانون الذي تتركب به المعاني في الأذهان، لكي يحس قارئ نظامه بكيفية بناء المعرفة عند الإنسان القلق الوجود. ما نتخليه عن الأشياء المختلفة، سواء كان مصدره ما نتعلمه، أو ما نسمعه، لا يمكن أن يفضي بنا إلى تلك الرؤية التي نستفيدها بالنظر الدقيق إلى الأشياء المكتنزة بالمعاني، ولو بدت لنا بسيطة في التركيب، لأن النظر يختلف من بصر حاد إلى بصر ضعيف، ومن فكر موجِّه إلى فكر موجَّه. وهكذا، فإن العودة إلى الماضي الذي ابتلعنا غضارته، ومرارته، تجعلنا نطيق أن نضع القدم على عتبات شتى، يمكن ذكر بعض فيما يلي: أولا: إذا كان الدافع إلى المعرفة هو استكشاف المجهول الغائب عنا، فإن العقل يستطيع أن يرسم ملامح الصورة التي نجهل عينها، لا طبيعتها، لأنه يمكن لنا أن نقيس على الشاهد الذي أحدثنا له معنى في الذهن. ولكن ذلك، لا يمنحنا معرفة كاملة بها، لأنها معنى مجرد عن الماهية الحقيقية لها. فهل الماهية هي الشيء ذاته في الواقع.؟ أم هي ما رسمه الذهن، لكي يكون دالا على الشيء.؟ فإذا كانت هي واقع الشيء كما هو، فإن تعريف الشيء بمحددات الذهن، لا يمكن له أن يكون هو الماهية حقيقة. ومن هنا اختلفت التعاريف باختلاف إدراك الأشياء، واختلفت المفاهيم باختلاف تصور الأذهان للمعاني. ثانيا: إذا ضاع منك جزء من مكوناتك الذاتية، ولأمر ما يضيع، وربما ضياعه ناتج عن خلل جيني، وراثي، أو عن خطأ من أخطاء العلم، أو عن زلل في التربية، والتنشئة الاجتماعية، فلا محالة، ستكون المعرفة ناقصة، ومحدودة، لا تستوفي كل المدارات التي يكتشفها العضو الكامل البنية في واقعه، لأن إحساس الأعضاء بما يقابلها في عالم الحقائق، أو بما يعكسها في مرآة الوجود، لا يتم إلا إذا كانت مكوناتنا كاملة، ومتآلفة، ومنسجمة، وقادرة على التوازن بين ما هو معنوي، وما هو مادي. إذ اللذة التي تحصل بالأشياء المختلفة في طرق وعيها، تقتضي أن يكون العضو المقابل لها موجودا في الإدراك المترتب عن الإحساس، لكي تكون المعرفة حقيقية، والآثار إيجابية. وإلا، فما قيمة وصف صورة الشيء بالخيال الجانح الألوان، إذا كان عينه معدوما بين حقائق الأعيان. ومن هنا، يجوز لنا أن نتساءل، هل الإنسان وجد كاملا في مرتبة، وناقصا في مراتب.؟ أم الإنسان له قدرة على التشكل وفق القوانين التي تحدد نظام الأشياء في صيرورة الأزل، فيطيق أن يحول النقص إلى قوة، والعلة إلى وقاء، والجوع إلى شبع.؟ وهل الإنسان وجد ناضجا في كل المراتب التي تربط فوقه بتحته، ولكن، لا يطبخه إلا الزمن الجبار.؟ أم أن العوامل المركبة لكُليته إذا كانت متجانسة في أداء دورها، كانت الوظيفة سوية، ومعتدلة.؟ أم أن الإنسان وجد على شكل لوحة بيضاء، وما يعيشه هو الذي يصنع حقيقته.؟ كل هذه الأسئلة يحق لها أن تطالبنا بالإجابة، لأن اختلاف تجارب الإنسان بين مد وجزر واقعه، تدفعنا إلى أن نبحث عن سر هذا التناظر والتقابل الحاصل من جهة، وهذا التناقض والتباين الحاصل من جهة أخرى. فالشيء هو عينه، ولكنه يحتمل مواقف عدة، فأحيانا يقوى، ويتكاثف، ويتعاضد، وأحيانا يتداعي، ويتهاوى، وينهار. فما الذي جعل هذه الآراء مختلفة في تحديد كمال الإنسان ونقصه.؟ لو خضنا في الأمر سنين أخرى، فلن سنصل إلا إلى فتات يمكن له أن يكون طعاما شهيا في فاقد العنوان الكبرى للمعنى، والحقيقة، والمعرفة، وربما قد لا يتجاوز ذلك ما وصل إليه غيرنا من نتائج، وإشارات، وإيحاءات. فالأشياء لها حقيقتها في الطبيعة، ونحن نحتاج إليها في ذاتها، واحتياجنا سبب في استمرار وجودها، ولكنها لا تحتاج إلينا في تكوينها، بل تضغط علينا بقوانينها، فلا نشهد منها إلا ما فتشنا عن حقيقته، وإن امتلكناه، وحزناه، وكان طيعا لأيدينا، ولم نحز سره، فهو عصي عنا، ما دمنا لم نتعرف على ما وضع له في المعنى العام للحقيقة الكُلية. ومن هنا، فإن السؤال، لم يطرح للإجابة عنه، ولم يكن الغاية من لغزه أن يوجد له حل، لأن انتظار الإجابة بين أروقة الفلسفة، كانتظار الماء من عنصر النار، بل الغاية منه أن نحس بأننا نبحث عن استواء المعاني مع الحقائق، لئلا نفقد سر التمازج بين الأشياء المختلفة في طبيعة الوجود. لأن ما يمكن أن يسمى مستويا في ظهوره، قد يماثله في ظرف آخر اسم مناقضٌ لكمونه، ومقابلٌ لما بدا عليه من أعراض غيرت طريقة فهمه، ووضعت له صفة أخرى، فصار هو الشيء الذي له عنوانان. فهل الشيء هو الذي تغير من حقيقة ذاتية إلى حقيقة عرضية.؟ لو تغير بناءه، واستحال بناء آخر، لكان لكل اسم منهما حقيقة مخالفة للأخرى، لكن الذي تغير فيه، هو وعي الإنسان بالشيء الذي يواجهه في ظروف متعددة، وطريقه إدراكه عند اختلاف الأسباب، والدوافع، والدواعي. وهل الأشياء هي التي تمنحنا الوعي بعقلها.؟ أم عقولنا هي التي تمنحنا قوة الوعي بها.؟ لو قلنا بأن القضية تحتمل إجابة واحدة، لما تعددت الأفكار، والأنظار. لكن قد قال قائل قبلنا: إن الأشياء تأخذ معناها من واقعها. وهل الواقع كُلٌّ مستقل.؟ أم هو جزء من صناعة الإنسان.؟ إنني أراني أميل في سياق تجربتي إلى أنه من صنعنا، فنحن من يمنحه صفاته، بل هو الحقيقة التي يجسد كل ما فينا من نبل، وخبث. وإذا قلنا بهذا، فإننا نعني جموده عن الفعل، والحركة. وذلك مما يتنافى مع كونه معنى قائما بذاته. وهو والمجتمع صنوان، لأن واقع الأشياء، هو حالها، ومحله. ومحله، هو المجتمع. ولذا، فإن الواقع قد يكون الشيء فيه سويا، لا لكونه سويا في ذاته، وإنما لما فيه من منفعة، ومصلحة، استحالت إلى حقيقة أوجد لها العقل تسويغا، وتطويعا، لئلا يقع في تناقض مع المبادئ التي سماها أمهات القيم. وهكذا، فإن الحقيقة هي ما نعيشه، وهو ما يمكن تعريفه، لا ما نوقن بجدوى كونه أخلاقا عالية. إذ كثيرا ما يحدث في عَقْد إيقاننا خلل التعارض مع ما هو سار، وحادث، فيجرنا ذلك إلى اعتبار ما نعيشه حقيقة لا محيد عنها. فالغش، والخداع، والنفاق، والمداهنة، وغيرها من رذائل الأفعال، لها واقع في مجتمعنا، ومناخ في طبيعتنا. ونحن بين خيارين: إما أن نقبل ذلك، وإما أن نرفضه. فإن قبلناه، فإننا قد أرضينا واقعنا، وأغضبنا صور أذهاننا المجسدة لحقيقة الأخلاق عندنا، وإن رفضناه، فإننا قد وَفيْنا لحق الأخلاق، وفقدنا واقعا يفرض علينا رذيلة التزلف، والتملق. وإذا فقدنا واقعنا الذي نحزن لهجره، وصدوده، عشنا لصالح مبادئنا التي تحدث في ذواتنا لذة، وانتشاء، ولكننا سنساق في رداءة وابتذال الواقع إلى الأوجاع، والأحزان، والجراح. وهنا، مكمن السر، إذ تنافي الواقع مع قيمنا، هو ما يدفعنا إلى القلق، والملل، والكآبة. وذلك ما يصرفنا عن تلك المعرفة التي جعلت الخلاص في قوالب معينة، ويُلزمنا بالبحث الدقيق عن لغز نفور الإنسان من قيمه، إذا كانت سببا في فقده للذاته، وشهواته، وهروبِه من كل ما لا يضمن وجها من أوجه الحياة التي يرغب فيها، ويجد من أجلها بكل إمكاناته، ووسائله. ولذا، نرى من يفسر الأخلاق بأنها من صنع الإنسان مصيبا في رأيه، ما دامت المصلحة، هي التي تحدد نوع الأخلاق التي يجب أن نلتزم بها في تحصيل الانتظام مع الواقع. لأننا، لو لم تفدنا هذه الأخلاق التي نعتبرها منحرفة، لصنعنا أخلاقا أخرى، تتماشى مع ما توجبه عليه حركة عجلة الاقتصاد في واقعنا. فلو فرضنا أن ما نعتبره خلقا سويا، يتنافى مع رغبتنا في التميز، والتفوق، فلا محالة، سنميل إلى مثل أخرى، لئلا نفقد نتائج دوافعنا الذاتية. وهذا ما يوحي إلينا بأن الواقع من صنع البشر، ويرغمنا على أن نقول: إن الطبع الإنساني جزء من التجربة الخاضعة للواقع، لأن التجربة، هي التي تصنع درجة الوعي في العقل، وهي التي تحدد طرق تفكيره في الأشياء المرتبطة به، أو بغيره. ومن هنا، يكون الإنسان صندوق أسرار، وهو ما يسميه فرنسيس بيكون بأوهام الكهف. وهذه الأسرار غامضة، ولو حاول أن يُظهرها واضحة، لأن ما اختلط فيه من معنى الفكر، والذات، والموضوع، هو ما يصيره كائنا مجهولا، وعالما كبيرا. ربما قد نطيق أن نفهمه في جوانبه التركيبية، وأن نخضعه للتجربة العلمية، لكننا لا نطيق أن نفقه كيف تتركب فيه التناقضات، وكيف يسوغها، وكيف يستحيل عنده كرم الأمس جشع اليوم، وكيف يتألم بلا داع، ولا علة. فهو في هذا صعب التحليل، لا لأننا نطيق أن ندرك تلك الإشارات الكامنة بين المثير، والاستجابة، بل لسرعة ذلك الوارد الذي يرد عليه، فيتغير مزاجه، ويعكر صفوه، ويزلزل أركانه، ويهدم قواعده. وربما قد يكون لهذا سبب واضح، وربما قد يكون لغير سبب كما قلنا، فيعسر علينا أن نعرف كيف تركبت عنده المشاعر الغاضبة، ويستعصي علينا أن نجاريه، ونسايره، لأنه سرعان ما يعود إلى حالته الطبعية لأمر تافه، ومضحك، وسخيف، لا قيمة له في الاعتبار. ومن هنا، فإننا إذا نظرنا إليه على أنه آلة عاقلة، فلا يحق لنا أن نتجه إليه بعين التحقير، أو التصغير، ولكننا إذا نظرنا إليه بأنه متأثر بما يحدث في واقعه من عوارض، ونواقص، فلا معدى عن النظر إليه بعين الاندهاش، والذهول. لأن عقله المكتنز لمخزون كبير من صور التجربة، يرفعه إلى ذروة التمييز بين الخير، والشر، وهما في الحقيقة نسبيان، لأنهما في مرتبة عقلية متقابلان، فوجود ذا مستلزم لذاك في نظام الطبيعة، وفي مرتبة أخرى، متنافران، لا يأتي الفعل من أحدهما إلا إذا زال الثاني، وذلك ما حارب من أجله كثير ممن قدسوا محل الحقيقة، لا قانونها الأبدي، وفي مرتبة أخرى اعتباران لا معنى لهما، لأنهما لا يدلان على حقيقة خالدة، وثابتة. لكن كيف يختلف رأي العقل والعاطفة فيه، وكلاهما من مكوناته.؟ إن أكبر معين على إدراكنا لحقيقته، سواء متعاليا بأخلاقه، أو متدنيا بأوضاعه، هو إدراك طبائعه، وأهدافه، وخططه، ووسائله التي يتوصل بها إلى الأشياء المرغوبة في واقعه، فقد يكون لسانه داعيا إلى الخير، ولكنه في طبعه ميال إلى الشر، فتكون دعوته سببا إلى ما يناله من نفع، ورفع. ومن هنا، لا بد أن ننظر إلى نتائج الفعل عنده، ثم نحكم عليها بالنبل، أو الخبث. فلو قسنا نتائجه بادعائه الذي ينافح عنه، ولو بالقتل، والإرهاب، فإننا سندرك أن كثيرا من الادعاءات التي يبهر بها غيره، تخفي من ورائها مكنونا مستجنا في طبعه، وعمقه، وهو كونه لا يرى السعادة فيما يقول، بل فيما يبحث عنه بوساطة الدعوة التي تلبس قناع الزهد، وهي مثخنة بجراح الشره، والجشع. وبناء على هذا، فإن الصورة الخارجية، لا تكمن فيها الحقيقة، ولو أغرت، وأطرت، وأحدثت الاندهاش، والانطباع الحسن، لكونها مرتبطة بسياق الواقع الذي لا يقبل الانضمام إليه إلا في حدود نظمه، وقوانينه. إن الحقائق، لا تنال معرفتها إلا في حدود سياقاتها، وروابطها، ونتائجها، لأن المعرفة التي تكبسنا قوة في الإدراك، وفي السلوك، ولو ظنناها آلة يمكن أن نفهم طريقة حركتها في الاعتبارات الواقعية، ليست فيما نتعلمه بين مخاضات واقعنا من دروس، ومحاضرات، أو فيما نقرأه في مجالات حياتنا من كتب، ومدونات، بل هي تلك الحركة الباطنية الموجبة للذة أو الألم في ملامستنا للأشياء الموجودة بين قوانين وتنظيمات حياتنا، وواقعنا. وهنا يكمن سر المعرفة التي اجتمعت فيها عوامل عدة. وكل معرفة نشأت من غير حضن الزمان والمكان اللذين لهما أثر على الإنسان، فلا قيمة لها في ديمومته واستمراره بين القوانين التي تخضع لعامل آخر غير معطيات الثقافة، والمعرفة، ولو تقاتل الناس من أجلها، وتحاربوا، وزال ثلثا الكون، وبقي الثلث مترنحا بالحياة الناعمة، لأن المعرفة المعتبرة في الأذهان الحكيمة، هي تلك الحقيقة التي ترافقك في حياتك، وتقطع مع شوطا بعد شوط، وترتحل معك، وتسافر، وتغضب، وتصرخ، وتبكي، وتفرح، وتمرح. فكل هذا هو حقيقتك، وإدراك ما بينها من روابط، هو المعرفة الحقيقية.
#جميل_حسين_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تأملات فلسفية 4
-
تأملات فلسفية 3
-
تأملات فلسفية 1
-
تأملات فلسفية 2
-
صيد الذكرى
-
رسائل إلى السماء الرسالة الثانية 2-2
-
رسائل إلى السماء الرسالة الثانية 1-2
-
رسائل إلى السماء الرسالة الأولى
-
عطر الصباح جنون الكتابة
-
عطر الصباح مقالات نافرة، وزافرة
-
عطر الصباح وقفة مع كتاب سر الصباح 1
-
عطر الصباح وقفة مع سيدي أحمد بن الحسن أبناو في كتابه: سر الص
...
-
عطر الصباح تعليق على قصيدة ميثاق كريم الركابي: كانت لنا قضية
...
-
عقيدة الكاتب
-
إزالة الالتباس عن مُشكَلات الإصلاح الديني 2
-
إزالة الالتباس عن مُشكَلات الإصلاح الديني 1
-
تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 8
-
تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 7
-
تجديد المسار... أي دور للمنبر 6
-
تجديد المسار... أي دور للمنبر.؟ 5
المزيد.....
-
لحظة لقاء أطول وأقصر سيدتين في العالم لأول مرة.. شاهد الفرق
...
-
بوتين يحذر من استهداف الدول التي تُستخدم أسلحتها ضد روسيا وي
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل جندي في معارك شمال قطاع غزة
-
هيّا نحتفل مع العالم بيوم التلفزيون، كيف تطوّرت -أم الشاشات-
...
-
نجاح غير مسبوق في التحول الرقمي.. بومي تُكرّم 5 شركاء مبدعين
...
-
أبرز ردود الفعل الدولية على مذكرتي التوقيف بحق نتنياهو وغالا
...
-
الفصل الخامس والسبعون - أمين
-
السفير الروسي في لندن: روسيا ستقيم رئاسة ترامب من خلال أفعال
...
-
رصد صواريخ -حزب الله- تحلق في أجواء نهاريا
-
مصر تعلن تمويل سد في الكونغو الديمقراطية وتتفق معها على مبدأ
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|