|
خطاب الأسد: سلوك إنتحاري وذرّ للرماد في العيون
صبحي حديدي
الحوار المتمدن-العدد: 1376 - 2005 / 11 / 12 - 11:55
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
لا نعرف مَن الذي خدع الأمين العام للجامعة العربية، عمرو موسى، فأطلق نبوءة ثقيلة حول خطاب الرئيس السوري بشار الأسد على مدرج جامعة دمشق ظهر أمس، وقال إنّ أمراً "في غاية الأهمية سيحصل غداً". ذلك لانّ الأهمية الوحيدة الفارقة في الخطاب المذكور كانت تذكير الشعب السوري بأنّ الأمور على حالها أو أسوأ في كلّ ما يخصّ مفردات وروحية ومنهجية خطاب الرئاسة من جهة أولى، ثمّ تذكيرهم من جهة ثانية ـ وتماماً كما قال الأسد نفسه ـ بأنّ الله وحده قد يكون حامي سورية من الأخطار الجسام التي تحدق بها، لا لسبب جوهري آخر يفوق ذاك الذي يشير إلى أنّ حكامها ليسوا البتة حماتها بل صنّاع الكوارث التي تصيبها، وقد لا يصحّ فيهم سجع مناسب آخر سوى: حاميها حراميها! من جانبي أرى أمراً بالغ الأهمية لا يقوله الخطاب مباشرة، ولا حتى مواربة أو تلميحاً، هو أنّ الكتلة العائلية الحاكمة التي تخوض معركة البقاء لم تتوصّل إلى تفاهمات في العمق حول أيّة صيغة ممكنة لتطبيق مبدأ الإنحناء أمام العاصفة القادمة، لكي لا نتحدّث عن تقديم تنازلات وأكباش فداء وأضحيات، بغية درء الزلزال. في عبارة أوضح، ولكي لا يبدو عمرو موسى وكأنه استُغفل تماماً، لعلّ الرجل سمع (ربما من الأسد نفسه) أنّ حجم مفهوم "التعاون السوري الكامل" مع المحقق الدولي ديتليف ميليس يمكن وسوف يشمل تسفير الضباط السوريين الستة المطلوبين إلى المونتيفردي ثمّ سجن رومية في لبنان. ولعلّ آخر جولات التفاوض داخل العائلة الحاكمة كانت قد انقطعت أو انهارت أو توصّلت إلى تقديرات أخرى حول نطاق الأضرار، الأمنية والسياسية الداخلية أوّلاً، التي يمكن أن تنجم عن تسفير أحد أبرز أفرادها: اللواء آصف شوكت، صهر الرئاسة ورئيس جهاز الإستخبارات العسكرية. وحين يرتجل الأسد، أو أيّ مرتجل أخر في الواقع، لا يكون للقاموس في الإرتجال ذات الدلالات التي يمكن أن ينقلها القاموس إياه في النصّ المكتوب مسبقاً، وإلا فكيف يمكن أن نقرأ هذه العبارة المدهشة التي جاءت في خطبة الرئاسة: "لن نذهب لقتل أنفسنا، سنعيش هنا ونموت هنا"؟ مَن الطرف الذي لا يزمع الذهاب لقتل نفسه: سورية البلد والشعب أو حتى الدولة بالمعنى التقني البيروقراطي للمصطلح، أم دائرة الحكم العائلية التي يضيق عليها الخناق أكثر من أيّ وقت مضى؟ وإذا لم تكن معركة الوجود أو العدم التي تخوضها العائلة اليوم هي الفحوى والخلاصة والمنتهى في هذه البلاغة الكاشفة، فبأيّ معنى يمكن حقاً الحديث عن ذهاب سورية لقتل نفسها؟ ثمّ، على المنوال ذاته في جدل الفارق بين الإرتجال والنصّ المعدّ، كيف لا نفهم المأزق كلّ المأزق في تراجع الأسد عن بلاغة جيّاشة في التبرئة والتأثيم، كان قد أطلقها قبل عهد قريب في حديثه مع الـ CNN، حين صنّف في باب الخيانة كلّ سوري يثبت تورّطه في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري؟ ألا يقول اليوم: "فهموا قولي أنه سيكون خائناً فهما خاطئاً"، وكأنه يوحي أنّ للخيانة كما عرضها في حديثه ذاك (ونطق المفردة بإنكليزية عاثرة، فصححتها له كريستيان أمانبور لكي تكون واثقة ممّا تسمع!) مستويات مختلفة في الفهم؟ هل كان كلّ متورّط خائناً قبل نشر تقرير ميليس، ثمّ بعد نشر التقرير وانكشاف التفاصيل بات لكلّ متورّط مرتبة في الخيانة خاصة به، مغايرة متغايرة؟ مرتبة أولى للواء آصف شوكت مثلاً، لعلها نسيج وحدها؟ ومرتبة ثانية للواء بهجت سليمان؟ وثالثة لأمثال العمداء رستم غزالة وجامع جامع وعبد الكريم عباس وظافر يوسف؟ وكيف لا ندرك، نحن السوريين بصفة خاصة، طبيعة الأخطار التي يمكن أن تجلبها هذه العائلة الحاكمة على بلدنا حين نسمع من الأسد تلميحات ـ في صيغة غمغمة تمزج وعد المقايضة بوعيد الإبتزاز ـ إلى احتمال نقل حريق سورية الداخلي إلى بلدان عربية أخرى، لبنان على رأسها كما للمرء أن يفهم دون كبير عناء؟ وإذا كان القليل من العناء أيضاً هو اللازم لفهم أسباب العنف اللفظي الذي لجأ إليه الأسد في حديثه عن بعض اللبنانيين (تجار دم، نكران الجميل، قلة الأخلاق...) فإنّ التلويح من جديد باحتمالات تكسير لبنان على رأس اللبنانيين ليس بضاعة مكرورة مستهلكة فحسب، بل هي تلحق الأذى الشديد بمشاعر الاخوّة التي جمعت وتجمع السوريين واللبنانيين. إنها أيضاً، غنيّ عن القول، تذكرة بروحية السلوك الإنتحاري التي تهيمن على أركان النظام منذ وقت غير قصير، والتي أسفرت وقد تسفر في كلّ يوم عن مغامرات طائشة، عاثرة بالضرورة وبالغة الضرر والخطر، هنا وهناك، في الداخل كما في الخارج. وإلى أية صفقة يلمح الأسد حين يقول: "قلت للأمريكيين إذا كان لديكم صفقات فتفضلوا واعرضوها علي وإن وافق الشعب سأوافق ولا توجد مشكلة"؟ يا للطهارة في صلة الحاكم بالمحكوم! هنالك، بادىء ذي بدء، ذرّ للكثير من الرماد في العيون حول احتمال أن تعرض واشنطن أيّ طراز من الصفقات على هذا "النظام الضعيف" في تعبير الرئيس الأمريكي جورج بوش، والذي بات أضعف وأضعف اليوم، ويتجه باضطراد إلى المزيد من الضعف كلّ يوم. وهنالك، تالياً، الكثير من الديماغوجية في حكاية عرض أية صفقة على الشعب، فإذا وافق الشعب عليها، فإنّ الحاكم الصالح سيبرمها باسم الشعب! والمرء، هنا، لا يملك سوى ضرب بكفّ بكفّ إذْ يتذكّر انعدام أيّ تاريخ للتشاور بين هذا الحكم والشعب، وإذْ يعجب من تلك الطمأنينة الخرافية التي تجعل هذا الحاكم يعرض الإحتكام إلى الشعب، وفي هذه الظروف الشاقة، وسط كلّ هذه الخطوب المحدقة! أليس واضحاً لكلّ ذي بصيرة أنّ التسامح الأمريكي العتيق إزاء «تجاوزات» سورية حافظ الأسد لم يعد يسير في المنحى ذاته بالنسبة إلى سورية بشار الأسد، أو بالأحرى سورية ما بعد غزو العراق وسقوط صدّام حسين كما ينبغي أن نقول؟ ألم يسارع بوش، بعد ساعات معدودات على سقوط مدينة تكريت، آخر معاقل صدّام، إلى تحذير النظام السوري من إيواء مسؤولين عراقيين سابقين، و... حيازة أسلحة كيميائية؟ ألم يصرّح بالحرف: "نعتقد أنّ في سورية أسلحة كيميائية، ونحن جادّون حول منع أسلحة الدمار الشامل. كلّ وضع يتطلب رداً مختلفاً... أمر يأتي بعد أمر... الآن نحن في العراق والأمر الثاني في ما يتعلّق بسورية هو أننا ننتظر تعاونها التامّ»؟ ألم تكنّ كلّ هذه السياسات تتراكم قبل اغتيال الحريري واعتماد القرارَين 1559 و1636 وانسحاب الجيش السوري من لبنان، فكيف بعد هذه الحوادث كلها، وبعد ما يهبّ من ريح صرصر؟ ثمّ مَن يظنّ الأسد أنه يخدع حين يقول إنّ "ما تواجهه سورية من تحديات سببه مواقفها الرافضة للمساومة على الاستقلال مقابل التبعيية"؟ ومَن الذي يصدّق البضاعة التالية التي سعى النظام إلى بيعها مراراً، وجاءت كذلك في خطبة الأسد يوم أمس: "لو أن سورية ساومت على المقاومة فى لبنان والإنتفاضة فى فلسطين وعلى استقلال العراق وعلى كرامة أمتنا لما كان لها مشاكل مع بعض القوى الدولية"؟ أو لو شاءت تجريد "حزب الله" اللبناني من سلاحه؟ أو أسقطت سياسة الحفاظ على عروبة العراق؟ مَن يصدّق والمؤشرات الكثيرة، الراهنة منها أو القديمة التي تعود إلى زيارة وزير الخارجية الأمريكي السابق كولن باول إلى دمشق في أعقاب غزو العراق، تقول إنّ النظام السوري لم يعرب عن الرغبة في التعاون الإيجابي التامّ في عشرات الملفات فحسب، بل هو أدهش السناتور توم لانتوس (كما يُقال أنها أصابت رئيس وزراء الدولة العبرية أرييل شارون بدهشة مماثلة) حول مدى استعداد النظام للتعاون. وكيف لا تنذرنا الريح بدنوّ العاصفة ونحن نشهد النظام ينتقل من تخبّط إلى تخبّط في معالجة المأزق الراهن مع تقرير ميليس، ضمن المأزق الأمّ الشامل والبنيوي الذي يعيشه منذ عقود؟ أليست الرابطة وثيقة تماماً بين عجز الأسد عن صياغة موقف واضح متماسك من القرار 1636 (ترحيل الضباط الستة إلى حيث يريد ميليس، أم محاكمتهم أمام القاضية غادة مراد؟ رفض التقرير لأنه "مسيّس"، أم التسليم بأنه مسيّس لأنّ الجريمة سياسية أوّلاً وجوهرياً؟ رفض الإنصياع لاشتراطات ميليس ضمن ما يسمّيه الأسد "المقاومة"، أم التحايل على الإنصياع عن طريق اتخاذ إجراءات مسرحية مثل تشكيل لجنة تحقيق سورية ـ سورية ومنع الضباط الستة من السفر...؟)، وعجزه الفاضح عن التطرّق إلى الوضع الداخلي من الزوايا التي يحلو لمَن تبقى من المراهنين على نظامه أن يطلقوا عليها صفة "الإصلاحات السياسية" و"الإنفتاح على الشعب" و"تمتين الجبهة الداخلية"؟ والحال أنه لولا الحياء لما أتى الأسد على ذكر الوضع الداخلي أساساً! فأيّة جبهة داخلية هذه سوف يجري تمتينها بقانون للأحزاب كسيح في الأصل، ويحذّرنا الأسد سلفاً أن إقراره "سيأخذ وقتا طويلا لحساسية هذا الموضوع"؟ وأية وحدة وطنية سوف يعزّزها مجرّد الوعد بردّ واحد من المظالم الكثيرة التي حاقت بالمواطنين الأكراد، هو تصحيح الإحصاء وردّ الجنسية إلى بعضهم... وليس إلى جميعهم؟ وما الفارق، حقاً، بين أيّ "إصلاح" سوف يعتمده النظام ذات يوم، إذا اعتمده، وبين "الإصلاح السياسي" الذي يقول الأسد إنّ أمريكا تريد فرضه على نظامه بهدف أن "تفلت البلد وتصبح بلا ضوابط كي يبتزوا البلد"؟ وإذا كان يرفض معارضاً لا يرتفع صوته من "البيت الداخلي" بل من "التوازي مع الخارج" كما يقول، فهل اجتمع أمثال رياض الترك ورياض سيف ومأمون الحمصي وعارف دليلة مع أيّ من مساعدي مستشار الأمن القومي الأمريكي حين اعتُقلوا في حملة وأد "ربيع دمشق"؟ أليس من الثابت الجليّ أنّ هموم المواطن السوري، وعلى رأسها حقوقه وحرّياته وكرامته، لا تندرج البتة على لائحة المطالب الأمريكية التي يتوجب أن ينفّذها النظام السوري إذا شاء العيش أكثر؟ وفي مناسبة الحديث عن الدولة العبرية، ألا يقرأ الأسد التقارير الصحفية الأمريكية والإسرائيلية التي تؤكد أنّ شارون غير موافق على إحداث تغيير ديمقراطي جوهري في سورية، لأنّ ذلك التغيير سوف يفتح ملفات الجولان وقد يشعل الحدود السورية ـ الإسرائيلية الهادئة المنضبطة الآمنة (على عكس الحدود السورية ـ العراقية!)، ولأنّ حال النظام هكذا بديعة مريحة ممتازة مناسبة ملائمة تماماً لمصالح إسرائيل؟ أليس "تعديل سلوك النظام" هو اقصى ما تريده تل أبيب، وأنّ واشنطن لا تختلف معها إلا في منطوق ذلك التعديل وتفاصيله اللوجستية وتحريك او تبديل بعض الشخوص هنا وهناك، على المسرح ذاته؟ اليس الشعب السوري هو الخاسر الأوّل في الحالين: إمعان النظام في السلوك الإنتحاري وإقدامه على مغامرات أخرى تجلب المزيد من الأخطار، أم خيار واشنطن في تعديل السلوك وتطبيق نظرية كوندوليزا رايس في "تغيير النظام من الداخل"؟ وهل، ثمّ متى، ستتحقق نبوءة عمرو موسى فتشهد سورية وقوع أمر "في غاية الأهمية"؟
#صبحي_حديدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ابتسامة التلمود
-
بعد القرار 1636: النظام السوري أمام خيارات صعبة
-
لويس فرقان والإسلام الأمريكي: قصة مدينتين
-
دوائر ميليس
-
الإخوان المسلمون و-إعلان دمشق-: الأساطير والحقائق
-
نوبل آداب... كردية؟
-
تغييب أو غياب غازي كنعان: مَن سيستأجر السفينة الغارقة؟
-
أيّ نزار قباني يسلسلون؟
-
برنارد لويس وتركيا الأوروبية: كأننا لم نحرّر فيينا من العثما
...
-
مفاجآت ال 100
-
استفتاء الجزائر: المصالحة الوطنية أم تبييض الجنرالات؟
-
فرد هاليداي والأشغال المتعددة لخبراء الشرق الأوسط
-
افتقاد إدوارد سعيد
-
أمريكا في القمم الكونية: تصنيع المزيد من الإرهاب في السفوح
-
لهيب ما قبل 11/9
-
فوكوياما عشية 11/9: ثمة ما يدعو للندم في كلّ شيء
-
التهريج الملحمي
-
خطاب الرئاسة السورية، حيث المفاضلة رَجْعٌ بعيد متماثل
-
محمود درويش والتفعيلة المنثورة
-
بات روبرتسون ومرآة تنظير اليمين الأمريكي المعاصر
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|