خرافة العنف الدموي العراقي في ضوء العلوم الحديثة .
الجزء السابع : العنف ومنهجية البحث التاريخي .
ولعل القارئ يتذكر إننا سجلنا في رصدنا للظاهرة موضوع البحث ما تمارسه من تأثيرات وتتركه من آثار على الإنسان موضوعها وضحيتها جيلاً بعد جيل، ولكن الفرق هائل بين منطق يحاول الدفاع عن الإنسان بوصفه ضحية لغزاة يمارسون العنف وبين من يخلط العنف نفسه بالضحية بالجلاد ليصل في خاتمة المطاف إلى أحكام معيارية تحط من كرامة الشعب العراقي. إن الكاتب ـ للأسف ـ يقوم هنا بمناورة تفتقر إلى الشرف العلمي حين يرفض أن يحذف العنف الذي مارسه الغزاة الأجانب على شعب متحضر وبلد غني وفير الخيرات كالعراق ويراكم تلك الأحداث على امتداد المئات من صفحات كتابه. إنه يصر على إدراج تلك الأحداث لا لكي يبرئ ما دعاه: الذات العراقية، عن طريق دراسة تأثيرات الظاهرة الخارجية عليها بل ليزيد من وقع الإدانة والإهانة.
وأخيراً فثمة سبب آخر لا بد وأن له دوراً رئيساً في كل هذا الإصرار على إيراد هذا الكم الهائل من أحداث العنف والحروب والثورات والغزوات وهو رغبة الكاتب في تسمين وتكثير صفحات كتابه (العتيد)، فلو أن الكاتب لم يصر على فعل ذلك، واعتبر أحداث الغزو الخارجي وما فعله الغزاة بشعب العراق ليس عنفاً دموياً عراقياً لضحى بأغلب صفحات وفصول الكتاب ولخرج علينا بكراس صغير وبعدد صفحات قصة (الزير سالم) أو (الفرسان الثلاثة)!
وقبل أن ننتقل لمناقشة بعض مضامين فصول الكتاب، وبما أن الكاتب اعتمد اعتماداً وحيداً على جمع المادة التاريخية شاهد إثبات وحيد لأحكامه القاطعة ومقرراته الباترة، وليس كمادة يفعل فيها الأسلوب البحثي التاريخي فعله، ليخرج ـ من ثم ـ بنظرية أو مبادئ نظرية قابلة للتعميم. وربما يظن البعض أن أسلوب الرصف ولي أعناق الحقائق له علاقة بالأسلوب التاريخي التقليدي أو التاريخي النقدي الذي نأخذ به، ولهذا سنلقي نظرة على هذا العلم لنرى أن كان ثمة ما يجمعه بمحاولة صاحب (تاريخ العنف الدموي في العراق) أم أن هذه المحاولة مجرد (هيصة) ذاتية ولا علمية لمتعالمين يستسهلون (فبركة) كتب تاريخية بعيدة كل البعد عن أسلوب بحث اسمه الأسلوب التاريخي. فما المقصود بهذا الأسلوب وما ركائزه الأساسية وما هي خطواته البحثية؟
إن موضوع ومادة الأسلوب التاريخي أو الأسلوب الوثائقي كما يسمى أحياناً هو التاريخ المنجز المتحقق، سواء كان يتعلق بماض بعيد جداً ولفترة قد تبتعد عنا بعشرات آلاف السنوات أو بعدة قرون أو عدة عقود من السنين. ويختلف هذا الأسلوب عن التأرخة فهذه الأخيرة لا تتعدى تسجيل الأحداث الحاصلة كما هي دون زيادة أو نقصان أو تحليل أو تفسير ومن هذا القبيل الموسوعات التاريخية العربية المشهورة كتاريخ الطبري واسمه الحقيقي (تاريخ الأمم والملوك) وكتاب (البداية والنهاية) لابن كثير و(مروج الذهب) للمسعودي.
وقد أثيرت تساؤلات وانتقادات واسعة لهذا الأسلوب ـ التاريخي ـ في سنواته الأولى وانتقص الكثيرون من قيمته العلمية لا بل عدّهُ البعض أسلوباً غير علمي لأسباب منها أنه لا يعتمد على التجربة بمفهومها العلمي وعدم اعتماد الباحث التاريخي على الملاحظة المباشرة بل على الملاحظة غير المباشرة كالآثار والسجلات وذاكرة الأشخاص، إضافة إلى أن هذا الباحث، كما يقول المنتقدون، لا يستطيع ـ مهما كان دقيقاً ـ كشف كل الأدلة المتعلقة بموضوعه التاريخي وربما أمكنه وحسب الوصول إلى نتائج جزئية. ولكن ورغم الصحة النسبية لاعتراضات والنقود السالفة فقد أثبت البحث التاريخي جدارته العلمية وتشجع الباحثون على الأخذ به واستقرت له أسسه العلمية وخطوات البحث الخاصة به والتي لا بد للباحث من التقيد بها بدقة عالية وهي على التوالي:
ـ الشعور بالمشكلة وتحديد إطارها.
ـ وضع الفرض أو مجموعة الفروض.
ـ جمع المعطيات والحيثيات والبيانات.
ـ الوصول إلى النتائج وصياغة التعميمات.
وبما أن البحث التاريخي يعتمد اعتماداً رئيساً على المادة التاريخية فقد أوليت هذه المادة الحية اهتماماً استثنائياً وتم التركيز على ثلاثة جوانب هي:
ـ مصادر المعلومات كالسجلات والآثار والوثائق وشهود العيان والدراسات السابقة والأعمال الأدبية والفنية المعاصرة للحادثة التاريخية موضوع البحث.. الخ.
ـ نقد مصادر المعلومات: وهنا ثمة نوعان من النقد وهما النقد الخارجي والنقد الداخلي.
أما بخصوص صياغة الفروض في البحث التاريخي، فإنها تتطلب مهارة خاصة وبراعة فائقة والسبب هو أن هذه المهمة ـ صياغة الفروض ـ تختلف عنها في جميع العلوم الأخرى لسبب غير موجود في تلك العلوم وهو أن الباحث هنا يدرس واقعة حدثت في الماضي ولهذا يحدث غالباً أن يطرح الباحث فرضاً أو مجموعة فروض ثم يقوم بتعديلها في ضوء ما تجمع لديه من معلومات. فأين كل هذا الكلام من (منهيجة) باقر ياسين والخائضين الآخرين في ميدان البحث التاريخي من أصحاب (الكشاكيل) السمينة ذات الورق الصقيل؟ أليس بإمكاننا بعد الانتهاء من قراءة هذا النوع من (المؤلفات) نعت هذه (المنهجية) بأنها (منهجية اللامنهجية) أو البحث (الخبط عشوائي)؟ وقبل الانتقال إلى مناقشة مضامين الفصل الأول نذكر القارئ بأن منهجيتنا تختلف كثيراً عن منهجية البحث التاريخي التقليدية والتي تطرقنا إليها قبل قليل، وإن كانت تستفيد منها إجرائياً ومتى كان ذلك ممكناً ومفيداً، فنحن نعتمد ما سميناه المنهجية الشاملة والقائمة على البحث التاريخي النقدي المادي والتي قد لا يرى القارئ منها في بحثنا هذا إلا الظلال والنتف والشذرات لسبب بسيط هو إننا في معرض عمل نقدي أساساً لعمل آخر ولسنا بصدد كتابة بحث تاريخي مستقل وخاص بموضوع أو ظاهرة معينة.
سلف القول إلى أن الكاتب خصص الفصل الأول من كتابه لدراسة أحداث العنف الدموي في وادي الرافدين بداية من فجر السلالات 3000 ق.م حتى الاحتلال الفارسي 539 ق.م. وهذا ما يشير إلى واحد من المطلقات التي لها قوة البداهة في ذهن الكاتب، وهي ليست إلا وهماً أو في المتواضع، مجموعة من الفروض الخام. إن هذا المطلق الذي يعلنه الباحث بلغة واثقة، يعني: أن العنف العراقي الدموي ليس ظاهرة تاريخية بل هو أشبه باللعنة التي أصابت هذا الشعب قبل خمسة آلاف سنة وحتى قبل أن تولد كلمة (أوروك) التي اشتق منها اسم العراق على رأي بعض الباحثين والعلماء الإركولوجيين فقد بدأ تاريخ هذا الشعب وهذه البلاد بالعنف والصراع فلماذا العجب وما وجه الغرابة في أن يكون اليوم كما كان قبل خمسين قرناً؟ ها هو يبدأ الفصل الأول من كتابه بهذه البديهية المطمئنة (ليس غريباً أن يبدو التاريخ العراقي أمامنا غارقاً بأحداث العنف الدموي عندما نكتشف أن بدايات هذا التاريخ تتحدث للبشرية منذ بدء الخليقة عن قصص الصراع المتواصل القائم على العنف التصادمي بين الإرادات المتناقضة للآلهة المتعددة الأسماء التي عبدتها وخضعت لها الأقوام والحضارات التي قامت في وادي الرافدين منذ الألف الرابع قبل الميلاد [ثمة زيادة هنا بألف سنة يبدو أن المؤلف نسيها أو إنها لا تعني له شيئاً ذا قيمة أو مغزى لأن مجموع أربعة آلاف سنة ق.م. وألفي سنة بعد الميلاد يساوي ستة آلاف وليست خمسة آلاف كما يكرر الكاتب!] تلك القصص التي أبدعتها وصاغتها التجربة الأولى للعقل البشري والمتمثلة بالأساطير الملحمية لشعوب سومر وبابل وآشور. ص29).
إن الكاتب المأخوذ تماماً بمطلقاته الخارقة حول تلك اللعنة وشبكة المرادفات المحيطة بها عن العراق والعراقيين بمفردات صادمة بل وعنصرية شكلاً ومضموناً رغم أنه ينتمي لهذا الشعب لا يقيم أدنى اعتبار للعقل والمحاورة أو المحاكمة العقلانية. وقد يكون الأمل قد خامر القارئ بأنه ـ الكاتب ـ ربما سيخفف من غلوائه واحتدامه لغة ومضامين، على اعتبار أن ظاهرة العنف وكأية ظاهرة تاريخية تخضع لشروطها الداخلية الخاصة وللظروف البيئية المحيطة بها، ربما تكون في بداياتها وقبل خمسة آلاف سنة أخف وطأة وأقل شدة نوعية مما ستكون عليه حالها بعد خمسين قرناً ولكن هيهات! إن الكاتب سيحبط هذا الأمل وسيحاول، ومن دون إعلان رسمي طبعاً، أن يثبت لنا أن السمكة كما يقال متعفنة من رأسها! وأن ظاهرة العنف الدموي العراقي وطباع الغدر والتقلب.. الخ قد ولدت وقبل خمسة آلاف سنة مكتملة، ناضجة، ومنظمة، شأنها في ذلك شأن أي مطلق خارق غير قابل للمحايثة والحوار النقدي والاستيعاب العقلي.
وللحديث صلة في الجزء القادم وسيكون الثامن .