هيثم حسين
الحوار المتمدن-العدد: 1375 - 2005 / 11 / 11 - 10:57
المحور:
القضية الكردية
ها قد مرّت أربعةُ عقود ونصف على كارثة عامودا , ولا يزال الحديث عنها وكأنّها قد فُجعت بالأمس , وسيبقى الحديث عنها متواصلاً ما بقيت عامودا , وما يبقى أبناؤها المكتوون بنيرانها داخلاً وخارجاً , حيث كانت المأساة أولى المآسي في النصف الثاني من القرن المنصرم بالنسبة للمنطقة كلّها , و بخاصّة الكرد , في سيل التسبّب .. أو التدبير .. أو التخطيط .
و أجزم لن تكون آخرها , وإن اختلفت الطرق والوسائل المستخدَمة في ذلك , أو بغية تطبيق المفكَّر فيه , والمخطَّط له , والمدبَّر لتأصيله ممّا لا يؤصّل .. ولن يؤصَّل .
وهذا حسب النبوءات الشعبيّة التي تتنبّأ بنهاية لعامودا قائلة :
إنّ نهاية عامودا إمّا حريق أو غريق .
وهذه النبوءة إن لم تكن فلتةَ لسانٍ أو تكلُّفَ سجعٍ فإنّها تستند إلى الماضي وتتّكئ على المقدَّمات لتستشرف المستقبل .
لا يكاد يمرّ يوم على أيّ بيتٍ من بيوت العاموديّين إلاّ ويدور الحديث فيه عن الكارثة المتجذِّرة فينا , ولا أراني أبالغ إذا قلت بأنّ الحديث إن لم يُتداوَل صراحةً في بيتٍ ما لانشغالٍ أو نسيانٍ مؤقَّتٍ عارضٍ أو رغبةٍ في اختلاسِ لحظاتِ فرحٍ متّشحٍ بالحزن المداوم , فإنّ الأسى يتعاظم ضمناً ويجتاح الحواس كلّها .
ولا يفرَّق بين الأمسِ واليومِ في عمق المأساة وبعدِ أغوارها في النفسِ ؛ نفسِ المفجوع ببنيه أو أبيه أو أخيه أو أخته أو قريبه من عمٍّ أو ابن عمٍّ أو خالٍ أو ابن خالٍ ...الخ .
فلن تعثر على بيتٍ لم يُفجع بشهيدٍ فقيدٍ لن يعوِّضه من يأتي بعده , وإن يسمَّى باسمه فما كلّ سميٍّ يبلغ عظمة سميّه , ويبقى لكلِّ إنسان تفرُّده من مختلف النواحي .
فكان الحزن طاغياً وأعلن الوجومُ منذ تاريخه انضمامه إلى عائلة الطغيان المتسلِّطة من فقرٍ,و إفقارٍ, وتجويع , و تبطيلٍ للطاقات ,أو هدرٍ لها, وتعطيل للعقول و الإمكانات, وتمييع للفضائل ...
وهذا الوجومُ المتعاظم الأثر في دواخلنا فرضناه على أنفسنا , و ارتضيناه لنا وعلينا مع ما فرض رغماً عنّا ممّا لا يروقنا ولم نُستشَر حين فرضه .
كبرت المأساة وتكبر مع كلّ طفلٍ منّا , في كلّ سفرٍ أو غربةٍ أو تغريبٍ يدور الحديث ويكبر عن الكارثة , لنقول أو نتقوّل , لننسب أو ننتسب إلى الشهداء , لنكبِّر و نعظِّم , كي نكبُرَ أو نعظَّم , وكأنّ الانتساب إلى العظماء المقدَّسين الشهداء يمنح المنتسَب عظمةَ عظمتهم وقداستهم و قدسيّة شهادتهم نفسها .
وأنّى ذاك ..؟!!!
وأكثر ما يُلاحَظ عمق المأساة و تجذّرها , عند الإصغاء إلى تلك النصائح والوصايا المتلاحقة المتواترة المتكرِّرة نفسها و المبالِغة من الأهل , المحذِّرة من دخول السينمات أينما سافرنا أو حللنا , في دراستنا , أو خدمتنا , أو سياحتنا , أو تعلُّمنا , أو ترفنا ...
ويكون الخوف أعظم عندما كان يُفرض على الطلاّب أو يُدفَعون إلى شراء بطاقات دخول السينما , كمشاركةٍ من الطلاّب في دعم الانتفاضة أو المشاريع الخيريّة , وبخاصّة تلك الأفلام التي عرضت في سينما عامودا الشتويّة , وحضرها طلاّب المدارس كلّها . هذا الكلام في التسعينات من القرن الماضي .
وبعد أن كنّا ندفع ثمن البطاقات تلك , كان الأهل يحاولون إجبارنا على المكوث في البيت وعدم حضور الفلم , خوف تكرُّر المأساة التي يُخشى حتّى من مجرّد احتمال تصوّر وقوعها أو وقْعها الكارثيّ المميت المذيب للأجساد التي كانت و تكون متأمِّلةً رغدَ عيشٍ أو مستقبلاً يخلّصهم من نير الماضي والحاضر , وأيضاً لأرواح من سيعيشون بعدهم , مع الاختلاف على كيفيّة العيش وهل حقّاً تعيش الثكلى بعد قلب روحها و قلب قلبها.
وكان الطلاّب جميعهم ينعتون أهلهم بالتخلُّف عن مواكبة ( التطوّر ) وبأنّ الدنيا تغيّرت والظروف تبدّلت و ما فات مات , ويستحيل أن يتكرّر ما حدث .
وهيهات لكارثة كالتي حلّت أن تنسى أو تفوت أو تموت بالتقادم , بل الملاحَظ تثوُّرها جيلاً بعد جيلٍ ورغبةُ الأجيالِ الآتيةِ العارمةُ بتثويرها , و التعرُّف على حقيقة ما جرى , والبحث في أسبابه المعروفة النتائج , و كارثيّة و فداحة تلك النتائج على المدينة التي لا تستحقُّ كلّ هذا العذاب غير المستعذَب لها.
كما أؤكّد انطلاقاً من تجربةٍ ذاتيّة ومن تجارب مشابهة من عيّنات مختلفة من أبناء عامودا المسافرين منها أو المغتربين عنها أو العائدين إليها بعد طول سفرٍ أو اغترابٍ , وحتّى الذين لم يخرجوا منها أيضاً أنّ الجميع دون استثناءٍ , يجمعون على أنّ مجمل القول غير المتّفق عليه قبلاً هو توارُثُ الخوف من استحضار ما لا ينسى ولا يغيب عن البال , وكذلك الخشية التي تلازم الجميع عند دخولهم أيّ دار سينما سواء هنا أو هناك أو هنالك , وهذه الخشية المبرَّرة عاموديّاً وتاريخيّاً حرائقيّاً لأبناء عامودا متوارثة , ولا يمكن استئصالها مهما ادّعى أحدنا عزماً أو عزيمة أو مكابرة أو حتّى تكبّراً أو ترفّعاً عن الاعتراف بصدق ما يعتلج صدورنا ويتآكلنا من أن نكون منبع أسىً جديدٍ متجدِّدٍ لذوينا الذين لمّا يُشفَوا من حزنهم المزمن على ذويهم .
وإن أنا خصّصت أكثر وقلت عن نفسي أو تكلّمت بعض ما يلازمني , فمثلاً :
عند دخولي لأيّ دار سينما أينما كانت تلك أو مهما كانت غايتي , سواء أكانت تمضية وقتٍ أو إضاعة وقتٍ في انتظار موعد رحلة باص أو انتهاء / إنهاء مدّة مأذونيّة أو رغبة في مشاركة جماعيّة دراسيّة أو طلاّبيّة للاستماع و الاستمتاع فلا يلفت نظري ولا يأسر مداركي أيّ شيء ممّا يلفت نظر الغير( والغير هنا هم غير العاموديّين أو غير المعانين , كيفما كانت تلك المعاناة ) من جمال الصالة أو التكاليف التي أُنفقت عليها , أو سعتها , أو تواضعها , أو قصّة الفلم المعروض , أو أبطال الفلم , أو مخرجه , أو كاتبه , أو القضية التي يعالجها , ولا طبيعة القائمين عليها , إنّما ما كان يقيّدني ويوقّّف تفكيري و يوقفني مكاني مجمّداً متجوّلاً جائلاً بحواسّي كلّها في المكان باحثاً عن الأبواب الرئيسة والفرعية ومنافذ الخروج , ومهتمّاً بتقدير ارتفاع هذه الدار , وعدد الطوابق وتقدير ما سينتج من ضررٍ أو عطبٍ إن أنا ألقيت بنفسي في حالة طارئة حارقة من هذا الارتفاع , وطرق الإغاثة والإنجاد .
وبينما أنهمك بما أسلفت أضيع في متاهةٍ من الوساوس , فأقرّر الجلوس في أقرب مقعدٍ إلى الباب مع تأمين خطّ النجاة في الحالة المتخوَّف منها .
كما أنّ الذي يهدّدني في السينمات الشعبيّة كثرة التدخين , إذ أنشغل عن كلّ شيء بمراقبة أعقاب السجائر التي قد تتسبّب في ما لا يقدَّر من مآسي , و متابعة مكان إلقائها والمسارعة إلى التودّد إلى المدخّنين القريبين منّي برجاء التأكّد من إطفاء سجائرهم بعد حرقها.
غيري / غيرنا , يتابع أفلامه بأريحيّةٍ وفرحٍ وسعادةٍ أمّا نحن ننشغل بخوفنا وحالتنا المتوارثة , و بعقدتنا السينمائيّة الناريّة عن كلّ ما حولنا .
فهل نقول عن أنفسنا بأنّنا مرضىً سينمائيّون ...؟!
أو هل نقول عن أنفسنا بأنّنا موسوَسون ...؟!!
أم هل نقول بأنّنا معقّدون ...؟!!!
فلنقل ما شئنا وليقل عنّا من يشاء ما يشاء , لأنّنا موقنون بأنّا محقّون في ما نأتيه .
ولقد تفشّت عقدتنا الناريّة , واستبدّت بنا , سواء عن قصدٍ أو غير قصدٍ في كلامنا و تعاملنا , أو في معرض الإشارة إلى أحدهم للنيل منه , أو من باب التهديد والوعيد , فنقول:
سنحرقه , أو نحرقهم .
أو في حال كان المهدَّد مخاطَباً :
سأحرقك , أو أحرقكم .
فكثيرٌ من العتبِ مع ما يضاعفها من القبلِ لمدينةٍ تمتهن عشقَ النار سبيلاً للعتقِ منه , وأورثت هذا العشق بنيها , لمدينةٍ تتّخذ الحرائقَ عنواناً , وأيّ عنوان ...!
#هيثم_حسين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟