|
جواد سليم في ذكراه
عادل كامل
الحوار المتمدن-العدد: 5049 - 2016 / 1 / 19 - 08:46
المحور:
الادب والفن
جواد سليم ـ في ذكراه (1961 ـ 2016)
عادل كامل
مع إن فلسفة: دع البضائع طليقة ـ حرة، في إطار البرمجة المبكرة لمفهوم: التراكم/ الرأسمال، تتمتع باليات دينامية، عبر الحركة، العبور، والمحو...، إلا انه، لأسباب تخصه، ومنها (المراوغة)، يحفر علامات تلخص ما فيها من (ميتافيزيقا)، كما أشار ماركس. ذلك لأن العلامة ـ ذاتها ـ تتضمن لغزها، ليس لأنها سلعة، كعلاقات شكلية ورمزية وجمالية، بل لأنها تعمل على نفي ثباتها، حيث التداول ـ الاستهلاك ـ يجد مصيرا ً مغايرا ً للاندثار، كاشتغال أسطورة (العنقاء)، وكقتل ديموزي أو صلب المسيح، أكثر قدرة على مقاومة الغياب. جواد سليم، عبر سيرته، وفي نصب الحرية تحديدا ً، علامة: فبعد قرون طويلة من العقم، لم يعش العراق ـ ومعه البلاد العربية ـ داخل التاريخ. فإذا كان (العمل) هو كل ما يخص مفهوم التاريخ، فان حقبة السبات كادت تمحو حتى ما كان أنجز في الحضارات المبكرة، في وادي النيل، أو في وادي الرافدين. هكذا ستصبح العلامة محمّلة بملغزاتها (ماضيها ومصيرها)، كي تبحث عمن يستحدثها، وليس عمن يكتشفها، أو يستخرجها من مدفنها، ففي الاستحداث يسمح قانون الإبداع الافتراضي/ أو الحقيقي، بمنح الغواية (جذر الخطيئة) شرعية الوجود! فالعلامة بحد ذاتها تمتلك هذا اللغز: العمل بما يمتلك من دينامية، وحياة إزاء المجهول. فاستذكار جواد سليم (1961 ـ 2016) أي بعد 55 عاما ً من رحيله، لا يذكرنا بان نصب الحرية هو من الماضي، بل ليعيد استحداث الدوافع ذاتها التي أنتجت النصب: مقاومة التلاشي ـ والمحو.. وقد نجد هذا، كما في تجارب جواد الأخرى، ولكننا لا نجدها، كما في نصب الحرية الذي استمد نظامه من الضمير الجمعي، الذي منح (جواد) قوة عمل الأسطورة. وقد يكون باستطاعة عالم النفس العثور على تأويل لموت جواد سليم (الجسدي)، ليس بسبب عجز في القلب، بل لأن جواد سليم قال كل ما كان على البذرة أن تفعله: الدفن، بانتظار المغادرة. وهي إشارة وثقها تلميذه وزميله د. خالد القصاب، حيث سأله جواد، وهو على فراش الموت: هل باشروا بإقامة النصب، فأجابه: نعم، فقال جواد سليم: سأموت مطمئنا ً! إن هذا اللاوعي، مثال نادر للذات التي تحررت من قيودها، وأسست معمار الحلم الجمعي. لكن هذا النسق لن يدمر (الأنا)، أو يسلبها كينونتها، بل يمنحها قدرات تجعل منها قدوة لشرطها الإنساني. إن إعادة قراءة دماغ جواد سليم، تعني الإجابة على سؤال: لماذا تعطل العقل الإبداعي طوال قرون....، ولم يعد لهذا العقل، إلا القبول بتكرار آليات المخلوقات اللا تاريخية...؛ حيث تراجع العمل، ومعه الفكر، إلى القاع؟ ولأن نصب الحرية عبر من ألشفاهي إلى التدوين، فانه غدا مشروعا ً للقراءة. فقد استبدل الفنان موضوعات الخمول، السبات، الاحتضار ..الخ، بموضوعات: اليقظة، ومنح الذاكرة دينامية المخيال، لأنه استمد عناصر نصبه من القانون البكر: الزراعة، والانتقال من البرية إلى القرية، المدينة، والمضي في رؤية ما يتم استحداثه، واختراعه، وليس تأمله. فالتنمية ليست مجموعة أصوات، وخطابات، ووعود: إنها منجزات تحرث ـ تستحدث ـ وتغادر مدفنها/ظلماتها، نحو: بناء مصيرها. وليس مصادفة أن نجد الملايين تقف عند نصب الحرية، أمامه، ومن حوله، وهي تطالب بحقوقها، اليوم، ليس لاستنطاق نصب الحرية، أو استنطاق جواد سليم، بل لأن الأحلام التي دفنت في النصب، وفي مبدعه، هي أحلام هذه الملايين. وإذا كانت (الميتافيزيقا) وحدها لا تدرك بالكلمات، فان أحدا ً لا يمتلك إلا أن يرى كيف تنبثق منها الإشعاعات الكفيلة بتأويل قانون: الدفن ـ الولادة. وإذا كانت السلعة ـ في عصر حرية السوق وما أفضى إليه من عشوائيات وهدم وخراب ـ فإنها لن ترضخ، في الأخير، إلا لتوازنات تضع حدا ً لغلوها، وتطرفها، فالسلعة، بعد أن أصبحت فنا ً، فإنها راحت تستبدل الوهم بالمنجز، إن كان رمزا ً أو مجموعة من المشفرات، فان جواد سليم انحاز لبناء علامة تتجمع فيها مكوناتها، ومخفياتها، لكنها تبقى تعمل عمل البذرة، لا تموت، مادامت وجدت فضاء ً للتحرر، ومادامت وجدت من نذر مصيره لها. وإشارة الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا:" لن يتكرر جواد سليم..."، لا تعني لا نحت بعد جواد سليم، بل إنها توضح إن النصب الذي أنجزه سليم، لم يكن ثمة نحات آخر باستطاعته أن يمنح فن النحت (القديم) الدور ذاته لاستنطاق المخبأ والمخفي في الضمير الجمعي لحضارة لا وجود لها إلا عبر المخيال الشعبي، وأسيرة جدران المتاحف، أو قابعة في الكتب. فالأسطورة ـ الحرية ـ التي شغلت الفنان، هي بمثابة تعويض الحاضر، ولكن ليس بالعودة إلى الماضي، بل برؤية قائمة على ذات المرتكزات التي قامت عليها الحضارات: ـ العمل... الزراعة/ الصناعة/ الفكر. ـ الأرض....الأمومة/المرأة/ الأمل. ـ الحرية إزاء عصور الظلمات/ القيود/ والعبودية. ولأن (بدائية) جواد سليم، لم تستثمر الغواية/ الخداع أو الغش أو التمويه، إلا بحدود الصدق الفني، فان أسلوبه راح يتمثل ضحاياه، بخطاب ـ أكثر منه لغة ـ يحرر البذرة من سباتها. فالصوت الجمعي ـ في نصب الحرية ـ سرعان ما وجد جسوره متجاوزا ً الأجزاء، نحو الكل. وهذه خلاصة نفذها في تصاميم: شعار الجمهورية/ العلم العراقي/ المواصلات ..الخ، التي استمد رموزها من الضمير الجمعي بما يمتلكه من نزعة دينامية نحو الانبثاق/ والتجدد. لهذا وجد المتلقي ـ المختلف والمتنوع ـ ذاته في الشعار ـ اللا فتية ـ النصب ألجداري.. لأن جواد سليم أعاد قراءة اللاشعور، وسمح له أن يكون مرئيا ً ـ ليس للتداول في الحاضر ـ بل لمنح (علامته) لغزها الطليق: الحرية. فالأخيرة هي خلاصة روح لخصت حقب ذاق العراق ـ منذ أوروك وأور وبابل وأشور وبغداد العباسية ـ نكبات الحروب، والفيضانات، والغزو، والخراب...الخ، لتمثل أداة عمل، وليس صوتا ً يتلاشى في الهواء. انه دوّن الحرية، الأمل، مثلما هو عمل (البذرة)، وفق منطق الإرادة، وليس وفق القدر.
نصب الحرية ملحمة شعب وذاكرة حضارة
[1] النصب ـ العلامة لم تكن أهداف غزو التتار لبغداد (1258)، هي إسقاط السلطة السياسة للخلافة العباسية، حسب، بل محو علاماتها، وما أنتجته في مجال الحضارة. وربما لم ينبهر (هولاكو)، وهو يقترب من بغداد، إلا بمنائرها، وببساتينها، وببقايا قصورها، وبأسوارها المتهالكة، غير الصالحة حتى لحمايتها من الضواري، ولكن، بعد تهديم العاصمة، ودك معالمها، وفي مقدمتها العمرانية، والثقافية، كاد يعزلها عن الزمن، وعن العالم. فقد استطاع الغازي ان يجمد لغز تكوّنها، ولكنه لم يستطع ان يمحوها من الوجود. كانت علامات بغداد الحضارية هي امتداد للنسق ذاته الذي تأسست عليه حضارات وادي الرافدين: سومر، أكد، آشور، بابل، الحضر ..الخ، فلا علامة من غير مركز، بمعنى من غير سلطة. فثمة اقتران جدلي/ بنيوي، بينهما، لا يوجد إلا بوجود الآخر، ولا يغيب إلا بغيابه. وعندما كلفت لجنة نصب 14 تموز، الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، عام 1961، التعريف بالنصب، وجد انه يتحدث عن علامة اقترنت بتحول بدأ بالسلطة السياسية ليمتد أثره في مجالات الحياة كافة؛ علامة لم يكن لها ان تتكون خلال غياب بغداد ـ حاضرة الأمس ـ إلا بما سيشكل حدا ً فاصلا ً بين مدينة غابت عنها الحضارة، ومدينة وجدت انها في مواجهة عالم تكونه الحداثات، فالنصب ليس محض (لافتة) تخص الحدث السياسي بالتحول من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري، كما ذكر المهندس المعماري رفعة الجادرجي، مصمم النصب، وإنما لأن العلامة تضمنت محركاتها الكامنة وهي تستحدث وجودها في الحاضر، على صعيد مفهوم البناء، والخطاب الفني الحديث. فإذا كانت بغداد قد عاشت أزمنة تراكمت فيها العلامات، وتكدست، حد الاختفاء، والاندثار، حتى كادت تفقد هويتها، أو ان تكون من غير علامة، فان تجددها اقترن بنسق يسمح للحريات الكامنة، والمدفونة، ان تأخذ مداها في الحضور، وان تمتد ـ تلك المخفيات ـ لتأخذ مكانتها بين العلامات المعاصرة. كانت إشارة جبرا إبراهيم جبرا، استذكارا ًلمفهوم انبثاق (النص) بنسق اشترط عوامله الموضوعية، والذاتية، كي يمتلك دينامية تتجاوز مفهوم (التعبير) و (الانعكاس) و (الإعلان)، نحو مفهوم الخطاب الفني، وعناصره الفنية، البنائية، الرمزية، والجمالية. فالمخيال المجّمد للمدينة، سمح للذاكرة ان تتكون بنظام تأسس مع نشوء المدن في حضارة وادي الرافدين الأولى: المسمار؛ علامة الكتابة، والعدد، وتمثلها بموت البذرة، وخروج ديموزي من العالم السفلي. فالنسق الأسطوري لم يكن مظهرا ً خارجيا ً للتحولات حسب، بل كان جذرا ً له، ومحركا ً، حيث الولادة لا تمتلك دفقها إلا بعد اجتياز دورة الكمون. فمنذ سومر حتى الفتح الإسلامي للعراق، كان ديالكتيك الغياب ـ الحضور، يمنح تصادم القوى القانون الذي جعل من الفن علامة للتقدم، وليس للارتداد. فالعلامة لا يمكن عزلها عن مخفياتها، كي تبدو بنية غريبة وافدة أو هابطة من كوكب آخر، وإنما هي ستتحول إلى محرك مضاف عبر هذا الاشتباك، ذلك لأن الحديث عن موت الفن ـ وفي عصر جواد سليم كان رولان بارت قد تحدث، بعد قرن من إشارة هيغل إلى الموضوع ذاته، بموت المؤلف/ الفنان، كي يولد المتلقي مقترنا ً بالنص ـ وما يمتلكه من باثات تتجاوز الحدث، باحتوائه له، وكانبثاق للغياب بصفته حضورا ً. ولعل سؤال (هنري مور) لجواد سليم: من أي بلد أنت ..؟ تأكيد لدقة ان الحضارات لا تتوارى حتى لو دفنت تحت التراب، وحتى لو زالت علاماتها، بل تستيقظ ولكن ليس من العدم، وإنما بقانون يحافظ على ديمومة لغزه. فنصب الحرية ـ وفق هذا الاستهلال ـ تضمنت اندثارات ان لها ان تستيقظ، ليتمثلها جواد سليم، فضلا ً عن موهبته، بما استقاه برؤية تجريبية، ونقدية، وبوابات للحداثات، ولتسمح له ان يبني تصوّرا ً هو ذاته لم يغب عن أسلافه سكان وادي الرافدين: التراكم باتجاه المستحدث. فذاكرته لم تغب عنها ان للحقب أو للعصور الحضارية علاماتها، منذ شيّدت الزقورة، والأختام، والجداريات النحتية، وتماثيل الأسس، والمجسمات، والفخاريات، وبوابات عشتار، والهة آشور، وثيرانها المجنحة، واللبوة الجريحة، وأسد بابل، وعاجيات نمرود، ورأس سرجون الاكدي، وموناليزا نينوى ...الخ، وهي علامات اقترنت، مرة بعد أخرى، بتضافر: قوة الدولة، وسيادتها، وأمنها، أدى إلى ان الحضارات لا تبني مجدها بقوتها العسكرية، بل بما تحفره عميقا ً في أسفارها. فإذا لم تصغ الإمبراطورية العباسية، كما صاغت (الملوية) ـ وبعض ما قاوم المحو ـ علامة لها، فان اشتغال جواد سليم بالعلامة ـ وليس باللافتة، منحه مدى ابعد بتمثل (الحدث) من اجل النص الملحمي، بصفته يتضمن منهج البّناء،الحفار، النسّاج القديم، في حدود مدينة ـ كبغداد ـ تغادر ظلماتها. ذلك لأن الدافع غدا ليس محض مرآة لذات (قلقة)، بل نسقا ً بنائيا ً لحاضر ارتوى بانكسارات، مرارات قرون ثقيلة من الظلمات. كان جواد سليم منساقا ً بدينامية مدينة، تغادر سباتها، كما هو مثال ديموزي في سومر، كي يقترن نصب الحرية بالمدينة، ويصبح مركزا ً لها، بعد ان كادت رموزها تتوارى بعيدا ً حركة الزمن، والحضارات. وبالطبع هناك من حاول، بل وسعى، لمس النصب، بل وإزالته، إما بصفته (بدعة) أو مادة خام لصنع الأسلحة، أو لعنة، لكن تلك الأصوات تهافتت تاركة النصب يقترن بمدينة السلام، وهي تنسج حضورها المستعاد، العنيد، كمدينة حملت مشفرات أور والوركاء، أكد ونينوى، سبار وآشور، اشنونا والحضر ..الخ؛ مدينة الحرية، كما هي مدن الأحلام: تغادر رمادها.
[2] البدايات ـ إذا كان الفنان حافظ ألدروبي، في طفولته المبكرة قد تولع بالرسم بتأمل أنامل والدته وهي تطرز بالخيوط الملونة، فان جواد سليم وجد بيئة استثنائية لسماع الموسيقا، ومشاهدة الفن، والإصغاء إلى روافد ثقافية مختلفة، فرعاية والديه في بيت توفرت به وسائل الراحة، حيث: " تكفلته العائلة بالتربية والتهذيب وتعهدته المدرسة بالتعليم والتوجيه، تهيأت له فرص الدراسة والمتعة. لم يرد له طلب ولم يوضع دون مبتغاه حاجز، فنشأ سليم الطبع، مرهف الحس، رقيق الشعور، هادئا ً هدوء حياته، وديعا ً وداعة تربيته، انصرف بحواسه لكل فن يسرق من أوقات دراسته ليشبع رغبته الفنية.." ويضيف الأستاذ عباس الصراف: " نشأ جواد في ذلك المحيط الفني، أطلق يديه في وسائل الرسم من أقلام وأصباغ وفرش، وتلفتت عيناه تحدقان بكل لون وخط وشكل، وأرهفت آذناه السمع لكل همسة فنية، جو فني تهيأ له ولم يتهيأ لغيره من الفنانين في طفولته" (1) وفي عام 1931 أقيم أول معرض للأعمال الفنية في جناح متواضع من (المعرض الصناعي الزراعي) اشترك فيه بعض الأساتذة والطلاب الموهوبين، وقد نال جواد سليم في هذا المعرض، وكان عمره 11 عاما ً، أول جائزة فضية للنحت بينما نال فتحي صفوة، معلم الرسم في دار المعلمين الجائزة الذهبية. (2) كي يزداد تشبثا ً بتطوير موهبته ببذل جهد تجاوز مفهوم الهواية لدى الرعيل الأول من الفنانين العراقيين، فبدأ مسيرته الفنية بالسفر إلى فرنسا لدراسة فن النحت (1938/ 1939) من ثم إلى روما (1939/1940) وبعدها في لندن (1946/ 1949)، ليواجه، في رحلة الدراسة، حداثات أوربا وهي في ذروتها، قبل نشوب الحرب العالمية الثانية، وبعدها، كي يعزز الإيمان بأعقد علاقة بين مخفيات الذاكرة، وآفاق المخيال ومدياته الأبعد. فالمعادل الموضوعي بينهما، لم يتمثل في التركيب، أو الجمع، أو التوليف، بل ذهب نحو فهم أعمق للتوليد. فالفنان مشبع بحضارات أزمنة متعددة: عصور ما قبل التاريخ، والمشاعيات، والعصور السابقة على الكتابة، ومن ثم الحضارات البدائية، والكتابية في وادي الرافدين، ومصر، والشرق القديم، والعصر الإسلامي، وصولا ً إلى الحاضر وهو إزاء تحولات بالغة التعقيد، لكنها، تاريخيا ً، أسست حقبة التحديث، بعد زوال الإمبراطورية العثمانية. لم تكن الحرفة ـ أي كيف يصبح المتعلم فنانا ً ـ إلا تدريبا ً أو مدرجا ً لتحقيق مفهوم: الإبداع ـ أو الخلق. وكلما تقدم في البحث، وذاق مراراته، وحلاوته، كان يكتشف المزيد من المعضلات، وفي مقدمتها: ان ينسى ما تعلم، وان يتعلم كيف يكون هو، وليس سواه، كي يكّون منجزه الفني، في عصر محاط بمختلف المدارس والمؤثرات، وان تكون الحقيقة، بالدرجة الأولى، غير الوهم، وان لا يكون الأمل سرابا ً. (3) فيرى الباحث عباس الصراف، ان السنوات الأربع التي قضاها جواد سليم، في لندن، ستشكل (انقلابا ً) فنيا ً، لأسباب في مقدمتها معاصرته للنحات (هنري مور) وفي موطنه بالذات، فكان له معلما ً روحيا ً ألهمه الكثير في فن النحت. (4) إلى جانب زياراته إلى المتاحف، والمعارض، والمكتبات، وديمومة اتصاله بباريس التي عشقها من زمان بعيد، وأخيرا ً، زواجه من الفنانة لورنا، كي يعود معها إلى بغداد. ومع هذه التطلعات والأفكار الجديدة، ، سيستثمر إتقانه للغات عديدة منها الانكليزية والفرنسية التي أتاحت له التعرف بدقة على احدث المنطلقات الجديدة في الفن والثقافة بصورة عامة كما ذكر الفنان إسماعيل الشيخلي، في مراجعته لتجربة الفنان، ودوره الريادي في الفن الحديث. (5) وقد عين جواد مدرسا ً للنحت في معهد الفنون الجميلة الذي كان قد افتتح حديثا ً، وفي الوقت نفسه عمل في المتحف العراقي على ترميم التماثيل والتحف الآشورية والسومرية، ولم يكن حينئذ قد جاوز الحادية والعشرين من العمر. (6) وثمة أسماء كثيرة عرفها جواد سليم، أساتذته، أو من درسهم، وأعجب بتجاربهم الفنية، من كبار فناني العصر، ولكل منهم دوره، وأثره، المباشر وغير المباشر. فمنذ دروسه الأولى التي تلقاها من والده الرسام، الحاج سليم، إلى الفنان عبد الكريم محمود، إلى أستاذ الرسم في المتوسطة الغربية، وناصر عوني، وشوكت الخفاف الملقب بشوكت (الرسام)،(7) إلى عدد من الرسامين البولنديين، ومنهم: مستر مايكا، جوزيف باريما، ماتوشال، كابتن جابسكي (8)، الذي خصه جواد بالمديح، (9) إلى جانب أستاذه في البوزار البرفسيور كاومونت، وأستاذه زونيللي، في ايطاليا، (10) ومعاصرته للنحات هنري مور (الذي كان ايامئذ أستاذ النحت في مدرسة سليد)، وأسماء أخرى مثل: براك، خوان ميرو، بيكاسو، ومارينو ماريني، كما كان قد تعرف على فنانين انكليز منهم: كنث وود، والكابتن تولست، وبودن، و سيتون لويد، وزوجته النحاتة هايدي، (11) إلى جانب أفراد أسرته، وزوجته الرسامة الانكليزية لورنا ..الخ ولا اعتقد ان جواد سليم، عندما لم يتقيد باختيار أسلوب أو منهج (النصب)، كان (حرا ً)، إلا بحدود مسؤولية إدراك إنها منحت له من لدن (مؤسسة) رسمية، دولة أو حكومة، بالصيغة المقاربة إلى تصميم: العلم ـ وشعار الدولة الوليدة، الجمهورية، اللذين أنجزهما الفنان، وكان اقتران شخصية جواد سليم، بالحدث (14 تموز 1958) وضعه إزاء مصيره تماما ً. فأي (قيد)هذا الذي سيشتغل ليوازن بين متطلبات: الدولة ـ المجتمع، والفن الذي طالما حلم ان ينجزه، القيد وليس العمل بالحرية التي بدت له كالعثور على شفرة مصباح (علاء الدين)، للعبور من الأمنيات إلى الإعجاز.؟ فالدولة منحته حرية الاختيار، بمعنى، قيدته بالحرية، كالبذرة التي عليها ان تمد جذورها في الأعماق، كي تورق، وتؤدي رسالتها في الحفاظ على (الحياة). وبهذا المعنى، علينا ان نراجع ما الذي كان يحلم ان ينجزه الفنان، هذا اذا عرفنا ان المنهج (التجريبي) في العثور على إجابات مقاربة، وليس في إضافة تعقيدات يولدّها البحث ذاته. ذلك لأن (التجريب) في الحقل الفني ـ الثقافي، لا يقارن بما يجري في المختبرات، كما ذكر جون ديوي، فضلا ً عن ان " الفكرة القائلة ان الذكاء وقف شخصي أو انجاز شخصي ما هي إلا نزوة كبيرة ووهم من أوهام الطبقة المثقفة، مثلما ان الطبقة التجارية تتوهم ان الثروة نتائج كدّها وإنها ملكها" (12) وهو تأكيد للمنهج الذي تحدث عنه جون دوي " عندما نقول ان التفكير والمعتقدات لابد ان تكون تجريبية، وان ما من شيء مطلق، فهذا يعني ان لدينا منطق منهجي محدد وليس مواصلة التجريب على النحو الذي يجري في المختبرات" (13) فالعبقرية، قد تكون وحدها سببا ً لا يفضي للعبور من (الحلم) إلى (المنجز) عندما لا تتضمن اللغز ذاته للتجارب الخلاقة، أو الاستثنائية. كان فائق حسن، كما ذكر لي، سافر إلى فرنسا كي يتعلم الرسم، من اجل إعالة والدته. قال ذلك ببساطة، لا تخلو من نبل الاعتراف، ردا ً على سؤال والدته وهو يذهب إلى البوزار. ولكنه بعد ان حصل على ما تريد الوالدة، وأصبح بعيدا ً عن العوز، قال لي، بدأ يدرك ان هناك معضلات فنية تتطلب البحث. بل قال لي ذات مرة، قبل رحيله بعام، وأنا أزوره في مرسمه، ما المعضلات الجديدة في الفن..؟ كان قد أهداني لوحة، ولم يسمح لي ان اخبره بما كنت أود ان أقوله، لأن استأذنا فائق، لم يكرس وقتا ً للغوص في المعضلات الفنية.(14) جواد سليم، ومنذ العاشرة من عمره، وبعد ان حصل على اعتراف بموهبته في النحت، كان يفكر بان (الفن) هو حصيلة أسلوب صحيح يبذل في اختيار وسائل البحث، لكن الاختيار الصحيح شبيه بحكمة (لاوتسي): ضع قدمك في المكان الصحيح من الطريق. وهي التي طالما تركت صراعا ً مريرا ً لم ينقطع حتى يومنا هذا في الصين، فهل عثر الفنان على مقاربات تغذي ما كان يحلم ان ينجزه..؟ ومع الثناء المتكرر، والاعتراف من لدن خالد الرحال،(15) لمواهب أستاذه جواد سليم، الذي قارنه بالنذر ـ كديموزي ـ إلا انه اعترض على كلمة الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا التي قال فيها: بان المستقبل لن ينجب آخر كجواد إلا بعد قرون طويلة! كان خالد الرحال ديالكتيكيا ً، وواقعيا ً في تفكيره، لأن جواد سليم نفسه، لم يكن يمتلك إجابات (معدّة ـ وجاهزة) أو لا تقبل الدحض، فتعلم، وهو إزاء أسئلة لا تمتلك إلا ألغازها، وأسرارها، كيف يضع خطاه في المسار غير الوهمي، وان ينذر حياته للفن. ولعل الكتابات النقدية المبكرة للفنان محمود صبري، في نهاية أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته، هي الأخرى، كان لها دورها، بنقد النزعة الجمالية الأحادية، والانجرار مع النزعات المثالية، بل وحتى النفعية المباشرة منها، نحو سماع الأصوات الآتية من الماضي السحيق، ومن الحداثات، ومن الأصوات التي تتطلب قدرات استثنائية لفك مشفراتها. كانت مهمة جواد (التجريبية) طريقة نموذجية للعبور من الفن إلى ما هو ابعد منه. وإذا لم يختر جواد سليم ان يكمل دراسته للموسيقى كي يصبح موسيقارا ً، أو كاتبا ً، أو أية مهنة أخرى، توازي قدراته النادرة، فان محنته بين الرسم والنحت، تذكرنا بالجدل الذي دار بين ما يكل أنجلو، وليوناردو دافنشي، حول أيهما أكثر قدرة على سبر أغوار الفن، انعكست لدى جواد سليم، حتى عندما كان يعد نفسه للنحت، بتجاربه في الرسم. ولم تكن محنة الاختيار بينهما خاصة بالموهبة، والإمكانيات، حسب، بل بالجانب العضوي. ومعروف ان الجهد الكبير الذي بذله في تنفيذ نصب الحرية كان قد عجّل في رحيله، وكأن اختياره للنحت، بشعور عميق، غير واع ٍ، يخبرنا بان الرسالة التي حملها تضمنت ألا يبخل ان يقدم حياته نذرا ً لها. وقد تكون إشارة الأستاذ شاكر حسن بان اختياره (الرليف) كان حلا ً لجواد بين النحت والرسم، صائبة، لكن (الرليف) عمليا ً، لم يغادر أقدم خامة كوّنت الإنسان، من الطين، مع (نفس) كان بمثابة هبة من الإله للإنسان كي يصنع تاريخه، كما ورد في كتاب (الكنز ربه)، للديانة المندائية، ذلك لأن جواد سليم لم يغادر مكونه الشرقي في اختيار خامته، ليس لأن الوعي ـ البشري ـ معزول عنها ـ أي عن الطين ـ بل لأنه حتى بانفصاله عنها فانه لم يفقد صلته الشائكة بها. فالخطاب الفني ـ بهذا المعنى ـ احد نتائج توازنات العناصر وقد استحالت إلى (علامة) تؤدي دورها من: الفنان ـ بصفتها ذاتا ً جمعية وفردية معا ً ـ وقد وجدت فرصتها للانعتاق ـ نحو: الشعب، لاستكمال دور (النصب) كبذرة خصب. من ناحية أخرى فان العدد القليل من تجارب الفنان الخزفية، هي الأخرى، سمحت له بدارسة التاريخ السحيق لفخار وادي الرافدين، الذي يرجع إلى ما قبل عصر الكتابة. (16) وقد تضمنت قدرات تعبيرية لا يمكن عزلها عن: النار/ الماء/ التراب/ الهواء، المكونة للفخار، بما أنجزه من غايات ابعد من الاستخدامات العملية، من إشارات، وحزوز، وعلامات هندسية، شكلت وعيه وأسلوبه ببلورة أبجديات التعبير ـ والإرسال. فإذا كانت تماثيل الأسس ـ وكان جواد مولعا ً بالأثر ـ تؤدي جسرا ً بين الأرض والسماء، فإنها كانت حصيلة خبرة متقدمة لتداخل العناصر في تحولها من مواد (رخوة/ طبيعية) إلى أدوات (مستحدثة)، كالمسمار، بصفته حرفا ً سيدخل في أبجدية الكتابة، بعد الرسوم التصويرية، لأنه لم يتكون إلا بالخبرة (العلمية) المبكرة، لدى صانعي الفخار مع اكتشاف (النار) ومهارات الخبرة في تلك الصناعة. فجواد سليم، لم يكن بانتظار هبات وكأنها تهبط من كوكب آخر، بل كان عليه ان يجد معادلا ً بين المنجز بما يمتلكه من عفوية ـ وصدق، وبما يمتلكه من خبرة تستند إلى العلم. فالحل الذي اختاره ـ في الرليف ـ لا يبدو مثل ختم معاصر ـ في عصر شاهد جواد سليم كوارثه الكبرى فحسب، بل للخواء، الانخلاع، والاغتراب أيضا ً، كخاتمة بلغت روافدها ان تسمح له ألا يفقد هويته: مقدمة كانت بمثابة الأسلوب الذي أنجزه في حياته، والذي لم يأت بعد موته، كما كان يقول بيكاسو. فالنصب خلاصة تقص ٍ في ما لا لم يعلن الفن عنه، ولكن ليس في ما لا وجود له تماما ً، إلا كي يحافظ على ما كان يدرك كم من الملغزات ستشكل هويته، ومشفراتها. وهكذا سنجد انه لم يعد نحاتا ً أو رساما ً أو فخاريا ً إلا بحدود متابعة ذلك النسغ العميق لدينامية هذا اللامرئي وقد صاغ من الجسد ـ والعلامات الأخرى ـ أبجدية عالمية بهويتها الرافدينية. فنصب الحرية مدوّنة لم تتكوم فيها الأسئلة، وتتراكم، إلا لتشكل ذاكرة وقد انفتحت عن مساحات غير مقيدة لمخيال لم يعد مقيدا ً، إلا بالحرية ذاتها لشعب رزح تحت الظلمات لقرون طويلة، فوجد انه يحطم قيوده. وأخيرا ً فان فكرة جون دوي القائلة " إن الذكاء وقف شخصي أو انجاز شخصي ما هي إلا نزوة كبيرة ووهم من أوهام الطبقة المثقفة" تفسر ان (التجريب) الذي اتخذه جواد سليم منهجا ً ـ وليس مذهبا ً ـ سمح له ألا يفرط بموهبته (الاستثنائية) في حقبة برمتها تبحث عن التدشينات ـ الريادات. فجواد سليم الذي اكتسب هالة تكاد ان تكون أسطورية، على حد كلمة للأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، لا يمكن عزلها عما كان يجري في الحقبة كاملة. ريادات في مجالات الحياة كافة، ومنها النحت، كعلامة دمجت محركاتها بهوية كان عليها ان تمتلك أطياف حضارات وادي الرافدين، وسواها، وبمعالجة سحرية لمرور ذلك الذي يكمن في لغز الزمن ـ وليس في الزمن حسب ـ بين الحداثات التي درسها الفنان، وما سيغدو امتدادا ً: علامة شعب، أصبح نصب الحرية، رمزا ً لاستحالة قهره.
1 ـ عباس الصراف [جواد سليم] وزارة الإعلام ـ بغداد 1972 ص59 ويذكر الصراف: " فيعود إلى بيته ليعوض ما فاته في المدرسة، بيته البغدادي القديم حيث الممرات المقوسة والشناشيل الخشبية تتدلى، والأبواب المحفورة، واللوحات على الجدران، والأواني البديعة والتحفيات النادرة، ومعلم الرسم الكلاسيكي (الحاج سليم) ينقح رسومه، وزوجته تحيل الخيوط الملونة نسيجا ً.. البيت معهد صغير يضم فنانين هواة، الأب..الأم ..رشادا ً.. سعادا ً.. نزارا ً.. نزيهة" 2 ـ نزار سليم [الفن العراقي المعاصر ـ الكتاب الأول/فن التصوير] وزارة الإعلام ـ بغداد 1977 ص48 3 ـ وثائق. إعداد: ضياء العزاوي. المثقف العربي. العدد الرابع ـ السنة الثالثة 1971 ص 187 ويكتب جواد سليم، في دليل المعرض السنوي السابع للرسم، عام 1958 أيضا ً: " ليست المواضيع النبيلة سواء أكانت اجتماعية أو سياسية أو حتى إنسانية كافية لخلق فن نبيل وأصيل، ان على الفنان ان يهيئ نفسه قبل كل شيء لإخراجها بحق. إن (جورنيكا) لم تخلد لأنها قصفت بالقنابل، بل خلدت بفن بيكاسو" 4 ـ الصراف ـ مصدر سابق ص67 5 ـ إسماعيل الشيخلي [ جواد سليم .. نظرة جديدة في أعماله] مجلة الرواق ـ بغداد، العدد (14) 1983 ص11 وما بعدها. 6 ـ جبرا إبراهيم جبرا [جواد سليم ونصب الحرية] ص21 7 ـ نزار سليم ـ مصدر سابق ص 49 8 ـ شاكر حسن آل سعيد [مقالات في التنظير والنقد الفني] دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1994 ص229 9 ـ ذكر جواد سليم في يومياته الفنان جابسكي :" ان بعض كلمات هذا الرجل ستبقى في راسي طول حياتي. سألناه مرة: هل تحبون بلادكم. فأجابه رسام كان معنا، على الفور: لا. فقال جابسكي: انك غلطان. فالإنسان لا يبدع في رسم شيء لا يحبه. إنكم لن تكونوا شيئا ً اذا لم يكن في قلوبكم الحب الصادق العميق للبلد الذي أعاشتكم تربته .." انظر: جواد سليم ونصب الحرية، مصدر سابق ص24 وما بعدها. 10 ـ المثقف العربي ـ العدد الرابع 1971 ص135 ملف أعده الشاعر خالد علي مصطفى حول جواد سليم 11 ـ عباس الصراف ـ مصدر سابق ص 66
12 ـ [ الديمقراطية] تحرير: فيليب غرين. ترجمة: د. محمد درويش، دار المأمون ـ بغداد 2007 ص 234 13 ـ المصدر نفسه، ص 227 14 ـ عندما طلبت من الفنان د. خالد القصاب ان يجد فارقا ً بين جواد سليم وفائق حسن ذكر لي: ان جواد سليم كان يمتلك قدرات فذة وفائقة في حل المعضلات، كان فائق حسن يبذل زمنا ً أطول في حلها. حوار منشور في مجلة ألف باء ـ 1984 15ـ قال خالد الرحال في عام 1985، بحق جواد سليم: " الشيء الذي أراه بعد هذه الحقبة من الزمن، أي ما يقارب ربع القرن، لازال العراق يذكر عباقرته، وما معناه الآن: ان أجيالنا ترد الجميل لهذا الرائد الذي ضحى من اجل إعلاء الفن في وقت لم يكن ثمة تشجيع للفن، أو للحضارة." جريدة القادسية، ملف حول جواد سليم، نشر بتاريخ:23/1/1985 16 ـ د. بهنام أبو الصوف ( فخار عصر الوركاء ) رسالة دكتوراه قدمت إلى جامعة كمبردج في خريف عام 1966 ـ المؤسسة العامة للآثار والتراث . وقد صدرت باللغة الإنكليزية . وقد ورد في إهداء المؤلف للكاتب الإشارة التالية:" هذه الرسالة كتبت في أواسط الستينات وقدمت في حينه إلى جامعة كمبردج. .. وفيها التأكيد على عناصر الحضارة العراقية واصلها في هذا الوادي، وان الفخار احد هذه العناصر البارزة لفترة ما قبل الكتابة. وقد حاولت إثبات (الفصل الخامس: خلاصة) ان فخاريات عصر الوركاء (ذلك العصر الذي نضجت فيه ما يسمى بالحضارة السومرية) تطورت عليها من فترات سابقة وقد صنعها عراقيون وليسوا غرباء عن هذا الوادي، كما كان رأي الاثاريين الأجانب في حينه"
[3] المركز ـ المحيط
عندما نجري مقاربة ـ ومقارنة ـ تأويلية، بين قراءة البيت الشعري الكلاسي (العمودي) العربي، وبين النصب، فان الإجراء سيفضي إلى تنوع ـ واختلاف ـ بتعددية مستويات المتلقي في عملية التذوق، التأمل، والبحث. فالبيت الشعري الواحد ليس جزءا ً من الكل، بل استثناء ً، لأنه لا يمثل الكل إلا بصفته حاصل وحدة أجزائه، من غير تقاطع مع تقاليد آليات البناء. ففي كل جزء من أجزاء النصب ثمة استقلالية ـ في المعنى وفي المعالجة ـ تسهم برف النص ـ الرليف، نحو ذروته: دورة الحياة بمعنييها الواقعي والرمزي، وهو المثنوية القديمة قدم الأساطير الرافدينية: عالم ما تحت الأرض، وعالم الإلهة، وهو: الظلمات ـ النور. على ان النصب يعيدنا إلى الوراء، الماضي، والى المتراكمات اللاواعية للذاكرة، ومشفراتها، وفي الوقت نفسه، يضعنا إزاء حركة تتقدم إلى الأمام. فإذا كانت الأختام قد شكلت نواة النحت، والمعرفة، في الحضارة العراقية القديمة، فان التحويرات الأسلوبية، للفنان، يستحيل عزلها عن تيارات الحداثة، والابتكارات الأسلوبية المضافة. فالرؤية الأفقية، للنصب، تأتي وليدة عناصرها الأسطورية ـ الزراعية، ولكن بمعالجة لم تغب عنها المحركات الفكرية، والمعرفية. وفي هذا المدخل سيتحول النصب ـ بمجموع وحداته ـ إلى بيت في قصيدة، مع ان الأجزاء ستحافظ على علاقتها بالغناء المركز ـ المعنى: الحرية، أو الانعتاق، وهو تقليد له تقنياته في القصيدة العربية، منذ المعلقات وصولا ً إلى شوقي والجواهري. فالمشهد الأفقي يتيح للمتلقي أكثر من مدخل للقراءة. مما يذكرنا بذات الذهنية التي كتبت فيها أقدم النصوص الرافدينية، ومنها الفكرية، والدينية، والأدبية، كأسلوب يماثل عمل النسّاج بجمع وحداته والنظر إليها من زوايا متعددة اغناء ً لمفهوم: الجمع، التوليف، والتركيب. على ان المسافة التي دارت في ذهن جواد سليم ـ بين النصب والمشاهد أو المتأمل ـ تبقى شبيهة بأداء المغني أو الموسيقي الذي يدرك ان مهمته تكمن في إيصال الأصوات بالدرجة ذاتها للسامع أينما كان موقعه من المصدر ـ المركز. ويبدو ان المسافة التي شغلت ذهن جواد سليم ـ بين النصب والمشاهد ـ تماثل مهارات الشاعر (والموسيقي أو المطرب) في إسماع صوته الذي يراعي فيه البعيد كالقريب معا ً. فالنصب يشاهد عن بعد، بل من الفضاء، وبنصف دائرة تؤدي ـ بالحركة وبالإيحاء وبالمعنى ـ عمل الدائرة كاملة: كحركة من الخارج نحو المركز، ومن المركز إلى الأطراف. وأفقية النصب ـ امتداده ضمن نسق مركب ـ يقع في مركز بغداد، بجوار امتداد نهر دجلة. فالنهر ـ هو الآخر ـ جزء من كل ـ كلمة في جملة ـ ومقطع متصل بالحركة، إن كانت حركة في مجرى النهر، أو في تمثل العلامات الثقافية، وهو ما سيشكل المفهوم (الايكولوجي) للنصب، ولمعنى الهوية ـ الخصوصية ـ إزاء قطيعة مع الموروث أولا ً، ووجود غريب مع الحاضر، ثانيا ً، وصدمة إزاء مدينة خالية من المجسمات المعمارية، والنحتية، باستثناء الرموز الدينية، والمعمارية المتفرقة، وبنصبين من صنع نحاتين أجنبيين، واقصد بهما تمثال: الجنرال مود، والملك فيصل الأول، ثالثا ً. فأين سيقع نظر المشاهد، والفنان منشغل بتحقيق غايات يكاد الجمع بينها، بحد ذاته، سيشكل مغزى الوحدة في اختلافها، والاختلاف في وحدته. فالموروث لا يمكن استنساخه، مثلما يصعب تقليد المنجز الحديث، مما سيتيح للفنان معالجة التركيب، بالصهر، والصهر كي تكون الهوية متحققة، في معادل تتوازن فيه الروافد، مثلما يتوازن عمل اللاوعي بالمقاصد الواعية. فالحذف سيؤدي دور الإضافة، والمبتكر سينسج نسقه بالكثير من الاختزال، والتحوير، والترميز. فثمة مدينة تكتظ بالأزمنة، وتتجمع فيها الروايات، والأحداث، وجواد سليم عاصر، منذ طفولته المبكرة، سلسلة من التصادمات ما بين الوطني، والآخر، الوافد أو الأجنبي، فالغليانات، والانتفاضات، قبل ثورة العشرين، وبعد الوثبة، فضلا ً عن القرون المظلمة التي تراكمت، كي تجد، جدليا ً، مفهوم الانبثاق ـ الولادة، لردم فجوات تمتد إلى نهاية الإمبراطورية الأشورية، بإقامة نصب جداري تتمثل فيه الإرادة الشعبية (الوعي الجمعي)، إلى جانب الطلب أو التكليف الرسمي من لدن القيادة السياسية للحدث: 14 تموز 1958، في زمن كان جواد سليم قد تحولت (ذاته) من خصوصيتها، نحو الهوية الجمعية للشعب. فالنصب هنا بمثابة هذه الولادة ـ مستعينا ً بوعيه العميق للنسق الديموزي (التموزي) ـ: لا تدفن البذرة إلا لتورق ـ بزمن له خصوصيته، في عصر مشحون بالفوضى، والتمرد، والانقلابات، كي تجد هذه الروافد مناخها ـ مع المتلقي العام، الذي آذاه انتظار زمن الانعتاق، والتحرر ـ لكسر زمن الغياب، وإعلان الولادة ـ الثورة. لم يغب عن وعي جواد سليم، ولا وعيه، ان الإنسان ما هو إلا مزيج من: الطين، والماء، وهما، في الأصل، نواة بذرة الخلق، من غير إغفال ان الآلهة منحت من ذاتها (نفسا ً) له. فالأساطير سكنته حد ان الخروج منها تطلب ما دعاه جبرا إبراهيم جبرا: بالمعجزة. فليس لديه، كتفكير لم يتقاطع مع الأعراف العراقية القديمة، والمعاصرة التي درسها، وتأثر بأحداثها، إلا: الجسد. فهو ليس (عورة) وليس (معاقبا ً) ـ ولكنه يبقى يحمل جرثومة الذنب، وفي الوقت نفسه، خلاصة لملحمة جلجامش ـ: لا يدوّن تاريخه إلا بالعمل. فجواد سليم لم يتوقف عند مفهوم العدم (البابلي) بأصوله السومرية لمفهوم ان الحياة قبض ريح، بل ـ كأنه ـ يعيد كتابة ملحمة (جلجامش) بعيدا ً عن الميتافيزيقا، وقد استعان بالجسد، بصفته لم يخلق فائضا ً. انه لم يتخل عن ثقافته (الجمعية/ الشعبية)، بوعي له خصوصيته، ونسقه المستحدث، حيث الثقافة الجمعية ستجد تمثلاتها في: النبات، والحيوان، والإنسان، والفنان منشغل بتلبية طلب يرتقي إلى واقعية الحدث، جوهره ورمزيته معا ً، بمعناه السياسي/ التاريخي، وبمعناه الروحي، كحد فاصل بين نهاية العهد الملكي، وتدشين حياة لعلها تواكب ما يجري من تحديثات في العالم المعاصر، في العهد الجمهوري. فهل ثمة (مركز) ـ بمعنى بؤرة ـ وهو المفتاح، ليجري مقاربة عندما لم يجد، سوى (الجندي/ المقاتل) رمزا ً واقعيا ً يلخص الحدث كي يكمل مفهومه لدينامية البناء ـ: الواجهة ـ الرليف ـ النصب ألجداري، ليس للانغلاق عند مفهوم الحدث السياسي، بل امتداد من الأرض/ الماء/ الجسد ـ وهي المكونات التي شكلت مادة النصب ـ وتعبيريته، بمنح (النفس) ـ الطيف أو الروحي ـ هويته إزاء عصر بدأت الشركات عابرة القارات تتحكم بمساراته، وبإعادة بنائه بعولمة منحتها التصادمات مسارات مازالت قائمة حتى يومنا هذا. ذلك لأن (الجندي) ـ وجواد سليم أعانته حكمته، ورهافته، إلى جانب القدر أيضا ً، كي لا يضع بورتريه الزعيم عبد الكريم قاسم بدل الجندي، وإلا لكان عرضة للهدم بعد سنتين من إقامته، أسوة بقتل الزعيم، مع انقلاب 1963 ـ * فالنصب، غدا (مركزا ً)، بمعنى مفتاحا ً يدور في الباب ـ والباب اقتران بالمدن العراقية منذ أور حتى بغداد ـ لقراءة تاريخ شعب تجمعت فيه الأزمنة، بتنوعها، من المأساة إلى الانفراج، ومن الكمون إلى الانبثاق، ومن الصفر إلى العدد، فالجندي ـ في الضمير ـ اكتسب شفرة (الخصب)، فهو، بحسب تحليلات الأستاذ شاكر حسن التوليدية للنصب ـ ليس رمزا ً للذكورة ـ رغم ما تبدو عليه بعض الأشكال من صلابة ـ بل إيحاء ً لا جنسانيا ً، بوحدة وتكامل عناصر البناء لمفهوم: كسر قضبان الموت/ السجن، ومنح الشمس ـ المؤنث باللغة العربية ـ مساحة للاتساع، والحركة. فالمفتاح غدا إيحاء ً مزدوجا ً لـ: الشمس، بؤرة النصب، مع الجندي، والمرأة حاملة الشعلة، بالامتداد الأفقي، للثقافة الشعبية، وهي تعيد حلقات نائية للختم الاسطواني، وللإناء ألنذري، والجداريات الخزفية البابلية، والرليفات الأشورية، دورة الحياة، بدءا ً بالشمس، والماء، والنبات، والطين،أي، بالإنسان مركزا ً وقد صاغت منه الأجزاء الوعي التركيبي. وقد كان خالد الرحال شديد الانبهار بمهارة جواد سليم البنائية ـ للنصب: الملحمة. فالمركز لا يتلاشى، أو يندمج، أو يؤدي دور البيت الشعري في القصيدة، أو مقطعا ً من النهر، حسب، بل المعمار ذاته، بالمفهوم الديالكتيكي للبناء، حيث الصلة تبقى قائمة بين العناصر: الشمس ـ المقاتل ـ والمرأة حاملة المشعل. وهنا يأتي المفهوم الدينامي للبناء في مواجهة ملاحظة تحدث بها احدهم عن (فجوات) أو (فراغات) أو عن عدم ترابط (الأجزاء) بمنح الحركة دورتها الكاملة ـ الشمس، وحركة الحصان في يمين النصب، وثبات العامل في أقصى يسار النصب، كي تكون قراءة النصب متجانسة، من الأجزاء إلى المركز، ومن المركز إلى المكونات التفصيلية للأجزاء، وهي تشّذب خطابها ـ كثقافة ـ ترتقي بالصراع نحو ذروته: الولادة، من غير إغفال ان النصب، ضمنا ً، أعاد تدوّين أقدم حكمة رافدينية: العمل، في مواجهة (الظلم)، إن كان قدرا ً مقدرا ً، أو من صنع الإنسان إزاء الإنسان.
* يذكر الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا : " يجب ان نذكر ان الذي طلب إليه صنع النصب كان عبد الكريم قاسم، وهو أراده نصبا ً للثورة، بل أوحى انه يريد وضع صورته فيه. ورغم ما أعطى جواد سليم حرية في تمثيل ذلك، فقد كان عليه قبل كل شيء ان يمثل ثورة، أرادها الشعب، ولكن نفذها عسكري. وهكذا جاء القسم المركزي من النصب" جبرا إبراهيم جبرا [جواد سليم ونصب الحرية] وزارة الإعلام ـ بغداد 1974 ص133.
[4] ذاكرة النصب وإن كانت تجارب نيازي مولوي بغدادي ـ وهو أقدم مؤلف، ونسّاج، وذهنية مركبة، دشن مقدمات للفن الحديث في العراق ـ خارج دائرة الاهتمام، والأضواء، إلا أنها كانت وليدة تحولات سمحت للفنان ان يرتقي بالحرفة نحو الفن، وبالفن نحو المجتمع المعرفي، وبالذاكرة (الموروث) نحو العصر، فقد جمع ـ كما يذكر الأستاذ شاكر حسن ـ بين الرسم والخط والزخرفة، لا من خلال " المجال التقني كفنون تشكيلية مستقلة بكيانها عن بعضها البعض بل من خلال رؤيته الفنية التي حاول ان يسبغها عليها جميعا ً. وقد اقتضت هذه، بشموليتها، ان يؤلف ما بين حسه اللغوي والتشكيلي والحرفي في ان واحد، بحيث يستطيع بعد ذلك ان يطور كل فن على حدة بكل غنى مثلما يتوصل أيضا ً إلى نتائج رائدة في مجال الفن المعاصر تسبق عصرها بنحو قرن من الزمان" (1) لكن هذه الريادة ـ مكانا ً وزمنا ً ـ وجدت، لدى جواد سليم، نموذجها. فإذا لم تتعرض تجربة نيازي مولوي للأضواء، كي تجد من يرى فيها غير الذي رآه شاكر حسن، وغير الذي أنجزه بمنح (النسق) وثبات جعلت من الذات علامة مجتمعية ـ حضارية، وجعلت من الفن لغة ردم ـ وحفر، رسمت حدا ً فاصلا ً بين ظلمات قرون خيمّت على العراق، وبين آفاق منحت البذرة اشتغالاتها، فان النظام التموزي الرافديني ـ دفن البذرة عبر مفهوم التضحية حد سفك الدم ـ سيعيد اشتغالاته. وهو ذاته سيشكل نظاما ً لجواد سليم خلال حياته الزاخرة بالتدشينات. فقد تعرض جواد سليم ليس للنقد حد (التجريح) (2)، بنزعته نحو التحديث، بل بتهم تذكرنا بمن تعرض للانتهاك، والموت. فنجد من يزعم ان جواد سليم، لم ينصص، ولم يتأثر، ولم يستفد، ولم يتغذ على تجارب سابقة، بل وضع (الحافر على الحافر)، بالرجوع إلى مشاهدة متحف الشعوب، باللوفر، في فرنسا.(3) وللآسف لم ترسلني أية جهة رسمية، أو شبه رسمية، بزيارة واحدة منذ بدأت الكتابة، في العام 1968، حتى هذا اليوم (2013) (4) كي ازور هذا الجناح، وأتحقق من هذا الرأي. بيد ان نصب الحرية، بعد نصف قرن، اشتغل، كما في عدد من مصغراته التي أنجزها قبل سنوات من إقامة النصب، ذات صلة بالنسق ذاته للأساليب الرافدينية ـ وللموروث الشرقي، والإسلامي، والعربي ـ في عصر (الحداثات) الأوربية: الفن بصفته مرآة، وبصفته مزاوجة بين الأزمنة، والأساليب، والذي يلخص مفهوم: التناص ـ التنصيص، بصياغة تتحقق فيها الهوية ـ المدرسة ـ عبر التجريب، وليس عبر الانغلاق أو التكرار، أو محاكاة التيارات المعاصرة. لا مناص ان جواد سليم عاش زمن نشوء (دولة) مستقلة؛ بمعنى عاش تدشينات وتحولات شملت الحياة العراقية برمتها، وفي مقدمتها ليس استعادة زمن مضى، وتوارى، ودفن، واستبداله، حد القطيعة، بعالم آخر. فجواد سليم، بتأثيرات النشأة، كان يراقب هذه التحولات، وتعقيداتها. وليس انتحار عبد المحسن السعدون، رئيس وزراء العراق، بحدث عابر، بل نموذج رسخ مدى الصعوبات التي ستواجهها (الهوية) ـ بماضيها وبمستقبلها ـ في المجالات كافة، ومنها، الفن. وتشخيصات جواد حول (المدرسة) صريحة تماما ً، فيذكر ـ على سبيل المثال ـ: ان الفن " لا يتبلور ويأخذ قالبه أو مستواه في خلال عشرين سنة أو نصف قرن.." متابعا ً " ومع هذا فالفنان هنا في بغداد يواصل العمل ـ وهذا هو المهم والذي يحمد عليه ـ مما يجعل لنا وطيد الأمل بحدوث النهضة الفنية "، ولكن ثمة محركات كانت تشتغل في أعماق الفنان، يلخصها الأستاذ عباس الصراف بجلاء: "ان موضوعات جواد في الرسم والنحت مدارها الدراما الإنسانية تتمثل قي ذلك الإنسان الطعين المصلوب باسم غصب الآلهة تارة وباسم الديانات السماوية تارة أخرى وباسم العنصرية والطبقية والإقليمية تارة ثالثة" (5) ولجواد سليم إشارات نقدية تحدث بها بعد عام 1958، فذكر " ان القائلين بان الفن العراقي سيبدأ حياته بعد الثورة، هم الذين فشلوا في ان يحققوا أي عمل فني جيد قبل الثورة، ذلك لأن الفن العراقي، طرق ـ في حدود الظروف التي أحاطت به ـ أكثر من موضوع إنساني، بل تناول كثيرا ً من جوانب الحياة في وطننا، وهذا ما يحملنا على القول بان الفن في العهد الجمهوري، لن يكون إلا امتدادا ً للماضي، ولكنه امتداد انفجاري ـ إذا راعينا دقة التعبير ـ لأننا نرقب فيه تفجر جميع الطاقات الفنية المبدعة" (6) فإذا كان الأسلوب ـ بمعنى الهوية ـ يأتي بعد الموت، بحسب تصوّر بيكاسو، فان جواد سليم، برهافته، راح يشذّب، ويعّدل، ليمنحه معادله مع الخلاصات: الهوية ـ أي ان يجد مأواها في الأزمنة القديمة، وفي ذات الوقت، ألا يكون نسخة مستعارة من هنري مور، أو بيكاسو، أو جايكوميتي، أو خوان ميرو، أو كاندنسكي، أو تابيس، أو أي فنان من فناني عصر الحداثة. لقد قلب السياق، وسمح للأسلوب ان يتشكل عبر روافد مكونات الهوية ـ وأدق تفاصيلها ـ على صعيد الأشكال، والأسلوب. خاصة انه، في نصب الحرية، استعار، واستعاد، دور الفنان ـ ودور الفن ـ في وادي الرافدين؛ ذلك الارتقاء من (الأنا) نحو عملها المنسق مع الضمير الجمعي، من غير محو لها، ومن غير قطيعة معها أيضا ً. فهو بصدد انجاز (علامة) ليست خاصة بالحدث، 14 تموز 1958، المحدد بمكانه وزمنه إلا وهو يزيح ظلمات قرون تعود بنا إلى الواجهات (اللافتات/ الجداريات) في عصور: الأشوريين، البابليين، والسومريين. وكلماته حول معنى كون الفن مرآة اجتماعية، تضمن التعبير عن هذا الهاجس، وفي الوقت نفسه، فان الأسلوب تضمن خزينه العميق، النائي، واللاواعي، لجذور تخيلها عبر منجزه الفني وهو يخاطب المستقبل، ولا يكتفي بالحاضر، ومحدوديته. (7) فالفنان لم يعد حلقة بين مجهولين، بل حاضرا ً لم يجعل من الفن جسرا ً للعبور ـ أو الدعاية ـ ، بل، على العكس، تدشينا ً لاتجاه تميز، واختلف، عن مفاهيم موت الفن، وعن مفهوم موت الفنان/ المؤلف، كي يتضمن رسالة استبدلت مفهوم (الوثن) و (السلعة) بالإنسان ككائن مثقل بالانتهاكات، نحو: انعتاقه ـ وكرامته. وقد يكون مصغّر (السجين السياسي المجهول) ـ 1953 ـ نموذجا ً لسلسلة من الأفكار التي شغلت ذهن الفنان، لكن تجاربه الأقدم، والأخرى التي نفذها قبل الشروع بتصميم نصب الحرية، تفصح عن المنحى التجريبي القائم على استبعاد أية أحادية في المنهج، واستثمار نسق (الصيرورة) بالمدى الذي يسمح للفن ألا يكون معالجة فنية خالصة، أو حرفية، أو ذاتية، إلا كمحرك للمعنى الأبعد: الانعتاق ـ بالحفاظ على واقعيته، وتعبيريته، ورمزيته في الأخير. ففي نصب (البنّاء) ـ 1944 ـ 1945 ـ والفنان في عنفوان شابه ـ يمسك بالحل النموذجي، والوحيد، لحكمة ملحمة جلجامش: الصيرورة، أي ليس لدى الإنسان إلا ان يصنع تاريخه، كي يحقق حريته فيه، لا ان يتخيله، ويتأمله حسب. فالعمل، وهو الذي تأسست عليه أقدم حضارات وادي الرافدين، بعلاماته الهندسية، وبالاستناد إلى العدد، الحساب، والكتابة، والجهد البشري الخلاق، سيشكل المفتاح بمعناه المشفر في نصب الحرية.، ففي نموذج (البنّاء) جذور واقعية استقاها الفنان من تأمله لأحد أسطوات بغداد، الاسطة طه، وشيد بها المعنى، بتأثيرات لم يغب النحت المصري القديم عنها، ولكنها، في الوقت نفسه، سمحت للبنّاء ان يكون (مركزا ً) للرليف بالتوازن مع فريق العمل، والتفاصيل الأخرى. انه نموذج سيتكرر في نصب الحرية، حيث (الكل) لا يمكن عزله عن أجزائه، ومكوناته، مهما كانت مستقلة، مثلما تؤدي الأجزاء دورها في الكل، كي يأخذ سياقه في الصيرورة: في المعنى ـ وفي الأسلوب/ الهوية.(8) وفي نموذج (ثور وفلاحة) ـ 1955 ـ تتداخل الرموز العراقية، كجدل (مترابط) بين المرأة والثور، عبر الرموز المستقاة من الواقع: المثلثات، والأهلة، وسعف النخيل، وهي التي سيعيد صياغتها، بتشذيب بالغ الحكمة، والمهارة، في نصب الحرية. ونموذج (الإنسان والأرض) ـ 1955 ـ هو الآخر، منح (الأمومة) العلاقة الديالكتيكية ذاتها بين الإنسان والأرض، بمعالجة أسلوبية ذات صلة بتجاربه الأخرى، في الرسم، والنحت، والخزف، مثلما لا يمكن عزلها عن نصب الحرية. وهذا ما ظهر بجلاء في جداريته (النفط) ـ 1956 ـ كدراسة ملحمية زاخرة بالمشاهد، فإذا استثنينا عملية التنقيب عن النفط، كعلامة خاصة بالنص الفني، فثمة رأس معزول، منفصل، ومستقل، داخل دائرة، ظهر أسفلها كساعة، حيث احتل الرأس نصفها الأعلى، فيما شق النصف الأسفل، عقرب الساعة الكبير المتجه من العين إلى الشعلة المتوهجة، مثلما لم يهمل الفنان مشاهد الثيران، والماء، والوحدات الهندسية المستقاة من النحت العراقي القديم، إلى جانب الشخصية المركزية، وكأنها تصوّر حمورابي، لا يتلقى الشريعة، من الآلهة آشور، بل بما سيمثله اكتشاف النفط، في العراق، من نعمة ومن نقمة على حد سواء. فالجهد التكويني، كما لم يظهر، في الفن العراقي الحديث، كما ظهر في هذا النموذج، قبل ان يعيد صياغته ـ مع تجاربه الأخرى في الرسم وفي النحت ـ في ملحمة الحرية. فالتركيب يغدو معالجة حديثة للملحمة ذاتها: الإنسان وقدره، بعد تعديل المنحى الأسطوري، للرؤية، بعلامات مستمدة من الحفر في معطيات الموروث، والتاريخ: كفاح الإنسان، وقد كف ان يكون (قدرا ً)، باختيار رموز الخصب ، والعمل، وهي دلالات لا يمكن عزلها عن مفهوم الانعتاق ـ والتحرر، في نصب الحرية.
1 ـ شاكر حسن [فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق] الجزء الأول. دائرة الشؤون الثقافية والنشر، بغداد ـ 1983 ص46
2 ـ فيذكر جواد في كلمة له ـ " لقد نعتنا شاعر طيب القلب بأننا أعداء الشعب، وبأننا يجب ان نحارب من كل عراقي مخلص لوطنه. نحن أعداء الشعب، في حين ان غذاء الشعب مسامرات الجيب ومجلة الاثنين والأفلام المصرية والملاهي النتنة، هذا هو غذاء الشعب!" جبرا إبراهيم جبرا [جواد سليم ونصب الحرية] وزارة الإعلام ـ بغداد ـ 1974 ص46 3 ـ هذا ما قاله لي الأستاذ إسماعيل الشيخلي، كرد فعل لإعجابي بجواد سليم، ودوره الكبير في التشكيل العراقي، في مطلع سبعينيات القرن الماضي. 4 ـ الإيفاد الوحيد الذي حصلت عليه يرجع إلى عام 1979، حيث أرسلت إلى سورية، في عمل صحفي، من لدن رئيس التحرير، حسن العلوي، وكنت مازال اعمل على المكافأة الشهرية. والزيارة الثانية كانت بدعوة من الشاعرة أمل الجبوري، رئيسة ديوان الشرق ـ الغرب، إلى برلين، عام 2005. 5 ـ عباس الصراف [ جواد سليم ـ من رسالة دكتوراه في النقد الفني] وزارة الإعلام ـ بغداد 1972 ص91 6 ـ نوري الراوي [ تأملات في الفن العراقي الحديث] مديرية الفنون والثقافة الشعبية بوزارة الإرشاد ـ بغداد 1962 ص38 7 ـ فالحاضر، يقول جواد سليم " الزمرة التي تتذوق الفن والتصوير من جمهورنا تفرض إرادتها عليك بصورة عجيبة: (هذا كلش موزين. لازم تسوي فد شي تفتهمه الناس) هؤلاء يريدوننا ان نرسم تفاحة، ونكتب تحتها "تفاحة" (ئي هاي تفاحة، تماما ً تفاحة)، أو منظر الغروب على دجلة وتحنها "الغروب" ..." جواد سليم ونصب الحرية. مصدر سابق ص46 8 ـ يدوّن جواد سليم، في يومياته، ملاحظات ذات أهمية خاصة، حول رؤيته، في هذا المنجز الفني، فيكتب: " استقرت في راسي فكرة إنشاء هذا الموضوع منذ عدة سنوات. وقد استوحيت الشكل عند رؤيتي اسطة طه، البناء الوحيد في العراق في عمل الزخارف، وهو يعمل بكل دقة وهدوء في زقاق القصر العباسي....، وإذا أردت ان اشرح ما حفرته على هذا الحجر فسوف لا يتعدى الشيء الشكلي الحاصل ولذا أفضل السكوت، ولكن يجب ان اذكر هنا أني بلا شك قد استعنت، زيادة على نفسي والطبيعة والاتجاهات الحديثة، بعدة اتجاهات فنية ـ مصرية، وآشورية، وغوطية، وهذا شيء طبيعي. وكان في الإخراج اتجاهان: احدهما هو ما بدأت فيه عملي للإنشاء، وكان نوعا ً من الابتدائية الخشنة النقية الخطوط الهائجة العواطف، والثاني اتجاه كلاسيكي مثقف" جواد سليم ونصب الحرية. مصدر سابق ص32
[5] تمرين في الرؤية ـ في الحرية نصب من غير قاعدة، مقارنة بتقاليد إقامة النصب والتماثيل، القديمة منها أو المعاصرة، مما سيشكل مفارقة مع نظام عمل دفن البذرة ـ وانبعاثها، أولا ً، ومع ما هو راسخ، ومتعارف عليه، ثانيا ً، فهل كان لا شعور جواد سليم موازيا ً لدينامية النصب: الحرية، كي يقيّد جداريته ويكبلها بثقلها ـ وهي مكونة من بوابة مستطيلة بخمسين مترا ً طولا ً، وبعرض ثمانية أمتار، وبسمك متر واحد، ومرتفعة عن الأرض بخمسة أمتار ـ أم تاركا ً لا شعور العلامة، النصب برمته، لا يسمح للمشاهد إلا ان يرفع رأسه ـ بعد قرون من الرداءة تمتد إلى ما قبل احتلال بغداد 1258 ـ غالبا ً، إلى ما فوق الأفق ـ الأرض، للقراءة، والمشاهدة..؟ وسيسمح لنا الاستقصاء للإجابة، بمعرفة أراء (الملايين) التي اضطرت ـ وهي تدّرب على الحرية عبر لا شعورها ـ النظر إلى الأعلى، عن قرب، أو عن بعد، كي يعيد النصب، معالجة اعقد إشكالية درسها حكماء بابل، بالاستناد إلى فلاسفة سومر، حول جوهر (العدالة)،(1) ولماذا لم تجد، في الغالب، تطبيقات تناسبها، وهل خطر ببال جواد سليم، وقد أكد ذات مرة انه تعلم كيف ينسى الذي تعلمه،(2)، انه صاغ طريقة في الرؤية تقول ان الحرية ـ كالعدالة ـ تشترط ان لا تجعل من الإنسان (معاقبا ً) أو ان يكون محض ضحية، جاعلا ً من النظر إلى ما فوق (التراب) دافعا ًعفويا ً، من غير قيود، للتسامي ـ ولكن ليس على حساب الإنسان، بل بتحرره من القيود التي وجد نفسه مكبلا ً بها ـ كي لا يمتد زمن كمون (البذرة) طويلا ً، والى ما لانهاية، حيث النظر إلى أعلى، يماثل عمل البذور التي تمد جذورها عميقا ً في الأرض، كي تعانق براعمها الشمس. ليس هذا محض تأويل يسمح بالعثور على تسويغ لدحض موت: الفن ـ وموت الفنان ـ بحسب هيجل وصولا ً إلى رولان بارت ـ وإنما ممارسة عملية طالما وجدها جواد سليم لديه، منهجا ً ينقله من العشوائية ـ بالتجريب ـ إلى أسس الفن، في أقدم أزمنته، وفي أكثرها حداثة، حيث تشتغل المشفرات بإنتاج تدشينات تكاد تتقاطع مع مقولة سقراط: لا جديد تحت الشمس، إذ ْ، مع كل قراءة، يولد المتلقي ـ كي تأخذ الدورة قانونها ـ ليتكّون الجديد، بدحض قديمه، مثلما من الصعب ان يتم سلب (أحلام) العقول التي ولدت (حرة)، بحسب أممية قوانين العدالة، وكليتها. فأسلوب النظر، كتمرين في الرؤية، منح النصب قدرة إقامة علاقة مع الآخر، حيث الأجيال، تمر، وفي الواقع، يمر النصب، معها، كي يتجاوز معنى انه محض (لافتة) نحو العلامة اللاشعورية، التي أقامت جذورها عميقا ً في الذاكرة، كي يكون انبثاقها، مماثلا ً، لعمل البذرة: من الأرض نحو الشمس. وهو جوهر مفهوم الخصب، في حضارة وادي الرافدين، بحسب أساطير تموز وعشتار. وما دام اللاشعور ـ بل والتحرر من قيود الوعي نحو تحرير مناطقه السحيقة أو النائية ـ سيغدو درسا ً في التذوق، وبحسابات بسيطة، سيغدو النصب ـ بكتلته الضخمة المرتفعة فوق الأرض، المكونة من الاسمنت والحديد والبرونز ـ خارج عمل الجاذبية! فالأطنان المعلقة في الهواء، وجدت رابطا ً خفيا ً شبيها ً بعلاقة الساق ما بين أعالي الشجرة وجذورها، إلا ان هذه (الساق) هي الأخرى، تعمل عمل النسغ، وشبيهة بعمل القوى غير المباشرة للديمومة. فهل ثمة لغز ما، استبدل قوانين الجاذبة، بمنطقها، بقانون آخر لم يشعرنا بما دونه النصب (الملحمة)، من أزمنة ثقيلة، توازي، رمزيا ً، ثقل شخوص البرونز، وحجارة قاعدتيه أيضا ً. وهي تخاطب خيال المتلقي، وذاكرته، وقد ارتفعت من الأسفل، نحو الأمل ..؟ ومع ان وعي جواد سليم حافظ على ديناميته الواقعية، كاعترافه بان الفن العراقي، كالشعب، ارتبط بالأرض ..، لم يبلغ الكمال ولم يعرف الانحطاط..." متابعا ً " مبتغاه الدائم الحرية في التعبير إذ ْ حتى في فن آشور الرسمي فان الفنان الحقيقي ينطق خلال مأساة الحيوان الجريح" (3) ، إلا ان لا وعيه، ورهافته، وتجريبيته، شكلت دافعا ً للعثور على إجابة صاغها ما يكل أنجلو ـ وأكدها بيكاسو ـ بأنه يجد، أو يكتشف، ولا يصنع، أو يستحدث، أو يخترع، حيث بذل جواد جهدا ً، حد الموت ـ وكقدر طالما عرفّه يونغ وكأنه مدوّن عبر تتابعه المستقبلي وليس ارتدادا ً نحو مقدماته حسب ـ كي يصنع، ويستحدث، وينتج (اكتشافه)، وكي يمنح استحداثه مفهوم الاثاري وهو يعثر على الأثر ـ الكنز. معادلة لا تنغلق بحدود التوازن بين المقدمات والنهايات، وبين الذاكرة والمخيال، وبين اللا جديد والجديد، أو بين التراث والمعاصرة، أو ان الحي من الميت، والميت من الحي ..الخ، فحسب، بل تضعنا في المفهوم الأكثر تعقيدا ً للعلامة ـ كماركة خاصة بنوع يحدد هوية السلعة ـ بصفتها، كما قال ماركس، كم مشبعة بالميتافيزيقا. على ان (الميتافيزيقا)، بهذا المعنى، ليس محض تصوّرات أو أقنعة تم عزلها عن عللها، ودوافعها، ومكوناتها، وإنما للذهاب ـ عند ماركس وعند جواد سليم ـ نحو حركة حلزونية، لا ترتد، بل تتقدم، حاملة معها مشفراتها، بالكتابة أو بالفن نحو ما هو ابعد منهما، ألا وهو ديمومة ان الانشغال بالحرية، حتى عندما لا يقود إلى ذروتها، لا يقارن بمن لم يجعل منها نبراسا ً للانعتاق، والتحرر. وفي أحاديثي الطويلة مع الفنان إسماعيل فتاح، عبر نصف القرن الماضي، لم أجد مقولة دقيقة ـ وإن بدت شعرية ـ كالتي منحت فتاح، هو الآخر، نظاما ً مستمدا ً من القانون الذي سمح لجلجامش ـ علامة لديموزي ـ، ان لا يُدفن، ويجتاز طبقات الظلمة، إلا بالعمل، حيث ان النحت العراقي الحديث، لم ـ ولن ـ يمر إلا من تحت نصب الحرية، مثلما خرجت الرواية الروسية، من معطف غوغول.
_________________________________________________- 1 ـ حول الفقر في وادي الرافدين، يستشهد بلند الحيدري بالنص السومري التالي" اذا ما مات رجل فقير لا تحاول إعادته إلى الحياة فهو اذا امتلك الخبز عدم الملح وإذا امتلك الملح عدم الخبز، فإذا كان لديه اللحم لم يكن لديه البهار وإذا كان لديه البهار عدم اللحم... الثراء صعب المنال، ولكن الفقر معنا ليس للفقير سلطة" بلند الحيدري [لمحة عن العامل في الفن العراقي] مجلة الرواق، وزارة الثقافة والفنون ـ بغداد 1978 ص4 وما بعدها. وفي الأصل هناك محاورة حملت عنوان (العادل المعاقب) تفصح عن تعقيدات للمشكلة الطبقية. 2 ـ جواد سليم ونصب الحرية ـ مصدر سابق ص 72 3 ـ جواد سليم. دليل المعرض السنوي السابع للرسم، المعهد الثقافي البريطاني ـ 1958
[6] الرؤية ـ والتحولات لو لم يتم تفكيك الإمبراطورية العثمانية، بعد الحرب العالمية الأولى، كنهاية دورة، والبدء بدورة أخرى، وبعد حروب أدت إلى تراجعها، وتخليها عن الأجزاء التي استولت عليها، لكان العراق، ومعه باقي الأقاليم، غير مهيأ لتحولات وتصادمات، ستجري بين تقاليد بدت راسخة، وثابتة، وأخرى عملت على بناء تصورات، وعادات، وأخلاقيات مغايرة. انه ليس صراعا ً بين (القديم) وبين (المعاصر) إلا بصفته يحيلنا إلى صراع: أدوات ـ وما تنتجه هذه الأدوات من أفكار، ومُثل، وتحولات. فالأشكال المستحدثة (كالأنظمة الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية) ما هي إلا علاقة هذه الأشكال بمحركاتها ـ ومكوناتها العميقة. فلم تجر ثورات علمية، أو معرفية، ولم تحدث تراكمات ثقافية خلال قرون طويلة تعاقبت الحكومات فيها، عدا الانتفاضات، وأحداث التمرد المتفرقة، التي حصلت، في الغالب، بتراكم الظلم، حد الجور، وقد قمعت، في الغالب، بقسوة. على ان بعض اعقد نزعات الإنسان نحو (الانعتاق)، لم تدمر، حتى بالقضاء على محركاتها، ورموزها. لا لأن بنية الوجود قائمة على ملغزات ـ إن كانت مادية تاريخية أو محض تصورات مثالية وخيالية ـ بمعزل عن تلبية أساسيات الحياة: الغذاء، والصحة، والتعليم، مع قليل من الرفاهية! ويبدو ان استقرار العراق، النسبي، بعد تشكل أول حكومة (1921)، وصولا ً إلى الحدث الأبرز، في العام (1958) مهد لظهور هذا الشعور بان الإنسان لا يولد في الظلام، ويدّب في ممراته الحالكة، كي يدفن فيه، كما كان ألجواهري يكرر الحكمة الصينية القديمة: يولد الإنسان في الحزن، ويعيش فيه، ثم لا قبر له غير ان يدفن في الحزن! وإنما كانت ثمة (ومضات) و (هواجس) و (إرادات) ـ بفعل لقاء الحضارات وتصادماتها أيضا ً ـ أدت إلى أساليب تدشن للمرة الأولى، بالرغم من امتداد جذورها عميقا ً في التاريخ ـ وفي الذاكرة، ومنها العناية بالثقافة، والمعرفة، والفنون .. ولهذه الأسباب، ومنذ نهاية عشرينيات القرن الماضي، ظهرت مؤشرات بناء جيل ـ في الحقول كافة ـ سيشكل نواة جيل حمل اسم: الرواد؛ في الطب، الحقوق، التاريخ، إلى جانب الثقافة، في المسرح، والرسم، والموسيقا، والنحت، والسينما، والرواية، وفي حقول العلوم الاجتماعية، والفكرية..الخ ومع ظهور موارد جاءت مثل هبة، من غير جهد يذكر، وهو (البترول) فان ثمة تحولات ستفرض أنساقها باستحداث عادات كان من الصعب ان تحدث، في العصور الماضية، ومنذ ألف عام. فظهر هذا الجيل، وظهرت كوكبة من الأسماء، لم تتكون، من غير مفهوم (التحديث) والعمل المضني من اجل (الحرية) والسلم المجتمعي، والدخول في العصر. لكن هذا لم يجر فوق خشبة المسرح، للترفيه، بل بكفاح مرير، وعنيد، فوق ارض وادي الرافدين، والعراق الحديث. كفاح لم يتشكل إلا بتضافر الأدوات الحديثة في إعادة بناء حاضر البلاد، ومستقبلها. الأسماء التي مازالت جهودها جديرة بالاستذكار، ستمنح هؤلاء (الرواد) قدرات في استعادة أزمنتها الرائدة، في: الكتابة، والتعليم، والزراعة، والصناعة، وفي المخترعات، والمعرفة، والملاحم، وفي الفنون والثقافة، مثلما في العدالة والشرائع، كي تتكامل معادلة الحياة بين العمل والرفاهية، وبين الكد والسعادة، وبين الحاضر وما بعده. ومسيرة جواد سليم، منذ نشأته، أولى هذه الموضوعات، ترابطها، بما كان قد شكل حكمة في حضارات وادي الرافدين: العمل ـ العدالة. على انهما ـ في فترات تقصر أو تطول ـ يغيبان، أو يتعثران، أو يتراجعان، فتسود الفوضى، وترتد الحياة إلى الحقب المظلمة. كان جواد سليم، في الأصل، يمتلك موهبة خاصة، حد الاستثناء، بالعثور على حلول لهذه المعضلات ـ على صعيد الفن ـ متقدما ً على أقرانه، (1) ولكن المهمة لم تكن بحاجة إلى حياة واحدة، فكيف اذا به يتعرض للإجهاد، بين فترة وأخرى، حتى كانت ثمة همسات تتحدث عن رحيله، قبل انجاز نصب الحرية..؟ ولكن جواد سليم مكث يعمل ضمن حدود أكثر الموضوعات حساسية: الموت ـ الحياة، بموازاة: الظلم ـ العدالة، كي يستعيد أسئلة جلجامش، أو عبقرية كاتب الملحمة، حيث لم يترك موضوع الموت ـ الغياب، إلا ديمومة للحياة ذاتها. فجواد سليم، منذ جداريته (البنّاء) حلم ان يروي قصة الشعب، بتنوعه، وبأزمنته، وما عاناه من فترات قاحلة، امتدت إلى قرون، كي يبني، خارج نطاق المحترف، وبعيدا ً عن مفاهيم النحت المتعارف عليها، وبعيدا ً عن تلبية ذائقة النخبة الاجتماعية، صرحا ً استمد أسسه من الذات الجمعية للشعب، وبخطاب امتلك أدواته الحديثة. فالغياب، وإن هو لا يقهر، إلا ان معالجته بالحضور، سيغدو معادلا ً للحقيقة ذاتها التي قامت عليها الثورات، في مجالات الحياة المختلفة، مما دفع بالخطاب الفني إلى ذروته: دينامية العبور من عصر إلى آخر، حيث (الحرية) تعيد إنتاج من يمنحها تطبيقاتها العملية. ففي النصب الملحمي، إذا ً، يتصاعد (الحدث) عبر رموزه المختارة، بعناية، وعبر حركته الدرامية، كي لا يتوقف عند علامة أخيرة، بل بحركة دائرية، استمدها جواد سليم، بوعي أو بالحفر في ذاكرته السحيقة، من مفهوم الدورة، كأقصى حكمة استنبطها حكماء سومر: ان الحرية لا تأتي من العدم، بل لا يصنعها إلا الإنسان، بالعمل. وهو درس آخر استقاه جواد من محاورة الراعي والفلاح ـ وهي قصة ستشكل منحى مغايرا لها في التنصيصات القادمة ـ حيث سيكمل ما أنتجه الراعي ـ الجوال ـ وما أنتجه المزارع ـ المستقر في الأرض ـ لفك اعقد تناقض حاصل بما تنتجه وسائل الإنتاج، وتؤدي إليه من صراع جوهره الملكية ـ بمعنى التراكم ـ، ومصيرها عبر صراع الطبقات. ففي النصب، ثمة نزعة إنسانية، تتخذ من العلاقات حوارا ً، بتوتراته، لن يقود إلى الدمار، بل ليشكل بنراما جمالية، تحافظ على قانون ان الحرية، لا تنبني إلا برؤية كائنات حرة، ولا تتقاطع، بالتصادم، أو بالتدمير. فجواد سليم كتب، في العام 1944، إشارة تؤكد هذا المنحى: " إنني كثيرا ً ما امثل دور النحات بالمؤلف الموسيقي. فالمؤلف الموسيقي تتعلق درجة إنتاجه بكثرة سامعيه: فكلما كثروا كثر إنتاجه واخذ شكلا ً أرقى وأنفس، وكلما قلوا صغرت انتاجاته وقلت قيمتها..." لأن هذه المقارنة ستقود إلى " سعة رسالتها مع النصب الموضوع في احد الميادين والذي يعطي فكرة نبيلة عالية لكل سائر" فالنصب، في ذهن جواد، تمثل خلاصة تفكير دائم بالحرية، في مواجهة القهر ـ والموت، إن كان شخصيا ً أو قد يمتد ليشمل مساحة اكبر من المكونات. فالفن ليس تحديا ً للغياب، أو ترويضا ً له، بل هو الطريق ذاته مهما كان وعرا ً، وشاقا ً، وهو الذي يسمح للبذرة ان تحفر جذورها في أعتى الصخور صلابة، كي تورق، مادامت الشمس لا تكمن خرجها فحسب، وإنما لأنها تكمن في أعماقها أيضا ً.
1 ـ لعل إعجاب الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا ً له مبرراته، وليس محض هوى، أو لأسباب أخرى. وهذا ما كان يغيض الفنان خالد الرحال، فيقول: لماذا لن يولد فنان كجواد إلا بعد قرون..، بالرغم من الاحترام العميق الذي طالما أعرب عنه تجاه عبقرية جواد سليم. 2 ـ نصب الحرية ، مصدر سابق ص 63
[7]الجذور ـ والتواصل
هل يخبيء نصب الحرية، بعد أكثر من نصف قرن (1961)، من إقامته، أسئلة تبحث عن إجابات، أم انه سيقترح إجابات تستدعي أسئلة جديرة بالمناقشة ..؟ هل هو خلاصة حياة فنان، أم مقدمة لمصير سيمتد بعده ..؟ وهل النصب، بأجزائه، وتكويناته، مرآة للشعب، وأصبح (الثائر/ الجندي) مفتاحا ً له، أم انه رؤية جدلية تعبر نحو ما لم يدشن بعد ..؟ هل شيّد النصب بدافع الضرورة، بمعنى الحتمية، أم كان اختيارا ً استمد شرعيته في الحضور بواقعية الرؤية، بخزينها العميق، ومنهجيتها الجدلية، كي يرتقي إلى الأسطورة: إرادة تتضمن ديناميتها، ولا تتطلب المزيد من الشرح، ومن التأويل ..؟ لا مناص كان العراق (الحديث) بانتظار علامة دالة نهاية عهد، والدخول في عهد آخر؛ علامة ستبقى، بعد الحدث ـ 14 تموز عام 1958 ـ مثلما ترتقي العلامة لأداء دورها التوليدي للعلامات ـ الأحداث، ذلك لأن النصب لا يرتد إلى الماضي، كي يقص حكاية ما من الحكايات، بل يتضمنها، بالدافع ذاته الذي شغل (جلجامش)، لا بحثا ً عن الخلود، وما هو ابعد من الحياة، بل في مواجهة الغياب، والبحث عن حياة لم تتحقق بعد، فالملحمة ـ إن كانت تضمنت نسق الأسطورة أو واقعيتها في الحاضر ـ لا تكف عن إنتاج مصيرها لدى الآخرين، الجمهور، عامة الناس، وقد أصبحت نصا ً فنيا ً مفتوحا ً، معدا ً للقراءة، على مدار الساعة. إذا ً فإننا إزاء وظيفة معرفية تؤديها (الملحمة/ النصب ألجداري) بالدرجة الأولى، في الأداء، وفي بلاغته. ذلك لأن الفن ـ في حضارة وادي الرافدين ـ كالزراعة، العلم، الحكمة، التعليم، والثقافة ـ هو جزء من البناء المجتمعي بمعناه البنيوي للتربية ـ وللجمال ـ معا ً، ولا يمكن استبعاده، أو عزله عن أقدم ديمقراطية تأسست في بلاد سومر،(1) ومنحت الشعب؛ من المرأة إلى الشيخ، ومن الطفل إلى المعلم، ومن الشجرة إلى المعادن، حق المحاورة، ونبذ الأحادية، حتى ان اعقد الأسئلة الانطولوجية، الخاصة بمعنى الحياة والموت، تمت مناقشتها وفق المنطق، القائم على التجريب، والبراهين، والأدلة، وعلى الوضوح أساسا ً. فالفن الرافديني ـ وكلمات اندريه مالرو توضح مدى إعجابه به حتى انه تساءل ماذا سيقول رواد الحداثة الأوربية وهم يشاهدونه ـ (2)هو فن الشعب، في رصد ادق تفاصيل حياته اليومية، مانحا ً الفن موقعه، مع الكتابة، وباقي المخترعات المستحدثة، قدرة على: التجدد ـ عبر البناء ـ وليس عبر الإعادة، والتكرار. ولهذا كانت كموضوعات الفنان ـ وطرقه في التنفيذ ـ قد أسست أقدم علاقة ديالكتيكية بين الفرد والنظام برمته، السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وبين التصوّرات، والأعراف. فحتى في اعقد المعضلات كانت البلاغة تستقي نظامها من الوعي الجمعي، يؤدي الفنان فيه كماله في بلوغ الذروة: حرية التعبير. وقد لا يكون عمل جواد سليم في المتحف العراق الآثار، إلا محفزا ً له ـ مع انه شكل خبرة بصرية وصورية ذات اثر في أسلوبه ـ للتشبث بالحقيقي، كجوهر، وهو (العدالة) التي تمثلها الخطاب الفني. ذلك لأن دراسات الفنان للفن، نشأت وتبلورت عبر سياق التيارات الأوربية، مما شغله، كعراقي، ألا يفقد (هويته)، فهو حريص بالعثور على ذلك (الغائب/ الكامن) عبر مراحل الزمن، والذي لا يعلن عن حضوره إلا بما دعاه احد النقاد السوفيت، بالواقعية في شموليتها، وليس على صعيد الأسلوب حسب. ولعل الباحث يجد لدى جواد سليم، تجارب متفرقة تنقصها هذه الواقعية؛ تجارب تفاعلت مع التيارات العالمية ـ حد المطابقة أو الحافر على الحافر بحسب الجاحظ ـ إلا ان جواد سليم، في وعيه العميق، كان يدرك ان مسؤوليته تتطلب العبور من (التأثر) إلى ما يصنعه هو. فالفن، هنا، صناعة، ليس بصفته مستحدثا ً، وإنما لأن (الحديث) هو حلقة لا مرئية في جسد الملحمة، وتاريخها. ولم يكن لدى جواد سليم ـ وقد درس عميقا ً جدلية المخيال لدى معاصريه الأوربيين ـ إلا بالحفر في العناصر ذاتها التي أنتجت علاماتها، عبر العصور، مكانا ً وزمنا ً، وبايكولوجية قائمة على أنظمتها الهندسية، ومشفراتها، كي يستمد من (الختم) كل ما سيبقى مولدا ً للدهشة: في استقصاء التكوين، وعناصره، وفي ما هو ابعد من الوظيفة ـ وموضوعاتها. فعندما لم يجد الفنان متحفا ً مكتشفا ً إلا توا ً، عبر التنقيبات الحديثة، في حضارات وادي الرافدين، لم تصبح (حداثات) أوربا إلا محفزا ً له كي يخرج من صخبها، ومتاهاتها، ويتقمص دور النحات العراقي، كبنّاء، في رؤيته الفنية، والجمالية. فنحن إذا ً ـ في ساحة التحرير، وبغداد أدركت إنها استعادت قلبها ـ إزاء (ختم) دوّن فيه الفنان خطابها المعاصر، وليس الحديث حسب. فإذا كان الختم القديم لم تتجاوز مساحته إلا بضعة سنتمترات، فان ختم نصب الحرية، لن يستطيل ويمتد إلى خمسين مترا ً فحسب، بل سيشغل مساحة المخيال لدى الملايين وهي تحلم ان الحرية ليست إلا إرادة عمل؛ إرادة بناء ـ كتنمية بشرية بالمعنى اليوم ـ وان النصب، لم يستمد ديناميته، إلا منها. وليس محض مصادفة ان ينجز الفنان، عددا ً من العلامات المهمة: كشعار الجمهورية، والعلم، وعددا ً من التصاميم الأخرى للنقل، والنفط، والطب مثلا ً، لأنها، في هذا السياق، تمثلت الواقعية منهجا ً لها لإنتاج العلامات، التي شكلت، في الأخير، خصوصية الفن؛ هويته، ورسالته.
____________________________________________- 1 ـ يكتب عالم الآثار س. ن. كريمر: " كانت الجمعية التأسيسية الأولى في تاريخ البشر قد اجتمعت في سومر في الآلف الثالث قبل الميلاد، وهي لا تختلف عن مثيلاتها في وقتنا الحاضر، كما تقول الوثيقة، حيث إنها تتألف من مجلسين: احدهما مجلس الشيوخ، والآخر هو مجلس الشعب من المحاربين أو حملة السلاح.." كأقدم أو أول حكم ديمقراطي في العالم. انظر: س. ن، كريمر [هنا بدأ التاريخ ـ حول الاصالة في حضارة وادي الرافدين] ترجمة: ناجية ألمراني. الموسوعة الصغيرة ـ العدد(77) وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد 1980 ص 21 2 ـ يقول الكاتب والروائي الفرنسي اندريه مالرو، في مقدمته لكتاب [سومر ـ فنونها وحضارتها] ـ الصادر عام 1960ـ: " لو ان ديلاكروا اطلع، قبل مائة سنة بقليل، على الأعمال المصورة في هذا الكتاب ـ يقصد بلاد سومر ـ، لما استطاع ان يتبينها لأنها كانت خارج نطاق تصوره.." ويشخص: "كانت الوظيفة الثابتة لهذا الفن من أور إلى لكش واحدة من أسمى الوظائف التي يستطيع الفن ان يؤديها. إنها وظيفة النظام المقدس على المنظور، كما إنها كانت صفة تنسيق كوني. وكان هذان معا ً يواجهان هيبة الناس ويحررانها من فوضى المظاهر. فقد كان غرض هذا الفن ليس التقليد، بل الكشف عن الصيغ التي تساعد الناس على الدخول في صلات وثيقة حميمة مع آلهتهم، وهكذا يتضح ان هذا كان هو الغرض الذي لم يدركه الفنان مثلما لم يدرك القديس قدسيته) . أندري بارو [ سومر ـ فنونها وحَضارتها ] ترجمة:د. عيسى سلمان وسليم طه التكريتي. وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد 1979 ـ المقدمة.
[8] قراءات ـ مقاربة مع النصب سيبدو إجراء ً لا يخلو من التعسف لو أعدنا قراءة النصب، بدافع إجراء مقاربة بينه وبين المتلقي، وكأن دور (الكتابة) يتوقف عند حدود لا تتجاوز الوساطة، أو كما قال جواد سليم، بتندر، وهو يواجه صعوبات مع المشاهد (العادي) الذي لا يذهب ابعد من سطح العمل، إن كان منظرا ً للغروب، أو محض حياة جامدة. كالقول: لقد وضع الفنان الجندي كي يحطم قضبان السجن، ليذكرنا، بقول جواد عندما يرى المشاهد صورة لتفاحة فيخبره أو يكتب تحتها شرحا ً يقول: هذه تفاحة، أي ليست حصانا ً! فإذا كان الفنان نفسه قد شعر بالمسافة بين عمل الفنان، والمتلقي، وأثرها في الرؤية الفنية، فإنها، بشكل أو آخر، ستؤثر في الفنان، في نفسيته، أو في أسلوبه. ومازلت أتذكر، شخصيا ً، ما قاله احد المارة وهو يشاهد الجزء الأول، حاملة الشعلة، في ساحة التحرير، إنها تشبه (ضفدعا ً)! أو كائنا ً خرافيا ً، ولا تصوّر الثورة. هذه الهمسة، وسواها، لم تغب عن آذان جواد سليم، لتعجل ـ ربما ـ مع النوبة القلبية، برحيله. إذا ً ستكون أية محاولة في: الشرح، القراءة، الانطباع، التأمل، المقاربة، أو التأويل إسهاما ً للإضاءة، للخارج، وللحفر في الداخل، معا ً، بردم ـ الفجوات ـ ما بين النصب ـ النص الملحمي ـ وكل من تتجدد لديه رغبة التواصل، وديناميتها. ومثل هذه التعددية في القراءات، هي الأخرى، لا تتحدث عن نص مركب، بطابعه الملحمي، وما خبأ في النصب ـ وأنا سأستخدم (دفن) في سياق قراءتي له ـ من بذور، وأفكار، فحسب، بل كي تنبت، لدى المتلقي، عند كل قراءة، مغزى ديمومة النصب، في مواجهة تحديات الزمن، وتحولات الذائقة، كعلاقة جدلية، وجمالية، بين الفنان والآخر. فإذا كان النصب، كما يبدو للوهلة الأولى، نصا ً غير قابل للحذف ـ أو الإضافة، فان مهمات المتلقي ستشكل امتدادا ً لكل ما خبأه النصب، من رموز، ومعان، وحالات، وإشارات، وهواجس، هي في الغالب، عبر العلامات، والمعالجات التكنيكية، والتقنية عامة، تتضمن مشفراتها، اللاواعية، عبر مفهوم دينامية الفن عبر الأزمنة، والمتغيرات الحضارية. فالتجدد، والتجديد، لن يضع فجوات بين النص الفني وعمليات القراءة ـ بتنوعها ـ بل يضاعفها، لكن ليس لصالح القطيعة ـ كالتي حصلت بين آخر الجداريات الكبرى في بابل وأشور، قبل ألفين وخمسمائة عام، وبين الشروع بإقامة النصب، عام 1959، قبل افتتاحه بعام ونصف ـ وإنما من اجل المفهوم ذاته لمغادرة (ديموزي) عالم الظلمات، السفلي، بأعياد الربيع، وهو تأويل لن يتقاطع مع سياق آليات الولادة ـ الثورة، بعد الكمون، أو الدفن. وكي تكون لهذه القراءة، هنا، إسهاما ً شبيها ً بتسليط الضوء، من جهة، واستذكارا ً للقراءات السابقة، من جهة ثانية، وإعادة حفر في مكونات النصب ومخفياته، من جهة ثالثة، أجد لا مناص من عدم إغفال ذلك. فيذكر الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، ان جوادا ً، بعد تكليفه بتصميم النصب، وفي غمرة نشوته، وجد: " ان الأنظار تتجه إليه ليجسد الحلم الذي راوده لسنين طوال. لم يكن هناك أي تردد: لقد طلب إليه المسؤولون، بعد الثورة بأشهر قلائل، ان يصمم نصبا ً للثورة لكي يقام في ساحة التحرير ـ اكبر ساحات بغداد ـ وأعطي مطلق الحرية في التعبير ـ والحرية بالضبط هي ما كان يخشى ألا تجود به الدولة، وهي التي أصر عليها قبل كل شيء. لقد وجد نفسه ذات صباح يجابه موضوعه الكبير: له ان يصوغه في الشكل الذي يريد، بمطلق الحرية، وتنفق على تنفيذه الدولة" (1) وإذ راح يفكر بالتفاصيل، ازدحمت في ذهنه مواضيعه الأثيرة لديه، والتي ستجعل منها دراما، أو ملحمة، تنطق بلسانه، كما تنطق بلسان الشعب. ويضيف الأستاذ جبرا " وفي الوقت نفسه، كان عليه ان يبلور في شكل نهائي وحاسم نظرياته المتنامية حول الأسلوب العربي، العراقي، المعاصر, وهكذا كان عليه ان يوفق بين حاجة الدولة وحاجته، بين مطامح الجمهور ومطامحه، بين حسه ألزماني وحسه المكاني، بين فهمه للتاريخ وفهمه للمستقبل" (2) ولكن جواد سليم لم يقدم للمسؤولين في بغداد ـ وهو في فلورنسا ـ أي تخطيط او مصغر للنصب، فيما عدا مصغر عريض الخطوط للقسم الأوسط منه، الذي يصور قفزة الجندي، و (الحرية) حاملة المشعل ...، وهكذا كانت الثقة مطلقة بما سيصنع من نحت. ويذكر الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا (لا بد من القول ان رفعة الجادرجي، صديقه واحد المعجبين بفنه، كان له الدور الأهم في ذلك كله، إذ ْ كان احد كبار المسؤولين عن إقامة النصب" (3) وسينجز الفنان ملحمته، في سنة ونصف، وهي مدة قصيرة جدا ً، فضلا ً عن الصعوبات التي عاناها الفنان، في انجاز النصب، بعد ان ضاع الجزء الأوسط منه ـ المفكر السياسي، الجندي، الحرية ـ ولذا فانه أعاد صنع هذا الجزء من جديد في استديو محمد غني حكمت بروما، أما الأجزاء الأخرى من المصغر فقد نحتها فيما بعد في فلورنسا. مرض جواد سليم، ومكث ثلاثة أشهر في المصح، ثم عاد ليواصل عمله، ويتم انجازه ، ويأتي إلى بغداد، ليدخل المستشفى، مرة ثانية، وأخيرة، لتفجع بغداد برحيله، وكان في الـ 42 من عمره، بتاريخ(23 كانون الثاني 1961)، وسيزاح الستار عن نصب الحرية في: 16 تموز من العام نفسه.
1 ـ جواد سليم ونصب الحرية، مصدر سابق ص 75 2 ـ المصدر نفسه، ص 75 3 ـ المصدر نفسه، ص 78
[9]المرأة: دينامية التواصل إذا كان ديلاكروا قد رمز للحرية بالمرأة حاملة الراية، فان جواد سليم، وللمرة الأولى ـ حتى بعد أعظم المسلات والجداريات والرليفات البابلية، والأشورية ـ لم يغفل ان دينامية الحياة هي وليدة مفهوم التناقض/ التصادم/ والصراع، بمعزل عن الصيرورة في مجالها الدينامي، وان تمثل قوانين (الطبيعة، المجتمع)، في الفن، تتطلب مهارة استثنائية تتجانس فيها القوى، الحدود المشاركة، والمشتركة، ليس لهدمها ـ بحسب البرمجة ـ بل لإعادة بنائها برؤى لا تعزل الأنظمة الشكلية، الصورية، عن محركاتها، ولا تفصل العناوين، العلامات، عن ماهيتها. وإذا كان الفنان قد كرس عددا ً كبيرا ً من نصوصه الفنية لموضوعات الطفولة ـ والمرأة، تارة، كموضوعات مستقلة، كما في (أطفال يلعبون)، أو مشتركة، كما في لوحة (الشجرة القتيل)، فان لا وعيه ـ فطرته، تلقائيته، ورهافته، لم تنفصل عن المجال الصوري في التكوين الذي تطلب أكثر من معادل، بين الجوهر والظاهر، بين الواقعي والرمزي، وبين المباشر والإيحائي ..الخ، كي ينبني العمل الفني برؤية (واقعية) في سياقها المرئي، من ناحية، وكي يمنحها، في الوقت نفسه، خطابها الحديث، في عصر بلغت فيه الحداثات الأوربية، ذروتها، وهي في طريقها إلى ما بعد (الحداثة)، من ناحية ثانية. فالحلول لدى الفنان تكاد تكون شبيهة بالمخترعات، ليست مستحيلة، فحسب، بل تتطلب إعجازا ً. (1) فكيف سيتسنى للفنان ان يجد ممرات حقيقية كي يبلور خطابه بهذا التوازن؛ بين موروث يصعب إعادة إنتاجه من غير نظرية ـ رؤية ـ من ناحية، وبين حداثات مواكبة لمآزق كبرى كالاغتراب، والحروب، والانخلاع، وهي جميعا ً بلورت خطابات متداخلة يصعب تفكيكها من لدن فنان هو ذاته اعترف بما تمتلكه الحداثات من معضلات، لا تخص الأزمات الاجتماعية، والأخلاقية، بل أشكالها البصرية، الجمالية، والرمزية أيضا ً، من ناحية ثانية. لعل الحلول التي تبناها جواد سليم، إزاء هذه التعقيدات، سمحت له بالحفاظ على تلقائيته/ فطرته، ببناء أسلوبه، مستعينا ً بالواقعية كبرنامج عمل يلخص مفهومه للتجريب، وليس العكس. فالفنان لم يكن يتخبط، أو يجرب، بل ترك ما كان يضمره، يغادر مناطقه المخبأة باستلهام موضوعات (الحياة) وفي مقدمتها: كل ما سيشكل نقيضا ً للتيارات الأقل اهتماما ً بموضوعات الحياة، في الفن الأوربي، والاستعانة بتراث تبلور عبر شخصيته الشرقية، والتجريبية في ذات الوقت. فكان موضوع المرأة ـ الطفولة،(2) الاختيار الأكثر اختزالا ً/ حذفا ً، لخزينه المعرفي، كي يأتي أسلوبه مرآة لعالمه الداخلي، ومتصلا ً بالبيئة التي وجد انه إزاء خطابها. فلم يستعن بالرليف الأشوري ـ أو حتى بالجداريات البابلية ـ بالقدر ذاته إزاء الختم السومري، الاكدي، بما يمثله من تداخل بين الفكر المعرفي، والجمالي، في إنتاج واقعيته كخطاب دال على ما أنتجته مرحلة نشوء الكتابة ـ والفكر العلمي، في سومر، وأكد. (3) ذلك الانحياز إلى مفهوم (التدفق)، أسهم بالحد من التأثر بالتيارات الأوربية، وأساليبها، إلا التي ـ هي ذاتها ـ استعانت بالحضارات القديمة، كما في تجارب جايكوماتي، بيكاسو، خوان ميرو، على سبيل المثال، كرد فعل إزاء مفهوم موت الفلسفة، الفن، والإنسان ذاته، حيث عبرت قصيدة (الأرض اليباب) عن خراب الحضارة، وذروتها في مجالات المصائر. فموت الفن قد لا يكون معنى متداولا ً ـ لأن بول فاليري ذاته لم يطلع على ما دوّنه هيغل بهذا الصدد ـ ولكن رهافة الفنان ـ بين الإيمان وعدمه ـ سمحت له للتعرف على مفاهيم متعددة لم تخف التعبير عن مآزقها، مما دفعه إلى اقل الاختيارات تعقيدا ً ـ وأكثرها قربا ً لشخصيته، ألا وهي موضوعات: الخصب. فكيف سيجد الحلول المناسبة، وهو ينفذ نصب الحرية، وقد وضع (المقاتل/الجندي) بؤرة ـ ومفتاحا ًـ له، ومن غير تسييس العمل، أو كي لا يصبح إعلانا ً ـ ودعاية..؟ لم تغب الحلول ـ المنطقية ـ بواقعيتها، عن اختيارات الفنان، بمنح المرأة مكانها في النصب. كما لم يغفل أي فنان سابق بهذا الاستلهام لنظام: البذرة. فالمرأة، في النصب، لا تمثل دورا ً سلبيا ً، نتيجة واقعها الاجتماعي، والإنساني، بل تحولت إلى علامة دالة على مشاركتها الواقعية للحياة مع الآخر، في الأذى، وفي التحدي. فهي الطرف المكمل للمعادلة، كي تغدو وحدة بنائية، كجسد، وكرمز، في المفهوم الملحمي لموضوع: الانعتاق. فالجندي، وهو يحطم قيود العبودية ـ وقد بدا الموضوع سياسيا ً للوهلة الأولى ـ يجد، على اليمين، امرأة ترفع رأسها، مع يديها، إلى الأعلى، مبتهجة ومشاركة في الفعل، مؤيدة ومحتفلة، والمرأة ، على يسار الجندي، تحمل مشعلا ً للإنارة، ورمزا ً للحرية. وهي ليست مصادفة ان يمنح المرأة هذا التوازن، مع الرجل، وهو يعلن مغادرة الظلمات. لكن الفنان، في المنحى هذا، سيختار المرأة الثائرة، إلى جانب الجواد الجامح، فاتحة النصب، ومقدمته ـ من اليمين، وهو نظام الكتابة باللغة العربية ـ وبجوارها، امرأة تنهض، يشاركها، بجوارها، حامل الراية، تشاركه امرأة تؤدي العمل ذاته، وفي الوسط، اختار جواد سليم طفلة، بحركة عفوية، شبيهة بالنماذج السومرية، وهو النموذج المدور الوحيد في النصب، كجسد محاصر بين امرأتين، لأن النائحة، الثكلى، وكمشهد مستمد من الواقع، ستستغيث، مع حركة احتجاج صريحة. وبجوارها ثلاث نساء، عند جسد رجل يتجه نحو الأرض، ضحية، وقد ربضن كما تفعل النساء عادة قبيل الدفن. فالمعالجة ليست طوطمية حسب، كعلاقة عضوية وغير قابلة للتفكيك، بل معاصرة، كنسغ يمتد بين الأسفل مع خط الأفق ـ نحو الأعلى. وبمثل هذه المعالجة، ثمة امرأة تحتضن وليدها، وقد تكورت، كما البذرة تحافظ على سر بذرة الخلق، الوليد، وقد اندمج بجسدها كمشهد طالما كان معالجا ً في الفنون السابقة على أزمنة الكتابة. هذا الجانب ـ الأيسر ـ عالج فيه الفنان مفهوم السكون ـ الحركة، بالمفهوم ذاته لدينامية الخلق. فليس الموت ـ الكمون ـ الدفن، إلا بما يؤدي إلى ضده: المغادرة ـ الولادة. وفي هذا الجانب، بعد ان تكون القيود قد تحطمت، يسهم بها رجل مع امرأتين، أو امرأتان مع رجل ـ يختار الفنان جسدا ً أنثويا ً معتدلا ً، خلف القضبان، من الأسفل، وقد تحولت إلى أغصان. فالقيود توحي بمسار الصعود من الأسفل إلى الأعلى، والمرأة تواجه المشاهد مباشرة، بكبرياء. فهي تمثل نشوة التحرر ـ والاستقرار، والشروع بالعمل، حيث اليدين تؤديان هذا الدور، وليس الدور الذي مثلته (الأيدي) في الجانب الأيمن، من ضمور واستسلام وتمرد واستغاثة، كي تأتي الكتل الأخرى، مكملة للمرأة، حيث الاحتفال بالوفرة: امرأتان تتوسطهما صبية، الأولى تحولت إلى نخلة، يتحول السعف فيها إلى رايات ـ كعلاقة بين الرايات في يمين النصب ويساره ـ والمرأة الثانية تحمل ما أنتجته الأرض، فيما الصبية ترفع بذراعيها الواثقتين ثمرات العمل ـ وعلامته الصناعية. ويحلل الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، بالنسق ذاته، فيقول ـ حول هذا الجزء ـ: " مثل الفنان الرافدين العظيمين وفروعهما بنساء عراقيات. إحداهن فارعة كالنخيل الذي انتشر سعفه حول رأسها، وهي تمثل دجلة ـ وهي كلمة عراقية معناها (النخيل) ـ والأخرى امرأة حبلى بوفر العصور القديمة، فهي خصب كالسنابل التي تحملها، وتمثل الفرات ـ وهي كلمة عراقية معناها (الخصب) ـ والثالثة صبية تحمل على رأسها خيرات الأرض، ولعلها روافد دجلة والفرات" (4) فالجنسانية تغيب عن النصب تماما ً، (5) فإذا كان الرليف ـ في النحت العراقي القديم ـ يستوحي مشاهد الحروب، والمعارك، والصيد، وهي ذات طابع ذكوري عادة، فان جواد سليم، في هذا النصب، سيمنح المرأة مفهوم (الخصب) وديناميته، حيث المرأة تغدو طرفا ً أساسيا ً في المعنى المشفر لأسطورة إنانا ـ ديموزي، في النزول إلى العالم السفلي، وفي التحرر منه، بالمفهوم الرافديني الذي وجد امتداده، هنا، بالدور الذي قامت به المرأة: الأم، الثكلى، وحاملة المشعل، والراية، والثائرة، وبالمرأة رفيقة الرجل، عبر الملحمة، رمزا ً للعمل، والعطاء، والسلام. وقد تبدو بعض الإشارات حول علاقة جواد بوالدته مفتاحا ً لهذا المنحى برمته، ولكنه، في الحالات كلها، ليس الوحيد. (6) فالموضوعات التي ظهرت المرأة فيها/ والطفولة، لم تغب عن تجاربه طوال حياته، وهذا ـ في الجوهر ـ لم يتقاطع مع فهمه للحياة، كمشاركة بناءة، يكمل احدهما الآخر، وغير قائمة على التصادم. فالمرأة والرجل، كلاهما، يكملان بعضهما البعض، عبر تنوع حالات (الأسى) وحالات (الابتهاج). فالجندي ـ في هذا السياق ـ ليس علامة (ذكورة) بمعزل عن مفهوم الخصب، الذي عالج قضية (الثورة) بمعنى الانعتاق ـ الولادة، كي تكتمل الدورة ذاتها، للبذرة، عبر كمونها ـ دفنها ـ وتمثلها لحتمية التحرر ـ والمستقبل.
1 ـ لهذا ذكر الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا: " لقد اكتسب اسم جواد سليم في أذهان الناس هالة تكاد تكون أسطورية، وهو أهل لها، ولا ريب". جواد سليم ونصب الحرية ـ مصدر سابق ص7 2 ـ يلفت الأستاذ شاكر حسن النظر إلى: " ان فكرة الأمومة هذه التي لم يكتف جواد سليم بطرحها كموضوع بل عبر عنها على هيئة (بنية ذات شكل) تضمنت عنده (صورة) الهلال والدائرة أيضا ً) جواد سليم ـ الفنان والآخرون. مصدر مذكور ص176 3 ـ د. صبحي أنور رشيد/ حياة عبد علي ألحوري [الأختام الأكدية في المتحف العراقي] وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد 1982 ، إذ يؤكد ان صناعة الأختام المنبسطة والاصطوانية، من السمات الحضارية البارزة لبلاد وادي الرافدين إذ تمثلت في هذه الصناعة دقة الفن وأصالته، حيث استطاع الفنان ان يجمع بين موضوع الختم وإجادة صناعته في آن واحد. ص 9 4 ـ جواد سليم ونصب الحرية، مصدر سابق ص156 5 ـ الجنسانية بمعنى الانحياز إلى احد الجنسين، والغلو فيه. فيرى د. قاسم حسين صالح، ان حياة جواد سليم كانت خالية من العقد. فيقول: " لم يتعرض جواد خلال مرحلة طفولته إلى مشاكل عائلية. ولم يفقد خلالها والده أو والدته وكان يكن حبا ً لأفراد عائلته كافة ... إلا ان حبه لامه كان متميزا ً. وقد انعكس ذلك في أعماله الفنية المتعلقة بالأم والأمومة " قاسم حسين صالح [في سايكولوجية الفن التشكيلي ـ قراءات تحليلية في أعمال بعض الفنانين التشكيليين] دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1990 ص161 6 ـ تذكر إنعام كجه جي، في كتابها [ لورنا ـ سنواتها مع جواد سليم] إشارات حول والدة الفنان، منها: " أما أم جواد، فكانت فنانة أيضا ً ومطرزة ماهرة، امرأة ذات مهابة وصاحبة الشخصية الأقوى في العائلة...." " ص39
[10] قراءة الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا
إذا رأى الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، وهو يتحدث عن نصب الحرية، ان يعزل ما هو ظاهر في النصب، حد ان التأثير البصري الصرف هذا، قد يحجب ما فيه من مغزى يهم المتلقي أو لا يهمه، فهو يأتي بالدرجة الثانية، إلا انه سيتوقف عند نقطتين في النصب: " لا تستطيع تجاهلهما. الأولى هي ان وحداته كثيرة، والمسافة بين البداية منه والنهاية طويلة بالنسبة للعين، مما خلق مصاعب جمة للفنان، كما تعلم. والثانية، هي ان الفنان أراد ان يجعل لكل وحدة معناها الخاص، بل انه أراد المعنى واضحا ً، ومسلسلا ً، حتى كادت رؤياه النحتية المجسدة تروح ضحية لمعناه الرمزي المجرد. هاتان النقطتان خلقتا للفنان مشاكل لم يكن حسمها سهلا ً عليه، ومصاعب كان عليه ان يتغلب عليها بعبقرية، ولم تكن حلوله كلها من نوع واحد.." فإذا كان الأستاذ جبرا قد رأى ان جواد لم يكتف بالثورة في وثبة الجندي الشجاع، فكان عليه ان يفكر بالدلالة الرمزية للنحت أيضا ً ـ أو معا. فكان عليه ان يجد الصيغة التي تلتئم فيها روعة الكتلة والتشكيل مع روعة المعنى الذي يهمه، فكان عليه ان يجعل كل جزء واقعيا ً ظاهرا ً، ورمزيا ً باطنا ً. ولجأ إلى مخزون تجاربه الكثيرة، وما تعلمه من فن وادي الرافدين والفن الايطالي في عصر النهضة: إذ ْ ان في كليهما هذا الجمع بين النص البصري والصريح، والإيحاء الرمزي المضمن. فرواد الثورات، والجندي، والفلاحين (الزراعة) والعامل، ذات منحى واقعي، فان: الحصان، والباكية، والحرية، والسلام، والثور، والفلاح، جاءت رمزية. وبعضها كان مزيجا ً من كلتا الطريقتين ـ: كالأم الثكلى، والأم وطفلها، والسجين، وانهار العراق. وقد انحاز الأستاذ جبرا للمجموعة الأخيرة كـ: " أروع ما في النصب" ففيها: نشعر ان الفنان استطاع ان يوفق بين القوى المتصارعة في ذهنه، بين الحقيقة الداخلية والحقيقة الخارجية، بين تجسيد النحت وتجريد المعنى، بحيث تبقى الكتلة النحتية روعتها ويأتي المعنى في المرتبة اللاحقة مؤكدا ً عليها. فالمعنى إنما هو رافد من روافد جمالها، اكبر منه غاية تبرر الشكل المنحوت، كما في بعض الأجزاء الأخرى. وأخيرا ً: ليست هذه صرخات الحرية وأغانيها البرونزية فحسب، بل هي حلم يقظة رآه فنان بغدادي، وجراح امة عرفها مع شعبه، وأمل رحب لازمه طيلة عمره.
[11] قراءة الأستاذ شاكر حسن
يلخص الأستاذ شاكر حسن، في كتابه[ جواد سليم ـ الفنان والآخرون] مدخلا ً لفك بعض مشفرات نصب الحرية، فيرى انه إزاء: " عمل معماري و (نحتي ـ انصابي) في آن واحد. وهو من حيث الخامة توالف ما بين المرمر الأبيض كخلفية سحيقة تذكره بورق (الترمة)، وما بين الكتل النحاسية التي تجمع ما بين النحت المدور، والنحت البارز. مستنتجا ً ان الرليف هو حل وسط ما بين النحت المدور والرسم. لهذا سيختار القراءة (التعاقبية) من حيث تسلسلها الأفقي من اليمين إلى اليسار، في مجموعات أربع، موزعا ً الكتل من الحصان إلى كف المتظاهر الذي يبدو بهيئة راقصة. بينما تمتد المجموعة الثانية لتبلغ حدود المرأة الحانية على الطفل. وتبدأ الثالثة من مشهد خروج السجناء السياسيين من سجنهم، وحتى تمثال المرأة الممثلة للخصوبة، ويختتم المجموعات بموضوع الفلاحة والعمل، فهي تجمع ما بين شكل العامل حامل المطرقة وحتى شكل الفلاحة حاملة الحصيد أو الواقفة إزاء النخلة. لتكون قراءته قائمة على رؤيته ـ هو ـ بالحدود التي لا تتجاوز تأويله للسرد، مع هذه الرؤية. فالعلاقة بين الكتل، وكل منها يرمز إلى وظيفة محددة، تكمل بعضها البعض الآخر، تعاقبيا ً. وهكذا تكون المجموعة الأخيرة من النصب مقابلة للمجموعة الأولى: فالثور يقابل الحصان/ والعامل يقابل حامل اللافتة/ والأشخاص الثلاثة من الفلاحين فهم يقابلون الممسك بالعدة والممسك باللجام، بالميت الساقط على الأرض. فالاتجاهات، في النصب، تتكامل مع البناء العام للعمل الفني معتمدة على التناظر كقيمة أسياسية له. معترفا ً ان (التأويل) قد يتقاطع مع أي تأويل آخر، بل وحتى مع (وعي) الفنان لصالح ما هو ابعد من ذلك. فيقول بان ذاكرة الأشياء تظل تتدخل في عمل الفنان من غير (وعيه) تاركا ً الاحتمالات حرة بحسب تأويل المتلقي. وسياق القراءة ـ هنا ـ يوضح مقاربة مع الآراء الأخرى، بما يمثله النصب من تراكم خبرات من حيث تعدد الرؤيات، ومن حيث تعدد التقنيات والأساليب، محددا ً بموضوع النصب: الثورة. لكن هذا محض وصف بالظاهر، في سياق قلب مفهوم ان العمل الفني هو الفنان كي يغدو الفنان ـ أخيرا ً ـ جزءا ًمن عمله. ثم يتساءل: أيكون موته المفاجئ جزءا ً من عمله وهو في صيرورته المستقبلية ..؟ مختتما ً قراءته بان نصب الحرية هو: خلاصة لحياة جواد سليم وموته معا ً، بهذا المعنى الأخير ـ ومع ذلك ـ فباستطاعتنا أيضا ً ان نقرا فيه أي سفر آخر. ولا ضرورة لتذكير القاريء بعلاقة الأستاذ شاكر حسن بجواد سليم، بعمقها، من ناحية، وبرؤية جماعة بغداد للفن الحديث، ونسقها كصيرورة كونتها روافدها لتمثل الحاضر، وكمنجز قائم على صهر هذه الروافد، بالحفر في المناطق الأكثر قدرة على مواكبة حركة الزمن، من ناحية ثانية. فالنصب، لدى شاكر حسن، يبدأ من: التاريخي، والعياني، المباشر، نحو (الشيئي ـ الجنيني) كموقف يكمل قراءة الأستاذ جبرا إبراهيم، التي حافظ فيها على موضوعية (النصب)، كي يمنح المتلقي حرية كالتي عمل بها جواد سليم، حرية كأنها هبطت من كوكب آخر، لكنها بالضرورة هي، في نهاية المطاف: حصيلة تحديات.(2)
1 ـ شاكر حسن آل سعيد [ جواد سليم ـ الفنان والآخرون] دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1991 2ـ يذكر الأستاذ رفعة الجادرجي، بهذا الخصوص: " ثم، ان المثقفين عموما ً في تلك الفترة كانوا تقدميين، ضد السلطة الحاكمة والطبقة القريبة منها. حتى ان جواد قبل سفره بيومين مر من أمام ستوديو احد المصورين الفوتوغرافيين في شارع الرشيد، وكان يعرض صورة كبيرة لـ "عبد الإله"، وبالختم الذي في إصبعه شطب على الصورة. رآه شرطي فامسك به.. ولا ادري حتى الآن كيف انتهى ذلك الحادث في تلك الليلة. المهم ان جواد سافر" جريدة الجمهورية، بغداد، بتاريخ: 25/1/1978 حوار مع الأستاذ رفعة الجادرجي.
[12] قراءة ثالثة
عندما يستعيد المتلقي مشهد النصب كاملا ً، فانه سيعيده إلى الأرض. فجواد سليم ـ الذي عمل على صهر المؤثرات، بتنوعها، لا كمصالحة، بل كوحدة تضمنت اختلافاتها أيضا ً ـ درس عميقا ً مفهوم الدورات، إن كانت كبرى، خارج مدى الإدراك البشري، أو تاريخية، تخص حياة الأمم، والجماعات، والأفراد. أي انه ـ في سنوات الريادة؛ سنوات التدشين والتأسيس والمغامرة الخلاقة ـ أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته ـ أدرك ان مهمات الفنان متشعبة، ولا يمكن تأطيرها أو وضعها في مفهوم أخير. لكنها، إن كانت بلا فكر، فإنها ستبقى في حدودها الصورية، والشكلية. والفكر، ليس (النظريات) و (المعرفة) و (الخبرة) فحسب، بل كل ما سيشكل جوهر الرسالة ـ الخصوصية، والإرسال. والفت النظر هنا إلى الكتابات النقدية، التي نشرها الفنان محمود صبري، بواقعيتها الجدلية النقدية، وأثرها في توجهات الفنان،(1) بالعودة إلى (الواقع)، بدل الانسياق بمحاكاة الأنماط السائدة، حد استنساخها، بل إعادة الحفر في صيرورة (الوجود)، ومدى مسؤوليات الفنان كصانع: علامات لها (دورتها)في فهم ديالكتيك المجتمعات ـ والحضارات، والإنسان في الأخير. ولم يكن جواد سليم ـ مؤسس جماعة بغداد للفن الحديث بعد انفصاله عن جماعة الرواد ـ يحلم بأكثر من ردم المسافة التي تعزله عن الحقب المزدهرة في حضارة وادي الرافدين، لأن النقد الذي قدمه الفنان محمود صبري، ساعده على ذلك ـ في المنجز ـ بدل الاكتفاء بتجارب جمالية أحادية، أو باذخة، أو تزيينية من ناحية، أو متأثرة، حد التطابق، بنماذج سائدة، عالميا ً، من ناحية ثانية. قلت: عندما يستعاد النصب كاملا ً، فان دراسة الاتجاهات، لكل كتل، ستتوازن بين (الأعلى) وبين (الأرض)، كي يمتلك خط الأفق، علاقة: البذرة ـ في صيرورتها ـ بين الدفن ـ وبين الإنبات/الانبثاق. وهو ـ عمليا ًـ وجد هوى عميقا ً لدى الفنان، مع (الثورة)، بالمعنى الأبعد من الحدث ـ السياسي، نحو: الانعتاق. فإذا كان المشاهد لا يستطيع إلا ان يرفع رأسه، رمزيا ً، وعمليا ً، لمشاهدة الإفريز، فانه سيؤدي دور البذرة ذاتها كاملة. فالفنان المشبع بالحضارات القديمة، ومنها حضارة وادي الرافدين، أعاد قراءة أسطورة تموز ، جلجامش، وتركها تجد حياتها في ملحمته: الانبثاق، علامة فاصلة بين قرون لا اثر فيها لأية علامة، أو اثر، ومستقبل يتأسس توا ً يتطلب وجود علامات خاصة تمثله. ولعل إحساس الفنان بصدمة (الغياب)، لم تتبلور، كما تبلورت، وهو يشرع بتنفيذ نصب الحرية. فالموت ليس حدثا ً عارضا ً، ولكن معادله، سيشكل حدا ً مقابلا ً ـ وتحديا ً ـ ومكملا ً له. وقراءته لحضارات وادي الرافدين، قبل الطوفان، مرورا ً بسومر وأكد وبابل وآشور والحضر والعصر العباسي، لم يغب عنه، حيث لا يوجد (سبات) إلى الأبد، من ناحية، وان مسؤولية كل (حقبة) لا بد ان تنبني بمشروعيه النهضة ـ الثورة ـ الولادة، من ناحية ثانية. فالنصب، بحدود هذه القراءة، وجد زمنه كحد فاصل بين الدفن ـ والانعتاق. ومن منظور لا شعوري ـ وبنيوي ـ فان مفهوم الختم ـ الدائري ـ يؤدي ـ في هذا النصب ـ دوره، حيث مرور الملايين، من أمامه، سيحمل بصمات النصب، وما يعمل على إيصاله، أو بثه. أي ديناميته للعبور من الحاضر، بالإضافات، نحو تشكل ملغزات الدورة، ودحض السكون، أو الارتداد. ومع هذه العلاقة ـ للمكان والزمان ـ فان ايكولوجيا النصب، تبدأ من (الأرض) ـ الزراعة/ المرأة/ العمل/ النبات/ الحيوان/ ومعها الأدوات ـ نحو المعنى الرمزي لموضوع (الانعتاق) ـ بالجندي ـ رمزا ً للمحارب ـ حتى يومنا هذا قبل ان تمتلك الحكمة دعوتها أو نسقها أو برنامجها لنبذ العنف. لكن عنف (الجندي) ضرورة، أي ضرورة بتحطيم القيود، بتضافر دور ـ المرأة/ المناضل/ الشعلة/ الشمس/ الطفل ـ لمغادرة حالات: القنوط ـ والسبات، والارتقاء بالفجيعة نحو التغيير ـ الثورة. فالجندي لا يشطر النصب إلى شطرين، بل يؤدي دور (البؤرة) التي تتجمع عندها باقي أجزاء النصب، لأنه الشرارة، أو المفتاح، للبوابة كمشهد تاريخي تضمن رصد علاماته المتنوعة. فهو الممر ـ الجسر ـ والحلقة بين تاريخ مدوّن عبر مسيرة استمدها الفنان من واقعية المعاناة الحقيقية للشعب، ولكنها تحديدا ً ستمثل واقعية الأداء ـ وتحويراته، وهي واقعية جواد سليم، وخلاصة خبرة نصص فيها ـ دفن ـ أساليب وتيارات وتجارب ـ كي يغدو استحداثها شرعيا ً ـ جماليا ً، في الأخير. فإذا كانت إحدى أهم وظائف النصب هي (التعبير)، فانه لم يتأطر بالذاتي ـ ولا بالحفاظ على ما تدل عليه تفاصيل النصب، كالانتفاضة، أو الجواد الجامح، أو الثكلى، أو الأمومة، فحسب، بل على الرؤية التي لم تفرط بالهوية ـ الكيان الكلي لمجالي المعنى ومعالجته التقنية، والتكنيكية، والرمزية أخيرا ً. إنها احدى أكثر الخلاصات التي كوّنت شخصية الفنان: الحفر في المناطق السحيقة، وفي الوقت نفسه دراسة كل ما تنتجه الصيرورة، في المتغيرات، وأثرها في صياغة علاماتها. ولهذا قال جواد لنزيهة سليم، قبل سفرها للدراسة في فرنسا: " لكي لا يتأثر الفنان بمؤثرات أخرى عليه ان يظل باقيا ً على وعيه الفطري" (2) وقد دوّنت في كتابي [الحركة التشكيلية المعاصرة في العراق ـ مرحلة الرواد] (3)، إلى جانب اثر الفكر التقدمي، في التيارات الفنية الحديثة، ان (جذرا ً) بدائيا ً لم يتم التخلي عنه، لا عند جواد سليم، أو خالد الرحال، أو فائق حسن، بل الذي نراه يؤكد احد خصائص هوية هذا الجيل. والبدائية ـ أو الفطرية، لا تعني (التخلف) او التخلي عن التقنيات المبتكرة، والمستحدثة، بل أنها ستمثل النسغ، أو الرابط، او الموصل بين كل ما بدا مندثرا ً، أو ميتا ً، وبين الذي سنراه يتكون. ذلك لأن (البدائية) تعني تحديدا ً بالمعنى هذا (المصداقية) كما تعني (أصالة) التجربة، وليس لأنها مستعارة، أو تعمل عمل الأقنعة. وعودة إلى (المفتاح) فان الفنان كان أمينا ً ـ كجزء من واقعيته ـ لاختيار (المحارب/ المقاتل/ الجندي)، لحضارة ـ كمعظم الحضارات الشرقية ـ كانت تمجد البطولات، وتاريخها، في الغالب، دوّن بحسب نتائجها. فهو ليس علامة (ثورة) على حساب العلامات الأخرى، بل محرك لها، رمزا ً للتحرر ـ وللتغيير. وعندما نعيد قراءة الجانب الأيمن، فسنجد ان الفنان عالج حركة الكتل، باتجاه (الجندي) ـ من اليمين إلى الوسط، مثلما ستكون الحركة، في الجانب الآخر، من اليسار صوب الجندي، فهي بمثابة (الجسر) أو (الرابط) البصري، والتكويني للنصب. وبمعنى آخر، فان رمزية (الجندي) ـ كولادة ـ عميقة الارتباط بالحالات المختلفة التي عالجها الفنان. وليست هي محض مصادفة ان يختار موضوعات ـ: المفكر السياسي/ الثكلى/ الشهيد/ الباكية/ الطفل/ رواد الثورات/ الرايات/ والجواد الجامح، على الجانب الأيمن، كي يأتي الجانب الآخر، مكملا ً ـ في المسار المنطقي لدينامية الملحمة ـ كموضوعات: السلام/ دجلة والفرات/ الزراعة/ الثور، والصناعة. فموضوعات الجانب الأيمن، مكونة، وممهدة، للحدث ـ الثورة، وموضوعات الجانب الأيسر، نتيجة يفضي إليها أو يتوخاها الحدث، وقد سحبنا جواد سليم ـ دون ان يدفننا ـ إلى ما ورد في خاتمة ملحمة جلجامش؛ وهي خاتمة معادلة لأساطير ديموزي، أكدت ان الإجابات الفلسفية لمعضلات الوجود ـ والموجودات ـ لا تجد توازنها إلا بالعمل. ومرة أخرى منح الفنان (لاوعيه) حرية موضوعات الحرية. فالأسى والقنوط والقيود والتضحيات التي اختارها في الجانب الأيمن، لم تدم، كي تجد معادلها، في بناء حياة بعيدا ً عن الاستبداد، كتوازن، في تكوين النصب. وكأن حياة الفنان، التي توقدت، وتوقفت عندما بلغت ذروتها، في نصب الحرية، شبيهة بالنذور، التي تقدم استجابة لديمومة الحياة، فطالما شعر جواد سليم بهذا الهاجس، هاجس الموت. ولعل ما صدم الفنان ـ وأنا شخصيا ً سمعته ـ قد آذاه. فتقول نزيهة سليم، في حوار أجراه شاكر حسن معها: " علق احدهم على أشخاص النصب فقال إنها كالضفادع. وسمعت آخر (.....) يقول ان جواد سوف لا يكمل النصب. فكان جواد يقول "أنا اعرف ان منيتي قد قربت لكني سوف أكمل النصب، وهذا هو عزائي الوحيد" (4) وفي حوار لي مع الفنان د. خالد القصاب، حول دقائق جواد الاخيرة، قال لي ان جواد سليم ـ وهو يحتضر ـ سأله: هل سيكملون بناء النصب، اجابه القصاب: نعم. فانشرح جواد سليم، كأنه لخص، لا شعوريا ً، دورة (البذرة)، وهي تنبثق من كمونها، نحو الشمس. فهل ثمة ضرورة للشروح، أو للتفسيرات، بل وحتى للتأويل، لأجزاء النصب ومكوناته، أم إنها ستقلل من حرية المتلقي، وهو يؤدي دوره، كما في النصب، الذي ارتقى بالواقعي نحو الملحمي، وبالذاكرة نحو التدشينات، وبالتعبير نحو الرموز، وبالأسى نحو الابتهال، وبالحزن نحو السلام، وبالقيود نحو الحرية، بما توفرت لديه من قراءات، وحفريات، واستذكار ..؟ أرى ـ في قراءتي ـ ان واقعية النصب، لخصت احد أكثر قوانينها عمقا ً: ان الظلمات لن تدوم، كما في الحكمة السومرية، إلى الأبد، ما دام هناك ـ كما في نصب جواد سليم ـ (5) ألتوق لحياة ستشكل إرادة الإنسان، جوهرا ً لها. فالنصب، في الأخير، ليس معالجة لعلامات دوّنت مسارها عميقا ًفي ذاكرة الأجيال، بدءا ً بجيل 14 تموز 1958، فحسب، بل ذاكرة تدوّن مصيرها، طالما ان إرادة الشعب كانت تمتلك قدرتها على قهر عوامل: القهر. فنحن إذا ً إزاء ملحمة وجدت من يعيد صياغتها ـ لعوامل تكاملت أسبابها ـ مثل قربان لم يُقدم إلى المجهول، بل للمستقبل، حيث تستيقظ بغداد، في كل يوم، أمام أطياف جواد سليم، ترفرف، كعلامات للحرية، وصانعها، في الوقت نفسه، تأخذنا إلى مداها الأبعد. _________________________________________________ 1 ـ كان محمود صبري يرى ـ يقول رفعة الجادرجي ـ: " بان الفن ينبغي ان يكون سياسيا ً، وقال: بشكل مباشر أو غير مباشر أنت سياسي، سواء كنت تعلم أم لا تعلم. وكان محمود صبري ينطلق في هذا من موقفه التنظيمي. بينما كنت أنا قد طرحت الموضوع على النحو التالي: يجب ان نتجه إلى الفن الواقعي، وهو حصيلة تناقض ديالكتيكي بين الفكر والتكنيك وما الشكل إلا حصيلة لهذا التناقض. كان رد فعل جواد على هذا النقاش هو: ان الفن اذا أصبح سياسيا ً فان المضمون سيتغلب على التكنيك" ملحق خاص بجواد سليم، جريدة الجمهورية الأربعاء: 25/1/1978 2 ـ [جواد سليم/ الفنان والآخرون] شاكر حسن، مصدر سابق ص216 3 ـ عادل كامل [الحركة التشكيلية المعاصرة في العراق ـ مرحلة الرواد] جواد سليم : ضمير جيل. وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد 1980 ص24 وما بعدها 4 ـ جواد سليم/ الفنان والآخرون، مصدر سابق ص 11 5 ـ " وربما لم يزدد عشق جواد سليم لبغداد، إلا بعد أن رأى وتأمل وعاش في المدن الكبرى: باريس وروما ولندن، عبر فترات، وهو المشغول بمدن العراق الكبرى، ذات التراث الحضاري المميز، إلا أن راح يصّورها بمخيال استثمر محفزات الفن، بالدرجة الأولى، إلى جانب اكتشافه لنفسه، وليس لمعرفتها حسب. وبغداديات جواد سليم، بما فيها من لمسات باذخة، ومترفة، وتزويقية، وتميز على صعيد الأسلوب، إلا أنها لم تخف أنها كانت تخفي، وتضمر شيئا ً آخر، غير: الأشكال، والإمتاع، وكسب رضا المتلقي. كانت هذه الرسومات تدريبات استثمر فيها، برهافته، وتأملاته، وحدسه في تحديد لغته الفنية: استبعاد التكرار، والنسج وفق درب أخير، مما سمح له بالحفر في الموروث العام، من عصر الكهوف إلى ما بعد الحداثة، مرورا ً بتجارب الشعوب ذات الحضارات المختلفة. على أن هذا الانشغال له مركزه: لغز الانبعاث، بعد لغز الموت، في بناء تجارب تمتلك ديمومتها، إزاء ويلات الحروب، وكوارث الطبيعة، وطغيان بعض الشخصيات البشرية. ولا احد يستطيع أن يحدد رهافة جواد سليم، ورقته، إلا عبر صلابة استثنائية قادته لبناء مدينة، داخل بغداد، مدينة تضمنت مشفراتها، عبر رموزها، وإشاراتها، وعلاماتها، في نصب سكنته أزمنة، وعصور، وقبل ذلك كل ما سيمكث داخل النصب: تدشين كل ما لم يدشن." عادل كامل، كتاب معد للنشر، بعنوان [بغداد: أناشيد مدينة اشتغلت بالمشفرات]
المصادر 1 ـ جبرا إبراهيم جبرا [جواد سليم ونصب الحرية] وزارة الإعلام ـ بغداد 1974 2 ـ شاكر حسن آل سعيد [ جواد سليم ـ الفنان والآخرون] دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1991 3 ـ عباس الصراف [جواد سليم] وزارة الإعلام ـ بغداد 1972 4 ـ نزار سليم [الفن العراقي المعاصر ـ الكتاب الأول/فن التصوير] وزارة الإعلام ـ 1978 5 ـ شاكر حسن آل سعيد [مقالات في التنظير والنقد الفني] دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1994 6 ـ المثقف العربي ـ العدد الرابع ـ السنة الثالثة ـ وزارة الإعلام ـ بغداد 1971 7 ـ شاكر حسن [فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق] الجزء الأول. دائرة الشؤون الثقافية والنشر، بغداد ـ 1983 8 ـ جواد سليم. دليل المعرض السنوي السابع للرسم، المعهد الثقافي البريطاني ـ 1958 9 ـ مجلة الرواق، وزارة الثقافة والفنون ـ بغداد 1978 10 ـ س. ن، كريمر [هنا بدأ التاريخ ـ حول الاصالة في حضارة وادي الرافدين] ترجمة: ناجية ألمراني. الموسوعة الصغيرة ـ العدد(77) وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد 1980 11 ـ أندري بارو [ سومر ـ فنونها وحَضارتها ] ترجمة:د. عيسى سلمان وسليم طه التكريتي. وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد 1979 12 ـ عادل كامل [الحركة التشكيلية المعاصرة في العراق ـ مرحلة الرواد] وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد 1980 13 ـ عادل كامل [التشكيل العراقي ـ التأسيس والتنوع] دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 2000 14 ـ مجلة [ديوان] إصدار ديوان شرق غرب ـ برلين ـ عدد خاص بالفن العراقي ـ برلين 2004 15 ـ د. شمس الدين فارس [المنابع التاريخية للفن ألجداري في العراق المعاصر] وزارة الإعلام ـ مديرية الثقافة العامة ـ بغداد 1974 16 ـ نوري الراوي [تأملات في الفن العراقي] وزارة الإرشاد ـ مديرية الفنون والثقافة الشعبية ـ بغداد 1962 17 ـ مجلة ألف باء ـ بغداد: ملف أعدته الشاعرة آمال الزهاوي ـ العدد 159 ـ آب 1971 17 ـ معرض جواد سليم ـ قاعة المتحف الوطني للفن الحديث 23 ـ 31 كانون الثاني 1968 18 ـ جواد سليم: الفن/ الموقف/ الإنسان. ملف حول الفنان بتاريخ: 25/1/1978 19 ـ قاسم حسين صالح [في سايكولوجية الفن التشكيلي ـ قراءات تحليلية في أعمال بعض الفنانين التشكيليين] دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1990 20ـ د. صبحي أنور رشيد/ حياة عبد علي ألحوري [الأختام الأكدية في المتحف العراقي] وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد 1982 21 ـ في ذكرى رحيل الفنان جواد سليم. إعداد: عادل كامل. جريدة القادسية: 23/1/1985 22 ـ د. عاصم عبد الأمير [ الرسم العراقي ـ حداثة تكييفي دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 2004 23 ـ إنعام كجه جي[لورنا ـ سنواتها مع جواد سليم] دار الجديد
19/1/2016 [email protected]
#عادل_كامل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مستنقع الضفادع/ قصة قصيرة
-
15 قصة قصيرة جدا ً
-
في النحت العراقي المعاصر/ اياد حامد
-
4 قصص قصيرة جدا ً
-
7×7 قصص قصيرة جدا ً
-
مؤيد الراوي ... الخلاص المستحيل
-
قصة قصيرة / الثعلب في المغارة
-
لمناسبة المجلد الثالث طه سالم .. الانساق تتجدد
-
7 مواقف
-
7 قصص قصيرة جدا ً
-
3 قصص قصيرة جدا ً
-
قصة قصيرة/ رائحة ما
-
9 قصص قصيرة جدا ً
-
من النبات الى حداقئنا المعاصرة: نكوص ام ارتقاء..؟
-
قصص قصيرة جدا ً/ مستعمرة الديناصورات/ القسم الرابع والاخير
-
في التشكيل العراقي المعار/ عبلة العزاوي رحلة مع رائدة الخزف
...
-
قصص قصيرة جدا ً/ مستعمرة الديناصورات القسم الثالث
-
قصص قصيرة جدا ً/ مستعمرة الديناصورات / القسم الثاني
-
قصص قصيرة جدا ً/ مستعمرة الديناصورات
-
قصة قصيرة/ ممرات
المزيد.....
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|