العراق الى أين ؟
قراءة في ممارسة السلطة وسلك المعارضة .
صدام في المحرقة !
" القسم الثاني "
وضمن هذا المحور - فان المؤلفان ، يبدأن الفصل الأول لكتابهما بعنوان لافت للاهتمام / هو " صدام في المحرقة " موحيين للقارئ لان وهج سلطة صدام آفل لا محالة ، حيث يشيران في بداية الفصل الى الجو النفسي للجنود العائدين بعد الهزيمة في مطلع شهر اذار 1991 م حيث كان هؤلاء الرجال قد بدت عليهم آثار الإنهاك والضعف والتعب ، هؤلاء هم " بقايا ذلك الجيش الضخم " الذي أرسل لاحتلال الكويت والاستيلاء عليها وإخضاعها من قبل صدام حسين السنة الماضية والآن ، وبعد الهزيمة النكراء من قبل الولايات المتحدة وحلفائها . ها قد بلغوا المراحل الأخيرة من رحلة الفرار ذات الثلاثمائة ميل من جبهات القتال ، كانوا يتزاحمون ويتدافعون لغرض الصعود في سيارات أجرة وشاحنات ، وسيارات نقل كبيرة أصابها البلى والاهتراء لقدمها - أي شيء يسير على عجلات - بينما تعلقت مجموعة أخرى بيأس بإحدى سيارات النقل " ص 17 .
تلك هي الصورة التي رسمها المؤلفان للجنود العائدين ، والذين ما عرفوا الهزيمة في حياتهم ، بل وعلى امتداد التاريخ العراقي لم يهزم الجيش العراقي منذ مطلع السلالات الحضارية وحتى غزو الكويت ؟ !
لم يتصور أحد هزيمة الجندي إلا الذي عاشها فما بالك بإرث تاريخي يحمله هؤلاء الجنود في وجدانهم ، يسطر أمجادهم منذ عهود الإمبراطوريات العراقية القديمة وحتى تفجير ثورة 14/ تموز /1958 الخالدة في الوجدان ؟!
ثم عودتهم وهم يشاهدون عاصمة المجد بغداد قد دمرتها الصواريخ والقنابل المتدفقة بغزارة لا تعرف الرحمة في تمام الساعة الثالثة فجرا من يوم السابع عشر من كانون الثاني 1991 م ، كهدية من أمريكا الى شعب العراق بمناسبة العام الميلادي الجديد ، أضف الى هذه اللوحة التي ارتسمت في أذهان الجنود العائدين ، حلكه الظلام الدامس الذي عم العراق وبغداد بالخصوص حيث استهدفت مولدات الطاقة الكهربائية ، والبنية التحتية ، حيث عاشت المدينة التاريخية بأساليب القرون الماضية ، فالماء يضخ مع السائل الطيني من مخارج فوهات الحنفيات ولمدة ساعة واحدة فقط يوميا ، بعد ما كان نظام تصريف المياه قد عمل بأحدث نظام تصريف في العالم / راجع ص 18-19 .
ويصور إطار هذه اللوحة دخان كثيف اسود ، بقايا سواد آخر ناتج عن تدمير مصفى الدورة والدخان المنبعث من عوادم السيارات المستخدمة للوقود الرديء النوعية والمشبع بالماء والمتيسر فقط في السوق السوداء والمباع اغلى بمئة ضعف سعره قبل نشوء الحرب / ص 19
* يقول المؤلفان " كوكبورن " - : " كان الهواء معبأ بالدخان المتصاعد من مصفى الدورة أو من أكداس الإطارات المحترقة ، خلال فترة الحرب ، أملا في التشويش على طائرات التحالف المغيرة " ويضيفان : " كانت مطاعم شارع السعدون المشهورة بأكلاتها الشعبية العراقية مغلقة على مصرعيها وفارغة من روادها المدمنين عليها ، فها هي قد استبدلت بحواجز حجرية رابضة على الرصيف تستخدم لعمل الطعام ووقودها أغصان وفروع الأشجار المتكسرة والمستلقية على أرصفة الشوارع بفعل قصف قوات التحالف ، وتعلو سماء المدينة سديم رقيق اصفر اللون مصحوبا ، بغيوم شتاء بغداد القارص / ص 20 / في ما كان وجه الرأي يشاهد على مقربة من هذا المكان جسر الجمهورية المتأنق والمتألق دوما شموخا وارتفاعا على ضفتي نهر دجلة ، قد جزء الى ثلاثة أقسام بفعل ضربات القنابل الموجهة بأشعة الليزر / ص19 / ثم يضيف المؤلفان عبارة تزيد قتامة الروح حزنا في نفس المواطن العراقي ، تقول تلك العبارة : " وفي مكان ما ، وفي هذه الأجواء المفعمة بالقتامة والكآبة والمشحونة بالحزن واليأس ، يقبع الشخص الذي تسبب بهذه الكارثة المأساوية الرئيس صدام حسين " وتعتبر أفكاره واعماله وحتى اماكن تواجده ، في تلك الأيام المثيرة ، شيئا يكتنفه الغموض ، ولغط صعب التفكير بالنسبة لشعبه أو للعالم الخارجي " ص 20 .
كل هذه الرموز والدلالات تعمق جرح المواطن العراقي ، يضاف إليها عنجهية صدام وظهوره قبل الحرب ببدلاته الانيقة وعباراته الجوفاء ، وبعد القصف الجوي على العراق ظهر فيه الوهن والضعف والهزال " فقد خسر من وزنه ما يقارب الاربعون رطلا " في غضون الشهر الأول من الحرب " وداخلته الوساويس من انتفاضة الشعب القادمة . فهو يدرك جيدا ، مدى الطاقة الكامنة في نفوس الشعب ، والتي تزيد على صبره وتحمله ، لذلك افاض بعبارة ملؤها الخوف والقلق ، لأحد ضباط مخابراته " لا اعلم ما يخفي الله من أمر غدا " / ص 21 فيما كان الإعلام العراقي قد سعى جاهدا لتغير قناعات الناس بان هزيمة الجيش في الكويت تعتبر انتصارا تاريخيا وان احتلال تلك الإمارة الصغيرة الغنية بالنفط ، يعتبر عملا مشروعا ، وان العراق سيعيد الكرة ثانية ، فيما كان مراقبو المطبوعات في وزارة الثقافة والاعلام العراقية ، لم ينفكوا مستمرين على تغير عبارة " هزيمة الجيش العراقي في الجنوب " كي تقرأ " مصير الجيش العراقي في الجنوب " على الرغم من ان القادة العسكريون العراقيون ، قد وافقوا وبخنوع ملحوظ على الشروط المفروضة عليهم من قبل قوات التحالف ./ ص 22 .
*هذه الطريقة وهذا الاسلوب في ادارة حكم الدولة ، تنظر له قيادة صدام حسين انه هو الاصلاح ، وهذا الخطأ ، كما يقول صدام : " بعد مضي مئتي سنة من الآن ، سوف لن يدرك أو يميز أحد بأن "هذا " كان تقديرا خاطئا للعواقب " ص22 .
يعلق المؤلفان كوكبورن على كلمة "هذا " بالقول :" هذا " كان نتيجة مغامرة صدام حسين العظيمة ، التي حدثت في الثاني من آب عام 1990 ، حيث صور له عقله المريض بأنه سيفاجأ العالم بالاستيلاء على إمارة النفط الصغيرة - الكويت - دون ان يتعرض بمغامرته هذه لعقوبات وخيمة " ويضيفان : " وها هي المغامرة قد فشلت فشلا ذريعا ، وقد خاب رهانه كما كان رهانه لعقد مضى بأنه قادر على غزو جارته إيران ، والتي أوقعته في مأزق دامي مدة ثماني سنوات ، حيث ان حربه مع إيران " الخميني" وانتصاره الجزئي قد اكسبه على اقل تقدير ، في نهاية الأمر ، تحالفا واقعيا مع الولايات المتحدة ، والقوة العسكرية الأقوى في منطقة الخليج ، لكن كلفتها كانت باهظة جدا ، إذ أزهقت الحرب الإيرانية - العراقية حياة مئات الآلاف من العراقيين ، والشيء الأهم بالنسبة الى صدام انها اثقلت كاهله بديون بلغت ثمانون بليون دولار " ص 23 .
لقد كانت استهتارات صدام وحاشيته بمقدرات الشعب شيء لا يمكن تصوره ، بل ان جنون العظمة التي لبسته خيلائها ، جعلته يتصور بان مسألة غزو الكويت - الدولة المعترف بها رسميا بالامم المتحدة - مجر نزهة لقواد فيالقه تحقق نزوته الشخصية ، يقول - طارق عزيز: " بان فكرة الغزو المحدد كانت من اساسيات الخطة الاصلية / أي احتلال الجزيرتين في الخليج وحقل الكويت الشمالي ، المتنازع عليهما بين الدولتين / ويضيف طارق عزيز : " وفي اللحظة الحاسمة تخلى صدام عن هذه الخطة الاحترازية ، واستمر بمتابعة التقدم " ص 24 .
* هذا الاستهتار الواضح من قبل صدام بكل طاقة وتاريخ الشعب العراقي يشير بوضوح الى رؤى مريضة لديه توهمه بأنه هو الصحيح وحده ، ومن جانب آخر تفصح هذه " النزوات الشخصية " بأن القيادة السياسية العراقية ، وحزب البعث ومفكريه ، ما هم إلا بيادق شطرنج ، تتحرك في الرقعة التي يريدها صدام وحده ، وما على الآخرين إلا الخضوع والموافقة ، دون اعتراض بل دون أي مناقشة ، فالكل " غنم " تسوقهم عصاة الراعي .
هذا ليس اجتهادا منا ، ولا مبالغة " فأهل مكة أدرى بشعابها " ولتدليل على ذلك ، دعونا نتفحص الحوار الذي دار بين طارق عزيز وزيد الرفاعي - رئيس وزراء الاردن السابق . والذي دار بينهما في أواخر آذار عام 1991 م .
- الرفاعي : " ما تظنون إنكم عاملون ؟ أما أدركتم ما سيحصل اذا استوليتم على الكويت ؟ "
- طارق عزيز : " ارتكبت القيادة بعض الأخطاء والهفوات " غمغم عزيز متحدثا بمسحة اكتئاب طفيفة تغمر قسمات وجهه - اعتراف خطير بما لا يقبل الشك لاي شخص - كما يقول المؤلفان كوكبورن / ص 25 / إلا انه اعتراف لصديق قديم فكلاهما يعرف من تكون
" القيادة" .
- الرفاعي : حسنا ، لما لا تحاول ان تسوي الامور وتضعها في نصابها ، عن طريق التحدث اليه شخصيا ؟ / المقصود هنا - صدام شخصيا .
- طارق عزيز : " لقد فعلت " ثم اردف قائلا : قبل اجتياز طلائع وحدات الجيش العراقي الحدود الكويتية بفترة وجيزة ، كشف صدام لاعضاء مجلس الوزراء الابعاد الحقيقية لخطة الغزو ، والذين كانوا غير مدركين بان خطة الغزو ، المحددة اساسا قد وسعتها انامل قائدهم بصورة كلية " يقول المؤلفان كوكبورن : " اختار عزيز طريقه غير مباشرة ليوضح للمسؤول الاردني بان مشروع الخطة هذه محفوف بالمخاطر وغير مأمون العواقب " *2 .
- طارق عزيز : " قلت ، قد يقدم الامريكيون الى العربية السعودية ، ويشن هجوما مضاد ، لما لا نكل مشوارنا ونضم العربية السعودية للكويت " . وقد لاقى طارق عزيز ، على اقتراحه هذا تعنيفا لطيفا من قبل صدام . راجع ص 25 .
في الوقت الذي يشير فيه المؤلفان كوكبورن ، بان هذا الاقتراح في محيط تلك الدائرة كان أأمن سبيل ، وبنسبة 10 % في نطاق السياسة الحربية في إطار الخطة الرئيسية تلك . هذا ما صرح به أحد الدبلوماسين الروس المحنكين ، والمقيم لفترة طويلة في بغداد " . * 3 / ص 25
* ببساطة شديدة ، يدرك ابن الشارع العراقي البسيط ، بما فيه الغير متعلم ، بان صدام حسين لا يقيم اعتبارات لاي من قيادته السياسية أو العسكرية ، ويعتبر نفسه هو " فذلك السياسة " على اعتبار ان " خداع الخصم في لعبة السياسة هي منطق السياسة " وان طريقة الوصول للغاية وللهدف ، وان كانت غير شريفة ، فهي مقبولة لديه ، ولا يصح بمفهوم السياسة عنده ، اطلاع الجمهور او القيادة لديه ، على ما ينوي فعله ، فهو يصرح بذلك عندما تأمر على احمد حسن البكر ، وازاحه من السلطة عام 1979 م ، حيث يقول بتعريفه لعلم السياسة : " ما هو علم السياسة ؟ ويجيب نفسه : " السياسة هي قولك بانك ستعمل شيئا ما ، بينما تنوي عمل شيئا اخر ، ثم لا تعمل ما قلته ولا ما نويت عمله " ص 24 .
من هذا المنطق يستشف روح الكذب والخداع في الرؤية الاستراتيجية التي تحكم نظرته وتميز وحدانيته باتخاذ أي قرار سياسي ، خطأ كان ام صائبا ، لذلك ما كان ليعبئ بتهديدات التحالف لقصف بلده ، ولم يقم باعداد العراقيين نفسيا للحرب ، حتى ان الطيارين الذي قصفوا بغداد عند الساعة 58 ، 2 فجرا في 17 / 1 / 1991 م ، دهشوا بكتشافهم عدم احاطة المواطنين وحتى المسؤولين الحكومين علما بضرورة تعتيم المدينة ، حيث بدت العاصمة العراقية من الجو " تتلالآ ضياء وكانها مدينة لاس فيغاس " * 4 .
* ثمت نقطة هامة ، ينتبه اليها المؤلفان كوكبورن ، للربط بين علاقة الشعب بالسلطة من ناحية ومن ناحية ثانية ، اكراه المواطنين على تأييد الرئيس العراقي ، كجزء من الدعاية الاعلامية بان العراقيين مؤيدين لرئيسهم في الحرب ، يقول المؤلفان / لم يكن احد يعلم قيد انملة بما ستأول اليه الاوضاع في العراق حال اندلاع الحرب ، وعلى الرغم من احاديث وخطابات صدام المنمقة والطنانة عن " ام المعارك " كان الشعور السائد في الشارع العراقي هو العمل على ترويض النفس وتكيفها لمعايشة ومسايرة الوضع الطارىء ... فقد عمت ارجاء بغداد ، قبل اندلاع الحرب بفترة وجيزة المسيرتات المؤيدة للحكومة والمتألفة بصورة كلية من اطفال المدارس الذين جمعوا بواسطة ومسؤولي واعضاء حزب البعث الحاكم ، حيث تحول احد الحشود الجماهرية الكبرى الى بحر هائج ومتراطم ، مفعم بالحماس الوطنية / قبل بدأ القصف الجوي بايام قليلة / وبالمتحمسين السذج ، فقد ضلل العراقيون ولم يحاطوا علما بقرب حدوث الحرب " ص 28 .
بينما كانت مقاهي بغداد تتندر على احاديث الرئيس العراقي ، والذي يرمز بحديثه الى / اصحاب الفيل / بانهم حزب بوش ؟ ! راجع ص 29 .
كما ان الجنود الذين اجبروا واقتيدوا الى الكويت ، كانوا يعلموا علم اليقين بانهم كانوا يدافعون عن " نزوة طارئة ومغامرة مجنونة افتعلها قائد متهور " كان احد الضباط الهاربين الى المنفى في انكلترا يقول : " نحن لم نتوقع نشوب الحرب ، كان جل اعتقادنا بانها لا تخرج عن طور كونها اكثر من مناورات سياسية / ص 30 .
* من هنا تبرز الفجوة الكبيرة بين قيادة صدام وبين جنوده وضباطه ، فالكل لا يعلم بماذا يفكر القائد ؟ !
وقد يخطأ من يظن ان صدام حسين - بتلك الفترة - كان يقظا او ذا فطنة ، فالحرب بنتائجها اولا ، وما الات اليه ظروف العراق ثانيا ، وقيام انتفاضة الشعب في اذار 1991 ثالثا ، وهروب الملايين من العراقين الى خارج البلد رابعا ، تؤكد ضحالة الفكر الذي يتمتع به ذلك " القائد الفذ " ؟ بل ان جل البعثيين الكبار ، يدركون جيدا انهم اصبحوا " رعاع " وتحت رحمة امينهم العام ، والذي صفى الاكثرية منهم حال تسلمه المنصب الرفيع في الدولة ، هذا من ناحية الحزب الحاكم وأعضائه والقيادة العسكرية التي يقودها صدام .
وللحديث صلة في القسم القادم