|
هيرمان الساحر
سعد محمد رحيم
الحوار المتمدن-العدد: 1374 - 2005 / 11 / 10 - 10:18
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
وهو صغير حلم أن يكون ساحراً.. كان على غير وفاق مع الواقع، وقد عدّه مؤامرة سخيفة من فعل البالغين، لهذا رفضه وتهيب منه واحتقره في الوقت الذي تمنى بقوة أن يمتلك القدرة على إخفاء نفسه.. يقول؛ ( حاولت مراراً أن أتوارى خلف مخلوقاتي، وأعيد تعميد نفسي، متخفياً بمرح خلف أسماء مبتكرة ). كانت شخصيات رواياته الرئيسة أقنعة له، ومع كل شخصية أعطى عن نفسه صورة من زاوية مختلفة. فهيرمان هيسه موجود في ( لعبة الكريات الزجاجية ) وكذلك في ( ذئب البوادي وسد هارتا وكنولب ودميان.. الخ ) وتلكم هي بعض من عنوانات رواياته. ومع شخصياته المتوارية ثمة أشياء حياته الحميمة التي عشقها ولاسيما الموسيقى والكتب، فضلاً عن تجاربه في الحب والعمل والسفر.. وهيسه أبداً لم يكن خارج الواقع، ولكنه لم يكن في قلبه أيضاً.. كان في حقيقة الأمر في موقع المتصوف الذي يراقب ويرى أبعد من غيره، لذا لم يكتب كما كتب الآخرون. ورواية مثل ذئب البوادي هي صورة عن أوروبا القرن العشرين في قلقها وإبداعها وإحباطاتها وآمالها ومخاوفها.. وهذه الرواية تختلف قطعاً عن روايات اكسوبري وتوماس مان وهمنغواي وكامو وايريس مردوخ ، وكونديرا.. ففي ذئب البوادي يتراءى العالم ويتحرك ويتراقص كما على صفحة بركة صافية رجراجة، أو كما في شدو موسيقى شجية تنطوي على لوعة الإنسان وهواجسه، وهو ماثل وفاعل في الوجود. لا يريدنا هيسه أن نرضى بالواقع أو نهيم به لأنه عرضي حسبما يؤكد، ولأنه فضلات الحياة، لذا علينا أن نرفضه ونثبت مع مرور الزمن أننا أكثر قوة منه، فهو حين ابتعد عن واقع الناس العاديين لم ينفصل عن العالم الخارجي، بل ارتأى علاقة معه من نمط مغاير، وبدت حياته الخاصة له كما الأسطورة.. يقول؛ ( وكثيراً ما رأيت وشعرت بالعالم الخارجي وهو يتصل ويتناغم مع عالمي الداخلي بطريقة لا يمكنني إلاّ أن أدعوها ساحرة ) . وإذ أخفق في أن يكون ساحراً في تعامله مع عالم الأشياء فإنه تمكن من التعويض إبداعياً حين جعل يلعب في منطقة الخيال راسماً عالماً سحرياً بوساطة الكلمات، فصار الشعر مسرح سحره، ذلك أن شخصاً مثل هيرمان هيسه لا يمكن أن يكون إلاّ شاعراً. فهو شاعر في رؤيته إلى ذاته وإلى العالم، وهو شاعر أيضاً في تشييده لعالمه، ولاسيما في الرواية.. إن ( لعبة الكريات الزجاجية ) هي محاولة لتخليق الموسيقى داخل البناء الروائي، وبثها عبر أسلوب مفارق لأساليب الروائيين التقليديين، فهو يبتكر لعبته الخاصة التي لا توجد إلاّ على الورق.. إنها لعبة تخييل تأخذ نسغها من قوة الموسيقى المشبعة بها روحه.. روح هيرمان الساحر المتخفية وراء لغته، والحية في دخائل شخصياته. وقد عدّ قدرة المرء على إخفاء نفسه أكثر القدرات أهمية فتاق إلى امتلاكها .. يقول؛ ( وقد رافقتني هذه الرغبة ، وجميع قوى السحر الأخرى، طيلة حياتي، متخذة أشكالاً عدة، ما كنت في الغالب لأستطيع إدراكها فوراً، وقد حدث ذلك فيما بعد، بعد أن كبرت بمدة طويلة وزاولت مهنة الكتابة )*. يدخل هيرمان هيسه منطقة السحر من دون أن يغادر الواقع، ويلبث في الواقع بكينونة ساحر ورؤياه. ولعل جده هو أعظم من أثر فيه طفلاً.. كانت خزانة جده مصدر إلهام لا يضاهى بما تحويها من أشياء غريبة مثل ذلك الصنم الراقص القادم من الهند، والكتاب المصور الضخم الزاهي والجذاب الذي كان يتصفحه. وكما يخبرنا هيرمان فهناك أيضاً دمى هندوسية، وأكواب منحوتة من قشرة جوز الهند، وخيوط من الخرز الخشبية كالمسابح ولفائف منقوشة من سعف النخيل. غير أن جده كان يمتلك شيئاَ آخر مضافاً غير تلكم الأشياء.. يقول هيرمان؛ ( كان جدي يفهم جميع لغات الجنس البشري، أكثر من ثلاثين لغة، وربما كان يفهم لغة الآلهة كذلك، وربما لغة النجوم.كان بإمكانه أن يكتب ويتحدث باللغة البالية، وباللغة السنسكريتية، وأن ينشد أغنيات الكتارين والبنغال وهندستان والسنغال… الخ ). ذلك أن جده عاش حياة المغامرة والخطر في بلدان شرقية كثيرة، حارة.. كان الوجود الساحر للجد أمام الطفل يُشعل مخيلة الطفل هذا، ويجعله يحلم بالأسفار وامتلاك الأشياء الباهرة، وقبل هذا وذاك كان يتمنى بحرقة أن يغدو ساحراً.. في ما بعد، عندما كبر، سافر هيرمان إلى الهند وإلى بلدان شرقية أخرى، وبقي هاجس السحر في دمه.. كان سدهارتا البوذي المتصوف صورة مجازية لهيرمان الذي يخوض تجربة الحياة بعمق وقوة. ففي سدهارتا ثمة الخريطة السرية لحلم هيرمان الطفل وواقعه عندما خبر الدنيا وعرف معدن البشر، وقبل ذلك وبعد ذلك تعرف على ذاته في غموضها وجموحها وأهوائها وقدراتها في ممارسة سحر الكتابة.. الكتابة التي صارت المعادل الموضوعي لحياته كلها.. وخلال سنوات حياته شهد الوقائع الكبرى، ومنها الحربان العالميتان المدمرتان. وعلى الرغم من أن مسألة الحرب بـدت له مخيبة، حطمت حريته واستقلاله، وجعلته يعيد النظر في أسس فكره بعدما رأى الانهيار الأخلاقي الحادث في أوروبا المشتعلة بالحرائق.. نقول على الرغم من ذلك فإن الحرب لم تحطمه فكرياً، كما يؤكد.. كان هيسه في وسط الزلزال، ومع ذلك كانت جذوره راسخة . كان هيسه مثل أي مبدع كبير يتهيب من الكتابة ويشعر بمسؤوليتها الجسيمة. وكلما ازداد تجربة كلما وجد صعوبة أكبر في إمساك القلم، وتدوين أفكاره، حتى قال في رسالة له إلى أصدقائه وهو في السادسة والثمانين من عمره؛ ( أصدقائي الأعزاء : كلما طال الزمن في التعامل مع اللغة، كلما صار الجهد المبذول فيها أكثر صعوبة، وأكثر التباساً ولهذا السبب وحده لن أكون قادراً عمّا قريب على تدوين أي شيء، على الإطلاق ) . كان يعد نفسه للاختفاء الفيزيقي النهائي.. الاختفاء الذي لن يخلّف إلاّ الدهشة والإعجاب من خلال ما ترك من أعمال ساحرة . في قصة شهيرة له يرسم سجين قطاراً على وشك الدخول في نفق، على جدار زنزانته، وعندما يأتي سجانوه ليأخذوه يطلب منهم أن يمهلوه لحظات ليصعد إلى القطار.. يضحك السجانون ويعدّونه مجنوناً، إلاّ أنه يدخل إحدى العربات فيمضي به القطار داخل النفق، ويختفي هناك وسط ذهول السجانين. حكاية هذه القصة مستمدة من تجربة شخصية حقيقية له ، فلقد أُتهم وهو في شيخوخته بإغواء فتاة صغيرة وسُجن، ورسم اللوحة تلك على جدار زنزانته، وحين جاء الحراس ليصطحبوه، مثل كل مرة، إلى التحقيق، ربما تذكر قاعدة صينية قديمة، كما يخبرنا، فوقف لدقيقة حابس الأنفاس.. يقول؛ ( وحررت نفسي من وهم الواقع ثم رجوت الحراس بعذوبة أن يصبروا عليّ لمدة دقيقة لاغير حتى أدخل إلى لوحتي وأفتش عن شيء في القطار. ضحكوا عليّ كعادتهم، فقد كانوا يعتبرونني مختل العقل. بعد ذلك جعلت نفسي صغيراً، خطوت داخل لوحتي وصعدت على متن القطار الصغير. استمر الدخان الملوث بالسخام مرئياً لفترة من الزمن، يتدفق من فتحة مدورة، ثم تبدد واختفى ومعه اختفت اللوحة كلها، واختفيت أنا مع اللوحة وبقي الحراس ورائي تحيطهم الحيرة من كل جانب ). * هرمان هسه: سيرة ذاتية.. ترجمة محاسن عبدالقادر/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر.. بيروت.. ط1 / 1993.
#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أدب الرحلات والشرق المفترض
-
السيرة الذاتية: حضور الوثيقة ومناورات الذاكرة
-
المثقف وخانق السياسة
-
نصف حياة - نيبول - نموذج للرواية ما بعد الكولونيالية
-
أدب ما بعد الكولونيالية: إتساع المفهوم وتحديدات السياق
-
إخفاق المثقفين
-
خطاب السلطة.. خطاب الثقافة
-
الفاشية واللغة المغتصبة
-
الفكر النهضوي العربي: الذات، العقل، الحرية
-
اغتراب المثقفين
-
في الثرثرة السياسية
-
ماذا نفعل بإرث إدوارد سعيد؟
-
أدب ما بعد الكولونيالية؛ الرؤية المختلفة والسرد المضاد
-
الأغلبية والأقلية، والفهم القاصر
-
قيامة الخوف: قراءة في رواية( الخائف والمخيف ) لزهير الجزائري
-
الرواية والمدينة: إشكالية علاقة قلقة
-
المجتمع الاستهلاكي.. انهيار مقولات الحداثة
-
العولمة والإعلام.. ثقافة الاستهلاك.. استثمار الجسد وسلطة الص
...
المزيد.....
-
بعد وصفه بـ-عابر للقارات-.. أمريكا تكشف نوع الصاروخ الذي أُط
...
-
بوتين يُعلن نوع الصاروخ الذي أطلقته روسيا على دنيبرو الأوكرا
...
-
مستشار رئيس غينيا بيساو أم محتال.. هل تعرضت حكومة شرق ليبيا
...
-
كارثة في فلاديفوستوك: حافلة تسقط من من ارتفاع 12 متراً وتخلف
...
-
ماذا تعرف عن الصاروخ الباليستي العابر للقارات؟ كييف تقول إن
...
-
معظمها ليست عربية.. ما الدول الـ 124 التي تضع نتنياهو وغالان
...
-
المؤتمر الأربعون لجمعية الصيارفة الآسيويين يلتئم في تايوان..
...
-
إطلاق نبيذ -بوجوليه نوفو- وسط احتفالات كبيرة في فرنسا وخارجه
...
-
في ظل تزايد العنف في هاييتي.. روسيا والصين تعارضان تحويل جنو
...
-
السعودية.. سقوط سيارة من أعلى جسر في الرياض و-المرور- يصدر ب
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|