|
ذكريات وشجون
حميد كشكولي
(Hamid Kashkoli)
الحوار المتمدن-العدد: 5044 - 2016 / 1 / 14 - 22:15
المحور:
سيرة ذاتية
ذكريات وشجون
بقلم :حميد كشكولي
في زيارتي الأخيرة عام 2011 إلى مسقط رأسي خانقين، التقيت القلة الباقية من الأصدقاء الذين بقوا على قيد الحياة، من ضمنهم أحد الكادحين و المناضلين الشيوعيين القدامى، طلب مني أكثر من مرة أن أكتب شيئا عن شخصيتين مهمتين من رجال المدينة ،أصبحا رمزين من رموزها التاريخية، ألا هما الراحلان الملا محيي الدين داييزاده والشهيد الشيوعي نصر الدين مجيد. وقد بقيت طوال هذه الفترة أشعر أن ديناً يثقل كاهلي بعدم تنفيذي الوعد الذي قطعته على نفسي أمام الصديق الحلاج. وقد قلت له في حينه إنني لا أعرف أكثر مما تعرف ويعرفه الناس الأخرون عموما لكي أكتب عنهما بثقة واطمئنان، فردّ بأنه سوف يزودني بمعلومات وافية تكون أساساً لموضوعي الذي سأكتبه، لكن لم تصلني لحد اللحظة أية معلومات، و لا أتصور أن تتوفر لديه أخبار عنهما تزيد عما لدي. و قد قررت اليوم أن أقوم بأداء الدين، و أن أوفي بوعدي. لقد كان الراحل الملا محيي الدين داييزاده من طبقة الملاكين و البكوات، يسكن مع عائلته الصغيرة المتكونة من زوجته والتي هي ابنة عمه و ابنته الوحيدة بشرى وأخته ناجية والوالدين في بيت كبير قديم يتشكل من 3 طوابق و غرف و حجرات عديدة. واليوم تهدم البيت و لم تبق منه سوى الأطلال. و أهله كلهم رحلوا إلى الرفيق الأعلى. و قد تزوج المرحوم بامرأة أخرى أنجبت له ولداً أصبح اليوم رجلا ًكبيراً. كنت أسكن في نفس الحي ، ولم تكن علاقاتنا تتجاوز السلام والتحيات العابرة. ومن المفارقات أن المرحوم سليل البكوات اشتهر بكونه شيوعياً، و قد اعتقله الحرس القومي و زجّوا به في سجن مركز الشرطة مع عشرات آخرين من شباب المدينة بعد انقلاب شباط عام 1963و تعرض إلى التعذيب و الإهانات. وقد كان يشتغل معلم مدرسة ابتدائية، إن لم تخنّي الذاكرة ، كانت مدرسة القحطانية الابتدائية، بينما كنت أنا تلميذاً في مدرسة النعمان في نفس المبنى الذي كان خاناً قديما ، فيه سرداب واسع يستخدم لدرس الرياضة أيام المطر، وأتذكر أنّ مسابقات رياضية أيضاً كانت تقام هناك إن صادفت موسم الشتاء.انتقلت المدرسة إلى المبنى الجديد في قصري باغ حين كنتُ في الصف الخامس الابتدائي. كان التلاميذ من أبناء المحلة يروون لي أن الأستاذ محيي الدين كان ظريفاً معهم وأباً ومربياً طيباً، وأظرف ما يروونه عنه أنه كان غالباً ما يخاطب التلاميذ المشاكسين و أغلبُهم كان آباؤهم يعملون بقالين و باعة في دكاكين كلاسيكية صغيرة، بقوله : ارحم أبوك، إنه مدفون في قبره من اليوم حتى رقبته. إذ كان يشبّه دكاكينهم بالقبر، وهم جالسين فيها و تبدو منها رؤوسهم فقط. يخرج الملا محيي الدين من المعتقل بعد انقلاب عبد السلام عارف على شركائه البعثيين بعد شهور، بعد أن باتت جرائم الحرس القومي المليشيا البعثية لا تطاق وتثقل كاهل كل القوميين العرب بالآثام في العراق. و يوجه الأستاذ كلمات عتاب لأخته ناجية لعدم قيامها بواجب الأخوّة و لم تبعث له بالطعام أثناء فترة اعتقاله، ما أغضب المرحومة، فتتناول رحى المطحنة ( الهاون) الحديدي لتهشيم رأس الشرطي الذي لم يؤدي الأمانة، إذ كانت يوميا تبعث بطعام وخاصة الدجاج المشوي بيد هذا الشرطي الذي هو أحد معارفهم، لكنه بدل تسليمه إلى أخيها كان يأخذه إلى بيته لإشباع أولاده. وفي كل الأحوال يمنعها المرحوم من أداء نيتها بضرب الشرطى و الانتقام منه، و يطلب منها الركون إلى الهدوء و نسيان الأمر نهائياً. فهل كان الملا محيي الدين داييزاده حقاً شيوعياً وعضواً في الحزب الشيوعي؟ أنا أشكّ في ذلك ، وقد سألت كثيرين من الكوادر القدامى فكانوا يبدون عدم معرفتهم بذلك . فليس كل من اعتقله الحرس القومي كان شيوعياً، وقد اعتقلوا الكثير من الناس البسطاء لمجرد الشبهة و لأغراض شخصية، و أنني أعرف كثيرين اعتقلوا، مثل المرحوم إبراهيم جواد القصاب، لم يكونوا شيوعيين لكنهم وقفوا ضد الانقلابيين و كانوا يحبّون الزعيم عبد الكريم قاسم. وكان إبراهيم جواد القصاب حسب ما روى لي محمد عمر كان يشتم في السجن الشرطة الخفر و الجلادين و يصرخ بوجههم : مؤامرة فاشلة! ، و يطلق شعارات معادية للانقلابين. كنا في تلك المرحلة سذّجا و كنا نطلق على أي شخص يتكلم بالعدالة و يعادي الإقطاع و الاستعمار، أو له مشاغل مع المطالعة و الكتب و الثقافة " شيوعي" بدون أن تكون لنا معرفة حقيقية بمبادئ الشيوعية والاشتراكية. كان الراحل يكتب الشعر العمودي، وقد قرأت في الفيسبوك أن مجموعة من المثقفين من أهالي المدينة اقترحوا ترميم داره باعتبارها معلماً تاريخياًو ثقافيا، و طبعَ أشعاره، لكنني رأيت البيت لم تبق منه سوى أطلاله، و لم اسمع أن طبع له ديوان شعر أو كتاب. و كل ما اعرفه عن شعره هو سماعي قصيدة ارتجلها علي المرحوم الملا عيسى الأركوازي في بغداد، و أبيات سمعتها من محمد عمر "الشيوعي" المطرود من الحزب في ستوكهولم السويد، منها عدة أبيات كتبها بالكردية مهداة إلى ابنته بشرى. لا أتذكر الآن أية كلمة من تلك الأشعار. ألقى الملا عيسى قصيدة الملا محيي الدين بحماس بحيث ضحك أحد الأصدقاء و قال لي بدون أن يسمع الملا ذلك : كأنه يلقي علينا قصيدة للمتنبي. الملا عيسى الاركوازي كان ضليعاً بقواعد اللغة العربية و كان يعطي لبعض الطلاب دروساً خصوصية، وعاش ومات فقيراً معدماً بسبب إبائه و احترامه لنفسه و حفظا لكرامته، ولم يتزوج و لم يحصل على أية فرصة في حياته _ حسب اعترافه لي_ لممارسة الجنس. وكان عيسى يُعرف في الأوساط الماركسية بأنه رجل دين تقدمي، وكان يحبّ الاتحاد السوفييتي، و يقول إن الشيوعيين لأهدافهم في تحقيق العدل و الحق والمساواة هم المسلمون الحقيقيون الذين يحملون مبادئ علي بن أبي طالب و أبي ذر الغفاري و سلمان الفارسي . وقد تم استجوابه في دائرة الأمن بعد انهيار الجبهة الوطنية بين الحزبين الشيوعي والبعثي، وتعرض إلى الإهانة و الشتم و الضرب.
والشيء بالشيء يذكر، أن محمد عمر يتذكر الشيء الكثير عن ظرفاء المحلة القديمة عبد الله بك ومجنوناتها ومجانينها ( العقلاء) ، وعن وجهائها ومتميزيها والمبارزات الشعرية و المقالب و خزعبلاتها وتفاهاتها، يحفظ عن ظهر قلب أشعار دايه گَوره و عمه حباو و صحبت وقولای و غيرهم. وتفسيري لعدم نسيانه تلك الأشياء هو تكراره المستمر لهذه الأمور بسبب افتقاره إلى منهجية لفهم و تفسير الأمور و الحياة . سألت عنه في كردستان أيام الأنصار بعضَ الشيوعيين الذين عاشوا لفترة في الاتحاد السوفييتي فكان أشهر من النار على العلم و لخص أحدهم معرفته به بقوله إن لا علاقة له بالعلم وله مشاكل كثيرة مع الحزب. وبعد هجمات الأنفال قرر الحزب اخراج ما يمكن من الأنصار إلى دول اللجوء، وكنت أنا ضمنهم. وصلنا إلى تركمانستان عبر الطريق الطويل في إيران والنهر الهائج في سرخس. بقينا هناك في انتظار ممل و انتابنا التذمر و الغضب على قيادة المنظمة الحزبية في موسكو، حتى تقرر إخراجنا إلى دول اللجوء الأوربية الغربية على دفعات و من مطار موسكو. وصلت قبل الغزو العراقي للكويت بيومين إلى ستوكهولم ونزلنا في فندق حيث كانت عوائل عراقية قادمة من إيران وسوريا ويزورهم أفراد من أهاليهم وأقربائهم المقيمين في السويد الذين وصلوها قبلهم . و بالصدفة كنا جالسين في بهو الفندق قالت إحدى النساء اللائي تأتي لزيارة أمها و أختيها إن زوجها من خانقين و يُدعى محمد عمر. فقلت لها إننا أقارب وبلغيه سلامي و قولي له إن حميد من عائلة كشكول هنا و يريد أن يراك. فجاء اليوم التالي ورحّب بي و اشتكى من الحزب و شتم أحد الكوادر الذي قرر طرده من الحزب و المضحك أن بعض معارف و أقارب ذلك الكادر كانوا جالسين في بهو الفندق و لا أدري أن كانوا سمعوه أم لا ، و لكني على يقين إنهم أحسوا بذلك لفرط حساسيتهم و حذرهم من كل حركة حولهم. كان محمد عمر قبل هروبه إلى الاتحاد السوفييتي يقتني كتبا و مجلات ونشرات عديدة . و أتذكر أنني في صباي استعرت منه رواية الأم لمكسيم غوركي. كنا نلمحه وهو يقرأ و في ليالي الصيف كان يمد توصيلة كهرباء لإيصال التيار لمصباح فوق السطح و يفتح كتاباً فوق رأسه، يقرأه تحت النور وكأنه يحضَر لامتحانات البكالوريا. كما كان أغلب الناس فقراء ووالده يعمل اسكافيا بالكاد يسدون رمقهم ، وكان كثير من أقاربه يساعدونه، لكنه أيام الحصار الجائر التي جلبت عليهم الجوع و المصائب لم يلتفت إليهم و نساهم. علي شريف أحد أصدقائنا الطيبين و الكادحين ابن عائلة فقيرة كادحة، كان يعمل في تلك الفترة في المساء في طحن حنطة الهريسة في دكان صغير تابع لمقهى المرحوم أحمد جايجي كما كان يعمل في مصنع الثلج الذي كان يملكه المرحوم كامل خماسة. وكان يتباهى بعمله في معمل الثلج لأن مؤسس الحزب الشيوعي العراقي يوسف سلمان يوسف( فهد) قد اشتغل في معمل الثلج في الناصرية. تحدث لي أنه بينما كان يهمّ بطحن مواد الهريسة، كان يسترق السمع لمخبر وكيل الأمن وهو يتحدث إلى مجموعة من رجال الأمن في كيفية وضع خطة لإلقاء القبض على محمد عمر. وقال صديقي علي شريف إنه استعجل في إنهاء عمله تلك الليلة، و وصل مسرعاً ليخبرَ محمد عمر بالأمر الخطير مما اضطر إلى الهروب من البيت و تهيئة سيارة تنتظره في مكان يقع بعيداً عن مركز السيطرة الواقعة في مدخل المدينة على طريق بغداد. وقد سمعتُ من أصدقاء أن حسن نازدار أوحسن أسد أو حسن الشمري قد هرب بنفس الطريقة إلى الاتحاد السوفيتي، وأن الفرق كان هو أن الشرطة وصلوا إلى الأخير وكادوا أن يمسكوا به ، فيثب من فوق تنور البيت إلى سطوح الجيران و يتوارى عن الأنظار طوال الليل، و يكون بعض الرفاق في انتظاره في الفجر بسيارة خارج نقطة تفتيش المدينة فينقله إلى بغداد حيث يتم ترتيب سفره إلى الاتحاد السوفييتي. ومن الظريف أن أذكر أن والد علي شريف كان يشتم دائماً الملا محي الدين و محمد عمر و خروتشوف و ستالين. لأنه كان يعتقد أنهم دسوا في أذهان أولاده الأفكار الشيوعية و سببوا لهم المشاكل الكثيرة. و قد أصبح عاجزا عن العمل بعد سقوط حائط عليه أثناء القيام بالهدم. كان يخصص الجزء الأكبر من شتائمه لملا محي الدين لسبب له حكاية طويلة ،بامكاني تلخيصها بأنه وعائلته كانوا يستأجرون جناحاً للسكن في بيت شاكر داييزادة ، وكان الطيور تبني أعشاشها في سقوف البيت. والدة الملا تقول لشريف لماذا لا تصيد من هذه الطيور الكثييرة وقد حللها الله . وهذا يتشجع فيصيد عدة طيور و يتعشون بها بعد شويها ، لكنه في الصباح عندما يذهب الى الشغل و كان شغله هدم البيوت القديمة و المتهرئة ينهدم عليه جدار يؤدي الى انكسار خاصرته لكي يشله عن العمل طوال عمره. هذا ما يجعله يتصور أن بيت داييزاده كان مشؤوما وأنه ارتكب جريمة بحق الطيور بدفع من آمنة والدة الملا محي الدين. ومن المضحك أنه كان يلفظ ستالين ب" ستاري" و هذا هو تدليع لستار. وصلتنا في فترة الجبهة الوطنية بين حزبي البعث و الشيوعي من محمد عمر رسائل بعد وصوله إلى الاتحاد السوفيتي و ابلغنا انه يدرس الصحافة. و بعثنا له صوراً بالأبيض و الأسود ليرجعها لنا ملونة من موسكو. في خانقين كان ثمة صراع خفيّ غالباً ما بين الشيوعيين و القوميين الأكراد. تحدث لي محمد عمر عن أنه كان يستفز صابر العضو في البارتي بأشعار تهكمية . قال محمد عمر: كنت انادي عليه ، صابر ! صابر فيرد: ها محمد عمر: حزبه كه تان!( حزبكم) چه یه حزبکمان؟ ( ماذا به حزبنا؟) محمد: حزبکتان حزبی كَره ، حزبی... اد و...( حزبكم هو حزب الحمير و ووو) فیرد صابر: نه نه حزبکتان ( لا ، لا هذا هو حزبكم) محمد : حزبکمان حزبی گَله .. حزبی فلاح و رنجبره ( حزبنا حزب الشعب .. حزب الفلاحين و الكادحين) وهكذا يستمران في المبارزة لساعات دون الوصول إلى أية نتيج..
عودة إلى الملا محيي الدين لسنوات طوال كانت للملا ابنته الوحيدة بشرى التي ولدت قبل اعتقاله ، بحيث ظن كثير من أهل المحلة و أصدقائه أن ذلك تسبب له اثر تعرضه للتعذيب و الصدمة في السجن. و في يوم سمعنا أن خلافات دبت بينه و بين زوجته التي تركت بيتها بمعية بنتها لتغادرا إلى بيت أبيها. و قد سمعتُ أن المرأة قد انفجرت غضبا عندما تجرأ على البوح لها بأنه يشتاق لكي يكون له ابنُ يساعده و يسانده في شيخوخته و يحمل اسمه بعد وفاته. فلا ينتظر الملا محي الدين مطولا ليتزوج من امرأة أخرى تنجب له محمد الذي ذكرته في بداية الموضوع.، وهو اليوم أضحى شاباً ، ولا أعرف عنه شيئا آخر. في زيارتي لخانقين رأيت الراحل محمد علي يعيش في خرائب بيت داييزاده. وهذا الرجل كان يعيش لوحده ، ومعروف عنه أنه كان شيوعياً بالعاطفة و يتطلع إلى يوم تبنى في العراق اشتراكية و يقام العدل و السلام والمساواة. وكان يؤيد الاتحاد السوفيتي، ويعاتب الحزب الشيوعي العراقي لعدم استلامه الحكم في العراق. " أن تكون كلباً في موسكو ، لا وزيراً في العراق" كانت مقولة منقولة عن محمد علي حين كان يسكن في الدار الواقعة خلف بيتنا ، مستأجراً غرفة هناك ،كان ينام على السطح صيفاً، فيأتيني صوت مذياعه وهو يستمع إلى إذاعة موسكو كل ليلة. و كان إنساناً واعياً، متابعاً لأخبار عالم السياسة ، ويحب أغاني فريد الأطرش. و كان يذهب إلى السينما كل أسبوع. من الطريف أن اذكر هنا شيئا عن البخل الذي تميز به عم المرحوم الملا محي الدين ووالد زوجته الأولى كعادة معظم الطبقة الارستقراطية و الملاكين. سئل يوما عن سبب عدم زواج ابنه الذي تأخر كثيرا في الزواج، فيجيب بالتركماني" نَيْنَن ارواد آلسي، اگر گونده بیييييييييييييييير جریده آلر"" أي " بماذا يتزوج لو يشتري يوميا جريدة واحدة" اذ كان يطيل لفظة بير " واحدة" للدلالة على الكثرة و الكارثة. كنت أراه في المقهى في ساحة الميدان لمحلتنا عبد الله بيك ، يدفع فقط سعراستكان الشاي الذي يأتي به الجايجي فور جلوسه لتلافي الدفع لجلسائه الآخرين. لقد كان محمد علي و الملا عيسى الذي ذكرته أعلاه أكثر وعياً و شعوراً طبقياً من كثير من المثقفين المحسوبين على اليسار والشيوعية. ولكي لا اجعله سوده ومصخمة فقد كان في المدينة كوادر عمالية مناضلة يفكرون بعقلانية و لهم آراؤهم الانتقادية من الوضع و يستوعبون الكثير من المبادئ الثورية لماركس و لينين وستالين. وكل ذلك لأنهم كان يعيشون ظروف الاستغلال و التضامن العمالي و يفكرون تفكيراً أممياً، كانوا يعيشون الاستغلال من رأسماليين وأصحاب عمل هم من أبناء قومهم ووطنهم فأدركوا أن العامل أممي و أن الرأسمالية أساسها الاستغلال وهدفها الربح مهما كانت قوميتها ووطنها و لغتها. فقد كان العمال الشيوعيون العاملين في قطاع النفط و السكك و النقل و بعض الصناعات ، يختلفون كلياً عن "شيوعيي البرجوازية الصغيرة" المترفة. و لم يكن هؤلاء العمال الشيوعيون يعملون في خانقين فقط، بل كانوا عمالا و مناضلين في كل أنحاء العراق. لقد كان معظم الشيوعيون من البرجوازية الصغيرة يعانون الازدواجية ، وتمزقهم الولاءات بين المذهبية والقومية و السياسية. بعد بيان آذار 1970 و الذي يطلق عليه الحزب الديمقراطي الكردستاني اتفاقية آذار، تجرأ بعض الشيوعيين على الخروج في مظاهرة شبه ممنوعة، و قد قام عباس كيخسرو قراولوس محمولا على الأكتاف يهتف " عاش الحزب الشيوعي العراقي بقيادة الملا مصطفى البارزاني". وكان له أخ أصغر منه يبيع اللبلبي و الباقلاء الصق على الجدران في المحلة صورا للامام علي و لينين و الملا مصطفى البارزاني، وحين رآى أحد رجال الأمن المارين في الزقاق تلك الصور، ردد مع نفسه هيييه الله شي ما يشبه شي. و من الجدير بالذكر أن أخاً آخر له أصغرهم قد أعدم لانتمائه إلى حزب الدعوة، و زياراته إلى النجف و لقائه ( كما سمعتُ) بمحمد باقر الصدر في وقت كان متطوعاً في الجيش العراقي برتبة نائب ضابط. الشيوعيون بالفطرة من أمثال محمد علي و الملا عيسى أركوازي لم يتصوروا أن الرفاق في موسكو وبلدان المعسكر الشرقي فترتئذ لا يذكرونهم ولا يفكرون في وجودهم وهم غارقين في ملذات العيش من راحة وأمان و يرفلون في النعيم. وليس من السهل القيام بتعداد أو ذكر جميع من ضحوا في حياتهم لأجل تحقيق مجتمع العدل و المساواة، واضعين كل ثقتهم في قادة وكوادر لم يتوقفوا لحظة عن ترديد مقولتهم الشهيرة " ليس الوقت مناسبا لتحقيق الأهداف الاشتراكية " أو " أن لنا مهام وطنية برجوازية يجب تحقيقها أولاً" ما كنا نجهل نحن القاعدة و هؤلاء الشهداء و الضحايا أن كل تضحياتنا و نضالنا كانت لأجل سلطة المستغلِّين و المعادين للاشتراكية و الشيوعية. وقد كان يجري تسويف وتسفيه الفكر الأممي باطلاق نعت كوزموبوليتي على كل من يفكر تفكيراً أمميا ًيتجاوز الأفق القومي و الوطني الضيق ، تلك العبارة التي أبدعها ستالين لاطلاقها على المعارضة اليسارية لتحريفيته والبيروقراطية ورأسمالية الدولة المسماة زوراً و ظلماً بالاشتراكية. ففي مدينتنا كانت مختلف التيارات الشيوعية التقليدية حاضرة ، و كان يمكن تمييز عناصرها عن بعضها بسهولة.
لكل مرحلة حماقتها و جنونها إلى حد ارتكاب جرائم بحق المخالف للرأي والموقف السائدين ، تصل إلى مستوى التصفيات الدموية . هذه الظاهرة لا استوعبها إلى اليوم .فكيف يمكن تفسير أن يقوم جماعة من " الشيوعيين" و أفراد المقاومة الشعبية بمظاهرة ضد رجل قومي كردي لمجرد الاشتباه أو الظن بأنه معادي لانقلاب 14 تموز ، وهم يهتفون أمام محله للعقاقير و العطور: يا قضاة المحكمة! وقسم منهم يردّ: اعدموا ملا حمه! وقد قام أفراد القيادة المركزية بتصفية بعضهم بعضا جسدياً لأسباب يجهلها جلّ أهل المدينة. وفي ليلة سوداء عام 1970 ( حسب تقديري) و بعد بيان آذار اذ أصبح البارتي بقيادة البارزاني السلطة الفعلية في المدينة، سمعت ُ صوت اطلاقة من مسدس في سطح البيت الواقع خلف دارنا أي بيت دلال العقارات الملا محمد وكمال وايرمن، ولم نعر لها أهمية لكثرة ما كنّا نسمع من أصوات الاطلاقات النارية. لكننا في الصباح سمعنا أن الرجل المريض الهزيل جلال سراج قد أغتيل بطلقة في فمه. و قد فسّر الناس بسهولة سبب مقتله، الا وهو أنه كان عضو القيادة المركزية، و ترك صفوفهم لينتمي إلى حزب البعث فحُكم عليه بالموت ( لخيانته) حزبه ( المقدّس) . و بعد فترة سمعنا بأن منفذّ العملية هو جمال رحمن الشهير بجمال راج كابور لشبهه بالممثل الهندي راج كابور، و خاصة شعر رأسه . كما سمعنا بعد سنوات قصة هذا الشخص المأساوية. حَكم عليه رفاقُه بالسجن لمدة، وعملية اخصاء وحشية لقيامه بجريمة محاولةاغتصاب. و بعد فترة من المعاناة و اليأس و العار ينهي حياته بيده. نصر الدين مجيد القيادي في القيادة المركزية، تعرض إلى الاعتقال و التعذيب على يد انقلابيي شباط 1963. كنت ُ أشاهده على النهر يتمشى، أو يسير إلى أسفل النهر حيث البساتين و الحقول ليلتقي عناصر من مقاتلي حزبه من بينهم زوران عزيز بشتيوان، و يعطيهم توجيهات و يزودهم بالأخبار التي تعنيهم. تحدث لي أخي الأكبر أن بعد انقلاب البعث الثاني 1968 قام نصر الدين في الحقل الذي كان يزرع فيه خالي الخضار ، بتوضيح من يكون هؤلاء الانقلابيين، و كيف وصلوا إلى الحكم ومن يحتمل أن يكون وراءهم ، وما هي أهدافهم. كان جدّي وخالي سعيد فترتئذٍ يستأجران غابة نخيل تطل على حقل لزراعة الخضار على شاطيء نهر الوند. كنّا نقضي أوقات الفراغ في البستان و كنّا نقوم بمطالعة دروسنا أيضا هناك. و كنا نلتقي أيضا شيوعيين يعملون بشكل سري، أو شبه سري تحت واجهات أخرى منها أدبية أو دينية أو فنية. احترقت غابة النخيل اليوم و عشرات الغابات الأخرى في خانقين لأسباب مجهولة لحد الآن.وكان لهذه الغابة منظر جميل حيث كانت تعلو على السطح وتطل على النهر و نستخدمها كواجهة و نخصص جزء منها كملتقى الأقارب والأصدقاء. لمحتُ يوماً في محلتنا مجلس فاتحة أقامته عائلة خليفة ياسين، وسمعت أنها لنصر الدين مجيد حيث تم اغتياله على يد النظام البعثي و عثر على جثته مرمية في ريف الصويرة. و اليوم يشاهد المرء له تمثال نصفي في مدخل مقر محلية خانقين للحزب الشيوعي الكردستاني. أمر غريب أن يقيم الحزب الشيوعي اللجنة المركزية تمثالا لتكريم عضو منشق عنه. و لا أدري بالضبط درجة قرابة المرحوم خليل ياسين من الشهيد نصر الدين لكنني أعرف أن أحد أخوة خليل وهو عباس استشهد في كردستان في الستينات، وأنّ شقيقه الراحل الخياط كمال ياسين كان أحد كوادر الحزب الشيوعي اللجنة المركزية. من المضحك أن أذكر في هذا السياق أن أحد البعثيين من أهل المدينة ، وبعد انهيار الحركة الكردية عام 1975 بعد اتفاقية الجزائر تعارك مع كمال ياسين وأراد أن يضربه، وحين سألوه عن السبب قال إنني أشتم الملا مصطفى وهذا ( قاصدا كمال ياسين) ينزعج ولا يقبل . رغم أن المرحوم كمال لم يبدي أي موقف ، لكنه ( أي البعثي) كان يعلم و يشعر بدواخل الشيوعيين و تفكيرهم وموقفهم من البارزاني و الحركة الكردية. ذكرت اعلاه أن كثراً من السياسيين بتاع 14 تموز و الزعيم و الحزب الشيوعي فقدوا صوابهم و مارسوا سياسة استبدادية بحق مخالفيهم، و قد جرى ذات الجنون لعناصر من القوميين الكرد بعد بيان آذار 1970 ، حيث لم يقبلوا من غيرهم دينا غير دينهم و كان الخارج عنهم من الخاسرين. في خانقين لم تقتصر الساحة السياسية على الشيوعيين التقليديين و القوميين الكرد فحسب، بل كان ثمة عناصر قومية عربية ، و ناصرية ( على الأغلب عاطفيا) كانت مسالمة و يبدو ذلك بسبب صغر حجمهم و قلتهم ووجودهم في بيئة غير عربية تماماً. أتذكر احمد سلمان ابن المعمار سلمان، و كان بائع التذاكر في سينما النصر، و يحبّ جمال عبد الناصر. تحدث لي حمه نوري المضمد الصحي الذي يعمل الآن في السليمانية، أنه كان يحصل على بطاقة الدخول من أبو شهاب مجاناً حين كان جمال عبد الناصر في الليلة السابقة قد ألقى بخطبة. يقول حمه نوري : فور أن أصل الشباك و التقي ابو شهاب وجها لوجه، كان يسألني إن سمعت ُ خطاب الرئيس، فأجيبه كيف لم اسمع ، إنه بطل.. فيكون الجواب : تفضل هاي البطاقة ادخل!
انتقل الصراع بين الشيوعيين و القوميين ، أو بين العراق ومصر في عهد عبد الكريم قاسم من بغداد إلى خانقين بشكل كوميدي حيث كان يخرج أنصار انقلاب تموز و اليسار التقليدي مسيرات تأييد للزعيم و معادية للجمهورية العربية المتحدة . و الظريف أنني سمعت أن أحد الاقطاعيين المعروفين في المدينة ، كان غالبا ما في مقدمة المسيرات ،يردد شعارات ضد الاقطاع و الرجعية و الملكية. كان خالو بيركه المرحوم يعمل في مختلف المهن والأعمال منها القصابة و البقالة وكان يملك موهبة التمثيل في شبابه . و سمعت من والدي أنه كان يمثل الشمر بن ذي الجوشن في معركة الطف في ساحة تتم تهيأتها لهذا الغرض على نهر الوند. كما أنه قام بالتمثيل ضد مصر تأييداً لعراق عبد الكريم قاسم ، اذ خرج في يوم في مسيرة لعناصر المقاومة الشعبية، يقود حماراً عليه لافتة مكتوب عليها اسم جمال عبد الناصر ، وينادي: هذا جمال جبناه ... ع المشنقة علقناه علقناه من راسه.. نلعن أبوه و أساسه وسمعت أنه اختفى لشهور في البساتين بعد انقلاب شباط 1963 خوفا من انتقام الحرس القومي ثم عاد للظهور بعد أن تم نسيانه وسط الصخب و الفوضى السائدة آنذاك بسبب الاعتقالات و التصارع السياسي و التوافق و الخطابات الصاخبة.
*******
Jag håller på att reparera min trasiga dröm Jag tänker inte bli en trött clown åt mig själv
أنا الآن مشغول بإصلاح حلمي المتهرئ، أنا لا أريد أن أكون مهرجا تعبانا لذاتي.
كنت ُ منذ طفولتي شغوفاً بالراديو، ولا أزال أتذكر أننا كنا نملك جهاز راديو كبير بحجم صندوق الشاي المألوف، يعمل على بطارية كبيرة بحجم آجر البناء. ألقيت ُ مرة بعود ثقاب في الجهاز خلال بطانته الخلفية المشبكة، وفشلت محاولتي لإخراجه ما سبب لي قلقا من أنني قمت بتعطيل الجهاز بعملي ذاك، و سرعان ما زال القلق حين قام شقيقي الأكبر بتشغيله، و نسيت عود الثقاب نهائيا ، ولا أدري ماذا جرى فيما بعد لجهاز الراديو المذكور، وقد توالت عليه أجهزة عديدة بعد اكتشاف الترانزستور، و تصنيع أجهزة بأحجام صغيرة و جميلة يمكن حملها و الذهاب به إلى أي مكان ، كأنه لعبة أو قطعة من المستلزمات المترافقة والضرورية للإنسان. كان أهلي يروون لي أنهم كانوا يستمعون إلى الأخبار و القرآن و الأغاني ثم بعد الانقلاب على العهد الملكي اعتادوا على سماع خطب الزعيم قاسم، بالإضافة إلى الأغاني و المونولوجات و التمثيليات. سألت ُ عن كيفية تمضية أوقات الفراغ قبل شيوع التلفزيون و الراديو . وعلمت ُ أن الناس أغلبهم كانوا يكدون ويعملون من شروق الشمس حتى غروبها عمالاً مياومين أو فلاحين ومزارعين وفي مهن كالحدادة و النجارة والخياطة و الحمالة و النقل ،و قلة قليلة منهم في التجارة ، فيعودون إلى مساكنهم متعبين منهكين، لا يتوفر لهم من وقت الفراغ إلا النزر القليل ليقضوه مع الأولاد أو تبادل الزيارات مع المعارف والأصدقاء، كما كانوا يستمعون في هذه الأوقات إلى أناس بارعين في سرد الحكايات و القصص و اللطائف. كان ميسورو الحال مثل التجار و الملاكين و الموظفين الكبار في الدولة تتوفر عندهم أوقات الفراغ ليقضوها في الترفيه و الحفلات و السياحة أو السفرات إلى الخارج.
في الفترة التي لم يظهر التلفزيون ويشيع، كان الرجال يتجمعون حول القصة خون وخاصة في أيام العطل في مقهى الجايلق الذي لم يعد موجودا في عهدي، أو على شاطئ الوند، ليحكوا لهم قصصا من الشاهنامه وألف ليلة وليلة و المثنوي و نظامي كنجوي أو من التراث وحكايات الغرام مثل شيرين وفرهاد ، خورشيد وخاور ، ليلى ومجنون، وقصص تاريخية تتمحور حول الملوك و الخلفاء و الأمراء و الخانات وكذلك حكايات الجن و العفاريت. وقد برع في هذا المجال المرحوم يارمراد الذي توفي في أواسط التسعينات من القرن الماضي عن عمر ناهز التسعين، لكنه كان بكامل قواه الجسدية و العقلية، ويعيش اليوم أحفاده و أحفاد أحفاده. المرحوم يارمراد يكون عم ّ المربّي الرياضي يحيى بهرام أبو باسل، معلّم الرياضة الذي بدأ مهنته في مدرستي مدرسة النعمان عام 1966 ( إن لم تخنّي الذاكرة) حين بدأتُ سنتي الأولى كتلميذ في هذه المدرسة التاريخية ، برموزها التاريخيين مثل مدير المدرسة إسماعيل حبيب ، ومعاونه أكرم الشيخلي، و معلم درس الانجليزي أحمد حقي . أتذكر أحد المعلمين من أهالي النجف يدعى مهدي الجابري كنا نسميه الأستاذ الجابري، يلقي علينا دروس اللغة العربية و الاجتماعيات. للاجتماعيات لم يكن ثمة من منهج وكان المعلم يملك صلاحيات إلقاء أي درس يتعلق بالتاريخ و المجتمع. في كل أسبوع كان يلقي علينا درساً عن مأثرة أو شخصية شهيرة من التاريخ العربي. كان يدخل الصف و يكتب اسما معيناً، مثلاً خالد بن الوليد. ويسأل ماذا يعني عند العرب، فنجيب بمختلف الإجابات، إلى أن يجيب بنفسه - الشجاعة عند العرب و يشرع في وصف خالد بن الوليد. و في مرة أخرى يأتي فيكتب اسم حاتم الطائي، ويسأل سؤاله المألوف فيجيب أحد التلاميذ الأذكياء : الكرم عند العرب.كنا نتقبل هذه الدروس رغم كون معظمنا من غير العرب. و أتساءل اليوم لماذا يفتخر إنسان في هذا العصر، بشخص لا تلائم أية ُ سمة من سماته الشخصية و أخلاقه معاييرَ هذا العصر، بل تناقضها جملة وتفصيلاً. و من تناقضات هذا المعلم الشيعي أنه كان يحضر كلَّ جلسات العزاء الحسيني ويستمع إلى الاخوند الروضة خون بخشوع، بدون أن يشعر أن الأشخاص الذين يفتخر بهم من قبيل هارون الرشيد و خالد وعبيدة كانوا يستعبدون الرعية و يتخذون لأنفسهم آلاف الجواري و يمكن أن إحدى جداته الشريفات كانت إحدى جواريهم ، مثلما يقول عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي. يعالج فردوسي في ملحمته الشهيرة ( الشاهنامه) ، إلى جانب القصص التي تمور فيها المحبة والشوق ، القصص التي تتمحور فيها الحرب ُ والبطولات و الأخذ بالثأر. ومما يتضح في أبياته عند سرد معظم قصصه مقدرته العظيمة في استخدام الموسيقى الداخلية ، وأن الكلمات هي أداة بيد الشاعر يعبّر بها عما في ضميره من الأفكار والأحاسيس و العواطف المختلفة، ويطير في عالم الخيال ، وينقل صوره الخيالية التي لا تقيد إلا بالكلمات، إلى الآخرين حتى يشعروا بما شعر. وقد نظم الفردوسي الشاهنامه على وزن المتقارب المثمن أو المحذوف ، أو المقصور واستطاع بحسن تأليفه للكلام أن يستخدم هذا الوزن للحالات النفسية المتنوعة من منطلق تأليف الكلمات التي هي كإيقاعات للفنان الموسيقي الذي يركبها بقدر ثابت لخلق موسيقى جديدة. فالذي يثير الذهن للتفكر والتأمل هو الكلام عن مصير الابطال،التأمل يفتقر إلى الهدوء و السكون، ثم إن ّ تكرار الحروف المدية يلائم حالة الهدوء. فالتكرار مع ما له من قيمة موسيقية، إذا وقع في موقعه المناسب ، سينتج فوائد مختلفة.
سقوط الأبطال و القصص التراجيدية كانت مؤثرة تأثيرا بالغاً بالحاضرين لذلك كان بعض الرجال يهدئ من روعهم بقراءة بيت منسوب للشاعر الفردوسي: رستم يلي بود در سيستان .. منش كردم به رستم داستان إن رستم كان مقاتلا من سيستان أنا الذي جعل منه رستم الملحمة وفي روايات أخرى أنه قال إن رستم كان حماراً فجعلتُه أنا بطلَ الملاحم ... و يروى إنه أيضاً أراد من قرض ذلك البيت الشعري التخفيف من روع عشاق رستم و عاطفتهم الجياشة تجاهه. وطالما الكلام يجري عن القصة خون و الحكايات التراثية ، فمن الظلم أن لا أمر ّ على ذكرى الطيبين إبراهيم باشا الذي أصبح يعرف في السنوات ألأخيرة بايراهيم فلكي و أشقائه علي باشا و حميد شهواز و محمد المشهور بممي بهلوان. كان إبراهيم فلكي إضافة إلى كتابته التعاويذ و الشعوذة وتمكنه من لغات عديدة من بينها الهندية و الانجليزية، كان يحفظ عن ظهر قلب كل حكايات ألف ليلة و ليلة و مئات القصص الرائعة والأساطير المذهلة. و كلنا يعلم أن الهند مشهورة بالأساطير و القصص المذهلة . في أحد الأيام في 1970 أو 1971 بينما كنت مع أخي الأكبر نعود إلى البيت من السوق، ظهر أمامنا شقيقه حميد شهواز، وبعد أن سلّم علينا وسأل عن أحوالنا ، أبلغنا أن أخاه الأكبر إبراهيم قد عاد من بغداد التي انتقل إليها قبل أربعين عاماً وأنه سوف يسكن معهم في بيت المرحوم والده شهواز، و أن في جعبته 40 حكاية مطولة و علينا الحضور في جلسات السمر كل ليلة جمعة ليسرد لنا حكاياته ، حكاية في كل ليلة. كم أبهرتني طريقة روايته لهذه الحكايات، وكم جلب انتباهي انفعال المرحومة الضريرة زورا ولطمها الخد و الفخذ حين يصل الراوي إلى نقطة مأساوية لبطل القصة أو إحدى شخصياتها المحبوبة. ولا تزال المخيلة الشعبية تحتفظ بالكثير من الصور والحكايات المثيرة، والحوادث النادرة التي تجاوزت أحياناً حدود المعقول إلى عالم من الخيال والأسطورة مع مرور الأيام ، من جراء التحديث الذي يجري عليه عادة وبما يكسبه من الغناء الشعبي، بحكم التداول من شخص إلى آخر ليدفع بها نحو آفاق إنسانية ورومانسية رحبة ، وخاصة في تلك القصص الدرامية الفطرية المتداولة بين الناس، و التي حملت في طياتها حوادث مأساوية أو اكتنفتها فواصل مؤثرة ، فقد كانت جدتي أيضا تحكي لنا حكايات جميلة ، وكنا نلتم حولها كالأطفال حتى لو كنا كبارا. و كانت معظم هذه القصص القديمة نابعة من حاجة الناس ليعوضوا بها ما يفتقرون إليه من أمان و لملئ الفراغ الذين يعانون منه ، ودفعاً للملل و الرتابة في حياتهم، و إشباع جوعهم الروحي ، وتهدئة أنفسهم القلقة. وقد كان شقيقه علي باشا يمتلك مواهب التمثيل و الرسم و المحاكاة، إضافة لاتقانه فن سرد الحكايات. وقد كان يقوم مع بعض أولاد المحلة بتمثيل بعض القصص بتسجيلها في جهاز المسجل ، أروع تمثيل. كما كان بعض وجهاء المدينة حتى قبل سقوط النظام البعثي بسنوات قليلة قد حولوا محلاتهم ، في فترات الاستراحة إلى اخوانيات للنقاش و قراءة الأشعار الكلاسيكية و الجدل حول مسائل تاريخية و دينية . حين أتذكرهم أتعجب لمخيلتهم الخصبة و ذاكرتهم القوية. كان عمّي أي والد منال الراحل نصر الله حسين يحفظ ديوان حافظ مع شروحه ،إضافة إلى قصص من المثنوي و نتف من الشعراء الآخرين القدماء و شيئاً من الشعر العربي القديم. وكان يجتمع في أوقات الفراغ بعد انتهاء فترة العمل في محله لبيع المواد الإنشائية و قبله كان له محل مبايعات المواد الغذائية الجافة، أو يجلس مع أصدقائه في محل حسين جعفر لبيع الأجهزة الكهربائية. و الجدير بالذكر أنني سمعت ممن يكبرونني في العمر أن محل الراحل حسين جعفر كان معرضاً لسيارات الفورد في العهد الملكي ما يدل على مدى نمو و حداثة مدينتا خانقين في ذلك العهد. و انبهرتُ بقابليتهم في الاستشهاد بأبيات شعر تلائم الحالة التي يعيشونها في تلك اللحظة ، من كآبة وحزن و سعادة و أفراح: وقت را غنيمت دان آنقدر كه بتواني ................ حاصل از حيات اي جان اين دمست تا دانى اغتنم الفرصة بقدر ما استطعت .. فعاقبة الحياة و محصولها، يا روح، هي هذه اللحظة لكي تدري البيت أعلاه سمعته من أحدهم ولم افهم معناه يومئذ، ولم أتمكن من حفظه لكنني تذكرته حين اطلعت على ديوان حافظ باهتمام.
كانت تكايا الدراويش المتصوفة تنتشر في كل جهات المدينة، و كان هناك دراويش يبهرون الحاضرين بدروشتهم و الحال و الجذبة . بيت جارتنا المرحومة فاطمة داني كان تكية و يأتي الشيوخ و الدراويش من أماكن بعيدة لإحماء حلقات الذكر و الدروشة، بقية الطقوس الصوفية. ................................
ثمة فتات من الزمان في راحتك ، لكي تلملم الأجنحة المتكسرة، وتوصي العسس أن يودعوا القرية على مهل، و شهقات السكينة ، لئلا تتكسر قارورة الحنين. تجري عربة القرية عبر البوابة المتيبسة، الطوفان يتراءى في الأصيل، ثمة فتات من الزمان لتلقي على الدار السلام ، وتبشر الستائر بأن الورود سوف تعود تزدهر في النافذة. هل يتناهى إلى أذنيك نحيب النخيل في الهجيع الأخير من الليل؟ فقد غدونا كلمات النشيد الليلي العالقة على الجدران مثل اللبلاب التعبان على القبور، حارت الجدران ، كيف ينهار الإنسان مثل الزمان على ثرى الذهول، ويدفن في حطامه أسوار الخلود. 2013-8-30 ................................................... كل عام في الأيام العشرة الأولى من شهر محرم كنا نقضي كل مساء ساعات مع محاضرات السيد حسن المصباح في الحسينية الكبيرة التي يشرف عليها عائلة شبر، أو مع مواعظ الشيخ مراد زنكنة في حسينية المزرعة. كان السيد حسن المصباح يعمل تاجر أقمشة في كربلاء ، ويلقي مواعظه ومحاضراته بالفارسية و العربية. بينما الشيخ مراد كان يعظ بالكردية،. كلاهما كانا رجلين فاضلين وعالمين قديرين ، نسألهما مختلف الأسئلة فيجيبون عليها قدر المستطاع برحابة الصدر. كنت أسمع أناسا يبالغون في مديات معارف السيد المصباح فيقولون لنا أسالوه في كل فروع العلوم و المعارف فتحصلون على أجوبتكم. وفي يوم ما وقبل صعوده المنبر سأله أحد الطلاب سؤالا في الفيزياء الحديثة فرد عليه: اسأل معلم مالَك ( أي معلمك) . كان الرجلان ملمّين في مسائل الفقه و الشريعة وتاريخ الإسلام أو بالأحرى الأحداث التي مرت بها بلاد الإسلام و الدين الإسلامي و أئمة الشيعة . وكان من السخافة إحراجهما بأسئلة ليست من اختصاصهم. يُروى و إنني غير متأكد من صحة الحكاية أن الراحل الشيخ مراد ذكر في موعظة له أن الإمام علي حمل الكرة الأرضية إلى صرته. فيسأله علي كاكل وأين وضع رجليه في هذه الأثناء؟ فيرد عليه : على ... أمك. ................................................ تكاد الحكاية تصل نهايتها ، ولم ألقَك لكي أهبك صمتي، الأرض مقبرة الوهم ، والسماء مقبرة الأبصار، وخفقة نافذتي ملاذ الأوراق الهاربة من الذبول.
........................................................................
احتفالات المولد النبوي المعروفة عندنا بالمولود ومجالس الفاتحة كانت ولا تزال مصدراً كريماً لرزق عائلات عديدة . معظم المقرئين كانوا محرومين من نعمة البصر، و كانت حناجرهم وسائل جيدة لاكتساب الرزق و العمل. وكانوا يتميزون بلطائفهم و نكاتهم الرائعة وفي كل مناسبة. كنت ُ أسمعهم ينشدون قصائد ومناقب نبوية من أشعار بأكثر من لغة. كانت الدبكة تقام في محلتنا أكثر من مرة في الأسبوع و كان الخياط محمود سلطان بقامته القصيرة ، وزيه الكلاسيكي الزبون و الجمداني، و بيده منديل قيادة الرقصة، نجمَ الدبكة دائما . التقيت محمود سلطان في محله ، وقد نال منه الشيب الكثي ، وسألني كيف تتفاهمون في السويد وهم يتحدثون بلغة أخرى . فأجبته أنه حين وصولنا كان هناك مترجمين، و مع مرور الوقت تعلمنا لغتهم و أصبح بإمكاننا التفاهم معهم ومعاشرتهم. ........................................... موجات الليل ، كانت تهدهد صباك، انحسرت اليوم واستحالت إلى رمال هامدة تتفاداها عيونك ، تختنق فيها أحجار الوند. النجوم الرهيبة التي كانت تلمس الفؤاد وتومض مثل الأطفال، انتثرت في العدم الأبدي العنيد ، بين سينما النصر، و شباك تذاكر الخضراء. .....................................
ترى لماذا لم المح هذا الأثر لهذا الجرح العريق، على أنف الوالدة طوال هذه السنين، سني الطفولة و الصبا، أي حوالي عقدين من الزمان؟ اعتدنا أن نجلس حول المدفأة علاء الدين التاريخية، والتي كانت من الضرورات الحيوية في أغلب البيوت العراقية . اضافة إلى التدفئة كنا نستخدمها لتسخين الطعام و الماء و الشاي ، او تكملة بعض الطبخ عليها والذي أخذ طبخه في المطبخ وقتاً مطولاً بشكل أولي. في إحدى الأماسي ونحن محلقين حول المدفأة فاجأت ُ أمّي، بسؤالي: ماما ! ما هذا الأثر على أنفك؟ فأخذتْ تسرد عليّ الحكاية من بدايتها إلى نهايتها: حبيبي سيّد حمودي! (و السيّد لقب أسبغه عليّ أخي الأكبر شكر لأنّي كنت ُ أقوم بتقليد الروزه خون في البيت رغم عدم اجادتي التمثيل ) كان جلب الماء من الشريعة على النهر من وظائف النساء في تلك الفترة حيث لم ترتبط بيوت الحيّ بشبكة اسالة الماء الصالح للشرب. وكنت حينها فتاة في مقتبل العمر، أذهب حين الحاجة إلى الشريعة المقابلة لبستان " العمبارة" لجلب الماء ، في سطل معدني .. في مرة انزلق السطل و ضرب بحافته الحادة على أنفي محدثا جرحاً عميقاً، وأخذت الدماء تنزف من أنفي ، وأنا أضغط عليه لايقاف النزف و لكن بدون جدوى فرسمت الدماء خطا منقطا من نقطة الحادث التي تبعد عن الشريعة بضعة أمتار حتى البيت الذي يبعد عن النهر حوالي كيلومتر أو أكثر. في البيت ضمدت لي أمي أنفي وتوقف النزف و اندمل الجرح و بقي الأثر خالداً . حقا ، أثرٌ يشهد على حبّ الحياة والاستماتة في سبيل تحقيقها ، رغم كل الصعوبات. أراك مثل رؤيا الغزال تجري على حوافي التفاح، أزهار النرجس لا تمنح الأمان للعيون لكي تغفو، ظلك يفترش سفوح برج المسيح، ولم يتوفر له الوقت لتعميد جسده في نار المجوس. أراك تدمدم في الدرب رغبات الحمام، وأيامك مثل بسمات حورية سمائك الصغيرة، لن تحتمل رميها في الماء لتبرد.
شقيقي الأكبر شكر رغم أنه لم يكمل الدراسة الابتدائية إلا أنه كان حساساً جداً في حياته ، و كان كاسبا ًيمتهن العمل في البناء و البقالة و اليوم له محل للبهارات و المطيبات. كان في جامع مصطفى بك في السوق مؤذن طاعن بالسن اسمه محمد الأمين وتوفي في الثمانينات من القرن الماضي، يملك صوتاً ملائكيا هادئاً يرتعش مع نبضات القلب. كان شكر متأثراً بصوته أيما تأثير بحيث يتوقف عن الأكل و يردد مع نفسه الله يرحم والديك ، الله لا يحرمنا من صوتك ! حين يصله صوته أثناء قراءته أذان العشاء، حتى يكمله. كان صوته يشبه إلى حد كبير صوت مؤذن زاده الرائع. .... ...................... ........................ وقد علمت ُ أن البيوت الميسورة كانت تكلف السقائين بتزويدهم الماء ، و بعضهم كانوا يفضلون الشرب من ماء نهر سيروان لكونه أكثر سلاسة و يُسراً من ماء الوند. ومن أشهر السقائين في المدينة كان محمود السقا و حسن السقا ، إذ كانوا ينقلون الماء على ظهورهم في قرب مصنوعة من جلود الماعز أو الغنم ليوصلوها إلى دور العوائل الميسورة. في أواسط الأربعينات أنشئت محطة إسالة الماء على الوند بالقرب من الجسر الحجري التاريخي، لكن ظلت دور بعض الأحياء النائية غير مرتبطة بشبكة أنابيب توزيع الماء الصالح للشرب حتى الستينات من القرن الماضي.
في الصيف تنحسر المياه في الوند و تبرز عشرات الجزر تستخدمها بعض الأسر لبناء الأكواخ او ما كنا نسميها بالجرداغات و لزراعة الخضار و خاصة اللوبياء ، ويقضون معظم ساعات النهار هناك هربا من قيظ الصيف، و الحر الشديد داخل الدور في الظهيرة ، حيث لم تتوفر المبردات و المراوح الكهربائية. وهذا التقليد ظل يتبع حتى الفترات القريبة ، حيث جف الماء في النهر بسبب تغيير مجراه من قبل الجمهورية الاسلامية الايرانية ، و التغيير الكارثي في المناخ، و تفسخ البيئة . متى أنشأت مصانع الثلج ؟ لا أدري بالضبط ، لكنني استنتج من الوقائع أن مصنع كامل خماسة الذي كان موجودا ًفي محلتنا في قصرلي باغ منذ الخمسينات. و كان ثمة باعة يزودون الدور بقطع الثلج كل صباح ، اذ كانوا يطوفون بأزقة المحلة يدفعون عربة مملوءة بقوالب الثلج الكبيرة . و يقطع لكل بيت ما يريدونه ربع أو نصف او قالب كامل. رحم الله عباس و شقيقه محمد المعروف بحبش، لهم فضل كبير في تبريد قلوبنا الحارة. أتذكر كم كان لذيذا اللوبيا التي يطبخها المرحوم خضير ويبيع منها للزبائن على شكل لفات من خبز التنور أو في صحون مع زلاطة متكونة من فصوص الطماطم و البصل! ومن العوائل الشهيرة بحيازة تلك الجزر الصيفية في الوند أتذكر عائلة عيسى فرج و أرملته مليحة الخبازة و صهرها محمد جدة ، و بيت دايي أمين ، و أولاد الملا علي و صبري و كثيرين غيرهم. كان أهلي يقضون أغلب أوقاتهم للترفيه في غابة النخيل التي كنا نستأجرها لسنوات طويلة بما يسمى سرقفلية . كنا في البستان نعمل المراجيح ونطبخ ، و نتسلق الأشجار و نسبح . و نساعد جدنا و خالنا في أعمال جني الثمار و تعلبيها و نقلها إلى الدكان. سمعت من الكبار أن الشرائع على النهر حيث البنات يقمن بغسل الألبسة والصحون و جلب الماء ، كانت أيضا ملتقى العشق و الحب و اختيار البنات المناسبات للزواج من قبل شباب المدينة، الذين يلقون بالنظر من بعيد نسبيا ، ويتبادلون الحب عن بعد غالباً ما ، اذ يندر أن يلتقي الشاب بفتاة أمام أنظار المارة. كان الشباب يمرون على الشريعة بذرائع مختلفة ، واحياناً تحدث مشاجرات بسبب الغيرة بين أخ لفتاة ما و شاب ما باحث عن فتاة ليحبها و يتزوجها. ويندلع أحياناً عراك بين عشاق متنافسين على كسب قلب فتاة معينة. وحين ترفع القربة المملوءة إلى قمة رأسها ، يظهر جسدها المبلل الملتصق بثوبها المبلل بكل جمالها و كمالها و نقصانها، وأحيانا تتشبث أصابعها بطرف ردائها وربما عن قصد، لترفعه فتظهر سيقانها وصدرها بأبهى صورها ، فيغتنم الشاب المتربص هذه الفرصة ليفاوض قلبه فيها ، و إن أعجبته الفتاة يفاتح بها أهله و هم بدورهم يطرحون القضية على أهلها و يؤدون بقية الطقوس.
ضمّنت ُ مأساة جرح أنف الوالدة في قصة قصيرة نُشرت في مجلة " المسيرة" مكتوبة ومصممة باليد عام 1987، أصدرناها نحن أنصار الحزب الشيوعي العراقي في موقع بيربينان الواقع في وادي خواكورك المتشابك مع سفوح قنديل عن بعد. الشخص الأول في القصة أو المتكلم في القصة شاب يحب زميلة له و هي تحبه ، لكن أهلها يرفضون تزويج بنتهم من شيوعي لا مستقبل له برأيهم سوى السجن و الاعدام و المشاكل، لكن الشاب الذي أصبح اليوم كهلا و أباً و ربما جداً ، يصطدم بخبر تزويجها من ضابط موصلي، فيجن جنونه و يتصور أن حجة أهلها ضعيفة و سخيفة برفضهم زواجها منه، و يردد مع نفسه ألا يقتل الضابط في الحرب، ألا يتعرض إلى سجون و صعوبات حين تحدث انقلابات عسكرية، و يتغير رؤساؤه ؟؟ بعد فترة من صدور العدد اليتيم من مجلة المسيرة تم نقلي إلى اعلام أقليم كردستان في منطقة كافية التابعة لعقرة . يصادف أن يمر مجموعة آلاي شورش _( راية الثورة ) المنشقة عن الاتحاد الوطني الكردستاني و التي كانت تتشكل أغلبيتها من شباب خانقينيين يعرفونني و يعرفون بطل قصتي القصيرة و قد سمعوا حكاية حبه بتفاصيلها. فينقلون لصديقي أن حميد قد كتب قصته الغرامية و منشورة في مجلة في موقع بيشمركة الحزب الشيوعي العراقي في بيربينان. صديقي البطل يفرح لذلك و يشتاق لكي يجد المجلة المذكورة و ليسعد بقراءة قصة غرامه . وقد التقيت ُ في استوكهولم صديقي كمال مصطفى وفاجأني بقوله : سمعت ُ أنك كتبت قصة سلام عبد الله الغرامية . لكنني تعجبت ، هل أحدثت هذه الكتابة التي لا اراها قصة فنية كل هذا الأثر وهذه الضجة! وكمال مصطفى كان شيوعيا أيام الثانوية والكلية ، وقد التحق ببهاء الدين نوري بعد أن قرر المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي طرد الأخير مع عبد الله قرداغي المعروف بالملا علي و الراحل نصر الدين هورامي من الحزب بعد توقيعهم اتفاقية "ديوانه" عام 1983 مع الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة ملا بختيار بدون الرجوع إلى المكتب السياسي، لغرض تطبيع العلاقات بين الحزبين و التنسيق في بعض المجالات. كما قال لي كمال مصطفى في زيارتي له في بيته في استوكهولم عام 1993 او 1994 إنه تلقى رسالة من أبو سلام " بهاء الدين نوري" يصرح فيها أن له أفكار للعمل و النضال. وقد انسحب النظام البعثي من كردستان العراق عام 1991و تشكلت حكومة كردية و برلمان.
بعد سنوات وأنا مقيم في السويد جاءتني مكالمة من ألمانيا فرفعت السماعة و اذا بصديق الصبا و زميل الدراسة و الفكر ( نوعا ما) سلام عبد الله، و بعد الترحيب وتبادل االتحيات ولاحترامات ذكرني بالقصة المذكورة و قال إنه يتحرق شوقا لقراءتها، و سألني أن كنت احتفظ بنسخة منها. قلت للأسف إنّ النسخة الوحيدة هي المنشورة في المجلة، و هي بدورها ربما اتلفت أو احترقت بعد هجمات الأنفال من قبل القوات العراقية وأفواج الدفاع الوطني على كردستان. وتساءل ان كان بامكاني اعادة كتابتها فكان ردي بالنفي لكوني تعبان و مرت فترة طويلة لم اكتب أي نص وأنني فقدت ُ موهبة الكتابة أصلا، وانني لا أتذكر تفاصيل القصة المذكورة لأعيد كتابتها. مجموعة آلاي شورش عادت إلى حزبه الأصلي بعد انتفاضة 1991 و تشكّل حكومة كردستان لتتبوأ المناصب و حصد الامتيازات و الغنائم، بعد أن انخدع بهم ناس غرر بهم تحت شعارات الماركسية و تحقيق أهداف العمال و الكادحين، و تم التضحية بهم في لعبة ماكرة و مناورات خبيثة لا ناقة للكادحين و الفلاحين الأكراد فيها ولا جمل. كان سلام عبد الله عضو اتحاد الطلبة العام و من أشد المعارضين للجبهة الوطنية مع البعث، إلى درجة ترك الحزب و انضم إلى الجموع الملتحقة بالحركة الكردية بقيادة البارزاني عام 1974 بعد انهيار اتفاقية آذار 1970. في يوم ما من أواخر أيام الأنصار في موقع قاسم رش ذُكر اسم الشُهيد سامي حركات المنشق عن الحزب الشيوعي مع بضعة أشخاص ، وما كان من الرفيق سيد علي جباري إلا أن يسأل عنه بقوله : هذا اللي من خانقين؟ فأجبته وهل أن ّ كل من ينشق يكون بالضرورة من خانقين؟ السيد علي جباري محق في ذلك، إذ أننا عشنا فترة انشقاقات في تلك الفترة يقودها أشخاص من خانقين أو محسوبين على خانقين. كان ملا بختيار من خانقين وحين تناهى إلى جلال طالباني ونوشيروان خبر قيادته انشقاق آلاي شورش قاموا باعتقاله و تعرض إلى سجن ومهانة كبيرة . والملا بختيار معروف في خانقين بحكمت و حّكّي للتدليع. كما كان عزيز الحاج صاحب أكبر انشقاق في الحزب الشيوعي العراقي يظن كثير من الناس أنه من خانقين رغم نشأته البغدادية و ولادته في الكوت، ألا أن أصوله الفيلية و سكن شقيقه الحاج صادق في خانقين خلق هذا الظن عنه. ولكنني الآن أعود أسأل بدوري لماذا المنشقون يكونون من هذه المدينة على الأغلب؟ سؤال جوابه متعب ويتطلب الجهد الكبير. إضافة إلى جرح أنف الوالدة ثمة جرح آخر في فؤادي لم ولن يندمل . كنت تلميذ الثاني أو الثالث الابتدائي حين مات شقيقي الأصغر مجيد بسبب الذبحة الصدرية و التي لم يتصور والدي أنها ستكون قاتلة. أتذكر الليلة قبل يومين من وفاته لحد اليوم وهو في حضن والدتي و قد تبلل بالعرق و يصيح باوه! باوه ! و يجيبه والدي وهو يتمزق حزناً و لا حول ولا قوة له: صيح الله يا ابني! و كان يعطيه بعض العقاقير ، و في اليوم التالي حين رجع من الشغل متعباً منهكاً ورأى حالته تفاقمت سوءاً حمله الى المستشفى ، و كنا ننتظر في البيت خبراً سعيداً ألا أن أخي الأكبر وصل البيت و اخبرنا أن مجيد مات . فانفجرنا بكاءً وعويلاً . وقد اصبحت المرحومة الوالدة بعد هذا المصاب من شدة خوفها علينا تأخذنا فوراً إلى الطبيب وخاصة الدكتور خليل السخن الفلسطيني الجنسية و الدكتور عبد الستار مصطفى أو المستوصف حين ينتابنا أي مرض عابر وبسيط. هذه الفاجعة طبعت حياتنا بميسمها أبدأّ، فرغم روح المرح الظاهر علينا، ألا أن نار الحزن و الأسى تأكل روحنا في الأعماق. وكم مرة ألمح إلى ذلك بعض الناس الحساسين .و أكثر من مرة قال لي بعض الأصدقاء إنني أحمل في قلبي هلعاّ كبيراً. وكأن أنفاس ضحكي و مرحي أحيانا لهب نيران خفيّة. كان مجيد يمتاز بالذكاء وروح الدعابة وكان ينتظر أن يسجل في المدرسة ليبدأ الحياة الدراسية . وأتذكر كم كان يفرح حين يسمع من الراديو اسم عبد المجيد الملا مقدم برنامج إذاعي لا أتذكره في هذه اللحظة. بعد يومين أو ثلاثة من الفاتحة زارنا جارنا الملا أنور في البيت لكي يقول لنا لا يحق للأحياء أن يقتلوا أنفسهم للميت، وأخذ يُضحكنا بنكاته و حركاته العجيبة . الملا أنور كان الطلبة يستخيرونه ، و يكتب للناس الحجب. و كان أمره عجيبا ، إذ كان يشترط على الطالب الذي يستخيره أن يجلب له صورة فوتوغرافية شخصية . كان الملا أنور انهى المرحلة المتوسطة والتي كانت تعادل الكلية من ناحية العلوم والمعارف و الجهل المتفشي في تلك الفترة، مما أهّله الاطلاع على الحياة الثقافية و كيفية التعامل مع الطلبة و الناس البسطاء. بلغني أن الملا أنور في فترة الحصار قد تحول إلى عملة صعبة، فيأتيه المريدون من الأقاصي ليأخذوه إلى قراهم و قصباتهم ليقرأ عليهم الأدعية ويكتب لهم التعاويذ و يقرأ طالعهم و يعمل لهم السحر و الشعوذة . حين زرت السليمانية عام 1997 نقل لي صديقي المهندس محمود شاه محمد والذي يهتم كثيرا بأمور السحر و الشعوذة و الدجل أنه عمل مقلباً على الملا أنور في يوم ما بعد أن قام برفقة زميلين بزيارته بحجة الاستخارة و طلب تعويذة .الملا أنور كان صنع معقدا للزائرين بوضع صفيح خشبي طويل على صفيحتين من التنك من كل جهة في باحة الدار . يقول المهندس محمود شاه محمد : "حين دخلنا البيت و رحب بنا الملا، سمعنا خرخشة من تحت المعقد الخشبي فقال لنا الملا ها هم أتوا أيضا، ومقصده أن الجن حضروا ، ويدخل الملا غرفته و في هذه الأثناء رفعنا الخشبة و رأينا في العلبة فئران يرمي لهم الملا ببعض الفتات و حين يسمعون أية حركة طارئة تُستفز الفئران محاولةً الخروج من العلبة فتُحدثُ بعضَ الضجيج و الجلبة" . و يستطرد المهندس أنه خاطب الملا بقوله: يا ملا ! يا منيوك ! أهذه جرذان أم جنّ .. فيرد الملا : يا حبيبي أنكم بشر عاديون لا يمكنكم رؤية الجن.
لطائف الملالي و المقرئين في مدينتنا لا نهاية لها. المرحوم الملا خليل الضرير وحده يكفي ليكون محوراً لعشر روايات . وكان معروفاً بالشره في الأكل . و كان يضع الدولمة في حلقة وكأنه يرمي بحبات عباد الشمس فيها. و كان ينوّع و يجمّل القراءات بكلمات و ابيات من عنده . في أحد احتفالات المولد النبوي غنّى بالترکماني: يا آمنة بشراكي .. دولمه گتر تاکتاکی ( أي يا آمنة بشراکِ اجلبي لنا الدولمة واحدة واحدة).!) أحد ابناء الملا خليل كان بعثياً و وأتذكر تم تعيينه رئيساً لنقابة العمال . وفي أحد الاحتفالات البعثية سمعنا خلال مكبرة الصوت أن عريف الحفل قرأ والآن كلمة نقابة العمال يلقيها عليكم الرفيق ابراهيم خليل ، ولكن لسوء حظه أنهم لم يهيؤوا له كلمة ليلقيها و لا هو يملك موهبة لكتابة خطابة أو القاء كلمة أو يرتجلها ، فسمعناه يقول لعرّيف الحفل بالتركماني : الله اوغلي نه دييم؟ يا ابن الله ماذا أقول؟ كان ابراهيم من أوائل المنتمين لحزب البعث بعد انقلاب 1968. لم يكن عدد البعثيين في البداية يتجاوز عدد أصابع اليدين في بداية حكمهم ، حتى تمكنوا بعد سنوات وخاصة بعد خروج الحزبين الشيوعي الديمقراطي من العمل العلني ، بالترهيب والترغيب تسجيل معظم الناس في حزبهم. وحين قام النظام بتهجير القرى و نقل الموظفين من المدينة بدأ بنقل البعثيين إلى مناطق كردستان بما كان يسمى حينذاك بمنطقة الحكم الذاتي، بعد 1947 و 1975 عام انهيار الحركة القومية الكردية بقيادة الملا مصطفى البارزاني اثر اتفاقية الجزائر بين الشاه وصدام ، وتنازل الأخير له عن نصف شط العرب مقابل قطع الدعم للحركة الكردية المسلحة و التضييق عليها. وقد كان الاثنان يحضران مؤتمر اوبك في الجزائر اغتنما الفرصة لعقد الاتفاقية المطبوخة من قبل كيسنجر وبومدين.
كما كان الملا الضرير رشيد في جامع الحميدية ، الذي توفى العام الماضي في كلار، يملأ الوقفات في قراءة الأذان بدردمة أغنية لوركي لوركي لوركي لوركي هاواره و لوركي للمطرب الراحل حسن زيرك. لا أعتقد أنني طوال سنوات دراستي الابتدائية و المتوسطة والاعدادية قد غبت ُ عن المدرسة أكثر من بضعة أيام . في يوم ما في مرحلة الرابع ثانوي غبت ُ يوماً و لا أدري السبب ، لكن في اليوم التالي حين حضرت درس اللغة العربية ابلغني زميل لي أن الأستاذ فريدون كلاي محمد قام بتوزيع نسخ من ديوان الراحل الشيخ مراد زنگنه . وحين سألت الأستاذ إن كان ممكنا حصولي على نسخة أجابني للأسف بيعت كل النسخ. ومنذ ذلك اليوم كان بودّي أن اقرأ قصائده المكتوبة بالكردية و هي قصائد صوفية و مناجاة ، ولم أحصل عليها إلى اليوم. للأستاذ فريدون فضل كبير عليّ في تعلم العربية واتقانها. ولن انسى أبدا التصحيحات التي كان يقوم بها لأخطائي النحوية التي كنت ارتكبها في نصوصي الانشائية. وكان معجبا بالقائي القصائد و قراءة النصوص وكان حريصاً على أن يصحح لي أية هفوة . أتذكر أنني كتبت ُ يوماً في نص ما عبارة " الكلام يجرّ كلاما" وهي ليست من العربية بل ترجمة من الكردية، فصححها لي بعبارة" الشيء بالشيء يذكر" .و الأستاذ فريدون حسين من عائلة كلاي محمد العريقة المحترمة ، والمحسوبة على الحزب الشيوعي وكذلك الشيعة. أعرف بعض أخوته كانوا أعضاء في الحزب الشيوعي العراقي وهو كذلك كان يتعاطف مع الحزب والشيوعيين. هكذا لا بد لي من تذكر هذه البيئة التي كانت غنية ليس بطبيعتها الجميلة فحسب، بل بناسها المرحين، وموقعها الذي جعلها مسرحا لأحداث تاريخية نقرأ عنها في الكتب التاريخية.. مدينة ذات عبق تاريخي ساحر ، غني بالتفاصيل المتنوعة ، كانت دائما مصدرا لحكايات تختلط فيها الحقائق بالأساطير، وتتداخل الوقائع في الخرافات ، خالقة بذلك أبطالا من صواعق و برق ونيران و جبال و سهول.
#حميد_كشكولي (هاشتاغ)
Hamid_Kashkoli#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نهاية التكوين
-
تأمّلات فلسفية: هل الطبيعة ديالكتيكية؟
-
من رباعيات جلال الدين الرومي
-
طحين الشمس
-
حميد كشكولي - الأديب والكاتب اليساري – فى حوار مفتوح مع القا
...
-
المرأة واهبة الحياة
-
التين في ظلال النخيل- الجزء الرابع
-
قصيدة -السوريّة- للشاعر السويدي أريك آكسل كارلفيلدت
-
الشاعر السويدي نيلس فيرلين : أنغام اغنية شعبية
-
التين في ظلال النخيل-3
-
التين في ظلال النخيل- الجزء 2
-
التين في ظلال النخيل الجزء 1
-
تمرد الغيتو - مقاومة المحكومين بالموت
-
كشف الحقيقة في أعماق الظلام
-
قد حان لي وقت الصلاة - قصيدة لإميلي ديكنسون
-
رحلة موفقة ، سيدي الرئيس!
-
قصيدة غزل لحافظ الشيرازي- ياريح الصبا ، هلّا أتيتِني بنفحة م
...
-
رواية - كلّ شيء هادئ على الجبهة الغربية- و أجيالنا المحترقة
...
-
الزورق العليل
-
حافظ الشيرازي: الصبوح َ ، الصبوح َ ، يا أحباب!
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|